دور القضاء الإداري في ترسيخ مبادئ الحكامة بالجماعات الترابية
- الباحث جمال أمقران: تخصص القانون الإداري وتدبير التنمية من كلية الحقوق بتطوان و موظف اداري في وزارة التربية الوطنية.
مقدمة :
أصبحت الدولة المغربية في الآونة الأخيرة مطالبة من أي وقت مضى ، بإعداد تصور استراتيجي فعال وناجع لتأهيل منظومة الرقابة الممارسة على الجماعات الترابية وذلك على اعتبار أن السمة اللازمة والمميزة للدول الديمقراطية الحديثة ، هي أنها دولة اللامركزية الترابية الموسعة ، وأن تحقيق تنمية مستدامة يعتمد على مقومات من أجل الحكامة في مراقبة الجماعات الترابية ، وفي هذا الإطار وقصد تطوير وتجويد أداء الجماعات الترابية لابد من إرساء مبادئ الحكامة الترابية والتي تشمل مختلف الأنشطة والاختصاصات المعنية بالرقابة . فما هو مفهوم الحكامة ؟و كيف ساهم القضاء الإداري في ترسيخ الحكامة في التدبير المحلي للجماعات الترابية؟ وماهي المبادئ الأساسية للحكامة الترابية التي حاول القضاء الإداري ترسيخها لتحسين التدبير العمومي للجماعات الترابية ؟
سنسعى من خلال هذا التقسيم الإجابة على الإشكالية الرئيسية للموضوع و التساؤلات المرتبطة بها .
- الفقرة الأولى : ترسيخ مبادئ الحكامة في التدبير المحلي
- أولا : مفهوم الحكامة
- ثانيا : ترسيخ الشفافية والنزاهة وربط المسؤولية بالمحاسبة
- الفقرة الثانية : تجويد المرافق العمومية الترابية من خلال احترام مبدأي المساواة والاستمرارية
- أولا : مبدأ المساواة
- ثانيا : مبدأ الاستمرارية في أداء الخدمات من قبل الجماعات الترابية وضمان جودتها
الفقرة الأولى: ترسيخ مبادئ الحكامة في التدبير المحلي
إن الحديث عن دور القضاء الإداري في تكريس مبادئ الحكامة ومساهمته في تجويد التدبير العمومي يستدعي منا التطرق في البداية إلى تعريف مفهوم الحكامة ( أولا ) .ثم نتناول في العنصر الثاني ترسيخ الشفافية والنزاهة وربط المسؤولية بالمحاسبة
أولا: مفهوم الحكامـــــــة
إن تطوير أداء الجماعات الترابية وتوسيع مجالات تدخلها أو اختصاصاتها يرتبط بشكل أساسي بالرفع من فعالية تدبير الشأن المحلي وتحقيق التنمية المحلية، ولا يتأتى ذلك إلا عبر مبادئ الحكامة الترابية والتي تتأسس عليها تسيير المرافق العمومية على مستوى الجماعات الترابية[1]، ويعتبر مفهوم الحكامة من المفاهيم التي حظيت باهتمام واسع من طرف المختصين في مجال التدبير الإداري والمالي وكذا من مختلف الفاعلين المؤسساتيين ، وأصبح مفهوما متداولا في العصر الحالي بشكل جعل مفتاحا لحسن التدبير على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمالية وغيرها[2] ، وقد اعتبرها البنك الدولي بمثابة نمط أو ممارسة عملية صادرة عن السلطات العمومية في مجال تدبير الموارد الاقتصادية والاجتماعية بهدف تحقيق التنمية « وفي مقابل ذلك نجد الاتحاد الأوروبي يعتبر الحكامة مجموعة مبادئ وأسس يقوم عليها التدبير العمومي ، وتهدف إلى الحفاظ على المصالح العمومية وتحقيق الحاجيات المحلية عبر الاستعمال الأمثل للموارد من أجل تحقيق تنمية شمولية ومستدامة للمجتمع [3] ، وفي سياق آخر جاء في إحدى التقارير الموضوعية التي شملها تقرير الخمسينية بأن الحكامة هي ” ممارسة السلطة السياسية والإدارية والاجتماعية والتربوية والثقافية والبيئية ، وذلك من أجل الاستجابة لحاجيات السكان من الخدمات الأساسية ، دون تمييز بين الذكور والإناث أو بين الأجناس والأعراق [4].
وفي تعريف آخر للحكامة هي “مجموعة من القيم والمبادئ التي يجب مراعاتها من طرف المسيرين سواء في مجال التدبير المقاولاتي أو التدبير العمومي” [5]. أما الحكامة المحلية فيعرفها برنامج الأمم المتحدة للتنمية بأنها ” مجموع المؤسسات والميكانيزمات والسيرورات التي يعبر بواسطتها المواطنون ومجموعاتهم عن مصالحهم وحاجياتهم ويفاوضون اختلافاتهم ويمارسون حقوقهم وواجباتهم على المستوى المحلي ” ، والمغرب عرف منذ عقود تحولات اقتصادية واجتماعية كبرى ، مما أفرز حركية ونشاطا وحراكا على جميع الأصعدة والمستويات . فرض على المغرب التوجه نحو تكريس الحكامة الجيدة عموما والحكامة الترابية بالخصوص ، فقد أولت الدولة المغربية اهتماما بالغا للحكامة الجيدة والدعوة إلى تبنيها كخيار استراتيجي للإقلاع التنموي وهذا ما نستشفه من الرسالة الملكية الموجهة إلى أشغال الدورة الخامسة للجماعات والحكومات المحلية بإفريقيا المنعقدة بمراكش بتاريخ 16-20 دجنبر 2009 حيث أكد الملك محمد السادس بأنه ” في إطار تقوية تأطير الديمقراطية المحلية والحكامة المحلية الجيدة فإن المغرب سيؤسس لجهوية موسعة تهم جميع جهات المملكة “[6] ، وفي خطاب موجه إلى المشاركين في الملتقى الوطني حول الجماعات المحلية حيث جاء فيه “…وبما أن الحكامة الجيدة، أصبحت عنصرا أساسيا في تدبير المدن الكبرى، كان لزاماً على مدننا التوجه نحو نظام يمكن من فتح المجال لمبادرات، تقوم على مقاربة تعاقدية وتشاركية، بين الدولة والمدن، ومن انخراط مختلف الفعاليات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، وإشراك المواطنين في مختلف مراحل إنجاز البرامج المحلية…..”[7]وقدتوج هذا التحول بإقرار دستور جديد لسنة 2011 وصدور قوانين تنظيمية للجماعات الترابية التي عكست رغبة المشرع في ترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة ونقلها من المستوى المركزي إلى المستوى المحلي [8] ، وهكذا فإن مفهوم الحكامة يحمل أبعادا اقتصادية وإدارية وسياسية وقضائية ، فإذا كانت الحكامة الإدارية والاقتصادية تبحث في قضية الإصلاح الإداري ورفع الكفاءة والنجاعة في المجال الاقتصادي والحكامة السياسية تشمل بمنطقها منظومة القيم الديمقراطية ، وكيف يتم تناولها وتطبيقها في واقعنا المعاصر [9] ، فإن الحكامة القضائية تسعى إلى توحيد الجهود من أجل تحسين الأداء وتحقيق الفعالية والنجاعة في النظم القضائية والرفع من مستوى الجودة في الخدمات ، وهي ممارسة لا تتم إلا بتوافر أركانها المتمثلة في الشفافية والفعالية وحسن التدبير والتقييم والتتبع للرقي بأداء الإدارة القضائية ، وهي أداة أساسية في التواصل مع كافة المتدخلين ، وحسب معايير المحكمة النموذجية تقوم الحكامة على تيسير الولوج إلى القضاء واقتضاء الحقوق ومساءلة الفاعلين في هذه السلطة [10]. وعلى هذا الأساس يتسع مفهوم الحكامة الترابية ليشمل جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية والمالية للجماعات الترابية ، لذلك فإن ربط الحكامة الجيدة بالشأن المحلي يحمل في طياته دلالات قوية تجعل من الحكامة الترابية كمفهوم جديد للتدبير الشأن العام المحلي لما يوفره من أدوات ومعايير حديثة للتدبير السليم والترشيد الجيد للموارد ويحتاج إليها نظام رقابة القضاء الإداري الممارس على الجماعات الترابية .
ثانيا: ترسيخ الشفافية والنزاهة وربط المسؤولية بالمحاسبة
إذا كانت الحكامة المحلية تهدف إلى تخليق الحياة العامة وتجويد التدبير العمومي ، فإن ذلك ينبني على مجموعة من المفاهيم والمبادئ التي لعب القضاء الإداري دورا في تعزيزها وترسيخها داخل المرافق العمومية الترابية ونذكر منها الشفافية والمساواة وربط المسؤولية بالمحاسبة والفعالية … وغيرها من المبادئ الكبرى حيث لا يمكن الحديث عن الحكامة الترابية دون استحضارها ، فالمبادئ التي تم ذكرها في الحقيقة هي مهمة وضرورية ويحتاج إليها النظام الرقابي الممارس على الجماعات الترابية وستؤدي إذا ما تم تطبيقها بنجاح إلى مراجعة المنطق التقليدي للعلاقة الرقابية ، لتتحول وتنتقل من الحيطة والحذر المتبادل بين المسؤولين الرقابيين والجماعات الترابية ، إلى تفعيل منطق الشراكة والاستشارة المتبادلة [11] .
ومن هنا فإن للحكامة ارتباط بمدى ممارسة المسؤولية العمومية للأشخاص العامة ( الدولة ، الجماعات الترابية ، المؤسسات العمومية ) هذه الممارسة من نتائجها تقديم الخدمة العمومية سواء المعنوية أو المادية ، ذلك في ارتباط وثيق بينها وبين المرافق العمومية ، فهذه الأخيرة ( أي المرافق العمومية ) تشكل صمان أمان للحكامة طبقا لمعايير المسؤولية والمحاسبة والجودة والشفافية وإرساء الأخلاقيات داخل الإدارة الترابية حسب ما نص عليه الفصل 154 من الدستور المغربي لسنة 2011 حيث” تخضع المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية ، وتلتزم في تسييرها بالمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور ” والفصل 155 ينص على أنه ” يمارس أعوان المرافق العمومية وظائفهم ، وفقا لمبادئ احترام القانون والحياد والشفافية والنزاهة والمصلحة العامة “[12].
وإذا كانت الشفافية تعتبر من أولى وأهم المفاهيم في إطار المنظومة المفاهيمية للحكامة الرقابية ، فإن تكريسها يقصد بها العمل على خلق بيئة مناسبة تكون فيها المعلومات المتعلقة بالعلاقات المتبادلة بين طرفي الرقابة ( الجماعات الترابية والقضاء الإداري ) متاحة ومتطورة ومفهومة[13].
فالشفافية مفهوم فضفاض يقتضي ضرورة احترام الحكام والمسيرين العموميين المنافسة الشرعية والمساواة في الحقوق، وتوفير المعلومات الدقيقة في وقتها وإفساح المجال أمام الجميع للإطلاع على المعلومات الضرورية ومحاصرة الفساد وتعليل القرارات ، ونشر نتائج التحقيقات والتدقيقات التي تقوم بها الهيئات المختصة بالرقابة والتدقيق ودعم الرقابة القضائية والتواصل مع المواطنين بالتعريف بممارسة التدبير العمومي. فإذا كانت الشفافية تتطلب من الجماعات الترابية الإفصاح عن كل ما من شأنه زيادة إطلاع الأجهزة الرقابية على كيفية تدبيرها وتصريف أعمالها والإفصاح عن قراراتها وإشراك المواطنين والمجتمع المدني والهيئات الرقابية الأخرى للإطلاع على مختلف العمليات التدبيرية التي تقوم بها ، فإنها بالمقابل تتطلب من الأجهزة الرقابية المكلفة بالرقابة القضائية وخصوصا رقابة القضاء الإداري الإفصاح عن أهدافها ومنطلقاتها ومساطرها وإجراءاتها وممارستها الرقابية . فالأمر يتعلق هنا بواجبات ومسؤوليات متبادلة في تطبيق مفهوم الشفافية .
أما المبدأ الثاني من مبادئ الحكامة الترابية التي حاول القضاء الإداري ترسيخها في الجماعات الترابية فيتعلق بمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة والذي يجد أساسه في الفصل الأول من الدستور في فقرته الثانية “يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها ، والديمقراطية المواطنة و التشاركية ، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة[14]“، إن تكريس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة في أعمال الجماعات الترابية وأجهزتها وهياكلها من شأنه أن يعمل على امتلاك القدرة على محاسبة ومساءلة المسؤولين في حالة الإخلال بوظائفهم ومسؤولياتهم ، فمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة يشكل أحد مقومات الحكامة الجيدة باعتبار مفهوم المسؤولية يحيل إلى كيفية تحمل أعباء الواجبات الملقاة على صناع ومتخذي القرار والنتائج المترتبة عليها ، كما يحيل أيضا على المنطلقات الخاصة باستجواب المسؤولين عن تصرفاتهم [15] ، أما المحاسبة فيعرفها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على أنها الطلب من المسؤولين تقديم التوضيحات اللازمة لأصحاب المصلحة حول كيفية استخدام صلاحياتهم وتصريف واجباتهم ، والأخذ بالانتقادات التي توجه لهم وتلبية المتطلبات المطلوبة منهم وقبول المسؤولية عن الفشل وعدم الكفاءة أو عن الخداع والغش ، وتتطلب المحاسبة أو المساءلة القدرة على محاسبة المسؤولين عن إدارتهم للموارد العامة وعن المهام الموكلة إليهم وعن النتائج المتوصل إليها وعن المسؤوليات والمهام الملقاة على عاتقهم[16].
إن تفعيل ربط المسؤولية بالمحاسبة المحلية يقتضي أن يساءل المنتخبون بالجماعات الترابية عن أعمالهم ووظائفهم وعن القرارات الإدارية الصادرة عنهم عن كل إخلال أو انحراف ، وأن يساءل كل من له علاقة بالتدبير العمومي للجماعات الترابية من ولاة وعمال باعتبارهم يمارسون الرقابة الإدارية على الجماعات الترابية . ويعتبر الحق في الحصول على المعلومة من بين المبادئ الحكماتية التي وردت في المقتضيات الدستورية والقوانين التنظيمية للجماعات الترابية والتي تركز على الإخبار وإطلاع المواطنين على أشغال المجالس وعلى بعض مضامين قراراتهم التي تهم في جانب كبير منها تدبير الشؤون والمرافق المحلية ، فالتنصيص على عمومية الجلسات وتعليق جدول الأعمال يسمح للمواطن بممارسة نوع من الرقابة على أجهزة الجماعات الترابية وترسيخ نوع من التواصل الفعال بين الجماعة الترابية ومحيطها المجتمعي ويعزز ثقتها لدى باقي الأجهزة الرقابية وعلى رأسها رقابة القضاء الإداري[17] .
الفقرة الثانية : تجويد المرافق العمومية الترابية من خلال احترام مبدأي المساواة والاستمرارية
تمثل فكرة المرفق العام مكانة مهمة في القانون الإداري وقد اعتبرها البعض الأساس الذي ترد إليه جميع نظريات القانون الإداري ، والمرفق العام هو نشاط تقوم به الأشخاص العامة ، إما بصفة مباشرة أو تحت إشرافها ، ذلك من أجل إشباع حاجات عامة ذات منفعة عامة [18]. والمرافق العمومية قد تكون وطنية وقد تكون محلية وسنركز على بعض مبادئ المرافق العمومية التابعة للجماعات الترابية ، فقد أحالت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية بمستوياتها الثلاث على جملة من المبادئ العامة التي لها علاقة بتسيير المرافق العمومية المحلية ودور القضاء الإداري في تكريسها وتطوير الأداء العمومي وتتعلق أساسا بمبدأ المساواة (أولا) ومبدأ الاستمرارية ( ثانيا ).
أولا: مبدأ المساواة
ويفيد هذا المبدأ خضوع جميع أفراد المجتمع للمساواة وعدم التمييز بينهم في إطار الحكم الراشد فالكل متساو في الحقوق والحريات والكرامة [19]. ويحوز هذا المبدأ على قاعدة دستورية تقضي بأن على المرفق العام أن يؤدي خدماته إلى المرتفقين بنوع من التساوي وعند توفر شروط معينة وهي قاعدة نص عليها الفصل 6 من الدستور المغربي لسنة 2011 حيث أكد على أن ” القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة ، والجميع أشخاص ذاتيين واعتباريين ، بجانبهم السلطات العمومية ، متساوون أمامه وملتزمون بالامتثال له ” [20] ، وينص الفص 31 على أن ” تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية ، على تعبئة كل الوسائل المتاحة ، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات ، على قدم المساواة من الحق في : العلاج والعناية الصحية… والشغل وولوج الوظائف العمومية والاستحقاق ……” فالمرفق العام أحدث لإشباع حاجة جماعية لا يستطيع النشاط الفردي إشباعها على الوجه الأكمل ، فهو يهدف إلى تحقيق صالح المجموع بغير استثناء ودون تمييز أي تمييز بسبب العرق أو الدين أو الانتماء السياسي ، ولهذا فمن الطبيعي أن يتساوى في الانتفاع من خدماته كل من يتوفر على الشروط القانونية التي يحدده المرفق العام وتطبيقا كذلك لمبدأ المساواة الذي تنص عليه المواثيق الدولية التي يفرض الاجتهاد القضائي على الإدارة احترامها ومراعاتها ،وتفعيلا كذلك للمقتضيات الدستورية التي تقضي بمساواة المواطنين في تقلد الوظائف العمومية وفي الشغل وفي تحمل الأعباء والتكاليف العمومية [21] ، ومن القضايا التي عرضت على القضاء الإداري المرتبطة بمبدأ المساواة والتي بت فيها وحكم فيها بالتعويض والإلغاء نجد مسألة الانتفاع من الخدمات التي تقدمه المرافق العمومية بناء على العقود الإدارية المبرمة مع الملتزمين ، لأن المرافق العامة محكومة بمبدأ أساسي أساسه المساواة في الانتفاع من خدماتها فكل تمييز يجري لمصلحة أحد الزبناء يوجب على الملتزم أن يعوض الضرر الذي قد يصيب الغير من جراء ما يترتب على هذا التمييز من إخلال بالتوازن الطبيعي في المنافسة المشروعة بين المنتفعين ويحق لهؤلاء التدخل لدى الإدارة لحملها على احترام بنود العقد فإذا ما رفضت الإدارة التدخل صراحة أو ضمنا يكون لهم الحق في الطعن بالإلغاء في قرار الرفض لمخالفته القانون [22] .
ومن تطبيقات مبدأ المساواة أمام القضاء الإداري الأخرى التي فصلت فيه المحاكم الإدارية على مستوى الجماعات الترابية قضايا الوظيفة العمومية ففي حكم[23] صادر عن المحكمة الإدارية بمكناس تحت رقم 98/99/3 غ بتاريخ 28/10/1999 بين المدعية زختي جميلة ضد رئيس المجلس البلدي لمدينة الحاجب، اعتبرت المحكمة أن محاولة تبرير التخطي في الرتبة بدعوى محدودية المناصب المالية ودون تبريرها هذا التخطي يعتبر خرقا لمبدأ مساواة الموظفين أمام القانون وأمام الفرص المتاحة لترقيتهم وشططا في استعمال السلطة ، لأن القاضي الإداري وهو يراقب مدى تقيد الإدارة بقواعد الترقية لا يحدث مناصب مالية أو يلزم الإدارة بتجاوز عدد المناصب المخصصة ، ولكن يراقب تقييد الإدارة باحترام مبدأ مساواة موظفيها أمام القانون ، وأمام الفرص المتاحة ، كما يراقب عدم انحرافها في استعمال السلطة التقديرية. وطبقت المحاكم الإدارية مبدأ المساواة في مجال التعيين والترقية ونقل الموظفين ، والالتزام بالمساواة بين كافة المواطنين دون تمييز تطبيقا للمقتضيات الدستورية لاسيما ما تضمنه تصديره مبدأ جديد وهو حصر ومكافحة جميع أشكال التمييز بسبب الجنس وتكريس مبدأ المساواة بين الجنسين ومشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية [24].
كما عملت المحاكم الإدارية على تطبيق مبدأ مساواة المواطنين أمام الأعباء أو التكاليف العامة ، ويعتبر من المبادئ العامة للقانون ومفاده ألا يتكبد المواطنون أضرارا غير عادية التي يتحملونها عادة في سبيل تحقيق مصلحة عامة لسائر المواطنين ، فقواعد العدالة تقتضي عدم تحمل هذه الفئة القليلة بأعباء إضافية، بل يجب تساوي جميع المواطنين في تحمل هذه الأعباء ، فأساس هذه النظرية هو مبدأ التضامن الاجتماعي الذي يتطلب تحمل المجتمع مخاطر نشاط الإدارة ، وفي هذا الإطار قضت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء بالحكم على المدعى عليهم بأدائهم للمطالب مبلغ ستة ملايين درهما تعويضا عن الأضرار اللاحقة بهم ، واستندت المحكمة في حكمها على حالات المسؤولية على أساس المساواة أمام الأعباء العامة[25].
ومادام أن مبدأ المساواة هو أحد المبادئ الأساسية التي تحكم المرافق العامة فإن أي إخلال به يجعل العمل الإداري باطلا ويتيح للأفراد الطعن بإلغاء ذلك العمل و والتعويض عن الأضرار التي حقت بهم من جراء ذلك.
ثانيا : مبدأ الاستمرارية في أداء الخدمات من قبل الجماعات الترابية وضمان جودتها
هذا المبدأ يقابل بالسير العادي والمنتظم للمرافق العامة وهو مبدأ يقضي بأن تقدم هذه الأخيرة الخدمات التي من أجلها دون انقطاع كي لا تضرر مصالح المرتفقين فحتى يكون عمل المرافق العمومية منتظما ومستمرا دون توقف يجب أن تقوم الجماعات الترابية بتوفير خدمات أساسية وتأمين حاجات عمومية ، وقد نص الدستور المغربي لسنة 2011 في الفصل 154 من الباب الثاني عشر منه بقوله ” يتم تنظيم المرافق العمومية على أساس المساواة بين المواطنات والمواطنين في الولوج إليها والإنصاف في تغطية التراب الوطني والاستمرارية في أداء الخدمات”[26]. كما أحالت القوانين التنظيمية للجماعات الترابية في مستوياتها الثلاث وذلك بنصها على مبدأ استمرارية المرافق العامة في أداء الخدمات وضمان جودتها [27].
ويعتبر مبدأ استمرارية المرافق العامة المحلية وسيرها بانتظام من المبادئ العامة للقانون الذي لا يحتاج تقريره بنص تشريعي ، لأن طبيعة المرفق العام تستلزم ضمان سيره بانتظام لخدمة المنفعة العامة ، لتقديم خدمات أساسية للأفراد بصفة دائمة ومنتظمة لأن المنتفعين يرتبون أمور حياتهم على أساس وجود المرفق واستمرار سيره ، ويمكن تصور ارتباك في الحياة العامة والاضطراب الاجتماعي الذي ينجم عن انقطاع خدمات النقل أو البريد أو الأمن أو الماء أو الكهرباء، ولو لفترة قصيرة . لذلك فقد قضىت المحاكم الإدارية بإخضاع المرافق العامة لمبدأ الاستمرارية وإلزام السلطة العامة بضمان ذلك وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية بفاس في حكم عدد 128 بتاريخ 9/3/2001 بين محمد بلحاج ضد عامل إقليم تازة حيث جاء فيه : ” الطعن بالإلغاء ضد قرار إقالة رئيس المجلس الجماعي المعتبر بذاته نافذ المفعول عند صدوره والذي لم يصدر بشأنه حكم نهائي بالإلغاء ، لا يحول دون إجراء العملية الانتخابية لما تقتضيه استمرارية المرفق من ضرورة إجراء انتخاب جديد لرئيس الجماعة عوضا عن الرئيس المقال[28].
ومبدأ الاستمرارية من المبادئ الطبيعية التي تم الأخذ بها سواء على مستوى التشريع أو على مستوى القرارات والأحكام القضائية ويتنافى مع إسناد السلطات المحلية أو الجماعات الترابية إلى الصعوبات الإدارية والمالية للامتناع عن ضمان تقديم خدمات المرفق العام ، فهذا الأخير يقدم خدمات للمنتفعين دون الحصول على ربح كما هو الشأن بالنسبة للمقاولات العمومية ، لذلك يتوجب على السلطات أن تعمل على إعادة تنظيم المرافق على أساس قواعد جديدة مع التشبث بإرضاء حاجات المواطنين ويتوجب عليها تقديم مساعدات وإعانات للمرافق العامة التي تعاني من أزمة مالية حتى تستمر في نشاطها ، وأن تراعي ضمان الاستمرارية خلال محاولات الإصلاح التي تباشرها تجاه المرفق ، وتطبيقا لهذا المفهوم اعتبرت المحكمة الإدارية بأكادير في حكم عدد الصادر69 بتاريخ25/06/1998 ضد رئيس جامعة القرويين ” أن أي تحديد مسبق للطاقة الاستيعابية يعتبر إغلاقا جزئيا للمرفق الجامعي ويتنافى بالتالي مع مبدأ استمرارية المرفق العام ، والذي يعني استمرارية المرفق في أداء الخدمة الاجتماعية [29].
إن تطبيق مبدأ الاستمرارية على المرافق العمومية للجماعات الترابية يفرض على القضاء الإداري التدخل من أجل إلزام الجماعات الترابية بأداء التعويض عن الأضرار التي تسببت فيها المرافق المحلية وتتحمل المسؤولية بسبب توقفها عن تقديم الخدمات للمرتفقين بصفة مستمرة ، وتترتب عن المرافق العمومية مجموعة من النتائج تتعلق بالإضراب والاستقالة وعدم الحجز على المال العام .
إن تدخل القضاء الإداري لضمان سير المرفق العام المحلي بانتظام واضطراد وإن كانت هذه المرافق عرفت تحولا وتطورا من خلال تدبيرها بطرق أخرى كالتدبير المفوض والامتياز والمؤسسة العامة ، ساهم بشكل كبير في تجويد أدائها عبر الأحكام القضائية الصادرة في هذا الشأن ، فلا يكفي القول أن شرعية المرفق العمومي هي مستمدة فقط من استمراريته وديمومته ولكن أيضا نابعة من جودة الخدمات المقدمة و التي حظيت باهتمام من طرف المحاكم الإدارية عبر إلغاء بعض القرارات التي تحد من فعالية ونجاعة المرفق العمومي ،
فمسألة التجويد تحيلنا على ثقافة النتيجة كآلية من آليات تقييم السياسات العمومية ، ذلك أن أهمية المرفق العمومي لم تعد تقاس فقط بالميزانية المخصصة له ولكن أساسا بما يحققه من خدمات اجتماعية ومساهمته في معالجة قضايا المواطنين وإحداث تغيرات مجتمعية خلال مدة معينة ، أيضا ترتبط مسألة التجويد بالعنصر البشري الذي يعتبر العامل الجوهري الذي يعطي معنى وروحا لتواجد واستمرارية المرفق العمومي والتأثير على أدائه فتبقى مسؤولية الموظف أو العامل ثابتةبالدفع بالمرفق نحو القيام بوظيفته وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للجماعات الترابية [30].
الهوامش:
- – عبد اللطيف بروحو : مالية الجماعات المحلية بين واقع الرقابة ومتطلبات التنمية منشورا ت المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية الأولى 2011 ص :375 ↑
- – سناء الأنباري : أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام دور الجماعات المحلية في تحقيق التنمية – جهة الرباط سلا زمور زعير نموذجا كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية اكدال الرباط 2013/2014ص :271 ↑
- – عبد اللطيف بروحو : مالية الجماعات المحلية بين واقع الرقابة ومتطلبات التنمية ص : 380 ↑
- – المغرب الممكن تقرير الخمسينية الحكامة والتنمية التشاركية ، مطبعة دار النشر المغربية الدار البيضاء المغرب طبعة 2006 ص: 16 ↑
- سعيد جفري : ما الحكامة مطبعة الأمنية الرباط طبعة 2014 ص: 34 ↑
- – مولاي محمد البوعزاوي : أطروحة الدكتوراه في القانون العام – تحديث الإدارة المحلية بالمغرب ص :114 ↑
- – نص الخطاب الملكي الموجه الى المشاركين في الملتقى الوطني حول الجماعات المحلية باكادير 12-12-2006http://www.indh.ma/index.php/ar/discours-et-messages-royaux ↑
- – التدبير المحلي والحكامة الترابية على ضوء القوانين التنظيمية الجديدة مجلة العلوم القانونية العدد الرابع 2015ص:87 ↑
- – زهير البحيري :المجتمع المدني التنمية والحكامة منشورات الملتقى الثقافي لمدينة صفرو أشغال الدورة الثانية ماي 2011 ص 37 ↑
- – تقرير لنادي قضاة المغرب حول موضوع الندوة : الحكامة على ضوء قوانين السلطة القضائية – مجلة الفقه والقانون العدد 54 ابريل 2017 ص : 130 ↑
- – عماد أبركان : نظام الرقابة القضائية على الجماعات الترابية ومتطلبات التنمية – منشورات مجلة العلوم القانونية مطبعة الأمنية الرباط الطبعة الاولى ص : 398 – 399 ↑
- – الفصل 154 والفصل 155 من الدستور المغربي لسنة 2011 ↑
- – عماد أبركان مرجع سابق ص: 399 ↑
- الفصل الأول من دستور 2011 ↑
- – عماد أبركان مرجع سابق ص: 402 ↑
- مولاي هشام جاز : الجماعات الترابية ومبدأ التدبير الحر مجلة المنارة عدد خاص 2017 ص164 ↑
- – عبد اللطيف بروحو مالية الجماعات الترابية بين واقع الرقابة ومتطلبات التنمية ص منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية عدد 97 /2016 ص199 ↑
- – محمد الأعرج النشاط الإداري منشورات المجلة المغربية للإدارةالمحلية والتنمية العدد 104 /2014 ص: 146 ↑
- – zineb sitri : fondements et enjeux de la bonne gouvernance urbaine . Revue Marocaine d’administration locale et développement, série n° 46,2004 p 109 ↑
- – الفصل السادس من دستور 2011 ↑
- – محمد الأعرج مرجع سابق ص : 253 ↑
- – محمد الأعرج :مسؤولية الدولة والجماعات الترابية في تطبيقات القضاء الإداري المغربي مرجع سابق ص 334 – 335 ↑
- – محمد بوكطب المبادئ العامة للقانون على ضوء الاجتهاد القضائي الإداري المغربي : الوظيفة العمومية نموذجا م. م.م.إ.م .ت العدد132 ص : 164 ↑
- – الفصل 6 من دستور 2011 ↑
- : انظر حكم المحكمة الإدارية بالدار البيضاء عدد 376 بتاريخ 3/7/2002 -خليل عبد الإلاه ضد وزير الأشغال العامة منشور بالمجلة .م.إ.م.ت. عدد مزدوج 44-45 سنة 2003 ص 251 ↑
- – مولاي هشام جاز الجماعات الترابية ومبدأ التدبير الحر مجلة المنارة مرجع سابق ص163 ↑
- المادة 243 من القانون التنظيمي111.14 للجهات والمادة 213 من القانون التنظيمي 112.14 المتعلق بالعمالاتوالأقاليم والمادة 269 من القانون التنظيمي 111.14 المتعلق بالجماعات ↑
- – محمد الأعرج النشاط الإداري منشورات مجلة الإدارة المحلية العدد 104 /2014 ص : 232 ↑
- – محمد الأعرج : النشاط الإداري مرجع سابق ص 233 ↑
- – عد الرحيم الشرقاوي : المرفق الإداري الرقمي : مدخل للشفافية والتحديث م.م .إ.ت.م مرجع سابق ص: 83 ↑