سليمة فراجي: تقرير رئيس النيابة العامة بين السياق الدستوري القانوني،وافتعال الصراع
سليمة فراجي محامية وبرلمانية سابقة
إذا كان الدستور قد نص على وجود سلطة دستورية يتبع لها قضاة النيابة العامة وتولى القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية تحديد هذه السلطة الرئاسية المتمثلة في الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة ، فان المادة 110 من القانون التنظيمي رقم 13-100 تنص على كون المجلس الأعلى للسلطة القضائية يتلقى تقارير من عدة جهات من بينها تقرير الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة حول تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة ، وذلك قبل عرضه ومناقشته أمام اللجنتين المكلفتين بالتشريع بمجلسي البرلمان.
واذا كان موضوع التقرير قد اثار جدلا حادا داخل اللجنة بعد صدور تقريرين عن رئاسة النيابة العامة فان ذلك راجع إلى تناول الموضوع بشكل اختزالي ، عزله عن سياقه الدستوري والقانوني المعقد ، ليتم الإيهام وتصوير الأمر وكأنه صراع وتنازع بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية ، أو بالأحرى عداء منهجي بين البرلمان ورئاسة النيابة العامة بعد انتقال تبعيتها من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك طبقا لمقتضيات الدستور والقوانين التنظيمية.
والحال ان جوهر النزاع كان ينبغي ان يظل دستوريا وقانونيا ومسطريا ، في مرحلة تأسيسية تقتضي عقلنة الحوار لإرساء أسس علاقة سليمة بين المؤسسات بعيدا عن التشنجات والسطحية في قراءة معطيات الواقع ، وتماشيًا مع مبدأ فصل السلط وتعاونها في نفس الوقت لكون النظام الدستوري للمملكة لا يقوم فحسب على فصل السلط بل ينبني أيضا على توازن هذه السلط وتعاونها طبقا للفقرة الثالثة من الفصل الأول من الدستور ،علما ان مسألة إلزامية حضور الوكيل العام للملك لتقديم التقرير المنصوص عليه في المادة 110 المشار اليها أعلاه داخل لجنة العدل والتشريع بالبرلمان لم تعد محل نقاش ، نظرا للحسم فيه بصفة واضحة بموجب قرار المجلس الدستوري (المحكمة الدستورية) الصادر بتاريخ 15مارس 2016 ، والذي مفاده ان قيام رئيس النيابة العامة بتقديم التقرير أو حضوره لمناقشته أمام لجنتي البرلمان مخالف للدستور لانه يمس بالاستقلالية.
بل اكد المجلس الدستوري على حق البرلمان في مناقشة تقرير رئيس النيابة العامة باعتباره تقريرا يهم الشأن القضائي يسوغ للبرلمان “تدارسه والأخذ بما فيه من توصيات مع مراعاة مبدأ فصل السلطات والاحترام الواجب للسلطة القضائية المستقلة”، معتبرا ان المشرع هو المختص بوضع السياسة الجنائية ويحق له تتبع كيفيات تنفيذ هذه السياسة قصد تعديل المقتضيات المتعلقة بها وتطويرها إذا اقتضى الحال ، مضيفا ان استقلال السلطة القضائية لا يسمح بمراقبة النيابة العامة من طرف البرلمان وان المبدأ الدستوري القاضي بربط المسؤولية بالمحاسبة لا يتم فيما يخص السلطة القضائية المستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية بنفس الكيفية وبذات الأدوات التي تهم مجالات أخرى “بالنظر لطبيعة السلطة القضائية واستقلالها وآليات اشتغالها والسبل المقررة لتصحيح اخطائها “.
أي ان قرارات النيابة العامة تعتبر مراقبة من طرف القضاء الذي تخضع احكامه لطرق الطعن القانونية ليخلص قرار المجلس الدستوري ان رئيس النيابة العامة يكون مسؤولا عن كيفية تنفيذه للسياسة الجنائية أمام السلطة التي عينته والمتمثلة في رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، وكذا أمام المجلس الذي يقدم له تقارير دورية بخصوص تنفيذ السياسة الجنائية وسير النيابة العامة.
لذلك فان القول بحضور الوكيل العام قصد إغناء النقاش ،ولو لا يفهم منه المثول المقرون بالمساءلة البرلمانية من شأنه المساس بمبدأ فصل السلطات والاحترام الواجب للسلطة القضائية المستقلة ، وبالتالي يبقى البرلمان مواجها باختصاصه المتمثل في تدارس التقرير دون تصويت كما ينص على ذلك القانون ،والأخذ بما فيه من توصيات بهدف تعديل المقتضيات وتطويرها إذا اقتضى الحال مع رفع التوصيات .
من جهة أخرى فان مسألة الجهة التي تحيل التقرير على البرلمان لم يقع الحسم فيها بصفة دقيقة على اعتبار ان المادة 110 من القانون التنظيمي المشار اليها أعلاه غير واضحة في كيفية إحالته ومن الجهة التي تحيله ، اذ اشارت إلى تلقي المجلس لتقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة ،من بين هذه التقارير تقرير الوكيل العام لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة ، قبل عرضه ، ومناقشته أمام لجنتي التشريع بالبرلمان ، كما ان النظام الداخلي لمجلس النواب لم يتطرق بدوره لهذه النقطة ، وفيما يخص عرض التقرير فان المادة 110 من القانون التنظيمي لم توضح الجهة التي تتولى عرض التقرير وهل سيتم ذلك من طرف احد أعضائهما ما دام المجلس الدستوري حسم في عدم حضور رئيس النيابة العامة.
كما ان المادة 318 من النظام الداخلي لمجلس النواب اوردت عبارة مبنية للمجهول : “يُعرض تقرير الوكيل العام لمحكمة النقض حول السياسة الجنائية وسير النيابة العامة أمام لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان ويكون التقرير متبوعًا بمناقشة دون تصويت” ، الشيء الذي يطرح أسئلة مسطرية بخصوص الجهة المخول لها عرض التقرير ، علما ان الدستور لم ينص على تقديم التقرير أصلا ، وتبقى الإحالة المنصوص عليها في القانون التنظيمي احالة ادارية يقوم بها معد التقرير أي الوكيل العام لمحكمة النقض رئيس النيابة العامة لرئيسي مجلسي البرلمان من اجل تعميم التقرير ، وإلمام أعضاء لجنتي العدل والتشريع بمقتضياته بحكم اختصاص البرلمان بوضع التشريع في أفق وقصد تعديل المقتضيات المتعلقة بالسياسة الجنائية وتطويرها إذا اقتضى الحال ، الشيء الذي يقتضي تجاوز هذه النقطة المسطرية بتوافق داخل مكتب اللجنة بمقتضاه يتسلم الأعضاء نسخا من التقرير بمثابة عرض واطلاع أو بتعيين الرئيس لمقرر لتلاوة التقرير تليه المناقشة وصياغة التوصيات مادام غير متبوع بتصويت ، في انتظار تعديل المادة 318 من النظام الداخلي لمجلس النواب في إطار اختصاص البرلمان بغية التجويد والتطوير.
ولعل تعثر النقاش داخل البرلمان ، والاكتفاء بقراءة سطحية في بعض الأحيان بعيدا عن السياق الدستوري القانوني وعن التفعيل الناجع للفصل الأول من الدستور المتعلق بالتعاون البناء مع جميع السلطات ، سواء تعلق الأمر بموضوع احالة وعرض تقرير رئيس النيابة العامة داخل لجنتي العدل بالبرلمان ، أو بمثيله المتعلق بعرض ومناقشة ميزانيتي المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة وعدم تحقيق أي تقدم على مستوى التنسيق مع السلطة القضائية، ليطرح عدة علامات استفهام حول مدى نجاعة تدبير القضايا المطروحة في المراحل الانتقالية والتأسيسية في زمن يتطلب تفهما وتعاونا بين جميع الأطراف بعيدا عن منطق النزاع والصراع و شد الحبل ، انتصارا لقواعد الديموقراطية ودولة المؤسسات.
واستحضارا لكوننا أمام محطة تأسيسية تاريخية تضع السلطة القضائية بكل مكوناتها أمام تحديات جسيمة و مسؤولية ذات ابعاد وطنية ودولية تلزمنا برؤية واضحة المعالم ومحددة للأولويات والأهداف ، وكما جاء في الخطاب الملكي السامي :
” ان العدالة كما لا يخفى هي الضامن الأكبر للأمن والاستقرار والتلاحم الذي به تكون المواطنة الحقة . وهي في نفس الوقت مؤثر فاعل في تخليق المجتمع واشاعة الطمأنينة بين أفراده واتاحة فرص التطور الاقتصادي والنمو الاجتماعي وفتح الباب لحياة ديموقراطية صحيحة تمكن من تحقيق ما نصبو اليه من امال “