رأي حول استثناء الخلف الخاص من قاعدة التطهير في ظهير التحفيظ العقاري
أحمد حفاف باحث بماستر العقار والتعمير كلية الناظور
تثير مؤسسة الخلف الخاص في علاقتها بمنظومة الشهر العقاري المغربي؛ كثيرا من الاختلاف في الرؤى بين الفقه والقضاء والتشريع، وذلك من زاوية التعارض بين متمسك بصرامة قاعدة التطهير المترتبة كأثر عن تحفيظ العقار، وبين قائلبضرورة انصاف الخلف الخاص لطالب التحفيظ من داخل صرامة القاعدة السابقة من خلال استثنائه منها.
وموازاة مع هذا الاختلاف القديم الجديد، نأتي بتسليط الضوء من وجهة نظر بحثية مبسطة لهذا الاختلاف ومجردة لرأي متمخض عن منطق خاص لنا حول هذا الموضوع، ذلك من زاويتي الضمانات المسطرية المقررة لحماية تداول الحقوق العينية قبيل تأسيس الرسم العقاري وتفعيل قاعدة التطهير من جهة، وبين ضرورات الاستثناء الواجب للخلف الخاص من قاعدة التطهير انصافا وعدالة له.
ومن هاتين الزاويتين تتبلور لدينا إشكالية هذه الورقة البحثية في الشكل التالي:
إلى أي حد يمكن تكريس استثناء للخلف الخاص من داخل قاعدة التطهير بما يكفل للمؤسسة الأولى الانصاف العدالة ويحقق للمؤسسة الثانية هاجس استقرار المعاملات المتوخى من سنها؟
وفي محاولة تفكيك هذه الإشكالية بمنظور متجرد من توجهات الفقه والقضاء سنعتمد هذا التصميم:
- المحور الأول: قاعدة التطهير في ظهير التحفيظ العقاري وسؤال الضمانات المسطرية المقررة لحماية تداول الحق العيني قبيل تأسيس الرسم العقاري.
- المحور الثاني: تقاطعات نصوص ظهير التحفيظ العقاري بين تأكيد قاعدة التطهير وضرورة تقرير استثناء الخلف الخاص إنصافا وعدالة.
المحور الأول: قاعدة التطهير في ظهير التحفيظ العقاري وسؤال الضمانات المسطرية المقررة لحماية تداول الحق العينيقبيل تأسيس الرسم العقاري
يأتي نص الفصلين 62/1 ظ.ت.ع، على درجة من الحرفية في التأكيد على نهائية وقوة تطهيرية غير قابلة للجدال بالنسبة للرسم العقاري، المؤسس للانطلاقة الأولى للعقار من حيث الحقوق والتحملات، هذا التكريس والتأكيد، يأتي من سياقات تاريخية متعلقة بالسياسات الكولونيالية للمستعمر الفرنسي من جهة، ولأسس قانونية-اقتصادية من جهة أخرى؛ اعتبارا لكون خاصة تمييز نظام التحفيظ العقاري عن باقي النظم غير الناجحة (كالظهير الخليفي مثلا)، هو هاته القوة التطهيرية للرسم العقاري، كما أنه لا يختلف اثنان على أن ضمانات الاستثمار الجيد يكون في العقار ذي الملكية المستقرة ماديا وقانونيا ،وهذا الاستقرار ينطلق أساسا من تحقق ضرورات الأمن العقاري؛ وقاعدة التطهير من بين هاته الضرورات.
ومعلوم أن هذا العقار قبيل تأسيس رسم عقاري له وتطهيره من كل الحقوق المتعلقة به، فهو ينتقل بين ثلاث نظم قانونية مختلفة تميز الهوية العقارية للمغرب، بحيث ينتقل العقار من نظام العقار غير المحفظ إلى نظام العقار في طور التحفيظ، ومن ثم إلى نظام العقار المحفظ. وهذه الهيكلة العقارية الهرمية من غير المحفظ إلى المحفظ، تتخللها مرحلة انتقالية للعقار وهي؛ أطوار عملية تحفيظه قبيل تأسيس الرسم العقاري كنظام خاص كما أشرنا. وهذه المرحلة ليس من شأنها تجميد العقار من حيث التصرف فيه وتداوله، بل يمكن تداوله بشتى المعاوضات والتبرعات وغيرها.
إلا أن تداول الحقوق العينية الواردة على العقار في طور التحفيظ، قد وضع له المشرع آليتين حمائيتين لإشهار وإعلان الحقوق العينية الناشئة عنه أثناء المسطرة، وتتجلى هذه الوسائل في:
الإيداع لأجل النشر في الجريدة الرسمية طبقا للفصل 83 ظ.ت.ع (أو ما يعرف إداريا بالخلاصة الإصلاحية)، والإيداع لأجل التقييد طبقا للفصل 84 ظ.ت.ع، وذلك في حال تحقق ضابطي؛ عدم المنازعة في الحق، ونشوء الحق أثناء مسطرة التحفيظ. أما في حال المنازعة في الحقأو نشوء الحق قبل مسطرة التحفيظ فإنه لا يبقى لمدعيه إلا طريق التعرض وإثبات عكس صحة ادعاء الملك المفترضة من طالب التحفيظ.
وأمام هذه الآليات الثلاث للتدخل في مسطرة التحفيظ، فإنه يتأكد بالمنطق والقانون، أنه إذا لم يتقدم الأغيار أصحاب الحقوق العينية المتعلقة سواء بأصل الحق أو مداه أو حدوده أو تحملاته، المكتسبين لحقوقهم سواء قبل تقديم مطلب التحفيظ من خلال سلوكهم مسطرة التعرض، أو أثناء سريان مسطرة التحفيظ من خلالمسطرتي الإيداع سواء للنشر أو للتقييد، أو حتىمن خلالسلوك التعرض سواء على الخلاصة الإصلاحية وفق الفقرة ماقبل الأخيرة من الفصل 83 ظ.ت.ع، أو بالتعرض على الإيداع لأجل التقييد حسب البند الثالث من الفصل 24 ظ.ت.ع.
فبالتاليفلا جدال على سريان قاعدة التطهير ونهائية الرسم العقاري في مواجهة هؤلاء الأغيار، وفقا للقاعدة الأصولية “المفرط أولى بالخسارة“. فلا يبقى لهم بذلك إلا حق التعويض عن حق شخصي في حال إثبات تدليس قد وقع خلال سريان مسطرة التحفيظ، واحتياطيا يمكنهم طلب تعويض عن إثراء بلا سبب في حال عدم ثبوت التدليس وكذا تقرير مسؤولية المحافظ الشخصية أو المرفقية حسب الأحوال.
ولكن ماذا عن الخلف الخاص لطالب التحفيظ، ما هو مركزه من هذه الضمانات، وهل تشمله أهم آثار التحفيظ العقاري؛ قاعدةالتطهير؟
المحور الثاني: تقاطعات نصوص ظهير التحفيظ العقاري بين تأكيد قاعدة التطهير وضرورة تقرير استثناء الخلف الخاصإنصافا وعدالة
يأتي الحديث من باب العدالة والإنصاف، على حقوق تعلقت بعقار في فترة ما قبل تأسيس رسم عقاري له، ولم تتعلق بحقوق أغيار، إنما لفئة جد خاصة، وهم الخلف الخاص، أي من تلقى من سلفه ملكية شيء معين بالذات أو حقا عينيا على هذا الشيء؛ كالمشتري أو الموهوب له الملك. ويختلف عن الخلف العام الذي يخلف سلفه في مجموع التركة أو في جزء منها؛ كالوريث أو الموصى له. وما يميز هذا الخلف الخاص عن العام في على مستوى ترتيب الحقوق، هو أن سلف الخلف الخاص كالبائع للمشتري، يكون البائع ملزما بتسجيل الشراء في إطار التزامه بنقل الملكية، عكس الوريث مثلا كخلف عام يكون مصدر تملكه هو القانون. فلا ينتقل الملك لهم إلا بتحقق واقعة وفاة مورثهم.
وتأسيسا عليه، فالمنظور هنا أنه لا يوجد ما يلزم الخلف الخاص بتسجيل شرائه نشرا أو إيداعا أو تقييدا، عكس سلفه الذي يقع عليه عبء هذا الالتزام، وقياسا عما سبق فعلى عكس الأغيار فالخلف ليس مفرطا أو مهملا وبمنطق العدالة والإنصاف لا يستحق الخسارة، ومن هذا المنظور جاء التصور بأنه لا يمكن مواجهة الخلف الخاص في حال قام سلفه البائع مثلا بتحفيظ الملك الذي قام بتفويته للخلف الخاص والتمسك بقاعدة التطهير في مواجهته ضدا على التزامه الأساسي بنقل الملكية لخلفه تكريسا لمبادئ العدل والإنصاف.
بالإضافة إلى أنه وفي اتجاه ترسيخ مبادئ العدالة والإنصاف لفائدة الخلف الخاص، فإنه وإن فوت طالب التحفيظ بسوء نية الحق المملوك لخلفه لفائدة أحد من الغير ومن ثم قام بإيداع عقده وفق أحد المسطرتين، فرغم ذلك فإن آثار الخلاصة الإصلاحية والإيداع وفق أحكامها في الفصول 83/84 ظ.ت.ع يتم التمسك بها فقط في مواجهة الأغيار، والمشتري هنا ليس غيرا بل خلف خاص للبائع طالب التحفيظ، وبالتالي لا تسري في مواجهته آثار هاته المساطر.
وما يعزز هذا الطرح هو أن قيام طالب التحفيظ سيء النية بإيداع البيع الثاني، وتحديدا من خلال صورة إيداعها بتقنية الإيداع لأجل التقييد، يشكل مساسا كبيرا بمبررات الحجية المطلقة للرسم العقاري وقوته التطهيرية، ذلك أنه على خلاف مسطرة الإيداع للنشر أو الخلاصة الإصلاحية وفق الفصل 83 ظ.ت.ع التي توجب إعادة إشهار الحقوق المكتسبة أثناء جريان مسطرة التحفيظ، وكذا فتح آجال جديدة للتعرض، ومنح مكتسب الحق صفة طالب التحفيظ التي تخول له أن يحل محل سلفه ويواجه الجميع بهذا التغيير الطارئ في مسطرة التحفيظ،
فإن؛ مسطرة الإيداع وفق الفصل 84 ظ.ت.ع لا تمنح للمستفيد منها لا صفة طالب التحفيظ، ولا يعرف عند الأغيار من خلال وثائق الإشهار، وليس لأحد العلم به، ما لم يطلب معلومات في هذا الشأن من المحافظ، لذلك تكون الحقوق مودعة بصورة خفية، لا سيما وإن كان هذا التفويت وقع وملف التحفيظ جاهز ليتم تأسيس رسم عقاري له، لا سيما وإن قلنا بشمول التطهير للمودع إذا فسرنا أن غاية البند الثالث من الفصل 24 ظ.ت.ع من إتاحة التعرض على الإيداع، هو تمكين المستفيد منه بنفس فوائد التطهير التي يستفيد منها طالب التحفيظ دونما الخضوع للحجية النسبية للتقييدات.
والأغرب من هذا أن يقر البائع بعد تأسيس الرسم العقاري بعقد البيع للمشتري والإقرار كقاعدة هو بيع جديد، غير أنه عمليا حتى بإقرار صاحب الرسم العقاري يلزم المشتري بإبرام عقد جديد وما يرتبط به من ضرائب ورسوم وغيرها من الخسائر والمصاريف الجديدة. هذا إن لم يفوته تحايلا فيواجه هذا الخلف الخاص بقاعدة حسن نية المقيد. وبالتالي فضروريات قاعدة التطهير العقاري قد تصطدم بإهدار حقوق وظلم ذويه، لا سيما إن وقفنا على الأسباب التاريخية التي كانت وراء سنها، حيث ارتبطت بسياسة الاستيطان بالمغرب، إذ كان من شأنها تسهيل الاستحواذ على أراضي الفلاحين البسطاء عن طريق مسطرة غير مفهومة لديهم لغة ومضمونا وقضاء.
خاتمة:
وخلاصة القول، فإننا نرى من جهتنا أن المشرع العقاري لم يفرض قاعدة التطهير بصرامةإلاوقد كرس من خلال ظ.ت.ع منظومة إشهارية واسعة النطاق، ووضع ضمانات ووسائل حمائية لكل ذوي الحقوق من متعرضين ومستفيدين من الإيداع أو طالبين للخلاصة الإصلاحية، كما لم يغفل الحق في التعويض عن الضرر الشخصي في حال ثبوت التدليس.
غير أن الواقع لا يرتفع، فنسبة الأمية والجهل التي تطال المجتمع المغربي تصل إلى نصف المواطنين حسب الإحصائيات الرسمية، وقاعدة التطهير تبقى قاعدة بغايات تاريخية تستهدف هكذا فئات، لتحقيق أغراض كولونيالية، والاستيلاء على عقاراتهم بقوة القانون.
كما أن غالب العقود التي تكون محل استثناء القضاء للخلف الخاص من قاعدة التطهير، ترجع لتسعينيات القرن الماضي، حيث لم تكن أي رسمية مكرسة آنذاك كما هي منظمة اليوم وفق المادة 4 م.ح.ع،باستثناء الكتابة الثابتة التاريخ وفق الفصل 489 ق.ل.ع، ونحن نعلم بضرورة واجب النصح والإرشاد الذي يقوم به الموثقون والعدول خصوصا في البيوع العقارية لأجل توجيه المشتري للعقار في أي من نظمه الثلاث، حتى لا يطاله احتيال ونصب من ذوي النيات السيئة.
إضافة إلى أن قاعدة التطهير تبقى قاعدة ولكل قاعدة استثناء، واستثناءات التطهير كما هي متعارف في غالبها هي حقوق للدولة من ملك خاص وملك عام وأوقاف وغيرها، فلماذا لا يضاف استثناء آخر لفائدة الخلف الخاص لاعتبارات منطقية وعادلة ومنصفة، أهمها أنه ليس غيرا عن طالب التحفيظ بل هو خلفهالخاص، وبالتالي فإنه لا يجوز تطبيق قاعدة التطهير إلا على الغير بصريح نصوص ظ.ت.ع، والخلف الخاص لا بعد غيرا عن طالب التحفيظ، بحيث أنه لا يمكن لطالب التحفيظ أن يتحلل من تصرفه والتزامه بنقل الملكية كأساس للقوة الملزمة لتعاقده، ولو تم تأسيس الرسم العقاري.
كما أنه ليس هنالك ما يلزم المشتري الإعلان عن شرائه بمقتضى الفصلين 83/84 ظ.ت.ع ما داما يحفظان رتبة الحق في مواجهة الأغيار فقط. ومنه لا يثبت أي إهمال من جانب الخلف الخاص كما هو الحال بالنسبة للأغيار.
غير أنه، حتى لا نفرغ آليات النشر والإيداع من محتواها من خلال استثناء الخلف الخاص، فلابد من تقييد هذا الاستثناء بشروط معقولة، تشجع على اقتناء العقارات في طور التحفيظ من جهة وتوفر ضمانات أكبر للمشترين لهذا الصنف من العقارات الذي يعرف مخاطر في التداول كما مر معنا.
ومن شأن كل هذا تحقيق الملاءمة مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية لمواطني الدولة المغربية. حتى نكون أمام قاعدة قانونية تمثل مرآة للمجتمع بكافة فئاته وليس مجرد أداة اقتصادية فرضتها العولمة.