مجلة مغرب القانونالقانون العامسليمة فراجي: التدابير التشريعية لإنفاذ القانون الدولي الانساني على الصعيد الوطني

سليمة فراجي: التدابير التشريعية لإنفاذ القانون الدولي الانساني على الصعيد الوطني

سليمة فراجي محامية بوجدة المملكة المغربية برلمانية سابقة.

التدابير التشريعية لإنفاذ القانون الدولي الانساني على الصعيد الوطني : التشريعات الخاصة بالمفقودين

الاختفاء القسري او الاختفاء غير الطوعي او ظاهرة المفقودين
من هم ؟
معذبون بسبب الاختفاء القسري تحت الارض ، فوق الارض لا هم مع الاحياء ولا مع الاموات .

ظاهرة المختفين قسريا في العالم الحقت بالعائلات اضرارا جسيمة وانتهاكات خلفت جروحا غير ملتئمة ، لم تمكن من النسيان أو التناسي أو قلب الصفحات ، نساء لا هن أرامل ولا متزوجات ، ابناء بدون آباء ، وآباء فقدوا أبناءهم ولا زالوا يبحثون عن الحقيقة ،
حقيقة مؤلمة تقض مضاجعهم واسئلة حارقة : ماذا فعلوا بالمفقودين من ابنائهم وذويهم ؟ هل تعرضوا للتعذيب هل تألموا اثناء التعذيب ؟ هل دفنوا في باطن الارض ام تم الإلقاء بهم في غياهب اليم ؟

وقائع مؤلمة تذكر بماورد في مقال للكاتب ولي الدين يكن وهو يصف حالة مختطف مفقود في عهد الدولة العثمانية :

“في ليلة من ليالي الشتاء الباردة سكنت تحتها الاشياء وتحركت الضمائر، طرقوا باب المظلوم ، فقام الى ثيابه فلبسها ومال الى اهله فودعهم، وتوسط رسل البين وزبانية جهنم ، الطالب والمطلوب متواجهان اركبوا المظلوم زورقا رسا بهم الى جانب سفينة كبيرة فصعدوا اليها وقالوا له ان السلطة الحاكمة قضت بإلقائك في البوسفور هذا قضاء الله ولا مرد لقضائه ، انسابت من مقلتي الرجل شآبيب خضبت لحيته والناظرون اليه لا يبكون … سكت المختطف سكتة غلبه عليها فؤاده وفي ثنيات الأفق كواكب تنظر ولا تسعف والريح بليلة الجناح واليم جائز الغوابر …جاؤؤا بالسلاسل فاوثقوها على عنق المسكين واثقلوا رجليه بقطع الحديد واهووا به في الماء فغاب في عبابه ، عرف هوان الحياة وكيف تجني الوالدات على من وَلَدْن ، وإلى اي غاية يكون المصير ؟”

شهد العالم احداثا يشيب لها الرضع، في قمة الانتهاكات الجسيمة لابسط حقوق الانسان خصوصا ما شهده العالم من مخلفات الحربين العالميتين من جرائم ضد الانسانية من بينها ظاهرة المفقودين او جريمة الاختفاء القسري والتي ارتكبت من طرف النازيين ،ابان الحرب العالميةالثانية ، وغيرها من الحروب والنزاعات المسلحة والاضطرابات الداخلية اذ اعتبر الاختطاف وسيلة ناجعة لقمع ومحو المعارضين السياسيين المعتبرين مهددين للنظام العام.

دول عديدة عرفت هذه الجريمة البشعة المتمثلة في اخفاء قسري او اختطاف المعارضين السياسيين باساليب مختلفة هدفها المشترك هو محو الشخص من الوجود في اهدار تام لكرامته الانسانية وحرمانه من حقه في الدفاع عن نفسه ، مع تعذيب مستمر لعائلات مفجوعة لا هي تمكنت من معرفة مصير المفقودين ولا هي فاقدةلبصيص من الأمل يعتبر شحنة لمواصلة النضال من اجل الوصول الى الحقيقة.

لذلك و ما دامت حماية حقوق الانسان وحرياته تعتبر اهم ركيزة للقضايا المطروحة على الساحة الدولية والاقليمية والمحلية ، كما حظيت من قبل ، وفي غابر الازمنة باهتمامات الاديان ومختلف الشرائع السماوية والنظريات الفلسفية ، ومتطلبات الضمير الانساني منذ الازل ، نظرا لما تكتسيه السلامة الشخصية والجسدية للانسان من سمو ورفعة وتكريم لبني ادم ، فان مسؤولية المشرعين عبر دول العالم تفرض عليهم تجريم هذه الافعال البشعة المعتبرة في قمة هدر الكرامة الانسانية بصفة مستمرة ومدمرة لنفسية العائلات.

  • الاختفاء القسري في التشريع الوطني المغربي:

دأبت المملكة المغربية منذ حصولها على الاستقلال على الانخراط في المنظومة الكونية لحقوق الانسان ، كما اعتبرت طرفا في معظم اتفاقيات القانون الدولي الانساني على رأسها اتفاقيات جنيف الأربع المؤرخة سنة 1949 المتعلقة بحماية ضحايا النزاعات المسلحة والبروتوكولين الإضافيين لها لسنة 1977.

مقال قد يهمك :   زكرياء كرنو: توثيق التصرفات العقارية من خلال قانون 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية

وفي إطار دعم التأصيل الدستوري لحقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالميا ، تم ترسيخ مبدأ سمو المعاهدات والاتفاقيات الدولية على القوانين الوطنية في كل ما له صلة بحقوق الانسان واحكام القانون الدولي الانساني ، في تصدير دستور المملكة لسنة2011 , والذي جعل الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب وفي نطاق احكام الدستور تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية ،والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة ، وهو ما يعتبرتقدما دستوريا ملحوظا ، انضاف الى ما حققه المغرب من مكتسبات تفسر حرصه على تحديث ترسانته القانونية وتجويدها وملاءمتها مع المنظومة الحقوقية الدولية ، مع تخويل البرلمان اختصاص المصادقة على المعاهدات المهمة الملزمة للدولة والمؤثرة على الحياة الاقتصادية والسياسية والمالية او تلك التي لها علاقة بالحقوق والحريات.

علما ان سهر جلالة الملك رئيس الدولة وممثلها الاسمى على احترام التعهدات الدولية للمملكة طبقا للفصل 42 من الدستور يجعل المصادقة على المعاهدات الدولية محاطة بضمانات ملكية ، ويجعل الضمانة البرلمانية المستمدة من مقتضيات الفصل الثاني من الدستور تخول السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها .

واذا كان للمملكة المغربية هذا الدور الريادي في مجال التطبيق الأمثل لأحكام القانون الدولي الانساني ، اذ اتخذت تدابير تشريعية لإنفاذه على الصعيد الوطني ، ونشره ، والتدريب على احكامه وتطوير عمل اللجان الوطنية في مجال انفاذه ، ومدت جسورا للتواصل مع اللجان الاجنبية لتبادل الخبرات بشانه ، فإن ترسانتها القانونية المغربية عرفت تتميمات وتعديلات وسن مقتضيات جديدة تتلاءم مع مستجدات المرحلة، تسعى الى ملاءمة التشريع الوطني مع المواثيق الدولية في نطاق احكام الدستور والهوية الوطنية الراسخة للمملكة من جهة ، كما انها تواكب ظهور اشكال جديدة من الجرائم العبر وطنية ، وتلك التي لها صلة وثيقة بحماية الحقوق والحريات على رأسها الحق في الحياة وفي السلامةالجسدية والكرامة الانسانية.

  • الاختفاء القسري في التشريع الوطني المغربي:

بذلت المملكة المغربية مجهوذات مهمة لتسوية ومواجهة هذه الممارسات الشنيعة المعتبرة حجر الاساس في مجال الانتقال الديموقراطي وانتشار الوعي الحقوقي ، لذلك توجت هيئة الانصاف والمصالحة اعمالها بتقرير ختامي تضمن جردا للانتهاكات المسجلة ما بين 1956 تاريخ الاستقلال و1999 تاريخ اعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس عرش اسلافه المنعمين ،
وقد اسفرت التحريات عن تحديد مصير عدد مهم من المفقودين ومجهولي المصير وضحايا الاحداث الاجتماعية وتم تعويضهم ، كما تم استجلاء الحقيقة بشأن الحالات التي لا علاقة لها بالاختفاء القسري.

وللاشارة فانه خلال الولاية البرلمانية ما بعد دستور 2011 اشار وزير العدل السابق الاستاذ مصطفى الرميد الى عدم وجود اي حالة من حالات الاختفاء القسري حاليا في المغرب.

ومواكبة وتماشيا مع مقتضيات الدستور ومع ما حققه المغرب في مجال حماية الحقوق والحريات ، نص مشروع القانون الجنائي المغربي 10.16 الذي استعادته الحكومة للدراسة الشمولية بعدما كان مطروحا للنقاش امام البرلمان ، وفي اطار الملاءمة مع نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية ،على مجموعة من الافعال المعتبرة جرائم ضد الانسانية منها الاختفاء القسري وعاقب عليها بالسجن المؤبد .

كما نص مشروع القانون الجنائي في المادة 231.9 على انه يقصد بالاختفاء القسري كل اعتقال او احتجاز او اختطاف او اي شكل من الاشكال السالبة للحرية ، يرتكبه موظفون عموميون او اشخاص يتصرفون بموافقة الدولة او بإذنها او بدعم منها ، ويتبعه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته واخفاء مصير الشخص المختفي او مكان وجوده مما يحرمه من الحماية التي يكفلها له القانون .

ونصت على عقاب الجاني بالسجن من عشر الى عشرين سنة وغرامة من عشرة الاف الى مائة الف درهم ،مع الاشارة انه اذا تم الحكم بالإدانة تأمر المحكمة بنشر المقرر القضائي او تعليقه ( مسودة مشروع القانون الجنائي المغربي ).

مقال قد يهمك :   فاطمة اعليلوش: آليات ترسيخ إدارة جبائية حديثة

نستنتج من مقتضيات النص المذكور ان المغرب وفي اطار ملاءمة تشريعاته الوطنية مع الاتفاقيات الدولية لاءم النص المذكور مع ما نصت عليه المادة الثانية من اتفاقية حماية الاشخاص من الاختفاء القسري .

علما ان نوابا برلمانيين بلجنة العدل والتشريع خلال الولاية البرلمانية السابقة دعوا الى تشديد العقاب في حق المتورطين في جرائم الاختفاء القسري معتبرين ان العقوبة التي جاء بها المشروع والمتراوحة ما بين عشر سنوات الى عشرين سنة غير كافية نظرا لجسامة الضرر علما ان المادة السابعة من الاتفاقية الدولية لحماية الاشخاص من الاختفاء القسري نصت على ضرورة فرض كل دولة طرف عقوبات ملاءمة بخصوص جريمة الاختفاء القسري تأخذ بعين الاعتبار شدة وجسامة الجريمة.

كما سبق لوزيرالعدل السابق محمد اوجار اثناء مناقشة مشروع القانون الجنائي الذي استعادته الحكومة الحالية للمزيد من تجويده بصيغة شمولية ان صرح بان الاختفاء القسري جريمة مؤلمة بشعة لا نظير لها موضحا ان تجريم الاختفاء القسري سيكون انجازا كبيرا متحدثا عن انجاز سجل وطني حول الاختفاء القسري.

  • التشريعات الخاصة بالمفقودين : الجمهورية اللبنانية كنموذج

القانون رقم 105 الذي اقره مجلس النواب بلبنان ونشره رئيس الجمهورية اللبنانية بتاريخ 30نومبر 2018 حول المفقودين والمخفيين قسرا.

لقد اقر مجلس النواب اللبناني قانونا تم نشره يتعلق بالمفقودين والمخفيين قسرا ، وتتجلى اهمية هذا القانون في كونه لا يعتبر جزء من قانون عقوبات او قانون جنائي كما هو الامر في مختلف الدول وانما قانون متكامل تضمن موجبات سن القانون ، و سبعة فصول ، و43 مادة عرفت حالات الاختطاف والاخفاء القسري ، و الحقوق والواجبات الاساسية لأفراد العائلات والمقربين المتمثلة في الحق في معرفة مصير المفقودين والمخفيين قسرا وامكنة وجودهم و مكان احتجازهم ومعرفة مكان الرفاة و اماكن الدفن ، وجمع الرفاة ونبشها والكشف عنها، وتقفي اثار المفقودين .

كما ضمنت السلطات اللبنانية المعاملة بدون تمييز لجميع افراد المفقودين ، اضافة الى الحق في التعويض للضحايا و أسرهم ،
و قد نص القانون على احداث هيئة وطنية للمفقودين والمخفيين قسرا مكونة من عشرة اعضاء يعينون بمرسوم ويقسمون يمينا امام رئس الجمهورية ويتمتعون بحصانة ، تراقب الهيئة المذكورة شروط اعلان شخص مفقود وتصدر إفادة تحدد فيها التاريخ التقريبي للفقدان وبعد مرور سنة على الافادة يتمكن ذوو الحقوق من المطالبة بالمستحقات النقدية علما ان القضاء يختص في تقدير محتوى الافادات والتقارير عند النظر في دعاوى اعلان الوفاة او الفقدان ، كما تختص الهيئة الوطنية بالاستماع الى كل من يريد الافصاح عن معلومات بتقفي الاثار وامكنة الدفن او الاحتجاز ، كما يمكن لكل من لديه معلومات ان يدلي بما لديه رفعا للمسؤولية ومع اخفاء هويته ، ويقع على عاتق السلطات المختصة اتخاذ التدابير اللازمة لمنع كل ما يعوق التحقيق والمعاقبة على افعال المنع والتأكد من عدم ممارسة اي ضغط او تأثير ، مع الزامية التعاون والتبادل بخصوص عملية البحث عن المفقودين ،
علما ان للهئية المذكورة حق الاتصال بالسلطات والاجهزة اللبنانية او الاجنبية وطلب تزويدها بالمستندات والمعلومات التي تراها مفيدة لحسن ممارسة مهامها وعلى السلطات والاجهزة اللبنانية المعنية الاستجابة للطلب دون إبطاء ، كما انها تنشئ لجنة متعددة الاختصاصات مؤلفة من خبراء جنائيين فور معرفة اماكن الدفن.

مقال قد يهمك :   مؤلف جديد يرصد الفقه الإداري للمحافظة العقارية بالمغرب

‎كما نص القانون المذكور على تعاون السلطات المختصة في لبنان مع اللجنة الدولية للصليب الاحمر ومكتب المفوض السامي لحقوق الانسان في منظمة الامم المتحدة والهيئة والصليب الاحمر اللبناني ، من اجل تحسين وتجويد عملية البحث عن المفقودين.

ومن بين ما استحدثه القانون المذكور ، السجلات المركزية المكونة من مجموع السجلات الفردية التي تعود للمفقودين او المخفيين قسرا ، تم تقديم طلب تقفي أثر بشأنهم ،وتخضع هذه السجلات لمبدأ سرية المعلومات الخاصة ،ويتم تزويد الهيئة بجميع البيانات من طرف الجمعيات الممثلة لأسر الضحايا او اي منظمة دولية او اي شخص طبيعي او معنوي يتوفر على المعطيات ، وتخضع جميع البيانات الواردة في السجلات المركزية للانظمة و القوانين المرعية الخاصة بحفظ السجلات وقواعد المعلومات الرسمية والمعايير الدولية ذات الصلة حول حماية البيانات ، مع منع استخدام المعلومات الشخصية من معلومات طبية او جينية قصداستعمالها لغرض غيرذلك المتمثل في البحث عن المختفي .

وفي باب الاحكام العقابية نصت المادة المادة 37 من القانون المذكور على عقاب كل من اقدم بصفته محرضا او فاعلا او شريكا او متدخلا في جرم الاخفاء القسري بالاشغال الشاقة من خمس سنوات الى خمس عشرة سنة و بالغرامة من 15 مليون ليرة لبنانية الى 20 مليون ليرة ، كما عاقبت المادة 38 بالحبس من ستة اشهر الى سنتين والغرامة كل من يمنع النفاذ الى المعلومات لفرد من أسر الضحايا ، وكل من يعرقل بدون مبرر اتاحة المعلومات المطلوبة ، ومن يعطي معلومات خاطئة بهدف تضليل عملية التقفي ، او من يعرض الاخر للمسؤولية الجنائية او التهديد و الترهيب لمجرد انه يسأل عن مصير مفقود ، كما تم تشديد العقوبة في حالة كون الفاعل كان عالما ان المفقود او المخفي قسرا لا يزال على قيد الحياة ، اضافة الى عقاب العابثين في اماكن الدفن او النبش قصد تبديد الادلة المحددة لهوية المدفونين ، او المعرقلين لعمل الجهات المكلفة بالبحث و التنقيب عن اماكن الدفن ، ولم يفت القانون ان ينص في المادة 41 ومراعاة لقانون الارث على انه يراعى في تطبيق احكامه قوانين الارث لجميع الطوائف كما تراعى ايضا احكام القوانين الجزائية المعنية ولعل الباعث الدافع لسن القانون المذكور يتمحور حول ما شهده لبنان اثناء الاعمال الحربية من حالات اختطاف و اخفاء قسري شملت عددا كبيرا من المفقودين مجهولي المصير ، وما نتج عن ذلك من معاناة والام وجراح مفتوحة صعبة الالتئام لذلك تسلح المشرع اللبناني بإرادة ابنائه في تجاوز الماضي وتمتين السلم الاهلي على اساس استتباب قيم حقوق الانسان والمساواة والاعتراف المتبادل والانصاف .

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]