مجلة مغرب القانونحوارات صحفيةحوار مع الدكتور الحسين بلحساني حول مؤلفه الجديد: الاستمرار القانوني لعقد الكراء السكني في التشريع المغربي

حوار مع الدكتور الحسين بلحساني حول مؤلفه الجديد: الاستمرار القانوني لعقد الكراء السكني في التشريع المغربي

حاوره إبن مسعود ياسين مدير موقع مغرب القانون


حوارا مع فضيلة الدكتور الحسين بلحساني أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بوجدة حول مؤلفه الجديد :  ” الاستمرار القانوني لعقد الكراء السكني : في ضوء التشريعات المغربية الخاصة وتطبيقاتها القضائية -دراسة مقارنة-“.


أولا: هل يمكن أن تقربنا أكثر فضيلة الدكتور الحسين بلحساني لمضامين مؤلفكم الجديد؟

أود في البداية أن أعبر لموقع مغرب القانون في شخص مديره السيد ياسين ابن مسعود، عن جزيل شكري و عظيم امتناني، إذ أتاح لي هذه الفرصة الثمينة، وعبر هذا الحوار، للتواصل مع عموم قرائه الكرام. وإنه ليسعدني حقا أن يكون محاوري واحدا من شبابنا الواعد المشرف، والذي نعتز ونفخر بكونه من خريجي جامعتنا العزيزة.

وبعد،

يمثل الكتاب امتدادا لإصدارات سابقة للمؤلف في هذا الاتجاه، فهو إذن بمثابة تحيين يأخذ في الاعتبار المستجدات التي عرفها القانون المغربي لاحقا -تشريعا وقضاء وفقها-، على مستوى دعم الأمن الكرائي في المجال السكني، الذي لا يمكن فصله عن الأمن والسلم الاجتماعيين بصفة عامة.

لقد مضى على الدولة حين من الدهر، كان دورها خلاله يقف عند حد مجرد حراسة النظام القانوني الذي يحكم التعامل بين الأفراد، وساد بذلك في مجال قانون العقود، ما يسميه “ألان سوبيو” في كتابه “الإنسان القانوني” بالأنتروبولوجيا البسيطة، أي صورة الإنسان الذي يعرف ما يريد، وما هو أصلح بالنسبة إليه، حيث لا يحمل قيودا غير تلك التي يحددها لنفسه. ولكن تطور قانون العقود عبر مراحل زمنية طويلة، انتهى إلى إقرار ما يطلق عليه مصطلح “التوجيهية التعاقدية”. والمشرع يفعل ذلك إما تحصينا للمعاملات، وإما لغرض حماية أحد أطراف العلاقة التعاقدية، وإما لضمان السلم الاجتماعي أو لأسباب أخرى غير حصرية، تكشف عنها أحكام وضوابط هذه العقود نفسها.

ويسعى الكتاب إلى تسجيل بعض الآثار المترتبة عن هذا “الانتقال الصعب” بتعبير الروائي العربي الكبير المرحوم عبد الرحمان منيف، بين الوضعين مع اختلاف السياقين.  وذلك عن طريق استعراض أبرز مظاهر الخصوصية في عقود الأكرية السكنية، وأكثرها تعبيرا عن الدوافع والأهداف التي كانت وراء التدخلات المتلاحقة للمشرع والقضاء في هذا المجال، على أمل تحقيق نوع من التوازن في هذا النوع من العلاقات ذات الارتباط الوثيق بالسلم الاجتماعي، والذي يقتضي حدا أدنى من العدالة التعاقدية. ونعني بذلك الاستمرار القانوني لهذا الصنف من الأكرية، باعتباره التعبير الأكثر وضوحا عن تجاوز القواعد العامة، عبر توجيه العملية التعاقدية.

وهو الموضوع الذي أتاح لنا مع ذلك إمكانية التوقف عند مجالات عديدة تعكس مظاهر التدخل التشريعي والقضائي في مختلف مراحل العقد، من قبيل آثار العقد سواء بالنسبة للمكري، كالالتزام بصيانة العين المكتراة، وضمان الانتفاع الهادئ بها، أو بالنسبة للمكتري، كالتزامه بأداء الأجرة والمحافظة على العين، وغير ذلك مما له صلة باستمرار مفعول العقد وضوابطه ونطاقه، دون التعرض لكل تفاصيل أحكامه. فتناول في الباب الأول، مناط الاستمرار القانوني لعقد الكراء السكني ونطاقه، وهو ما اقتضى عرض اللأحكام المستجدة بشأن نشأته ومجال إعمالها. وخصص الثاني لمظاهر حماية المكتري من الإنهاء التعسفي لعقد الكراء السكني، عبر التحديد القانوني لأسباب الإفراغ وكيفية تنزيلها قضائيا على مستوى الواقع.

ثانيا:لماذا ركزتم بالضبط على التطرق لأحكام الاستمرار القانوني لعقد الكراء السكني؟ وإلى أي حد كان المشرع المغربي موفقا في هذا الصدد؟

المؤلف يتناول الاستمرار القانوني لعقد الكراء الوارد على المحلات السكنية بالذات، على أساس أنه يختزل بالفعل، تطورات قانون العقود على العموم. وهي بالنسبة للمغرب، إذ تترجم الخيار المبدئي للنظام القانوني المغربي ممثلا في الليبرالية الموجهة، واحترام سلطان الإرادة عندما تكون شروط هذا السلطان مكفولة، فإنها إلى جانب ذلك تولي اهتماما خاصا بمجال حماية الطرف الجدير بها في العلاقات التعاقدية، ودرء المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها. ووسيلتها في ذلك اعتماد أسس جديدة للتعاقد تروم قدر الإمكان تحقيق الإنصاف، وكفالة سلامة الرضا وحرية الإرادة والاختيار المتبصر، تفاديا للوقوع في حبائل التضليل والاستغلال. فتحيط العلاقات التعاقدية بالضمانات القمينة بتحصينها قياما وتنفيذا، وعدم الانحراف بها نحو التعسف والشطط. ويمكن الجزم بأن هذا المنظور السياسي للعقد الاجتماعي، هو السياق الذي صدرت ضمنه مختلف الأحكام التي أقرتها التشريعات المقارنة بخصوص أكرية المحلات السكنية. فهي تشكل إحدى وسائل التوجيه الذي تمارسه الدولة كطرف ضامن للعقد، على حرية التعاقد من أجل الحفاظ على السلم الاجتماعي.

وتحقيقًا لذلك، أقرت الأحكام المتعلقة بالإفراغ مجموعة من القواعد الموضوعية والشكلية استهدفت معًا حماية المكتري من مخاطر تعرضه للإفراغ دون أن يكون هناك مبرر يقتضيه. فتكفلت الأولى بضمان حقه في الاستقرار بالعين التي يشغلها أقصى مدة ممكنة عن طريق فرض الاستمرار القانوني للعلاقة الكرائية. في حين دعمت الثانية هذا الحق بواسطة اشتراط توفر أسباب محددة لإنهاء العلاقة الكرائية، واعتماد إجراءات مسطرية يلتزم بها المكري في كثير من الحالات التي قد يلجأ فيها إلى المطالبة بإفراغ المكتري تفاديًا لتمام ذلك بشكل مباغت، أو بعيدا عن الرقابة القضائية رغم كل اتفاق مخالف في هذا الشأن بين أطراف العقد

هذه التطورات تبرر فيما يرى المؤلف مواكبتها، والبحث عما ينتظمها، ومدى تآلف مناهج التدخل فيها. وهي مغرية لكل مولع بالتأصيل القانوني.

وهنا لا أجد غضاضة في الاعتراف بأن البحث عن الطبيعة القانونية لوضعية المكتري في حالة الاستمرار يمنحني شخصيا، متعة خاصة، ويثير لدي الكثير من الفضول، أراه جديرا بالاهتمام ومدعاة له.

فالمكتري في مثل هذه الوضعية لا يستمد حقه من عقد الكراء، وإنما من القانون.  والعلاقة التي ينشئها الاستمرار القانوني لعقد الكراء إذن ليست هي نفسها التي أنشأها الطرفان أول الأمر عند إبرامهما للكراء، ولا هي مماثلة للتجديد الضمني. إذ في هاتين الحالتين، يستمد المكتري حقه في شغل العين من العقد المؤسس على تطابق إرادتي المتعاقدين، خلافا لمرحلة ما بعد الاستمرار التي تخول المكتري رخصة قانونية للتمسك بالمحل رغم إرادة المكري واعتراضه. لذلك يفضل بعض الفقه وصف هذه العلاقة بأنها العلاقة الواقعية شبه التعاقدية.

إنها أحكام انتهاء عقود أكرية المساكن قد ينظر إليها على أنها تمثل مظهرا جزئيا من مظاهر أزمة القانون. وهي أزمة تتأكد من خلال الحيرة والارتباك اللذين يلاحظان على التشريع كلما كان التغيير في المجتمع مفاجئا وعنيفا.

فأزمة التشريع تتأتى من كون الوقائع والأحداث تتجاوز وتتخطى المفاهيم القانونية السائدة والمستقرة. لذلك فإن تدخل التشريع يأتي في شكل ردود فعل محدودة من حيث النطاق، وقاصرة في نفس الوقت عن احتواء الأزمة. لأن مثل هذه التشريعات تتصدى في الغالب لمشكلة معينة بآليات تبدو نشازا، غير متلائمة مع النظام القانوني وخارج إطار قواعده العامة.

وتعتبر التشريعات المتعلقة بالأكرية نموذجا لسباق غير متعادل الأطراف بين القانون ونمو أزمة السكنى. فبينما كانت أزمة السكنى تتجذر في المجتمع الحضري في إطار بنية ملائمة. تيسر لها عملية الانتشار، فتأخذ أبعادا شاملة، كان القانون متخلفا عن ملاحقة هذا الواقع الجديد. إن التشريعات الخاصة بالأكرية لم تتوقف عن الصدور طيلة القرن الماضي، وكانت في كل مرة تنتزع ميزة من أحد أطراف العلاقة الكرائية، وتضيفها إلى الآخر، بحثا عن توازن الكفتين بينهما. ولكن شيئا من ذلك لم يتحقق.

أما بشأن تساؤلكم عما إذا كان المشرع موفقا في هذا الصدد، فينبغي الاعتراف بأن ضمان استقرار المكتري بالعين مع تأمين حافز للسوق الكرائي في نفس الوقت، أمر عسير المنال، إذا لم يرتبط كل ذلك بسياسة سكنية شاملة تستوعب عناصر الأزمة، وتقدم لها الحلول الملائمة على المدى القريب والبعيد.

 لذلك، فنحن نعتقد أن من التعسف أن نحمل قانونا محدودا من حيث نطاقه ومداه، مسؤولية التخفيف أو التعميق من أزمة السكنى، ولا نسلم بأن تقييد حق المكري في الإفراغ سيضمن حق المكتري في الاستقرار. بل إن المبالغة في هذا التقييد قد تكون مدعاة إلى مزيد من الاضطراب عندما يتعذر – وقد يستحيل- على أولاده وذويه إيجاد محل للكراء، يأويهم حال التوقف عليه.

مقال قد يهمك :   عمر البرهومي: تعليق على القرار الإداري الاستئنافي رقم 7253 الصادر عن محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط

إن التشريعات الخاصة بالكراء، إذا كانت تضمن استقرار المكترين فعلا، فإنها تضمن أيضا، وبنفس القدر أو أكثر حرمان الأفواج العديدة المقبلة على الكراء استقبالا. لأن الملاك يفضلون –أمام انعدام إلزام قانوني بالتعاقد- أن يبقوا على محلاتهم فارغة، بدل كرائها في ظل قانون يعتقدونه مجحفا، و لا يسمح لهم باستغلال ملكهم وفق ما يخدم مصالحهم، بل وينقل حيازة هذا الملك إلى المكتري بصفة مؤبدة ونهائية.

ثم إن منطلق التشريعات الخاصة بالكراء في عمومها يقوم على ثابت واحد، مفاده أن المكتري هو الجانب الضعيف في العلاقات الكرائية الذي يجب تعضيده وتقوية جانبه، وهذا صحيح إلى حد بعيد، وهو الغالب في الواقع فعلا. ولكن وضعية المكري ليست دائما على أحسن حال، فقد تكون لديه تحملاته.

وإذا كان مؤكدا أن مصالح المكري والمكتري غالبا ما تكون متعارضة، فإنه ليس عدلا أن نزعم بأن المكري دائما هو الأقوى، وأن المكتري هو الأضعف في جميع الحالات، إذ يوجد فعلا مكترون أثرياء ومكرون فقراء. هذه الاعتبارات وغيرها جعلت فريقا في الفقه القانوني يرفض التشريعات الكرائية الخاصة جملة وتفصيلا، لأنها بالإضافة إلى ما سبق، مخالفة عندهم للمبادئ الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات المعاصرة، وتفرض وصاية منهجية على الأفراد، فتعاملهم كما لو أنهم قاصرون، تنبغي حمايتهم ضد أنفسهم وضد الجميع، وتعرضهم بالتالي إلى مخاطر حرمانهم بالتدرج من صلاحيتهم لتنظيم أنفسهم كمواطنين.

والواقع أن مثل هذه الاعتبارات هي التي حذت بالمشرع المصري إلى تسجيل تغير جذري بصدور القانون رقم 4- لسنة-1996. فقد أنهى هذا الأخير، العمل بالتشريعات الكرائية الخاصة، بل وقرر العودة بها إلى أحكام القانون المدني، بعد أن قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بعدم دستورية العديد من المقتضيات القانونية التي كانت تتضمنها التشريعات الكرائية الخاصة. فقد كان مناط حكمها وأساسه هو إعدام هذه التشريعات لإرادة المؤجر، واعتداؤها على حق الملكية، وأوضحت في قضائها أن الأصل في الروابط الايجارية أن الإرادة هي التي تنشئها، وأن حرية التعاقد من الخصائص الجوهرية للحرية الشخصية، وهي وثيقة الصلة بالحق في الملكية. فإذا جردها المشرع من كل دور في مجال تكوين هذه الروابط وتحديد آثارها كان تنظيمها منافيا لطبيعتها.

وعكس ذلك تماما، يصر الفريق الثاني على أن التشريعات الكرائية ما تزال بعيدة جدا عن توفير الحد الأدنى من الضمانات للمكترين، إذ ينبغي عندهم أن تكون مواجهة الملاك حازمة وصارمة، فهم ليسوا أكثر من مصاصي دماء، وهم وحدهم من بين جميع الرأسماليين الذين تأتيهم الثروة وهو نائمون، من غير أن يبذلوا أي جهد يذكر، فلا وجه بالتالي لمراعاة جانبهم بالمرة.

 والحقيقة أن هذه الأحكام، إنما تصدر في الغالب منها عن قناعات إيديولوجية، تجد أساسها في الانحياز العقائدي لفئة المكترين، أو المكرين. ولم تسلم بعض التشريعات نفسها من الوقوع في ذلك بدافع الخلفيات السياسية. وقد أكدت التجربة أن هذه الطريقة في معالجة اختلال التوازن بين طرفي العلاقة الكرائية، تؤول سلبا على المكرين والمكترين معا، وتصيب الاستثمار في مجال المباني بالشلل. وهو ما تحقق فعلا في فرنسا إثر صدور قانون 1982، ما تطلب الإسراع في إلغائه واستبدال قانون 1986 به. ومثل ذلك بالنسبة لمصر في القوانين التي صدرت بعد ثورة 1952، حيث اتسمت بنوع من التطرف في الانحياز إلى جانب المكترين”عماد الثورة” على حساب الملاك الجشعين “أعداء الثورة”. وكانت النتيجة أن أصبح الكراء بالنسبة للمالك قرارا خطيرا، وبالنسبة للمكتري أمرا عزيزا ومرهقا.

إن نجاعة القوانين الخاصة بالكراء، لا تكمن في أثرها على طبيعة حق المكتري، وإنما في مدى توفقها أو فشلها في تحقيق التوازن المنشود بين طرفي العلاقة الكرائية، وهي بصدد تحقيق النطاق الذي يمتد إليه الاستمرار القانوني لعقد الكراء، وضمن أية شروط

ثالثا: هل تعتقدون فضيلة الدكتور أن القانون 12/67 الخاص بتنظيم العلاقة التعاقدية بين المكرين والمكترين للأماكن المعدة للسكنى أو للاستعمال المهني، والمنشور بالجريدة الرسمية بتاريخ 28 نونبر 2013، استطاع بعد أكثر من خمس سنوات من تطبيقه أن يتجاوز ثغرات قانون 1980 الملغى؟.

يهتم الكتاب فعلا بالوقوف على ما يحمله القانون  12/67 من جديد -بعد إلغاء سالفه- بخصوص حماية استقرار المكتري ومداه. ولكن دون المجازفة بإعطاء حكم اعتباطي، حول ما إذا كان قد تجاوز ثغراته . أولا لأن مثل هذا الحكم ما يزال سابقا لأوانه. فخمس سنوات من تطبيق قانون يتطلب البت في نزاعاته آجالا طويلة، غير كافية لذلك ولا تسعف فيه. وثانيا لأن الأمر يقتضي استحضار بعد آخر للدراسة، قلما نوليه أهميته المستحقة. وهو رصد آثار النص القانوني على الواقع الاجتماعي، بكل ما يتطلبه من اعتماد لمناهج العلوم الاجتماعية،ودراسات امبريقية، وقراءة الإحصائيات المتوفرة وتحليل المعطيات قبل استخلاص النتائج. وهو ما نتمنى أن تنهض له أبحاث موجهة في مستويات أخرى.

ومع ذلك، يمكن أن نعتمد بعض المؤشرات الدالة في التعامل مع مثل هذا التساؤل.  وأعتقد أن صيغة تحديد الأسباب التي يعتبرها القانون 12/67 منهية للعلاقات الكرائية، هي واحدة من بين أهمها، اعتبارا لأهدافها الرامية إلى ضمان الحدود الدنيا من شروط الاستقرار لفائدة المكتري دون التضحية بحقوق المالك على ملكه.  ويسجل هنا أن القانون الجديد قد أفاض في الموضوع وبسط، في محاولة لتفادي الاختلافات المثارة طيلة سريان سلفه.

وفي هذا السياق، تناول الباب السابع انتهاء عقد الكراء، بالمواد من 44 إلى 54. وهي تتعلق أساسا بمجموعة من الحالات التي يكاد يجمع بينها قاسم مشترك واحد، متمثل في أن المكتري لا ينسب له أي إخلال يبرر حرمانه من الاستمرار القانوني للعقد الذي يربطه بالمكري. كل ما في الأمر، هو أن هذه الحالات تفترض وجود تزاحم بين حق المالك في استعمال واستغلال ملكه من جهة، وحق المكتري وعائلته في الاستقرار بالعين المكتراة. وعند المفاضلة يرجح المشرع جانب المالك، شريطة أن يثبت بأنه الأحق بالعين. وهو لا يستطيع إثبات ذلك إلا وفق مسطرة خاصة يعبر عنها بالإشعار بالإفراغ، وبناء على أسباب محددة وبضوابط يعينها القانون. ولذلك تمثل هذه الحالات رزمة منسجمة، باعتبارها جميعا كما يطلق عليها المشرع نفسه، أسبابا جدية ومشروعة، يحق معها أن تخضع لضوابط ومسطرة موحدة.

وقد كان المشرع قريبا من تحقيق هذا الهدف لولا أنه أقحم “التماطل في الأداء” ضمن هذه الحالات، وهو سبب يبدو كما لو أنه قد زرع في غير موضعه. لأنه ببساطة يمثل إخلالا من المكتري بأبرز التزاماته التعاقدية، وأهمها وأكثرها شيوعا في العمل. وبهذا يكون المشرع قد أفسد سعيه نحو تصنيف أسباب إنهاء عقد الكراء وفق منهج منطقي إلى مجموعات تتجانس آحادها، بحيث تخضع كل مجموعة منها لأحكامها ومسطرتها وضوابطها الخاصة بها. والواقع أن أسباب إنهاء العقد كما هي محددة في الباب السابع من القانون 12/67، يمكن أن تعيد إنتاج نفس الإشكالات-وإن بنسب متفاوتة- التي طرحت في ظل قانون 1980 الملغى.

ويسجل أن الباب التاسع من القانون 12/67 قد عرض لسبب مستجد لم يتناوله أي تشريع مغربي سابق، وهو يخص استرجاع حيازة المحلات المهجورة أو المغلقة. وقد عالجه القانون في فرعين تناول الأول منهما الاسترجاع من طرف المكري بالمواد من 57 إلى 66، واهتم الثاني بالاسترجاع من طرف المكتري بالمواد من 67 إلى 70

مقال قد يهمك :   إثبات سوء النية في دعاوى إبطال التصرفات العقارية

ومن الواضح أن المشرع قد خص في القانون الجديد، استرجاع حيازة المحلات المهجورة أو المغلقة بباب مستقل، وبمسطرة مميزة، يروم من خلالها مراعاة خصوصية هذه الحالة. إذ يتعلق الأمر بوضعية لا يعزى فيها إلى المكتري إخلال بين ظاهر بالتزاماته، ولا تنهض لدى المكري في نفس الوقت حاجة ظاهرة يستند إليها ليطلب إفراغ المكتري. كلما في الأمر هو أن واقع الحال يكشف عدم وجود حاجة حقيقية لدى المكتري تبرر تمسكه بالمحل، طالما أنه قد أبقى عليه مغلقا لمدة معينة وفي سياقات يتوقف القانون عند تفاصيلها في هذا الباب.

ويسجل أيضا أن القانون الجديد يتميز عن سابقه بإقرار شكلية الكتابة في إبرام العقود الكرائية. وهو مستجد لا يمكن إنكار أهميته البالغة أيضا.

رابعا: تعلمون فضيلة الدكتور أنه من بين المستجدات الأساسية في القانون 12/67 الخاص بتنظيم العلاقة التعاقدية بين المكرين والمكترين للأماكن المعدة للسكنى أو للاستعمال المهني، نجد تكريس المشرع توجهه نحو إقرار شكلية الكتابة لقيام عقد الكراء وإنشائه. هل في نظركم استطاع المشرع من خلال إقراره لهذه الشكلية الحد من نزاعات الأكرية السكنية عبر ربوع المملكة؟.

صحيح أن القانون رقم 12. 67، يكرس توجه المشرع المغربي نحو إقرار شكلية الكتابة. فهو ينص صراحة على أن الكراء المعني بالقانون أصبح عقدا شكليا. والشكلية المتطلبة هنا باعتبار ظاهر النص، للانعقاد وليست مجرد شكلية للإثبات، فهي تقتضي لزوما، وجوب إبرام العقد في محرر مكتوب ثابت التاريخ. ومؤدى ذلك، إذا أخذ النص على ظاهره، أن المادة الثالثة من القانون 67 – 12 كانت واضحة في دلالتها على أن عقود الكراء الواردة على محلات سكنية لمدة تفوق ثلاثين يوما، لا تنشأ ولا تقوم أصلا إلا إذا كانت مكتوبة في محرر ثابت التاريخ، بحيث لا يمكن أن تحتمل صياغتها تفسيرا آخر إلا من باب التعسف. وعند عدم توفر الشكلية المطلوبة يكون العقد باطلا، ومن ثم يتعذر التمسك به والمطالبة بإنفاذه أمام القضاء.

وصحيح أيضا أن هذه الشكلية من شأنها أن تحد بنسبة معتبرة من نزاعات الأكرية على امتداد ربوع المملكة.

غير أن صياغة المادة الثالثة من القانون 67 – 12، يمكن أن تطرح من جديد كل النقاشات والخلافات التي طبعت قراءة نص الفصل 489 من قانون الالتزامات والعقود المغربي بشأن البيوع العقارية، حيث أوجب بدوره في هذه الحالة أن يجري البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ.

ومن هنا يطرح التساؤل التالي: هل المشرع بموجب القانون 12-67 قد اتجه فعلا إلى الخروج عن قاعدة رضائية عقد الكراء؟، فيكون اشتراط الكتابة بموجب المادة الثالثة للانعقاد؟

بداية ينبغي التأكيد على أن هذا الالتزام بالكتابة، يشكل في حد ذاته تجديدا جديرا بالاهتمام، حين يقتضي حتما أن يكون العقد الكرائي شكليا. وأن الشكلية في هذا المجال ليست قيدا على حرية الإرادة كما كانت في الماضي، وإنما هي تحرير لهذه الإرادة ووسيلة من وسائل تدعيمها وتنويرها، حتى يكون القبول ببنود العقد متأتيا عن بينة واختيار حقيقيين. فالسائد عندما يتعلق الأمر بعقود ذات أهمية، أن المتعاقدين غالبا ما يتجهون الى صياغة اتفاقاتهم عن طريق الكتابة. ذلك لأن هذا الشكل من التعبير عن الإرادة يوفر لهم ضمانات تتعلق بحماية الحقوق وإثباتها. فالعقود الشفوية تكتنفها مخاطر متعددة عند اختلاف الأطراف حول عناصرها وشروطها وسبل تنفيذها. إذ يصعب معها الوقوف على حقيقة إرادتهم، والتعرف على مضمون اتفاقاتهم، مما يفتح المجال واسعا لكثرة المنازعات، ويعقد مهام القضاء.

ومع أن الشكلية في هذا المجال لا تخلو من أهمية بالغة، فإن القانون لا يحسم حسب اعتقادي في طبيعتها القانونية، ولا في أثرها على نشأة العقد وقيامه.

إن الأعمال التحضيرية للقانون 12/67 توحي بأن المشرع المغربي كان قد عقد العزم فعلا على الارتقاء بشكلية العقود الكرائية إلى مستوى ركن للانعقاد. والدليل على ذلك أن لفظ الوجوب بشأن الكتابة، قد أضيف إلى المشروع الأصلي للقانون، والذي كان يخلو منه. وكان ذلك بناء على مقترح تقدم به فريق برلماني. وقد حظي بمباركة وموافقة الجميع، لئلا يكون النص قابلا لأي تأويل. وهذا ما أكد عليه حامل المشروع نفسه، وزير الإسكان والتعمير حينئذ، بصيغة ملتوية لا تغلق الباب نهائيا أمام كل تأويل محتمل.

مع التسليم بوجوب الكتابة في إبرام عقود الأكرية السكنية، وبوضوح صياغة المادة التي تضمنته في الارتقاء بها إلى مستوى القاعدة الآمرة التي لا يجوز مخالفتها، وأن ذلك ينسجم مع التوجه السائد اليوم لدى المشرع المغربي، في مجال العقود التي تثير خلافات واسعة في العمل، تسهيلا لعمل القضاء عند البت في المنازعات المرتبطة بها، وضمانا لحقوق أطراف العقد والغير على السواء. فإننا مع ذلك نعتبر الكتابة المتطلبة هنا هي شكلية للإثبات وليست للانعقاد، بناء على عدة مبررات توقف عندها المؤلف مطولا.

إن المشرع قد تعمد مرحليا، عدم ترتيب جزاء البطلان عن افتقاد العقد إلى الشكلية المتطلبة بموجب المادة الثالثة من القانون. بل إنه يقر سلامة هذه العقود ويخضعها لأحكامه، ويقدر بأن المتعاقدين قد يقتنعون بالميزات التي يوفرها لهم هذا القانون، فيبادرون مستقبلا إلى تصحيح عقودهم بإعادة صياغتها وفقه. وكل ذلك لا يتأتى إلا إذا اعتبرنا أن الكتابة المتطلبة في القانون 12/67 ليست للانعقاد، وإنما هي للإثبات. لأنه في هذه الحالة فقط يسوغ الحديث عن عقود قائمة وقابلة للتصحيح. إذ البطلان عدم كما هو معلوم، ولا سبيل إلى إجازته ولا إقراره ولا تصحيحه.

لا شك أن اشتراط الكتابة للانعقاد، هو الهدف الذي يصبو المشرع إلى تحقيقه استقبالا. ولكن هذا الأخير يدرك في نفس الوقت بأنه هدف غير واقعي في المرحلة الراهنة، وأن فرضه في ظل الظروف العامة للمجتمع المغربي، المتسم بانتشار الأمية والهشاشة الاقتصادية، والذي تعود منذ قديم الزمان أن يعقد أكريته شفويا، سيتسبب في ارتباك يخلق من المشاكل أكثر مما يحلها. وقد يفتح الباب واسعا للتحايل عبر اعتماد العقود الشفوية من قبل المكرين، حتى يتسنى لهم طرد المكترين بمنتهى البساطة، لأنهم سيكونون حينئذ محتلين للمحلات بدون سند. فيكون القانون مصدر شقاء ووسيلة للتعسف بدلا من أن يكون وسيلة للتوازن وحفظ الحقوق.

وبناء عليه، يمكن القول إن المشرع باشتراطه الكتابة، إنما يود التأسيس لغاية يروم تحققها في المستقبل، وأنه يعتمد في ذلك منهجا بيداغوجيا، يقوم على ركائز أساسية ومتداخلة، تتمثل في أسلوب التدرج والتحريض أو الإغراء. فاتخذ الكتابة كخطوة أولى للإثبات، في انتظار أن يتعرف المخاطبون بها عن أهميتها الحيوية في ضمان مصالحهم وتحصين حقوقهم. ودعا المكترين بنوع من التحريض إلى الحرص على توفر المواصفات الأساسية في المحلات المطلوبة للكراء، وتدوين وصف يبين حالتها. كما أغرى المكرين بكتابة أكريتهم مقابل استفادتهم من عدد من الميزات لن تكون متاحة في ظل القانون الحالي سوى لفائدة العقود المبرمة كتابة.

إذا كان المشرع المغربي لا يرتق بالكتابة إلى مستوى ركن لازم لانعقاد عقد الكراء السكني، فإنه مع ذلك قد عمد إلى تحفيز المتعاقدين على اعتمادها في إبرام أكريتهم. وكان سبيله إلى ذلك، إقرار عدد من الميزات التفضيلية وجعل الاستفادة منها مقرونا بشرط توفر العقود المكتوبة ثابتة التاريخ دون غيرها.

خامسا:أخيرا، ما هي في نظركم أهم الثغرات التي لا زالت تطبع أحكام القانون 12/67 عموما؟ وأحكام الاستمرار القانوني لعقد الكراء السكني على وجه الخصوص؟

إن التشريع الحكيم هو الذي يعمل على خلق التوازن بطريقة موضوعية بين طرفي العلاقة الكرائية. هذا التوازن بالذات هو ما كان المشرع المغربي يبتغي تحقيقه في القوانين الكرائية الخاصة، وفي القانون الحالي رقم 12/67. وكانت وسيلته إلى ذلك تأكيد استقرار المكترين في المحلات المكراة، والحد من التصرفات الارتجالية للمكرين، وتقييد السلطة التقديرية للقضاء. فماذا تحقق من هذا المطمح؟

مقال قد يهمك :   عـبد الله واعــزيــز: مشروعية الدليل العلمي وقيمته في الاثبات الجنائي

 لقد سجل المؤلف ضمن خلاصاته العامة، وجود اعتبارات يمكن وصفها بالإطار العام،تحكمت في صياغة مقتضيات القانون 12/67. ويتعلق الأمر من جهة بالحرص على احترام حق الملكية إلى أبعد حد ممكن، وفق التصور الغالب لهذا الحق في النظام القانوني المغربي، وهو ميال دون شك إلى إطلاقه وعدم المساس به إلا لضرورة. ومن جهة أخرى، فإن القانون قد سعى إلى تفادي التعسفات التعاقدية عندما قيد حق المكري في إنهاء العلاقة الكرائية دون مبرر يقتضيه.

 لقد كان مشرع قانون 12/67 ينشد التوازن بين المكرين والمكترين في إطار المحددين الرئيسين اللذين يشكلان كما قلنا إطاره العام. فحاول ضمان حقوق المكتري على المحل، مع تحصين حق المكري ضد أي مساس بسلطاته على ملكه. وهو هدف يمكن القول بنوع من التقرير، إن المشرع المغربي لم يتمكن من بلوغه إلا نسبيا. لأنه ببساطة، هدف لا يمكن أن يتحقق مطلقا في ظل الإطار العام المشار إليه سابقا.

إن القانون المغربي لم يلتزم الوسط في تنظيمه للعلاقات الكرائية، خصوصا منها أحكام انتهائها. فقد سجلت مقتضياته حيادا سلبيا مبالغا فيه. وتعكس الطريقة التي تناول بها أسباب الإفراغ ومسطرته تردد المشرع المغربي في النيل من أبسط حقوق المكري على العين، ويتضح ذلك أساسا فيما يأتي:

1-إن مقتضيات القانون 12/67 ليست واضحة في دلالتها على موقف المشرع المغربي من تحديد الأسباب التي تخول المكري حق إنهاء العقد بناء على مسطرة الإشعار بالإفراغ، مع أن المسألة بالنسبة للمكتري في غاية الأهمية، لأن هذه الحالات هي التي تحدد مصير استقراره في العين، لذلك ينبغي أن تكون معروفة مسبقا. فعدم التأكيد الصريح على تعداد أسباب الإفراغ حصرا يتناقض مع واحد من الاختيارات الأساسية للقانون، وهو تقييد السلطة التقديرية للقضاء بشروط موضوعية.

2-إن من أبرز المؤاخذات التي كان الفقه المغربي يسجلها على القانون الملغى بالنسبة لانقضاء العقد هو خلطه غير المبرر بين ما لا يختلط من أسباب انقضاء الكراء السكني. فأخضع الكل لمسطرة الإشعار بالإفراغ، بحيث يتحمل المكري عناءه المرهق حتى عندما يتعلق الأمر بمكتر مستهتر، لا يفي بالتزاماته. وكانت مراجعة قانون الكراء السكني وتغييره بصدور القانون 12/67 فرصة لتدارك هذا القصور، ولكن ذلك لم يتحقق على الوجه الأكمل رغم المحاولة.

3-إن المشرع المغربي في القانون 12/67 قد أسرف كثيرا في مراعاة جانب المكري عند النص على اعتبار الاحتياج مبررا للإفراغ. فنحن نتفهم أن يمنح المكري حق السكنى بمحله إذا وجدت لديه حاجة حقيقية وماسة إلى ذلك. ولكن الطريقة التي عالج بها المشرع هذا السبب من أسباب الإفراغ تجعل منه بابا مشرعا دون حدود. والحقيقة أن الحاجة بالمعنى الذي تفيده مقتضيات القانون 12/67 تكاد تعادل الرغبة الشخصية، لأننا بالنسبة لأغلبية المالكين، لن نجد ضمنهم من لا يستطيع إثبات الحاجة إلى السكنى بالعين وفق هذا التصور الواسع وغير المقيد. ونحن نعتقد أن الحاجة ينبغي أن تتحدد في تعرض المكري لظرف طارئ لم يكن في الحسبان عند التعاقد، ولا يمكن دفعه بغير تحمل أضرار جسيمة تفوق ما قد يتعرض له المكتري في حال إفراغه من العين. وينبغي أن يكون ذلك مقتصرا على المكري يفيد به استثناء لوحده دون الآخرين ممن عددهم القانون المغربي. ولا يمكن الاحتجاج على ذلك بأن الشريعة تحمل على إسكان من ذكر، لأن الشريعة لا تقتضي أن يتم ذلك على حساب المكتري وعائلته.

4-إن الطريقة التي عالج بها المشرع المغربي في القانون 12/67 حالة الإفراغ من أجل هدم المحل أو إدخال تغييرات هامة عليه،لاتختلف عن سابقتها في حالة الاحتياج. فقد لاحظنا نفس التردد ونفس الانحياز،إذ ورد النص بطريقة غامضة مثيرة لكثير من التأويل والتفسير، وقابلة لأن تتخذ وسيلة للكيد والغش والتحايل. ومن المفروض أن يعاد النظر في صياغة المادة 50 على الخصوص، بحيث يشار فيها إلى أنها تطبق مع مراعاة القانون المتعلق بالمباني الآيلة للسقوط. ويظل العيب الأظهر في الموضوع، هو أن المشرع المغربي لم يقرن الحكم بالإفراغ لهذه الحالة بشروط تضمن جدية الطلب، وتكفل للمكتري أبسط حقوقه. ولا ينال من ذلك كون القانون يمنح المكتري حق الأسبقية في العودة إلى المحل بعد إصلاحه أو إعادة بنائه، طالما أن المكري غير ملزم قانونا بإعادة البناء وفق ما يضمن للمكتري ممارسة حقه في العودة. أي أن حق المكتري مرهون بتحقق أمر متوقف على محض إرادة وتطوع المكري، وهيهات أن يتم ذلك.ثم إن مصادرة حق المحكمة في إعمال سلطتها التقديرية بالنسبة لهذه الحالات هو حكم غير مفهوم، ولا نجد له مبررا مقبولا.

5-إن القانون 12/67 لم يراع جانب المكري نفسه، ولا هدف التشريعات الكرائية الخاصة، والرامية إلى أن يشغل المسكن الطرف الأحق به. فالعدالة تقتضي أن يخول المكري حق استرداد محله كلما ثبت أن المكتري لم يعد في حاجة أكيدة إليه، كما لو كان يحتجز أكثر من مسكن، سواء عن طريق الكراء أو التملك أو غيرهما. ونرى أن من المحبذ الاستفادة في هذا الخصوص من بعض التشريعات المقارنة التي تحظر أن يحتجز المكتري مطلقا في البلد الواحد أكثر من مسكن دون مقتضى. ولا ينال من ذلك إقرار المشرع حق المكري في استرجاع حيازة المباني المهجورة أو المغلقة. لأن الأمر هنا يتعلق بحالة أخرى مستقلة ومختلفة عن الأولى.

إننا لا نسعى إلى الإحاطة بكل العناصر التي تنطق بفشل قانون 12/67 في تحقيق التوازن المنشود بين المكرين والمكترين، ولا إلى اقتراح بدائل جاهزة لأحكامه في مجال انتهاء العلاقة الكرائية، وإنما نؤكد فقط على أن هذا القانون يبدو كما لو أنه قد سوي على عجل. فهو لا يخلو حتى من أخطاء متعددة في اللغة وركاكة في الصياغة. ناهيك عن حالات السهو والتناقض في الأحكام وغيرها.

 ونحن نأمل أن يبادر المشرع المغربي إلى التدخل في أقرب الآجال بإصدار مدونة شاملة للكراء، فلا شيء على الإطلاق يبررا ليوم وجود قانونين اثنين، أحدهما مخصص للمحلات السكنية والمهنية، والآخر مخصص للمحلات التجارية والصناعية. مع أن الفوارق بين القانونين لا تكاد تلحظ، فيما عدا نصوص محدودة جدا، يكفي الإشارة إليها عند الاقتضاء في نفس المدونة مراعاة لخصوصياتها.

إن المشرع مطلوب منه أن يراعي في المدونة المأمولة، كون تقييد حق المكري في إفراغ المكتري ليس بالضرورة ثورة على حق الملكية وانتهاكا لسلطان الإرادة، وأن يتفطن إلى أن هذين المبدأين قد طرأت عليهما تطورات عميقة، بحيث إن الملكية التي لا تسخر لمصلحة الجماعة لم يعد يصدق عنها هذا الوصف، وأن العقود إذا لم تكن وسيلة لتحقيق العدالة، فإنها ستكون فاقدة لأساسها ومبرر حماية القانون لآثارها.

وإذا كنا نشدد على ضرورة تدخل القانون لتنظيم الروابط الاجتماعية، ومنها بالأساس العلاقة الكرائية، فإن المقصود هو القضاء على أسباب التسلط في هذه العلاقات ذات الصلة الوثيقة بالسلم الاجتماعي، ومنع آثاره أو التخفيف من حدتها على الأقل. وليس من الضروري أن يبلغ ذلك حد تحويل عقد الكراء إلى نظام قانوني يتحمل فيه الأطراف التزاماتهم مكرهين.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]