رشيد وهابي: حالة مسطرية قليلا ما تقع
محام بهيئة الجديدة
ستنظر محكمة الاستئناف بالجديدة خلال الأيام المقبلة في ملف من أضخم ملفات ما أصبح يصطلح على الإشارة إليه (ملفات مافيا العقار) فالملف هو ضخم من حيث نوعية المتهمين المتورطين فيه (برلماني سابق، عدول، طبيب…) ومن حيث المدة الزمنية التي استغرقها البحث، وابتدأ البحث في أول شكاية موجهة إلى السيد الوكيل العام بالجديدة الأستاذ سعيد الزيوتي وبالضبط سنة 2013، والذي وقف على خطورة ما تتضمنه الشكاية من معطيات فقرر إحالتها إلى الشرطة القضائية الوطنية، والتي استمرت الشكاية لديها في إطار بحث معمق تقريبا سنتين، ولكن المجهود الذي بذلته في تتبع خيوط هذه الشبكة، كان مهما واستثنائيا ودقيقا أدى بعد إرجاع الشكاية إلى السيد الوكيل العام بالجديدة إلى إحالتهم على السيد قاضي التحقيق مطالبا في ملتمسه بفتح تحقيق ضدهم من أجل كومة من الجرائم التي اقترفوها ومنها تكوين عصابة إجرامية والتزوير في محررات رسمية وتزييف أختام الدولة وإلخ، وطلب وضعهم جميعا رهن الاعتقال الاحتياطي، وبعد أن أمر السيد قاضي التحقيق بالجديدة بوضعهم رهن الاعتقال الاحتياطي وبداية التحقيق معهم والذي استمر لعدة أشهر وبناء على الإحالة الصادرة عن الغرفة الجنحية في نفس الملف وبناء على متابعة السيد الوكيل العام في مواجهة متهم محدد في الملف نفسه، تمت متابعتهم تقريبا من أجل نفس الجرائم التي أمر السيد الوكيل العام بفتح تحقيق معهم بشأنها، وأحيلوا على غرفة الجنايات بالجديدة.
وبعد جلسات ماراثونية كثيرة استمرت لمدة تزيد عن السنة، أصدرت غرفة الجنايات بالجديدة قرارا مهما برئاسة الأستاذ سعيد بدر وعضوية الأستاذين الحبيب حمزة وعبد الحق احسينة أدانت فيه العدلين بخمسة عشرة سنو سجنا والبرلماني السابق والطبيب باثني عشرة سنة سجنا من أجل التزوير في محررات رسمية من أجل الاستيلاء على عقارات الغير سجنا، وأدانت الشهود بخمس سنوات سجنا لكل واحد منهم من أجل المشاركة في التزوير، بعد أن اقتنعت غرفة الجنايات بخطورة الأفعال والخطط الإجرامية التي كانوا يسلبون بها أراضي أناس بسطاء ويقومون بتحفيظها وبيعها بعد ذلك بالملايير. وقضت بإتلاف الوثائق العدلية المزورة، وحكمت لضحايا هذه المافيا بتعويضات مهمة.
والملاحظة المهمة التي يجب أن ننوه بها هنا ويجب أن نقف عندها طويلا ونصفق لها بحرارة، هي الملتمس المهم والجديد الذي تقدم به السيد الوكيل العام بالجديدة من أجل فتح تحقيق مع الشهود الذين شهدوا في مجموعة من الوثائق العدلية المزورة من أجل المشاركة في التزوير في وثائق رسمية بمقتضى الفصول 129 و351 و352 و353 و354 من القانون الجنائي، لأن ما كان يجرى به العمل في مثل هذه الحالات، أن شهود الوثيقة المزورة تتم متابعتهم بالفصل 355 من القانون الجنائي من أجل جريمة الإدلاء أمام العدل بتصريحات يعلم أنها مخالفة للحقيقة، والعقوبة في حالة ثبوت الجريمة تكون بين سنة وخمس سنوات، ولكن بما أن نفس الشهود شهدوا في مجموعة من المحررات العدلية زورا وهم يعلمون أنهم يشهدون زورا وتعددت شهادة الزور الصادرة عنهم، فقد طلب السيد الوكيل العام بالجديدة في إطار توجه جديد ومحمود لمواجهة مافيات العقار أن يتم فتح تحقيق معهم من أجل المشاركة في التزوير في محررات رسمية، وهو الملتمس الذي تبناه السيد قاضي التحقيق بالجديدة بعد إجراء البحث وتابع في قرار متابعته الشهود بالمشاركة في التزوير وأحالهم على غرفة الجنايات لمحاكمتهم من أجلها، وهي المتابعة التي اقتنعت بها غرفة الجنايات وأدانتهم بخمس سنوات من أجل المشاركة في تزوير وثائق رسمية للاستيلاء على عقارات معللة إدانتهم بالمشاركة بما يلي: (أن قيام المتهمين بالإدلاء بشهادتهم في الرسوم العدلية بطلب من العدل فلان بخصوص ملكية المشهود له لعقارات مختلفة لا يحيطون بشأنها بأي علم وإنما رغبة فقط في الحصول على المال وتمكين المشهود له من بلوغ مقصده يجعلهم مشاركين في التزوير في محررات رسمية…)
الملف بعد عرضه على غرفة الجنايات الاستئنافية بالجديدة منذ عدة أشهر، أصبح يؤخر في كل مرة لتغيير تشكيلة الهيئة، لأن أغلب القضاة الممارسين حاليا بمحكمة الاستئناف بالجديدة سبق وأن بتوا بين المتهمين في هذا الملف إما في إطار جنائي أو عقاري، وكما هو معروف يصبح من الممنوع على القضاة قانونا أن يبتوا في ملف سبق وأن بتوا بين أطرافه، والقضاة كما عرفنا خلال مسيرتنا المهنية غالبا ما يسعون دون أن يطلب منهم أحد ذلك إلى أن يجرحوا أنفسهم ويبتعدوا عن البت في ملفات سبق لهم البت فيها أو كانت لهم أو لأحد أفراد عائلاتهم مصلحة فيها، ويقوم رئيس المحكمة الابتدائية أو الاستئنافية بتعيين قاض آخر ليعوضه، لكن حالة ملف مافيا العقار بالجديدة هي حالة خاصة نادرا ما تقع، لأن أغلب قضاة محكمة الاستئناف بالجديدة بثوا في الملف، ففي هذه الحالة يمكن للرئيس الأول لمحكمة الاستئناف إن كانت تشكيلة الهيئة تحتاج إلى عضو واحد، أن يترأس الجلسة ويكمل التشكيلة ، ولكن في الحالة التي تحتاج التشكيلة القضائية إلى أكثر من عضو، ففي هذه الحالة يستشكل الأمر، فهل هناك نص قانوني في قانون المسطرة المدنية أو الجنائية يخول للرئيس الأول أن ينتدب من المحكمة الابتدائية التي تقع في دائرة نفوذ محكمة الاستئناف المعنية قاضيا لتتميم تشكيلة الغرفة التي ستبت في النزاع، نصوص قانون المسطرة المدنية والجنائية فصلت في طلب التجريح الذي يقدم ضد قاض أو يقدمه القاضي لتجريح نفسه وتكلمت عن الجهة التي تبت في طلب التجريح المقدم ضده أو طلب التجريح المقدم منه، لكنها لم تتكلم عن الحالة التي يصبح هناك خصاص في تكملة تشكيلة الهيئة التي ستبت في ملف معين بسبب سبق البت فيه من طرف قضاة آخرين يوجدون في المحكمة نفسها.
والفصل الوحيد على ما أعتقد الذي يمكنه أن يستوقفنا ويمكن أن نستحضره في هذه اللحظة هو الفصل 527 من قانون المسطرة المدنية الذي ينص على أنه: (إذا تعلق الأمر بتلقي شهادة أو يمين أو ضمانة أو استجواب طرف أو بتعيين خبير واحد أو أكثر وبصفة عامة القيام تنفيذا لأمر أو حكم أو قرار بعملية كيفما كانت وكان الأطراف أو المحلات المتنازع فيها بعيدة جدا أمكن للقضاة انتداب محكمة قريبة أو قاض حسب ما يقتضيه الحال كما يمكن لهم الإذن لمحكمة بتعيين أحد أعضائها للقيام بالعمليات المأمور بها). ولكنه فصل لا يتكلم بتاتا عن عدم اكتمال تشكيلة الهيئة عدديا ولا يتكلم عن القضاة الذين يديرون المحاكمة، بل يتكلم عن الحالة التي لا يمكن للقاضي فيها أن يتلقى إجراء مهما في الملف المعروض عليه، ويكون من الصعب عليه الانتقال إلى مكان الإجراء للقيام بالمطلوب لوقوعه مكان الإجراء خارج دائرة نفوذه فيمكنه حينذاك أن ينتدب قاضيا للقيام بالإجراء المطلوب لفائدة البحث.
كما أن المادة 417 من قانون المسطرة الجنائية وإن كانت تعطي الحق للرئيس الأول أن يضيف إلى غرفة الجنايات مستشارا أو أكثر في بعض الملفات التي تحتاج إلى مناقشات طويلة، فإن هذه المادة التي لا يمكنها أن تحل إشكالية هذا المقال لأنها تتكلم عن قضاة المحكمة نفسها ولا تعطيه الحق لانتداب قضاة آخرين ومن محكمة أخرى لتكملة تشكيلة الهيئة.
إشكالية يجب أن يتم النص على كيفية معالجتها في ما سيستجد من تعديلات في نصوص قانون المسطرة الجنائية المقبل.