ثبوت الزوجية بين حقيقة الاستثناء و واجب التيسير و استشراء التحايل.
ذ. عادل حاميدي : رئيس المحكمة الابتدائية بالصوبرة و أستاذ زائر بكلية الحقوق ابن زهر بأكادير.
أولت الشريعة الغرّاء الزواج عناية بالغة باعتباره السبيل الشرعي الأوحد لاستمرار الجنس البشري المحمل بأمانة الاستخلاف في الأرض، وكونه النظام الكوني المتفرد الذي يلائم الطبيعة الانسانية ويحقق السكن والتوازن النفسي ويضمن الأمن الاجتماعي، والاستقرار الروحي الذي عبر عنه الحق سبحانه بقوله:“ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون“([1]). وكونيته تظهر من تبني سائر الملل والأمم والشرائع السماوية والوضعية له. كيف لا وهو السبيل الفريد لإِنشاء الصحبة المشروعة بين الرجل والمرأة ولقضاء الوطر والإحصان والعفاف ومنع فشو الأمراض؟ وهو النظام الوحيد المقبول شرعا والمستساغ وضعا لبناء الأسرة التي هي أصغر وأصلب وحدة في المجتمع وركنه الركين، إذ هي أساس لرقيه ومناعته، يقوى بقوتها ويضعف بضعفها، إذ الأسرة ولا خلاف أمة صغيرة تظهر مدى تقدم الأمة الكبيرة، وهي آية من آيات الله ونعمة من نعمه. فقدّر للناس أن يعيشوا في أكنافها ويستظلوا بظلها، فغدت الأسرة والحالة ما ذكر ثابتا من ثوابت الأمة وخصيصة من خصائص أمنها، فاختص الحق سبحانه بنفسه في آي تنزيله وحديث نبيّه بتنظيم أحكامها، زواجا وطلاقا ونسبا وإرثا.
وتأكيدا على خصوصية عقد الزواج([2]) وعناية الشريعة به ظاهرا وباطنا باعتباره من مهمات الدين، نعت في الاستعمال القرآني بأنه ميثاق غليظ([3])، وهذا الوسم لم يستعمله الحق إلا فيما كان بينه وبين عباده المخلصين، فسما وارتقى به باعتباره أجل ما يمكن أن يتعاقد عليه الناس في الحياة كلها وأكثره حرمة، لأن ثمرته الإنسان خليفة الله وأغلى ما يوجد فيها، فتترتَّب عليه آثار وحقوق قاصرة ومتعدية، خاصة وعامة. وتتعلق به أحكام شرعية يبقى أثرها ساريا إلى الأبد، فلا غرو أن يضبط عقد الزواج شرعا ويحصن بأركان وشروط محددة باعتباره المقوم التأسيسي للأسرة التي تعد النواة الأولى في الخلية الإنسانية، وأحد مقومات الأسرة الثلاثة([4])، مع ترك هامش للمتعاقدين اختيارا واشتراطا فيقع الجمع بين الثبات والمرونة في الآن عينه.
فالشريعة أولت عناية بالغة لمقدمات العقد بما يمهد لبناء صرح الأسرة بناء رصينا ولأجله أحيط الزواج بعناية تشريعية بالغة من خلال فرض التعاقد بين الزوجين وفق أركان وشروط وضوابط تكفل مصلحة الزوجين والأسرة والمجتمع، وأي إخلال بها ينتج عنه بالتبع الإخلال بحقوق هؤلاء جمعا و إفرادا.
فكان لعقد الزواج في الأبواب الفقهية معالم يستدل عليه بها، منها إحكام العقد، ومقصد عاقديه([5])، وتميز العقد، وسموه ورفعته. لذلك ولغيره فَصّل مشرع مدونة الأسرة في أحكامه من خلال إفرادتسع وستين مادة، نظمت سائر متعلقاته عموما وخصوصا تلافيا للاختصار المخل الذي كان يعتري أحكام مدونة الأحوال الشخصية الملغاة،والتي لم تنظمه سوى بثلاثة وأربعين مقتضى، لم تكن تُلم بسائر مقتضياته الموضوعية والإجرائية، مما حمل القضاء على الاجتهاد والاستمداد من الفقه الإسلامي، شرحا لإغلاق أو تجلية لغموض أو تكملة لنقص، فتضاربت الأحكام للاختلاف في مصادر الاستمداد ومناهج الاجتهاد.
ولتوثيق الزواج سبيلان، أصلي عادي يقع بالإشهاد لدى عدلين منتصبين لتلقي الشهادات بصفة نظامية، وآخر استثنائي يكون بحكم قضائي في كل حالة يتعذر فيها التوثيق لدى عدلين لسبب واقعي لا يد للزوجين فيه. فَحِرْصُ المشرع على جعل عقد الزواج الحجة الفريدة المقبولة للإثبات يجابه بإكراه واقعي متمثل في فشو ظاهرة الزواج بالفاتحة، التي يرجع استشراؤها لعوامل مختلفة متظافرة، اقتصادية حيث يضطر بعض الآباء المعدمون لتزويج بناتهن القاصرات لعدم قدرتهن على الانفاق عليهن، ولا يملكون توثيق الزواج لدى العدول لعدم بلوغهن السن المقبول أو لعدم القدرة المالية على إنشاء الوثائق الإدارية المستلزمة المعضدة لطلب الزواج أو أداء أجرة العدول، أو عوامل اجتماعية متعلقة بعدم ترسخ ثقافة توثيق العقود وتراخي الناس في ذلك والتوجس من كل أمر ينجز في المحاكم، أو عوامل أنتربولوجية مردّها إلى استحكام عادة في نفوس المغاربة متوارثة كابرا عن كابر، خاصة عند سكان البوادي في المغرب العميق والأماكن القصية وبعض سكان الحواضر، الذين يستغنون عن حضور العدول ويكتفون بقراءة الفاتحة بحضور الجماعة وإشهار الزواج وإشاعة خبره بينهم([6])، باعتبار بعده الديني الحاكم. ولأجله اعتبر بعض الفقه القانوني أن الزواج عقد مدني ذو طبيعة شرعية([7]). وقد يستعاض عن تحرير رسم الزواج العدلي تهربا من الإجراءات الإدارية المعقدة المنصوص عليها بمقتضى المادة 65 من المدونة.
وقد كانت الغاية السامية من إقرار هذه السبيل البديلة تصحيح وضع مختل وإضفاء الصبغة الشرعية والقانونية عليه والمحافظة على حقوق كافة أطراف الأسرة وحماية النسب من الاختلاط والضياع، وهذه السبيل رغم نبل غايتها متمثلة في الحفاظ على الأسر من التصدع ومنع اختلاط الأنساب،فإنها تطرح إشكالات عملية حقيقية باعتبار طبيعتها الاستثنائية، وباعتبار الأجل المحدد المضروب من لدن المشرع لتصفية جميع الحالات المتعلقة بها، وباعتبار التحايل الذي يعمد إليه البعض استغلالا لهذه المكنة البديلة والاستثنائية التي غدت بفعل سوء الصياغة وسوء الفهم وسوء التطبيق أصلا مُحكّمَا وبديلا دائما.
ولا خلاف في أن الكتابة عند السادة المالكية ليست بركن أو بشرط صحة في عقد الزواج لكونه عقداً رضائياً ينعقد بالرضا والقبول، قال الشيخ خليل:”ركنه ولي وصداق ومحل وصيغة“([8])، لكنه غدا عقدا شكليا في ظل القوانين السارية، سواء في ظل مدونة الأحوال الشخصية أو مدونة الأسرة([9])، فأضحت الكتابة متمثلة في عقد الزواج أو الحكم بثبوت الزوجية شرط صحة فيه([10])، وغني عن البيان أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فالكتابة تحمي الحق الشخصي أو العيني من الجحود والنكران، خاصة مع فساد بعض الذمم في هذا الزمان، خلافا لما كان عليه الأمر زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن صحابته وتابعيهم. فعقد الزواج لا يعد ركنا في الزواج لكنه وسيلة لإثباته حال نشوء نزاع بين رجل وامرأة تدعي زواجها منه. وهناك حالات أخرى لا تكون فيها العلاقة الزوجية محل منازعة لكن لا مناص من إثباتها، كالأرملة التي تطلب نصيبها في معاش زوجها أو التعويض عن وفاته جرّاء حادثة سير ويطلب منها الاستظهار بعقد الزواج، أو الزوج الذي لم يوثق زواجه ويرغب في تسجيل أبنائه في سجلات الحالة المدنية، أو استفادة زوجته من الضمان الاجتماعي فلا يجد لذلك سبيلا.
وتحقيقا لغاية التوثيق سمح بثبوت الزوجية الخالية من الإشهاد، المستعاض عنه بالاستفاضة والشهرة في معاشرة الطرفين، الثابتة من خلال شهادة الشهود، ويقوم ذلك مقام الإشهاد ركونا إلى مقتضيات الفقه المالكي المعتبر عندنا والذي لا يعتبر الإشهاد ركنا في الزواج، فيصح بدونه، وتأسيسا على ذلك جاء في قرار للمجلس الأعلى: “يترتب عن تحقق الشهرة في النكاح قيام علاقة زوجية صحيحة مرتبة لكافة آثارها. ينسب الولد للفراش إذا ولد بعد قيام العلاقة الزوجية، ولو لم يكن عقد النكاح قد أبرم لكون العقد لا يعتبر من أركان الزواج.”([11])ولأجله خوّل إثبات الزواج بأثر رجعي ممتد إلى تاريخ انعقاده لا تاريخ أداء الشهادة أو العلم بالواقعة. وهذا الأمر أجيز لأول مرة سنة 1957 بمقتضى مدونة الأحوال الشخصية حيث خولت الفقرة الأخيرة من الفصل الخامس منها للقاضي بصفة الاستثنائية سماع دعوى الزوجية واعتماد البينة الشرعية في إثباتها، وكانت هذه البينة هي شهادة اللفيف، وقد أبقى مشرع مدونة الأسرة هذا الاستثناء وألزم الاستماع للشهود أمام المحكمة، وحدد لهذا الأمر فترة انتقالية مدتها عشر سنوات.
والحكمة من تعبير المشرع في المادة 16 من المدونة بلفظ ثبوت الزوجية بدل إثبات الزوجية، أن الإثبات يقوم به المدعي، وأما الثبوت فمعناه قيام الحجج على ثبوت الأسباب عند الحاكم (القاضي) في ظنه، فهو إذن وصف قائم بذات الشيء المدعى وقوعه، فالواقعة قائمة وإنما تحتاج إلى إظهار، فلا غرو أن يوسم الحكم بثبوت الزواج بكونه حكما تقريريا غير منشئ لوضع جديد.
فإذا أثبت المدعي دعواه أمام القاضي، فعليه أن يحكم بمقتضى ذلك، فالحكم من لوازم الثبوت، فيكون المراد من التعبير بلفظ ثبوت الزوجية، ثبوتها بحكم قضائي تقريري غير كاشف([12]).
إن خطورة الخوض في موضوع ثبوت الزوجية وكون أثره متعديا إلى الغير وتعلقه خلافا لما قد يظن بأكثر من جانب شكلي صياغتي متعلق بالإشهاد والتوثيق وتعلقه بالأعراض و الأنساب والميراث.تقتضي منا كقيد منهجي مدارسة أبرز إشكالاته الموضوعية والإجرائية الفقهية والقانونية، وهو ما سنبسط القول فيه بتفصيل مستقص وفق منهج اعتصمنا به في سائر ثنايا هذا الكتاب، حاصله العكوف على القضايا الهامة والخلافية، مع توضيح مبنى الخلاف والبديل المقترح، من خلالالإتيان بشواهد عملية صادرة عن قمة الهرم القضائي المغربي، حيث نعرض في المطلب الأول لبيان معنى السبب القاهر المانع من توثيق عقد الزواج في إبانه، المراد قانونا، والمعتمد قضاءً، وفي المطلب الثاني لسبل إثبات دعوى الزوجية حال المنازعة. ونتولى في المطلب الثالث تحديد دور الاجتهاد القضائي في تحقيق غايات المشرع في تفعيل دعوى ثبوت الزوجية.
المطلب الأول: المقصود بالسبب القاهر المانع من توثيق عقد الزواج
من المتفق عليه فقها وقانونا أن الأصل المعتبر هو عقد الزواج المزمم لدى العدلين فلا يصار إلى دعوى الثبوت التي هي استثناء وبدل إلا في حالات قاهرة تقدر بقدرها، وقد جاء في قرار للمجلس الأعلى:”العلاقة الزوجية لا تثبت إلا بعقد والاستثناء جواز سماع دعوى الزوجية وإثباتها بالوسائل المعتبرة طبقا للمادتين 10 و16 من مدونة الأسرة“.([13])وغني عن البيان أن الرخصة أوالاستثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره([14])، ومع ذلك حاول المشرع التوسل بصياغة مرنة للمادة 16 من المدونة التي نظمت هذه المسطرة، عندما لم يقيد سماع دعوى الزوجية بحالة معينة لارتباطها بصعوبات وموانع متعددة ومتجددة([15])، فأطلق اليد لطالبي الثبوت لإثبات دعواهم بكافة وسائل الإثبات بما فيها الخبرة، ومَكّنَ قضاة الموضوع من كافة السبل للتحقق من مزاعم الطالبين والاستدلال على الحقيقة القانونية، فوسع بذلك ضيقا، ولم يضيق واسعا. لكنكيف يتأتى الجمع بين مراعاة حقيقية هذه المكنة الاستثنائية، وواجب التيسير مراعاة لفقه الواقع، جمعا لشتات الأسر ودرءً لتصدعها، ومنعا من جحود الأنساب واختلاطها وهما طرفا نقيض؟!
إن التوفيق بين هذين الأمرين يلزم القضاء التيسير في الإجراءات، وسرعة الفصل في الدعاوى، والتوسع في بعض المفاهيم وعدم التشدد في تقدير توافر بعض الشروط وذلك بغية تصفية جميع الحالات قبل انصرام الأجل الجديد المحدد في خمس سنوات إضافية لكن مع مراعاة واجب حماية الحقوق من الغمط والافتراء ومنع اختلاط الأنساب الذي يمكن الوقوع فيه في خضم التيسير المفرط موضوعا وإجراءات. وتلك جراحة دقيقة بمبضع القاضي تحتاج إلى دربة خاصة وملكة معينة للتوفيق بين تلك المتناقضات، والجمع بين متنافرات بغية الوصول إلى الحقيقة الواقعية، وهو ما يستلزم منا بيان معنى كون مسطرة الثبوت سبيلا استثنائيا، ومعنى وجوب التيسير الموضوعي والإجرائي فيها رفعا لكل التباس.
وهكذا يترتب على اعتبار دعوى ثبوت الزوجية سبيلا استثنائيا طائفة من الأمورأهمها:
- أن الاستثناء لا يقاس عليه ولا يتوسع في تفسيره أيا كانت المعاذير والمسوغات.
- أن لقضاء الموضوع مناقشة الأسباب الواقعية أو القانونية التي تدخل في عداد الأسباب القاهرة للتحقق من وجود المانع من توثيق عقد الزواج، أي داعي العدول عن العدول، وذلك دون توسع في تلك الأسباب بما يفضي إلى هدم الأصل المعتبر المحكّم متمثلا في عقد الزواج، ومن ثمة طغيان البدل على الأصل والرخصة على العزيمة ولأجله ينقض المجلس الأعلى كل قرار لا يوضح في ثناياه وجه الاستثناء الداعي إلى العدول عن عقد الزواج العادي([16]).
- أن قضاء الموضوع يستقل بتقدير الحالات الواقعية القاهرة المانعة من التوثيق دون تعقيب من لدن المحكمة الأعلى درجة،بشرط التسبيب وبيان وجه المانع القاهر وتجلياته من خلال وقائع النازلة، وهذا الأمر يتيح لمحكمة التعقيب أمرين، أولهما التحقق من وجود الواقعة المانعة من التوثيق، وثانيهما دخولها في عداد المبررات المقبولة،فإذاعنّ التسبيب وبان فلا تثريب ولا رقابة([17]).
- أن قبول المانع القاهر رهين بانتفاء وجود الأصل، والقضاء ملزم بالتحقق من هذا الأمر بكل سبل الإثبات المتاحة، بصفة تلقائية أو بناءً على طلب من له المصلحة خصوما ونيابة عامة.وتأسيسا عليه اعتبر المجلس الأعلى أنه لما استمعت المحكمة إلى شهود الطاعنة واعتبرت شهادتهم غير منتجة في الدعوى لعدم حضورهم مجلس العقد وعدم ثبوت الأسباب القاهرة التي حالت دون توثيق العقد تكون قد عللت قرارها تعليلا سليما([18]).
- أن المشرع لم يحصر حالة الاستثناء في مكان أو زمان أو أشخاص معينين فالقاعدة القانونية لا تقيم تمييزا بين عموم المواطنين في الاستفادة من مكنة معينة، فلم يحصرها المشرع في نطاق زمني معين لتسري حتى على الحالات الواقعة قبل دخول المدونة، ولم يحصرها في مجال جغرافي معين، مقتصرا على البوادي دون الحواضر أو في المغرب دون الخارج، لعموم البلوى فيها كلها، ولم يحصرها في موانع معينة لكونها مستجدة تستعصي عن كل حصر، ولم يقصرها على فئة عمرية معينة، كأن يستثني القصر ويجيزها لغيرهم لعدم حرمان هؤلاء من تصحيح أوضاعهم. فترك الباب مواربا أمام كل مدع لإثبات دعواه في إرسال تشريعي متعمد يحقق غايات عدة، يستفيد منها المتقاضي بتنويع معاذيره الواقعية وتكليفه بما يطاق، والقاضي بتصحيح حالات مختلفة بسهولة ويسر يحمي بمقتضاها حق الزوجة في عقد صحيح، والأبناء في نسب صريح، وحق المجتمع في المحافظة على التماسك الأسري. وهكذا اعتبر المجلس الأعلى أن:”إثبات دعوى الزوجية غير مقيد بتوفر العدول، وعدم توفرهم، ولا بزمان أو مكان معين، بل يمكن للمحكمة استخلاص عناصر حالة الاستثناء المتمثلة في وجود ظروف أو صعوبات حالت دون إشهاد الزوجين على زواجهما في حينه لدى عدلين.”([19]).
- أن تفريط الزوج في توثيق عقد الزواج مع قدرته على ذلك، لا يدخل قطعا في عداد حالات الاستثناء المقبولة، بل إن ذلك رهين بعدم القدرة وانتفاء المانع، لقاعدة أن المفرط أولى بالخسارة([20])، ولعدم إمكان استفادة المتحايل من تحايله.
بيد أن حقيقة الاستثناء وقيوده ومحاذيره لا تمنع القضاء من واجب التيسير الإجرائي والموضوعي محافظة على لحمة الأسرة ورابطة النسب، ولهذا الأمر مظاهره وشواهده، منها:
- اعتماد المستند العام متمثلا في المخالطة أو المجاورة أو الاطلاع، بدل المستند الخاص المتمثل في حضور الشاهد مجلس عقد الزواج ومعرفة كافة أركانه وليا وصداقا وهو أمر خلص إليه المجلس الأعلى بمقتضى قرارات متواترة([21])، متراجعا بذلك عن اتجاهه السابق المستلزم وجوب الاعتماد على المستند الخاص([22]). رغم أن الأصل اشتراط المستند الخاص في شهادة الشهود بثبوت الزواج وهو ما تطلبه الفقهاء في كل ما تستباح به الفروج وفي طليعته الزواج([23])، بخلاف المال أو ما يؤول إليه، حيث يقبل فيه التعويل على مجرد المستند العام([24]). واشتراط المستند الخاص الذي قد لا يدركه حتى أخص القرابة، فيه تنطع ومغالاة وتكليف بما لا يطاق، ومدعاة إلى ذيوع شهادة الزور وتلقين الشهادة. وهكذا كان المجلس الأعلى يستلزم ثبوت الزوجية بالبينة المستفسرة المتضمنة للمستند الخاص، ومعناها حضور الشهود حفلة الزفاف وطول مدة الزواج ووجود الولد([25])، فمن أين يأتى بمثل هذا المستند الخاص التفصيلي، مهما بلغ إطلاع الشهود على جزئيات الزواج؟! وهل المهم الغايات أم الوسائل؟ ثم أليس المراد تصحيح أوضاع مختلة تشوفا إلى تحقيق غايات شرعية، فيغتفر في المحامل المفضية إليها؟
- الاستعاضة عن نصاب اللفيف العددي المتعارف عليه وقدره اثنا عشر شاهدا والذي كان يستلزمه المجلس الأعلى وجوبا في دعاوى الثبوت بما هو دونه من تلقية أوأقل منها حال عدم المنازعة، وكون الزوجين على قيد الحياة، وإلا وجب الالتزام بالنِّصاب العددي المعروف؛ لأن الاستكثار من الشهود يزيد الشهادة صدقا ولزوما وحجية([26]).
- التوسع في مفهوم السبب الاستثنائي المانع من توثيق عقد الزواج وفق أصوله المرعية، ومن ثمة قبول كل حالة واقعية مانعة من توثيق عقد الزواج، دون وقوف على حالات معينة على سبيل الحصر الذي لا يتوسع فيه.
- قبول تصفية جميع الحالات غير الموثقة، لتشمل حتى الحالات الحادثة بعد دخول المدونة حيّز التطبيق ووجود العدول في سائر مناحي المغرب، دون اعتداد بحيّز زمني مُقيّد.
- قبول بعض الحالات التي وقع فيها تحايل متى أثمرت العلاقة الزوجية عن وجود حمل أو ازدياد أبناء، حماية لحقوق هؤلاء في النسب ولاستفادتهم من آثاره المختلفة، سيما التسجيل في الحالة المدنية والتمدرس، دون تمسك حرفي بقاعدة وجوب المعاقبة بنقيض القصد، وإنما تقدّر كل حالة بقدرها، لكن لا يسوغ الجهر بذلك في الأحكام بما يفضي إلى استغلال الناس لهذا الأمر الواقعي بعسف. وتأسيسا على ذلك جاء في حكم صادر عن ابتدائية مراكش:”وحيث إنه في النازلة، فإن الطرفين لم ينجبا أبناءً، وليست طالبة الزوجية حاملا حتى يتشفع لها ذلك في تبرير تحايلها على النص القانوني.“([27])ولسنا في حاجة هنا إلى تذكير المحكمة بأنه لا شيء يشفع لتبرير التحايل على النص القانوني.
ولا ريب أن القضاء إنما يركن في التيسير الإجرائي والموضوعي لمؤيدات واقعية، حاصلها الحرص على جمع لحمة اّلأسرة وحماية حق الزوجة من الجحود ونسب الأبناء من الإنكار، ومؤيدات قانونية تجد سندها في المقتضى القانوني المجيز، فضلا عن مناشير ودوريات وزيرية متعددة تحث على ذلك([28])، وهكذا نجد أن المشرع:
- ضرب أجلا جديداإضافيا لتصفية جميع حالات ثبوت الزوجية غير الموثقة وإعطاء فرصة للأزواج لتصحيح أوضاعهم.
- أعطى للمحكمة سلطة واسعة للوقوف على صحة ادعاءات الخصوم والاستدلال على المزاعم دون تقييد سلطتها تلك بقيود أو ضوابط، غير الالتزام بكل ما من شأنه الإيصال إلى الحقيقة القضائية والواقعية.
- لميتشدد في وسائل إثبات الزواج المدعى وقوعه وأطلق اليد لكل مدع للإثبات مالم تقع المنازعة في ذلك، أو كان الزوجان أو أحدهما ميتا([29]).
- أجاز قبول شهادة الشهود دون التجريح لقادح القرابة، إذ الغالب قصر حضور مجلس العقد والإحاطة بأركان الزواج صيغة ووليا وصداقا على أقرب المقربين، ولا تكليف إلا بمستطاع وبمقدور، مع قصر هذا الأمر حال اتفاق الزوجين وعدم وجود منازعة، وإلاّ جاز التجريح بما يُجَرَّحُ به الشهود عادة من قرابة أو تبعية للمشهود له أو عداوة مع المشهود عليه([30]).
ولما كان الأصل هو عقد الزواج الموثق لدى عدلين، فإنه لا يصار إلى استصدار حكم بثبوت الزواج إلا بعد ثبوت وجود السبب الاستثنائي المانع من توثيق عقد الزواج وهذا الأمر يقتضي منا تحرير معنى السبب الاستثنائي الذي أراده وعناه المشرع في المادة 16 من مدونة الأسرة، وربط به أمر الاستجابة لطلب ثبوت الزوجية،فأضحى الحكم التقريري به يدور معه وجودا وانتفاء.وغدا في خضم الاستسهال كل سبب يدعى دخوله في زمرة الأسباب الاستثنائية، فتنكبت إرادة المشرع في أحايين كثيرة وجُعِل هذا الاستثناء أصلا في قلب كامل للمفاهيم، فتعاظمت طلبات ثبوت الزوجية واستغلت هذه المكنة الاستثنائية تحايلا أو تراخيا رغم توافر العدول في سائر أنحاء المغرب من أدناه إلى أقصاه،وتأتِّيالإشهاد لديهم بأيسر سبيل وأقصر أجل([31]).
فالمانع من توثيق عقد الزواج إماأن يكون مانعا ماديا أو مانعا قانونيا. والمانع المادي هو كل حدث مادي حصل بسبب خارجي لا يد للإنسان فيه،وأما المانع القانوني فهو كل سبب متعلق بعدم الحصول على ما يتطلبه القانون من إذنأو رخصة أو وثيقة أو تحقق شرط أو انتفاء مانع([32]).
والمانع لا ينصرف بمعناه الدقيق الذي أراده المشرع في المادة 16 من المدونة إلا للمانع المادي الواقعي غير الإرادي،أما المانع المادي الإرادي والمانع القانوني، متمثلا في عدم الحصول على إذنأو رخصة أو وثيقة، فلا يدخلان في زمرة الموانع المقبولة لأن حصولها كان بتفريط من رب الحق أو لعدم استيفائه للشروط المتطلبة قانونا التي يُحمي بها حق خاص أو عام، فلا يسوغ والحالة ما ذكر أن يستفيد من تفريطه أو تحايله بفرضه حالة واقعة وتكريسه وضعا يصحح جبرا وخلافا للنصوص المسنونة، فالمفرط أولى بالخسارة، ولأن القول بغير ذلك فيه مسايرة للمتحايل أو المُفَرِّط، وحمل ضمني على الاستكثار من هذه السبيل والتحلل من القيود القانونية المتطلبة، كما أن من شأن ذلك إفراغ بعض المساطر والأذون من محتواها ومناقضة لغاية المشرع من إقرارها، فتغدو متجاوزة دون جزاء معاقب حال المخالفة، فتصبح الاستثناءات أصولا والأصول استثناءات،([33]) فيغدو المتحايلون والمواربون مشرّعين وفق أهوائهم.
ومن أمثلة الموانع القانونية التي لا تنهض سببا لقبول طلب الإثبات ، عدم الحصول على الرخصة اللازمة بالنسبة للعسكرين ورجال الشرطة والدرك، وعدم استصدار الإذن بزواج القاصر أو المصاب بإعاقة ذهنية أو الإذن بالتعدد حال اللزوم، وعدم الحصول على الوثائق الإدارية للزواجالعادي أو المختلط([34])، وهو ما أكده المجلس الأعلى بمقتضى عدة قرارات متواترة حرص من خلالها على التمييز بين كل ذلك، منها قرار جاء فيه:
“لئن كانت المادة 16 من مدونة الأسرة تجيز سماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية بسائر وسائل الإثبات ، وكذلك الخبرة، فإن ذلك لا يتأتى إلا إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، والمحكمة لما قضت بثبوت الزوجية بين الطاعن والمطلوبة بناء على شهادة الشهود المستمع إليهم، دون بيان السبب القاهر الذي حال دون توثيق العقد في إبانه ودون أن يتحقق من تطبيق النصوص القانونية المنظمة للتعدد في مدونة الأسرة التي رفع الطلب بعد تطبيقها، وهي المواد 40 وما يليها من مدونة الأسرة، تكون قد خرقت مقتضيات المواد المحتج بها، فجاء قرارها ناقص التعليل الذي هو بمثابة انعدامه مما يعرضه النقض“([35]).
ومن شواهد الموانع الواقعية التي يجوز تأسيس طلب ثبوت الزواج عليها والتي لا يمكن حصرها في نص قانوني لارتباطها بوقائع كثيرة ومتجددة، البعد عن مكان تواجد العدول، والإعاقة البدنية المانعة من التوجه صوب المحكمة أو العدول لإنجاز وثائق الزواج، وعدم القدرة المادية على استصدار الوثائق الإداريةأو أداءأجرة العدول، وكذا الغيبة الطويلة المتصلة لأحد الزوجين عن الآخر قبل توثيق الزواج لدى عدلين، والوجود في بلاد أجنبية لا عدول فيها([36])، فضلا عن وقائع أخرى يستقل قاضي الموضوع بتقدير مدى دخولها في عداد الموانع الواقعية أو القانونية شرط تعليل النتيجة التي ينتهي إليها.
المطلب الثانـي:السبــل القانونية لثبــوت الزوجيـــة
لم يحدد المشرع سبل ثبوت الزوجية ولم يسمها نصا كما فعل بالنسبة لإثبات النسب، بل توسل بألفاظ عامة مرسلة تتأول إلى معاني مختلفة في المادة 16 من المدونة المعقودة لبيان مسطرة الثبوت،عندما أجاز سماع دعوى الزوجين بسائر وسائل الإثبات المقبولة له شرعا، مُفترضا علم الجميع بها، وهو ما أدى بالتبع إلى تضارب في الاجتهاد القضائي تيسيرا وتشددا، للاختلاف في التفسير والتقدير، وكان حريا به الحسم في ذلك منعا لكل تأويل دون نزوع نحو فكرة حرية الإثبات وإطلاق اليد فيه لكل مُدّع دون قيود أو تحفظات ودون تلبيس بقبول وسائل إثبات لا تعد مقبولة لإثبات الزواج نظرا لخصوصيته الحاكمة، حيث جاء في نص هذه المادة: ” تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج”.
إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات المقبولة شرعا وكذا الخبرة.
تأخذ المحكمة بعين الاعتبار، وهي تنظر في دعوى الزوجية، وجود أطفال أو حمل ناتج عن العلاقة الزوجية، وما إذا رفعت الدعوى في حياة الزوجين.
يعمل بسماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى خمس سنوات، ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ”.
إن قبول المشرع إثبات الزوجية بسائر وسائل الإثبات كأنها واقعة عادية، هو تعميم لا يجوز أن يصار إليه في موضوع هام نظير الزواج، وكان حريا به الحسم في هذا الأمر منعا لكل تأويل، خاصة وأن هذا الأمر يطبق بصفة مؤقتة وانتقالية وهو ما يقتضي الوضوح لتصفية جميع حالات الزواج غير الموثقة.
فليست كل وسائل الإثبات على صعيد، وليست كلها منتجة في دعاوى الثبوت فبعضها لا يُقبل كالإقرار حجة والبعض الآخر لا يكفي لوحده كالقرائن التي إنما يُعوّل عليها فقط لتعضيد حجة أخرى، وكذلك الخبرة التي لا تكون بمفردها حجة على قيام العلاقة الزوجية لكنها تدل عليها من خلال دلالتها على ثبوت النسب، لتبقى شهادة الشهود المزكاة باليمين هي الحجة الأبرز لتحقيقها غاية الاشهاد على الزواج وعدم توقفها على حجة أخرى مكملة.
فإذا كانالأصل الغالب أن يعمد الزوجان إلى طلب ثبوت زواجهما أمام قضاء الموضوع اتفاقا حيث لا يطرح هنا كبير إشكال، إذ الدعوى ملك للخصوم، إلا أن يقع المساس بالنظام العام أو بحق الغير. فإن هناك حالات قد ينازع فيها أحد الزوجين وخاصة الأزواج، في ثبوت الزواج المدعى وقوعه، سواء ادعته الزوجة أو الأبناء، وهكذا أجاز مشرع مدونة الأسرةللمتداعين التعويل على طائفة من وسائل الإثبات للوقوف على صحة مزاعم الخصوم، دون تعقيد أو تصعيب، ودون استسهال أو تمييع، منها شهادة الشهود والخبرة والقرائن، كما أطلقت المادة 16 من المدونةاليد للمحكمة لاعتماد أي وسيلة إثبات تراها مناسبة بحسب ظروف كل قضية وملابساتها، وذلك بناء على طلب كل ذي مصلحة أو بصفة تلقائية،لتكون وسائل ثبوت الزواج في جميع الأحوالهي: الإقرار والخبرة والقرائن وشهادة العدول العلمية واليمين.
وسار العمل القضائي أيضا نحو تكريس مبدأ الحرية في الإثبات من خلال شواهد قضائية متواترة زادت على ما قرره المشرع، منها عدم اشتراط نصاب عددي معين في شهادة الشهود([37])، والتعويل على مجرد مستند العلم العام([38])، وأحيانا على محض الإقرار ولو كان عرفيا، والاستناد على الأمارات وقرائن الأحوال([39]) وشهادة السماع([40]).وهكذا سنتولى تباعا مناقشة كافة وسائل الإثبات المعتمدة في دعوى ثبوت الزوجية في ضوء مقتضيات القانون وعمل القضاء.
1- الإقرار:
الإقرار في اللغة من أقر بالشيء إذا اعترف به، وهو ضد الجحود ورديف الاعتراف، وأصله في اللغة التمكن والاستقرار([41])، وفي الاصطلاح “إخبار بحق لآخر عليه”[42].
ومعناه هنا اعتراف الزوجين بقيام العلاقة الزوجية بينهما، وهو وإن كان أقوى وسائل الإثبات وأكثرها حجية اتفاقا، لأن أحق ما يؤاخذ به المرء إقراره الصريح الطوعي على نفسه، إلا أنه في موضوع ثبوت الزوجية لا يغني عن شهادة الشهود، وذلك لأربعة أسباب: أولها أنه قد يكون إقرارا على الغير وهو لا يجوز، وثانيها أنه لا محيد عن شهادة الشهود لأن بها يتحقق الإشهاد اللازم لصحة عقد الزواج، وثالثها لزوم تحقيق الشهرة والإعلام بالزواج والجهر به([43])، وذلك لا يتأتى بغير شهادة الشهود، ولا خلاف في أن الزواج مبني على الشهرة والاستفاضة، ورابعها أنه لا يمكن للمقر أن يستفيد من إقراره. ولأجله لم يدخل مشرع المدونة الإقرار ضمن زمرة وسائل إثبات الزواج([44])، وذكره في سبل إثبات النسب لتعلق حق الغير به وهو الولد المقر به، ولهذه العلل ولغيرها لا تكاد تجد للإقرار ذكرا في الأبواب الفقهية المعقودة في التآليف الفقهية التي عرضت لسبل إثبات الزواج([45]).
ومع كل تلك القوادح التي تعتري الإقرار كسبيل إثباتي في الزواج وعدم تبني المشرع له، نجد أن بعض المحاكم تعتمده وحده في تفرد خاص كدليل يغني عن باقي سبل الإثبات تمسكا بمقتضيات الفصل 405 من قانون الالتزامات والعقود، دون مراعاة لخصوصية عقد الزواج وهو الميثاق الغليظ،بل الأغرب أن تقبل محكمة النقض هذه الحجة وترتب الأثر على ضوئها في موضوع الزواج دون مراعاة لخصوصيته الحاكمة، وهكذا جاء في قرارها:”…ردا على ما وقع الطعن به فإن المحكمة المطعون في قرارها اعتمدت في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات المنصوص عليها في المادة 16 من مدونة الأسرة، إذ هي عللت قرارها بأن المستأنف عليها أدلت بالتزام مصحح الإمضاء صادر عن الهالك قيد حياته والذي تضمن إقراره بالزواج منذ أربع سنوات على تاريخه الذي هو 3/7/2003 دون كتابة عقد الزواج وأن هذه العلاقة أسفرت عن ولادة البنت (…) بتاريخ 15/8/2000 فضلا عن الإذن الصادر عن قاض التوثيق عدد (…) والذي أذن لهما بإنجاز رسم بثبوت الزوجية ولم يطعن بأي طعن جدي في هذه الوثائق، وقضت تبعا لذلك بثبوت الزوجية بين الطرفين تكون قد أجابت على ما أثارته الطاعنة من دفوع ولم تخرق القانون فتبقى الوسيلة على غير أساس.”([46]) وكأن الإقرار لم يكن كافيا، فعمدت المحكمة إلى بناء الحكم على قرائن، منها ازدياد البنت والاذن المستصدر من القاضي، وكان حريا بالمحكمة أن تعتمد على القرائن دون الإقرار الذي إن اعتمد، فيكون كعادته باعتباره سيّد الأدلة حاسما، منهيا لأي خلاف، قاطعا لدابر النزاع، مستغنيا عن غيره من سبل الإثبات باعتباره حجة كاملة لا تحتاج إلى ما يؤيدها في إظهار الحق([47]).
فإذا كان ظاهر المادة 16 من المدونة يشي بإطلاق إثبات الزواج، بدليل اعتماد البينة الشرعية، والتي هي إسم لكل ما يبيّن الحق ويظهره، وهي ضعيفة في الإثبات ، فإن خصوصية عقد الزواج تفرض أدلة إثباتية معينة، ومن ثمة استبعاد بعض الأدلة ولو كانت أقوى وأحج من شهادة الشهود والقرائن، كالإقرار، لاحتياج الزواج للإشهاد عليه واعتباره واجبا لصحته، فلا يقبل الإقرار، والحالة ما ذكر، لإثبات الزواج، واستثنى الفقهاء من ذلك حالة الزوجين الطارئين على البلد وألا يكون قد تقدم بينهما نزاع وأن يكون التقارر في الصحة، وتأسيسا على ذلك نقض المجلس الأعلى قرارا خالف هذا النظر وحكم بثبوت الزوجية بمجرد التقارر، مؤسسا قضاءه على أن:”من شروط صحة التقارر أن يكون المتقارران طارئين لا حاضرين كما هو في النازلة.”([48]) فهل المقصود به الطروء من بلد إلى آخر على الصعيد المحلي، أو أن هذا الأمر قاصر على المغاربة المقيمين بالخارج الوافدين على المغرب؟ ولعلي أميل إلى قصره على الحالة الثانية، منعا من التحايل ونزوعا نحو الأحوط لتحقيقه الغاية المطلوبة.
2- الخبرة:
- بالخبرة([49]) الرأي التقني الذي تطلبه المحكمة من كل ذي كفاءة علمية تؤهله لتحديد أمور تقنية يتعذر على المحكمة القيام بها([50])، ولعلها: “استعانة المحكمة إثر منازعة قضائية بصفة تلقائية أو بناء على طلب الخصوم بجهة تقنية معترف بها لأخذ رأيها بخصوص أمر معين لا تتأتى معرفته كليا أو جزئيا إلا بذلك”، فأحيانا تكون الخبرة السبيل الأوحد للحسم في النوازل بتخويل طائفة من الحقوق أو المراكز القانونية أو نفيها. وقد نظمها المشرع المغربي في قانون المسطرة المدنية في الفصول من 59 إلى 66 من قانون المسطرة المدنية، والخبرة في سائر الأحوال، إما أن تكون من وسائل الإثبات أو من إجراءات التحقيق.
وتعد الخبرة من أبرز الوسائل المساعدة للقاضي لاستجلاء حقائق تقنية أو فنية معينة يجري تبيانها في تقرير الخبير([51])، الذي تعد مهمته فنية صرفة تقتصر على تنوير القاضي في المسائل التقنية أو الطبية التي لا دراية له بها، ومن ثمة لا يسوغ له التطرق لأمور قانونية والتي هي اختصاص حصري للقضاة، إذ يحظر عليهم تفويض أي من سلطاتهم القضائية إلى الخبراء([52]). وهكذا نصت الفقرة الثانية من المادة 16 من المدونة على أنه:”إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة“.
وهذا السبيل لا يلجأ إليه مباشرة سواء في دعاوى ثبوت الزوجية أو النسب إلا مع وجود قرائن معضدة تجنبا للتعسف في استعمالها واستغلالها لمجرد الكيد أو الإضرار بالخصوم، لعدم وجود الجزاء حال ثبوت تلك الأفعال. والخبرة هنا تدل على النسب والنسب يدل على الزواج، فيترتب في الآن عينه أثران هامَّان نسبا وزواجا، رغم أن الأصل أن يدل الزواج على النسب لا العكس، ولأجله اعتبر بعض الفقه أن ورود الخبرة ضمن وسائل إثبات الزوجية كان على سبيل الخطأ حيث وقع خلط بين إثبات الزوجية وإثبات النسب، ومن ثمة لا مجال لإعمال الخبرة في قضايا الثبوت([53])، وهذا الأمر فيه عسف في الاستنتاج، فمجال إعمال الخبرة في قضايا الثبوت واضح، فالخبرة تدل على النسب، والنسب يدل على قيام علاقة زوجية، باعتبار أن الخبرة لا يصار إليها قضاءً إلا مع قيام أدلة على وجود علاقة زوجية، ولعل الخبرة تحسم في هذا الأمر، وهذه كانت غاية المشرع، فلا مجال إذن للقول بوجود خلط وقع فيه المشرع فإن أفعاله منزهة عن العبث خلطا أو غلطا أو زيادة، إذ لكل كلمة في المقتضى القانوني دلالة مقصودة.
والخبرة تصدر دائما بناء على حكم تمهيدي صادر عن قضاء الموضوع، تجنبا للخبرات المنجزة سلفا من طرف الخبراء المختارين من الأطراف لا المحكمة بناءً على طلبهم، نظرا للقوادح التي قد تعتريها([54])، وهي تكون إما عبر فحص البصمة الوراثية أو الحمض النووي بأخذ عينة من الابن المدعى نسبه للمطلوب في الدعوى،وأخرى من المدعى عليه في دعوى الثبوت من الدم أو المني أو اللعاب أو الشعر. فالبصمة الوراثية إذن هي: “البنية الجينية نسبة إلى الجينات أي المورثات التي تدل على هوية كل إنسان بعينه.”([55])، ونسبة القطع فيها تصل إلى 9،99 % لعدم إمكان تطابق اثنين من البشر في هذه الصفات الوراثية([56]). والبصمة الوراثية التي اعتبر اكتشافها طفرة هائلة في العلوم يستعان بها في مجالات أخرى ومن أبرزها الاستدلال على مقترفي الجرائم بمختلف أنواعها، وتحديد هوية بعض الأشخاص المتعذر معرفتهم،كالأسرى والمفقودين والجثث الملفاة حال الحروب والحوادث، والمواليد المختلطين في المستشفيات، أو حال الاشتباه في أطفال الأنابيب، أو عند التنازع حول مولود بسبب واقعة معينة عادية أو عقب كوارث أو حوادث، أو حال الاشتراك في وطء بشبهة أو الاغتصاب وحدوث حمل إثره([57])، وهذه السبيل هي الأكثر طرقا في ساحة القضاء لقطعية دلالتها بنسب تقترب من الجزم الذي لا سبيل للخطأ فيه إلا بالخطأ البشري، كالخطأ في أخذ العينات وجعل أحدها مكان الأخرى أو الخطأ في كيفية إجراء الخبرة([58])، أو الخطأ في أسماء أصحاب العينات.
ويمكن الاستفادة من نظام المساعدة القضائية([59])بخصوص الخبرة حـال ثبوتالموجبات متى كانت مصاريفها مرتفعة([60])، وغالبا ما تحدد المحاكم صائر الخبرة في مبلغ 3000 درهم التزاما بدورية وزارية صادرة بهذا الشأن، وبعض المحاكم تحدد أجل انجاز الخبرة في شهرين نظرا للبعد المكاني ووجود جهة وحيدة تنجز الخبرة، وأكثر المحاكم لا تحدد أجلا، بل تحيل القضية على قسم الخبرات إلى حين إنجازها وذلك بعد إيداع الصائر من قبل طالبها داخل أجل 15 يوما تحت طائلة صرف النظر عن طلبه.
وقد تكون الخبرة عبر فحص عينات من دم الشخص المدعى أبوته للتحقق من كون الابن من صلبه ومائه، وهذه المكنة أضحت مهجورة في ظل قوة وقطعية السبيل الأولى، ويعتبر امتناع المطلوب في الدعوى عن المثول بين يدي الجهة المنتدبة لإجراء الخبرة متمثلة في المعهد الملكي للدرك، أو معهد الشرطة العلمية([61])،إقرارا ضمنيا بصحة مزاعم خصمه عملا بمقتضيات الفصل 406 من قانون الالتزامات والعقود([62])، إذ لو قيل بغير ذلك لكان الأمر وسيلة للتملص من المسؤولية، ومطية لجحود وإنكار الأنساب، والتهرب من تنفيذ الأحكام التمهيدية دون جزاء رادع، ولانتفت الغاية من اللجوء إلى سدة القضاء طلبا للإنصاف ورفع المظالم وإرجاع الحقوق إلى أربابها، ذلك أن الخبرة لا يلجأ إليها قضاءً إلا مع وجود أدلة مقنعة أو قرائن منضبطة تدل على وجود شبهة ثبوت النسب وإن كانت محكمة النقض قد جنحت إلى رأي مخالف تماما معتبرة أن العدول عن المثول بين يدي الخبرة لا يعتبر إقرارا ضمنيا([63]).
رغم ما قد يعاب على المشرع من عدم وضوح الصياغة الواردة في المادة 16 من المدونة، حيث أتت الخبرة بلفظ عام دون تحديد، هل المقصود بها الخبرة الطبية أو الخبرة التقنية بمدلولها الوارد في الفصل 50 من قانون المسطرة المدنية؟
ووجه الإشكال أن الخبرة بمعناها المسطور في قانون المسطرة المدنية المعدودة ضمن وسائل الإثبات ، لا يمكن التعويل عليها وحدها لثبوت العلاقة الزوجية، لأن لها مدلولاً فنياً خالصاً، والزواج لا يثبت بسبل فنية كالنسب، بل له خصوصيات معينة أركانا وإثباتا([64]).
وفيما يخص الخبرة الاجتماعية أو البحث الاجتماعي فإنه لا يعتمد من لدن المحاكم لعدم جدواه، بل يستعاض عنه بالبحث المجرى من لدن المحكمة مع الزوجة والشهود، أو البحث المعهود به إلى النيابة العامة أو السلطة المحلية للوقوف على صحة مزاعم الزوجين([65])، لتبقى الخبرة العلمية السبيل الفريد المعتمد من لدن المحاكم حال المنازعة في النسب الناتج عن العلاقة الزوجية لقطعية نتائجها وحسمها في مسار ومصير النوازل وهي المقصودة أساسا بلفظ الخبرة الوارد في المادة 16 من المدونة، والمقصود بها تحديد الخبرة العلمية المعهود بها إلى مختبر علمي وليس إلى طبيب([66]).
غير أن اعتماد الخبرة وحدها فيه خطورة، وقد يترتب عنه مس محقق بالنظام العام، لإمكان التعسف في استعمالها والمطالبة بها بموجب وبافتيات وشطط، ولذلك لا يصار إليها إلا بعد الإثبات الكلي أو الجزئي بوجود بداية حجة حال المنازعة، أي بعد إثبات قيام العلاقة الزوجية، أو مظنة قيام هذه العلاقة، وبغير ذلك لا ينسب الولد للأب لأنه ولد من ماء سفاح، ولو كانت الخبرة بالبصمة الوراثية قاطعة، لأنها إنما تكون قاطعة في واقعة مادية صرفة، لابد أن تسند بغطاء شرعي يعصم أي علاقة من اعتبارها مجرد زنى محض، وتأسيسا على ذلك، اعتبر المجلس الأعلى في أحد قراراته أن:”استخلاص المحكمة عدم ثبوت النسب من خلال وثائق الملف والبحث المجرى فيه. يجعل البنوة الشرعية غير ثابتة حتى وإن اثبتت الخبرة البنوة من الناحية البيولوجية لأن الزنا والاغتصاب لا يلحق بهما النسب الشرعي، وكون الحد والنسب لا يجتمعان إلا في حالات خاصة“([67]).
ومع كل ذلك لا بد من مراعاة كون الخبرة دليلا قاطعا على صحة ادعاءات طالبها زوجة أو زوجا، ولأن القول بخلاف ذلك يفضي إلى تملص الزوج من مسؤوليته الأبوية فالخبرة يثبت بها النسب لا الزواج، وقد تكون من بين القرائن المعتمدة التي تعضد صحة قيام الزوجية بين طرفي الادّعاء، فيكون ثبوت النسب مظنة على قيام علاقة زوجية أفضت إليه.
فالخبرة إذن لا يلجأ إليها إلا بشرطين، أولهما إثبات المدعي زوجة كان أو ابنا لادعاءاته، وثانيهما وجود منازعة في النسب من لدن المدعى عليه، وأحيانا لمجرد تشككه في النسب المدعى به. ومتى انتهى تقرير الخبرة إلى ثبوت نسب الولد للخصم المدعى عليه، فإن الزواج والنسب يثبتان قولا واحدا، لأن الطرف المدعي أثبت ادعاءاته والمدعى عليه لم يدحض ذلك بدليل مقبول. فإذا كان الأصل أن ثبوت النسب لا يترتب عليه ثبوت الزواج، وثبوت الزواج يترتب عليه ثبوت النسب، متى ولد المولود بعد ستة أشهر من الدخول بالزوجة، فإن ما سقناه هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة المذكورة([68]).
واللجوء إلى الخبرة بالبصمة الوراثية لابد أن تحكمه ضوابط زيادة في الاستيثاق وهي:
- ألا يتم إجراء أي تحليل للحامض النووي إلا بأمر قضائي واضح، فإن الاحتكام للقضاء فضلا عن أثره الملزم يوجب للنفس سكونا.
- ألا يستعان سوى بالمختبرات العلمية التابعة للدولة شرط استيفائها للمعايير العلمية المتفق عليها دوليا.
- أن يتحرى إجراء تحليلين على الأقل، سواء من لدن نفس الجهة أو من جهتين مختلفتين زيادة في التحري.
- الحرص على توثيق جميع إجراءات الخبرة، ابتداءً من أخذ العينات، وانتهاءً بالخلوص إلى النتيجة النهائية، حرصا على سلامة وصحة الخلاصات والنتائج، مع حفظ كل ذلك في ملف القضية للرجوع إليه عند الحاجة.
- مراعاة احتمال الخطأ المادي البشري أو نتيجة لعوامل التلوث ولو بنسب ضئيلة، مع تحميل مدعي ذلك تبعة الإثبات .
3- القرائن:
القرائن لغة المصاحبة واقتران شيئين ببعضهما([69])، وفي الاصطلاح الفقهي هي عند الجرجاني أمر يشير إلى المطلوب([70]).والمقصود بها الدلائل والأمارات التي تدل على الحق([71])،والمراد بها أساسا في مادة الإثبات القرائن القوية المنضبطة التي لا يغشيها ظن أو يكتنفها احتمال، وهي في دعاوى الثبوت كل ما يدل على قيام العلاقة الزوجية بين الخصوم، ومن هذه القرائن الصور الفوتوغرافية والتسجيلات الرقمية التي تدل على وجود علاقة زوجية، كصور الزفاف وتسجيلاته،أو صور تجمع الطرفين تدل على وجود علاقة خاصة بينهما تكون مظنة على قيام علاقة زوجية([72]).
ومن ذلك أيضا الإقرارات الخطية الصادرة عن الخصم والتي تدل بصفة صريحة أو ضمنية على اعترافه بالعلاقة الزوجية المدعاة،أو على قيام العلاقة المذكورة، أو أبوته للأبناء المولودين على فراش الزوجية، ويدخل في عداد ذلك أيضا تقديم طلب ثبوت الزوجية أو التعدد والتراجع عنه،أو طلب تسجيل الابن في الحالة المدنية أو تسجيله فعلا فيها، وهي قرينة أحج من غيرها كما دأب على تكريسه العمل القضائي([73])، وكذا التواجد مع طالبة الثبوت في مكان الولادة، والإشراف من لدن الخصم على عقيقة الابن المزداد والتواجد مع الطالبة في مكان لا يتواجد بمثله إلا الأزواج، والظهور العلني بمظهر الأزواج أمامعائلتيهما أو الناس كافة.
ويعمل بالقرائن القوية المنضبطة ويقضي وفقها وبمقتضاها سواء إفرادا، أو متى تعضدت بما يعززها من الأدلة، أو جاءت تكملة لبداية حجة أو حجة ناقصة للمدعي، وقد كانت محكمة النقض في ظل مدونة الأحوال الشخصية الملغاة تدخل هذه القرائن في عداد الصفة الاستثنائية ليس إلا، كازدياد الأولاد على فراش أبويهما والإشراف على دراستهم واستصدار شواهد مدرسية لهم وإقامة حفلات بمناسبة نجاحهم([74]).
والسكوت لا يعد قرينة ولكنه في بعض السياقات المعينة قد يغدو إقرارا ضمنيا متى دلّ على القبول، وهكذا اعتبرت محكمة النقض المصرية أن سكوت الوالد بعد تهنئة الناس له بالولد بعد ولادته يعد إقرارا بأن الولد منه([75]).
4- الشهادة العلمية للعدول:
المراد بها شهادة العدول في واقعة يعلمونها معاينة أو سماعا أو اطلاعا على أحوال المشهود له أو عليه([76])، وتكون بإذن من القاضي المكلف بالتوثيق وَتُضَّمَنُ في رسم عدلي([77])، وترجح على شهادة اللفيف حال التعارض، ويجوز التعويل عليها وحدها للقول بثبوت الزوجية دون حاجة لمثول العدول بين يدي هيئة الحكم لإعادة أداء الشهادة أمامها، وإلا أضحت شهادة عادية وما احتيج إلى تضمينها في وثيقة خاصة([78]). والرسم العدلي الذي تضمن به هذه الشهادة يُعدّ وثيقة رسمية لا يجوز رميها إلا بالزور وذلك في الوقائع التي شهد بها العدول عملا بمقتضيات الفصل 418 من قانون الالتزامات والعقود.
5- بينة السماع:
البينة لغة الحجة الواضحة([79]). وفي الاصطلاح عرفها ابن فرحون بقوله:”البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره“([80])، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الشهود بالبيّنة لوقوع البيان بقولهم وارتفاع الإشكال بشهادتهم([81]). وخصت في الاصطلاح الفقهي بالشاهدين، أو الشاهد واليمين، لكون الشهادة كانت في الماضي هي الدليل الغالب.
وبينة السماع هي كل موجب لفيفي يشهد شهوده بقيام الزوجية وذيوع خبرها وشيوعه بينهم، تأسيسا على السماع الفاشي الذائع بين الناس، وهي عند ابن عرفة:”لقب لما يصرح الشاهد فيه باستناد شهادته لسماع من غير معين.”([82]).
فالأصل المحكم أن يشهد الشاهد عن معاينة وتثبت، لقول الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام لسائله:”إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع“.([83])وذلك على خلاف معلوم في نصاب الشهادة بحسب أهميتها، لكن جُوِّز على سبيل الاستثناء الاكتفاء بشهادة السماع لإثبات وقائع معينة، لأن في استلزام المعاينة والمشاهدة حرجاً ومشقة وتعطيلاً للأحكام وتكليفاً بما لا يطاق. وهذه الشهادة على ثلاثة مراتب([84])، الأولى: تفيد العلم وهي المعبر عنها بالتواتر، كالسماع بأن مكة موجودة، وتكون بمنزلة الشهادة بالرؤية وغيرها مما يفيد العلم. والثانية: شهادة الاستفاضة، وهي التي تفيد ظنا قويا يقرب من القطع، ومنه رؤية الهلال رؤية مستفيضة من الجم الغفير من أهل البلد، والثالثة: شهادة السماع، وهي المقصودة عند إطلاق لفظ هذه الشهادة عليها، وهي التي تفيد ظنا دون شهادة الاستفاضة، وإنما أجيزت للضرورة استحسانا واستثناءً من الأصل في تحمل الشهادة([85]).
وقد جوّز المالكية التعويل عليها دون حضور ومعاينة المشهود به في إحدى وعشرين موضعا يجوز فيها الركون إلى الشهادة بالتسامع، وقد جمعها ابن فرحون في نظمه بقوله:
أيا سائلي عمـا ينفـذ حكمـه | ويثبت سمعا دون علم بأصله | |
ففي العـزل والتجريح والكفر بعده | وهي سفه أو ضد ذلك كلــه | |
وفي البيع والأحباس والصدقات مع | رضاع وخلـع ونكـاح وحله | |
وفي قسمــة أو نسبـة وولادة | وموت وحمـل والمقـر بأهله | |
فقد كملت عشرين من بعـد واحد | تدل علـى حفظ الفقيه ونبله |
وحصرها الحنفية في أمور أربعة وهي : النكاح والنسب والموت وولاية القاضي، معللين ذلك بأنها أمور لا يطلع عليها إلا خواص الناس، ففي اشتراط غير التسامع مشقة وكَبَدًا، ثم إن الناس دأبوا على ذلك واستحسنوه، فإن النسب يشتهر بالتهنئة والموت بالتعزية، والنكاح بالشهود والوليمة، والقضاء بقراءة المنشور، فنزلت الشهرة منزلة العيان في إفادة العلم([86])، فسبب النسب الولادة ولا يحضرها إلا القابلة، وسبب القضاء تقليد السلطان ولا يعاين ذلك إلا خواص الناس، وكذلك الوفاة والنكاح لا يحضره إلا أخص القرابة.
وحتى يعمل بشهادة السماع يشترط فيها شروطا معينة، وهي الاستفاضة، ومعناها أن يكون المنقول منه غير معين ولا محضور، وثانيهما أن يقول الشهود عند الأداء سمعنا سماعا فاشيا من أهل العدل وغيرهم وإلا لم تصح، وثالثها السلامة من الريبة المؤدية إلى تغليط الشاهد أو تكذيبه، ورابعها أن يكون المشهود به فيما تقادم عهده وطال زمانه، فإن لم يكن كذلك لم يفتقر إلى شهادة السماع، لأن قصر الزمان مظنة على وجود شهادة القطع، إلا أن يتعذر حصول ذلك، وخامسها كثرة عدد الشهود، فلا يقتصر على اثنين فإن لم يوجد غيرهما دل ذلك على عدم الذيوع والانتشار، وسادسها العدالة في الناقلين فلا تكفي الكثرة ما لم تبلغ حد التواتر، وسابعها أن يكون المشهود فيه من شأنه الاشتهار وألا يختص بمعرفته بعض دون بعض كما في الأنساب والأنكحة([87]).
وقد أجاز المشرع المغربي الأخذ بشهادة السماع في موضعين، أولهما في ثبوت النسب عملا بمقتضيات المادة 158 من المدونة، وثانيهما في ثبوت الزواج حسبما تجيزه المادة 16 منها([88]).
وهكذا يسوغ للمحكمة تأسيس حكمها بثبوت الزواج بصفة فريدة على بَيِّنَة السماع اللفيفية، تمسكا بمقتضيات المادة 16 من المدونة، دون حاجة إلى إعادة الاستماع للشهود أمام المحكمة بعد أدائهم اليمين القانونية، لإمكان وفاة أحد الشهود أو غيبته، ولأن القول بغير ذلك فيه إفراغ لبينة السماع من محتواها، و لغدت بذلك شهادة عادية. لكن الأحوط إعادة الاستماع لشهود البَيِّنة إما كليا أو جزئيا حال التشكك أو عند كل منازعة، طالما أن المشرع ألزم الشهود بأداء شهادتهم أمام المحكمة وليس أمام أي جهة أخرى، خاصة حال وجود منازعة جدية أو وجود حمل أو أبناء.
6- شهادة الشهود:
الشهادة لغة مصدر شهد، قال صاحب اللسان:”الشهادة خبر قاطع.”([89]) وشهد الشاهد عند الحاكم بيّن ما يعلمه وأظهره، فهو شاهد وشهيد وأصل الشهادة الإخبار بما شاهده، والشاهد عند الفقهاء هو الذي لا يعلم صاحب الحق أن له معه شهادة، للاحتراز من شهادة مجاملة أو كيد، فيقال قوم يشهدون ولا يستشهدون أي لا يطلبون للشهادة والشاهد في مطلق الأحوال إما أن يحضر الواقعة محل الشهادة، فتوسم شهادته بأنها شهادة معاينة، أو لا يحضرها وإنما ينبئه عنها غيره ممن حضرها وتسمى شهادته عندئذ بأنها شهادة سماع، والأولى أحج لاستنادها على مستند العلم الخاص.
وفي الاصطلاح الفقهي، عرفها ابن عرفة المالكي بأنها:”قول هو بحيث يوجب على الحاكم سماعه الحكم بمقتضاه إن عدل قائله مع تعدده أو حلف طالبه.”([90])
فالشهادة إذن هي تعبير وترجمة للواقعة محل الشهادة([91])، تؤكد ثبوتها دون إحالة الحق باطلا أو الباطل حقا، شرط مطابقتها للواقعة المادية، مصداقا لقول الحق سبحانه:”وما شهدنا إلا بما علمنا“.([92])
وهذا الضرب من وسائل الإثبات يعد السبيل الإثبات ي الأكثر طرقا في دعوى ثبوت الزوجية، لسهولته ووقوع الزواج في الأغلب الأعم أمام الشهود الحاضرين في مجلس العقد. وقد اختلف في كثيرٍ من متعلقات هذه السبيل، سواء تعلق الأمر بمستند العلم المشترط، أو بالنِّصاب العددي اللازم، أو بجواز تجريح الشهود بما يتم به التجريح في الأحوال العادية، أو وجوب إعادة الاستماع إلى شهود اللفيف أمام المحكمة. فبالنسبة للشهود الذين يتعين قبول شهادتهم تلقيّا وأداءً،فقد اختلف فقها وقضاء في مدى وجوب توفرهم على المستند الخاص أو العام ليس إلا، بمعنى هل يكتفي بالشهود الذين حضروا واقعة الزواج، أو فقط الذين علموا بها اتصالا لم يقطعه طلاق أو تطليق، تعويلا على المخالطة والمجاورة والاطلاع؟ أي الشهادة اللاحقة على إبرام عقد الزواج، وأرى أنه لا مانع من التعويل على النوع الثاني من الشهود تيسيرا على المتقاضين طالبي الثبوت، ما لم تقع المجادلة في ذلك، لكن يتحرى النوع الأول ما أمكن ويرجح على الثاني حال التعارض([93])، وهو ما جنحت إليه محكمة النقض حديثا عندما عدلت عن اتجاه سابق كان يتشدد في هذا الأمر.
كما اختلف أيضا في قبول شهادة الأقارب لإثبات العلاقة الزوجية، فقيل بوجوب الاستبعاد تمسكا بمقتضيات الفصل 76من قانون المسطرة المدنية الواضحة في وجوب إعلام الشاهد بتحديد علاقته بالمشهود له أو عليه،واستبعاده لقادح القرابة، لاحتمال نصرة القريب الشاهد للقريب المشهود له حَمِّيةً ظالما كان أو مظلوما.
وقيل بإمكان الاعتماد عليها تمسكا بمقتضيات المادة 16 من المدونة التي لم تنص على قيود وشكليات معينة، وأيضا مراعاة لخصوصية الإثبات في هذا النوع من العقود الذي لا يحضر مجلسه إلا أخص القرابة. فهل يؤدون اليمين حال الاعتماد، أم يعفون منها؟وكيف يعفون والحال أن شهادتهم ليست على سبيل الاستئناس، بل معتمدة في أكثر دعاوى الثبوت؟! ولعلي أجنح إلى الرأي الثاني لأن التكليف بغير الشهود الأقارب هو تكليف بغير مقدور، إلا أن يحضر غيرهم مجلس العقد فيعتمدون اتفاقا، مع وجوب أداء الشهود اليمين في جميع الأحوال، ولو كانوا من أخص القرابة، حتى يدركوا عظم مقام الشهادة وأثرها، سيما في ثبوت الزواج والنسب.
وفيما يتعلق بنصاب الشهود المعتبر فإنه لا مانع من الاقتصار على شهادة شاهدين حال الاتفاق، واثني عشر شاهدا، وهو نصاب اللفيف المتمالئ عليه حال المنازعة أو وفاة أحد الزوجين، وتشترط فيهم الذكورة والعدالة الظاهرة والرشد عند الأداء لا عند التلقي([94]). فتقدير العدد المستلزم قلة وكثرة بحسب سياق الشهادة وأهميتها، ليس خاليا من الفوائد، فالاستكثار من الشهود في أحوال معينة مطلوب لأنه يحقق طمأنينة القلب بسلامة وصدق الشهادة، لأن إخبار العدد أظهر من إخبار الواحد، إذ في العدد معنى التوكيد([95])، فاشتراط نصاب عددي معين في بعض الشهادات كما في الترشيد والتسفيه فيه صيانة للحقوق من الضياع، لكن التيسير في بعض الشهادات مطلوب، وهذا التيسير في النصاب العددي كان من بين التوصيات التي انتهى إليها التقرير الختامي للأيام الدراسية التي نظمتها وزارة العدل بحضور رؤساء أقسام الأسرة بمختلف محاكم المملكة بتاريخ 4 و5 أكتوبر و20 و21 دجنبر 2004 حيث جاء فيها:”من الحقوق التي لابد فيها من شاهدين حسب المذهب المالكي، الزواج، واستنادا إلى المادة 400 من المدونة التي تحيل على هذا المذهب فيما لم يرد به نص فيها، فقد أسفرت المناقشة على الأخذ بهذا المقتضى في دعوى ثبوت الزوجية علما بأنه كلما كثر الشهود كان أفضل نزوعا نحو الأحوط“([96]).
فيما يخص شهادة اللفيف([97])، فإنه، وإن كان يعتد بها ويعمل وفقها وبمقتضاها إثباتا لسائر الوقائع المادية، إلا ما يتطلب شكلية معينة للإثبات وفق اجتهاد محكمة النقض المستقر الثابت([98])، إلا أني أجنح إلى وجوب إعادة الاستماع لشهود اللفيف أمام المحكمة بعد أدائهم اليمين القانونية لأن غاية المشرع من وراء سنّه مقتضيات المادة 16 من المدونة تفادي مساوئ ومثالب اللفيف بأداء الشهود شهادتهم أمام المحكمة للاستيثاق والتثبت. ثم إن العبرة بالإجراءات المباشرة من لدن المحكمة دون سواها بغية التحقق من استيفاء سائر الإجراءات الشكلية والشروط الموضوعية لهذه الشهادة السهلة الإنشاء تحت الطلب، فأصبحت ترمى بالريبة والتشكك وتقدح بالزور والمجاملة، وأضحت طائفة من الشهود تحترف أداء هذه الشهادة جهارا نهارا نظير مقابل مادي مبني على المشاحة والمفاصلة يكثر أو يقل بحسب أهمية الشهادة، دون وجل أو توجس من جزاء دنيوي مانع أو أخروي رادع.
والنكاح كما النسب لا يثبت عند السادة المالكية وجمهور الفقهاء سوى بشهادة رجلين دون شهادة رجل وامرأتين خلاف الأحناف.([99])كما لا يثبت بشهادة شاهد ويمين.([100])
قال صاحب التبصرة: “لا يجزئ غيرهما-يريد الشاهدين- وذلك في النكاح والرجعة والطلاق والخلع… والنسب … فهذه الأحكام لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين حرين عدلين.”([101])والسبب في ذلك أن شهادة رجل وامرأتين لا تكون مقبولة إلا في الأموال الخاصة دون حقوق الأبدان والنكاح والدماء والعتق والجراح وما شاكلها. واستدل الجمهور بقوله تعالى:”وأشهدوا ذوي عدل منكم“،([102]) فقد دلت الآية على أن شهادة الرجل والمرأتين لا تعتمد إلا في الأموال دون غيرها([103]). ولعل مذهب الحنفية جدير بالاتباع والاعتماد لاستناده لطائفة من المسوغات، منه:
- ما روي عن خديجة أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة([104]) ومعلوم أن الولادة ليست بمال أو ما يؤول إلى مال، فدل ذلك على أن شهادة النساء مقبولة بإطلاق.
- ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:”أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل“([105])، فلم يجعلها مخصوصة بحال من الأحوال.
- ما روي عن الفاروق عمر أنه جوّز شهادة رجل وامرأتين في النكاح كما روي عنه أنه اعتمدها في الطلاق وروي عن ابن عمر ذلك أيضا.
- أن قوله تعالى: “واشهدوا ذوي عدل منكم“([106])، عام في الذكور والإناث، وقد عرف في الشرع أن شهادة الرجل لا يقوم مقامها إلا شهادة امرأتين، فيكون المقصود بذوي عدل، رجلين أو ما يقوم مقامها من رجل وامرأتين، وما يدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال لجنابه الشريف هذا غصبني أرضي”شاهداك أو يمينه“،([107]) فلو أحضر المدعي شاهدا ذكرا وامرأتين لقبل منه ذلك وحكم له طبق دعواه([108]).
وهي أدلة نقلية تنسجم مع المنطق العقلي ومقاصد الشريعة الغرّاء في التسوية بين الرجال والنساء في الأحكام، إلا ما تقتضيه خصوصية كل واحد منهما، فما الحكمة من التمييز بين الرجال والنساء في الشهادة تحملا أو أداءً؟وهل ثبت وفق حقائق علمية قاطعة ما يدعو لاستبعاد شهادة النساء في مواضيع معينة لقادح معين، نسيانا أو غلطا أو توهما؟وما الغاية من التمييز في موضوع الشهادة بين الأموال وغيرها، إذا كانت مظنة الاستبعاد أو زيادة النصاب واحدة؟ ونسبة هذا الأمر للشرع فيه تلبيس، وإبعاده عن دائرة المعقولات فيه عسف وافتيات. فقصر الشهود المقبولين لإثبات الزواج على الرجال دون النساء إنما يرتبط بأعراف محكمة تراعي حضور الرجال مجلس عقد الزواج، فظروف التلقي أثرت في تحديد نوع شخوص الأداء ولا تَدخُّل لأحكام الشرع أو منطق العقل في هذا التمييز، وأن تَظِّل المرأة وتذكرها أخرى كما جاء في الاستعمال القرآني([109]) ليس عام في جميع النساء. ومعلوم أن القانون المغربي لا يمنع اعتماد شهادة النساء في الجرائم إثباتا ونفيا، فكيف لا تعتمد في الأنكحة، وفي مطلق التصرفات والوقائع المادية؟!، وحتى مع القول بوجود تمييز أساسه نصوص الشرع، فإن هذا الأمر يدخل في باب التدرج في التشريع، إذ لم يكن مستساغا عقب ظهور الاسلام قبول شهادة النساء في مجتمع ذكوري خالص لا يقر للمرأة بأي حق، وكانت أغلب النساء من ربات البيوت ومن ذوات الحجاب لا يبرحن عتبات المنزل، فلا يشهدن وقائع ولا يعاين تصرفات، فاقتضى الأمر استبعاد شهادتهن تماما في زمرة معينة من المواضيع وقصرها على مواضيع أخرى، مع مضاعفة النصاب العددي مقارنة بالرجل، وهي مناطات وعلل انتفت في زمننا هذا، فيكون جديرا بنا قبول شهادة النساء دون تحفظ أو إقصاء بالنوع، ونسبته للشرع زورا وبهتانا. ولعل ذلك ما حمل المشرع على تدارك هذا الأمر في مشروع قانون اللفيف بقبوله بمقتضى المادة العاشرة منه اعتماد شهادة النساء في سائر اللفيفات دون تثريب أو محاذير عددية أو محترزات موضوعية، مسويا بين الرجال والنساء في الشهادة نصابا وموضوعا([110])، ورافعا وصاية وحجرا على النساء ومظلمة ظاهرة واقصاء بالنوع وقع عليهن ردحا طويلا من الزمن، ومرجعا بذلك الأمور إلى نصابها الشرعي.
7- اليمين:
اليمين لغة واصطلاحا المقصود بها الحِلف على صدق ادعاءات من توجهت إليه اليمين([111]). وفيما يخص جدوى هذه السبيل الإثبات ية في موضوع ثبوت الزوجية، يثار التساؤل حول مدى وجوب أداء الزوجين اليمين حال اعتماد إقرارهما أو اعتماد شهادة الشهود، وهل هي يمين متممة أو شرعية؟ وهل على المدعى عليه في دعوى الثبوت أداء يمين الإنكار حال عجز خصمه المدعي عن إثبات مدعاه؟ وهنا قعّد الفقهاء قاعدة حاكمة مفادها أنه كل ما يحتاج إلى شهادة عدلين لا يحتاج إلى يمين، ويدخل في عداد ذلك الزواج والطلاق وما يؤول إليها كالنسب، فكل ما يحتاج إلى شهادة عدل أو ستة شهود يفتقر إلى اليمين، ويسري ذلك على الأموال وما يؤول إليها، كما في مطالبة الزوجة بمهرها وتوجه هذه اليمين من الخصوم والقاضي.
فكما لا يُقبل الإقرار في دعوى ثبوت الزوجية لا تقبل اليمين فيها أيضا، أولا لأن دعوى الزواج لا تدخل في عداد الدعاوى المالية التي يسوغ توجيه اليمين فيها، وثانيا لأن كل دعوى لا تثبت إلا بعدلين لا تقبل اليمين فيها، سواء أكانت يمين متممة حال عدم التنازع، أو يمين إنكار على المنكر متى لم يُقم مدعي الزوجية بينة على صدق قوله. قال خليل مبينا ذلك:”إذا تنازعا في الزوجية، تَثَبَتْ ببينة ولو بالسماع بالدف والدخان، وإلا فلا يمين ولو أقام المدعي شاهدا وحلفت معه.“([112])
ووجه عدم قبول اليمين المتممة احتياج الزواج للإشهاد عليه، ولو كان غيرها مقبولا لقبل الإقرار، وهو بلا خلاف أحج من اليمين وأيقن منها لصدوره عن شخص المقر.
وفيما يتعلق باليمين المؤداة من لدن شهود الإثبات أو النفي في دعوى ثبوت الزوجية، أرى أنه وأمام ضعف الوازع الديني في زمننا هذا لدى بعض الشهود، فإنه يلزم التروي قبل أداء اليمين ومراعاة قيودها الإجرائية والموضوعية وضوابطها المرعية وموجبات التجريح وإمكان تغليظها زمانا ومكانا حال اللزوم، للاستيثاق، وتحسيسا للشهود بعظم موضوع ومقام الشهادة وأثرها الهام في ساحة الخصومة الأسرية بثبوت الزواج وترتيب آثاره المختلفة خصوصا النسب أو منع كل ذلك.
ومعلوم أنه لا يقبل توجيه اليمين الحاسمة من الخصم لخصمه في دعوى الثبوت لأن اليمين لا تأثير لها في هذه الدعوى المتوقفة على وسائل إثبات أخرى تحقق الاشهاد على الزواج المتطلب([113])
المطلب الثالث: دور الاجتهاد القضائي في تفعيل دعوى ثبوت الزوجية
إذا كانت الدعوى الأسرية ملك للخصوم تمسكا بقاعدة حياد القضاء والتزامه البت في حدود طلبات الأطراف، ووقوفه على ذات المسافة من جميع الأطراف([114])، دون تغليب لكفة على كفة. وإلا اختلت موازين القسط، فإن الحياد المذكور هو حياد إيجابي حاصله وجوب الوقوف على حقيقة مزاعم الخصوم وصحتهما، والسعي الموصول لكشف الحقيقة القانونية والواقعية الشاخصة أو الضامرة بحسب طبيعة الدعوى وأسانيد وحجج الأطراف، تلك المستدل بها تعزيزا لصحف الادعاء.
والقضاء في سبيل أداء رسالته السامية تلك ملزم بالتحري الوثيق قبل الخلوص إلى نتيجة الاستجابة لطلب ثبوت الزوجية أو رفضه([115])، ولتحقيق تلك البغية، على القضاء مراعاة طائفة من المحاذير، أهمها:
– عدم التشدد في قبول الحالات التي وقعت بعد دخول مدونة الأسرة حيز التطبيق، أي بعد انتفاء مظنة الاستجابة بعد انتشار العدول في سائر بقاع المغرب.
– اللين في التعامل مع أطراف الخصومة القضائية في دعوى الثبوت، ومراعاة استفحال الأميةوتأثير المنازعات ومقام المحاكم وصخب الجلسات ونكران الحقوق وجحودها، وصعوبة الإثبات وطول الإجراءات على نفسية المتقاضين المتوتبين إلى اقتضاء حقوقهم بسرعة ويسر، مع لزوم التماس الأعذار لهم.
– اللجوء إلى تدابير استعجالية مؤقتة قبل الفصل في دعوى الثبوت حال اتفاق الطرفين، من قبيل استصدار رسم عدلي بالإقرار بنسب الأبناء،ضمانا لحقهم فيه بصفة دائمة ولترتيب آثاره بصفة فورية، ومنها تمكين الأبناء من التسجيل في الحالة المدنية وللحيلولة دون إنكار الأب البعدي لنسب أولاده.
– مراعاة خصوصية كل منطقة وتحكيم عاداتها في استحكام الثبوت وتحديد شكلياته وسبل إثباته وآثاره.
– عدم التشدد في إجراءات الاستماع إلى شهود الإثبات ، حيث يغتفر في شهادتهم ما لا يغتفر في غيرها، ما لم تقع المنازعة في ذلك أو يحدث تدليس على المحكمة.
قبولإثبات زواج الآباء من الأبناء، ومن كل ذي مصلحة شرط الإثبات ومراعاة خطورة أثر ذلك في ثبوت النسب والحق في الإرث([116]).
– عدم التصريح بعدم قبول الطلب إلا في أحوال معينة لا يسوغ التوسع فيها، منها عدم الاستظهار بالوثائق المعززة للطلب، أو عدم أداء الرسم القضائي عن الطلب، أو عدم إثبات المزاعم المدعاة بوجود علاقة زوجية.
– التحقق من الزواج المدعى وقوعه بواسطة بحث تعهد به المحكمة إلى السلطة المحلية أو المصالح الشرطية أو الدركية بإشراف من النيابة العامة للوقوف على صحة مزاعم الزوجين، عبر أبحاث معمقة ملتزمة بتنصيصات الحكم التمهيدي والغايات التي من أجلها صير إليه دون زيادة أو نقصان([117])، وهذا البحث لا يقع اللجوء إليه إلا بعد الاستماع لشهود الإثبات أو النفي، ونتيجته تكون على سبيل الاستئناس، لكن على المحكمة تسبيب الحكم حال استبعاده وعدم القضاء وفقه.
– سرعة البت في القضايا وعدم تأخيرها لجلسات متباعدة عند الاستماع للأطرافأولشهود الإثبات أو النفي أو عند إجراء الأبحاث، لكن ذلك لا يعني التسرع في الإجراءات أو إصدار أحكام غير مروى فيها، فتضيع الحقائق في خضم التسرع والاستسهال([118])، ولا ريب أن تحقيق تلك الغايات مجتمعة يحتاج إلى دربة خاصة وملكة استثنائية لا يؤتاها إلا من خبر القضايا الأسرية وتصاريفها ظاهرا وباطنا.
-الانتقال إلى المراكز النائية التي تعرف تفشيا لظاهرة الزواج بالفاتحة لعدم قدرة بعض المتقاضين المادية على الانتقال إلى رحاب المحاكم، وعقد الجلسة خارج أعتبا المحكمة في أقرب مكان يؤمه الناس كالأسواق الأسبوعية دون المساس بهيبة القضاء، وفي ذلك تحقيق لغاية تقريب القضاء من المتقاضين التي جعلت شعارا أجوفا لا يجد سبيله إلى التنفيذ ولشعار القضاء في خدمة المواطن الذي كثرت المناداة به. ولأجله صير إلى ما يسمى بمحاكم القرب التي بمقتضاها استبدل القضاء الشعبي مجسدا في حكام الجماعات بالقضاء المحترف متمثلا في قضاء القرب أو المراكز([119]).
– تبني النيابة العامة لبعض طلبات ثبوت الزوجيةواتخاذها صفة الادعاء الأصلي وتفعيل هذا الدور في كل حالة لا يستطيع أصحابها أداء الرسوم القضائية عن الطلب، أو متى كانت مصلحة الأبناء القصر تقتضي ذلك([120])، وعدم التماس رفض الطلب إلا للضرورات القصوى ولعلل وجيهة يقع إظهارها، كالمساس بالنظام العام أو وقوع تحايل. وعدم الطعن في الأحكام المستجيبة للطلب إلا مراعاة لمصلحة عامة تحدد تجلياتها في التقرير الاستئنافي وفي وسيلة الطعن بالنقض، وفي كل حالة تستلزم ذلك.
– قيام وزارة العدل بحملات حقيقية لتوثيق جميع حالات الزواج، حيث لم تسفر الحملات المباشرة من لدن الوزارة سنتي 2010 و2013 عن النتائج المرجوة، لعدم رصد الإمكانات المادية والبشرية اللازمة وعدم التنسيق مع الوزارات المعنية سيما الداخلية والشؤون الاجتماعية والأوقاف والاتصال، لإعلام الناس بوجوب توثيق زواجهم في وسائل الإعلام المختلفة والمساجد والقرى والمداشر وتسهيل عقد الجلسات التقليدية في الأسواق الأسبوعية والمراكز البعيدة، وإطلاع الكافة على نتائج الحملات والإكراهات الواقعية والقانونية المعيقة.
– وجوب إثبات الزواج بشهادة شاهدين حال عدم المنازعة،أو اثنى عشر شاهدا أو بشهادة عدلين حال المنازعة أو وفاة أحد الزوجين تجنبا للتحايل([121])، ولا يكتفى بإقرار الزوج كما في النسب لأنه قد يكون إقرارا على الغير وهو لا يجوز، فاحتيج فيه إلى الإشهاد، والذي لا يتأتى إلا بشهادة الشهود أو ما يقوم مقامها وفق التفصيل الذي عرضنا له في مقامه.
– وجوب التمحيص الدقيق وإيفاء كل نازلة حقها مناقشة وتحريا واستقصاء، منعا من الافتراء أو الابتزاز وثبوت النسب زورا وبهتانا بما يفضي إلى اختلاط الأنساب وغني عن البيان أن حفظ النسل من الكليات الخمس التي أوصت الشريعة الغراء بالمحافظة عليها([122]).
– التصدي لحالات التحايل والمواربة التي يعمد إليها الأزواج حال رفض زواج القاصر أو الإذن بالتعدد أو الزواج المختلط، فيركنون إلى ثبوت الزوجية لفرضها كحالة واقعية يمكن تصحيحها وإقرارها من لدن القضاء، الحريص على المحافظة على الأعراض والأنساب من النكران، مستغلين في ذلك التيسير الموضوعي والإجرائي الذي تعمد إليه المحاكم التزاما بالدوريات الوزيرية الحاثة على ذلك، وفي الجملة التزاما برسالة القضاء في إيصال الحقوق إلى أصحابها بأدنى سبيل وبأيسر طريق،ومراعاة للأجل المحدد لتسوية جميع الحالات وتصويب جميع الاختلالات ولو كانت تحمل في طياتها تحايلا صارخا.
– وجوب تحديد منطوق الحكم بالثبوت تحديدا دقيقا نافيا لكل جهالة، لأن الحكم بثبوت الزوجية يقوم مقام عقد الزواج، ولعله أكثر منه لزوما وحجية، لصدوره بمقتضى حكم صادر عن القضاء، فيلزم تأسيسا على ما ذكر تحديد تاريخ الزواج باليوم والشهر والسنة، ومدى انتهائه بوفاة أو طلاق أو استمراره زمن استصدار الحكم، وبيان مدى كون العلاقة الزوجية قد أسفرت عن إنجابأبناء وذكرهم بالاسم وتاريخ الازدياد، مع أمر ضابط الحالة المدنية بتسجيل مضمن الحكم على هامش رسم ولادة كل واحد من الزوجين حال الاستجابة للطلب([123])، وكونهما أو أحدهما على قيد الحياة.
– تحميل طرفي دعوى الثبوت الصائر([124]) مناصفة حال تقديمهمـا الطلـب معـا وتكبيده لخاسر الدعوى حال المنازعة([125])، أو لطالب الثبوت حال وفاة أحد الزوجين، أو وفاتهما معا وتقديم الطلب من ذي المصلحة.
– عدم تجريح شهود الإثبات بقادح القرابة أو التبعية للمشهود له،أو قادح العداوة مع المشهود عليه إلا حال المنازعة أو وفاة أحد الزوجين أو وجود تحايل، وإلا فتقبل شهادتهم اتفاقا،إذ الغالب عرفا قصر الحضور في مجلس العقد ومعرفة أركانه على أدنى القرابة وحضور غيرهم من الأباعد عند الزفاف. والمراد بها القرابة من الدرجة الأولى، أصولا وحواشي والغاية المرادة التيسير([126])، وأيضا إعمالا لقاعدة تشوف الشرع إلى لحوق النسب، ولحوقه يتأتى أساسا بثبوت الزواج.
– الاستماع لشهود الإثبات ولشهود النفي، وتقديم الإثبات على النفي على تساوي الشهادات، إعمالا للقاعدة الذهبية المعروفة في مادة الإثبات ، الموجبة تقديم المثبت على النافي، لعلمه بما لم يعلمه الثاني أو كما يقول الفقهاء لإدراكه باطنا لم يعلمه النافي([127]).
– عدم الإشارة في منطوق الحكم إلى ازدياد الأبناء على فراش الزوجية إلا بعد التحقق من الواقعة المذكورة، من خلال الإدلاء بما يدل على حقيقة ولادتهم من شهادة الولادة،أو كل وثيقة إدارية عاملة ومعتبرة تفيد ذلك، مع التحقق من نسبتهم لأمهم الحقيقية([128]).
– وجوب التيسير في إجراءات الزواج العادي والمختلط، وعدم التشدد في ذلك والإفراط في الشكليات بما قد يحمل الناس على الإعراض عن توثيق زواجهم لدى العدول، والاستعاضة عن ذلك ببدائل أخرى أكثر ذيوعا ويسرا كالزواج بالفاتحة([129]) أو المخادنة، أو أنواع الزواج المبتدعة زواجا عرفيا أو مسيارا أو مصيافا، وغني عن البيان أنالإجراءاتإنما جعلت خدمة للمتقاضين وأرباب الشهادات لاقتضاء حقوقهم، فلا ينبغي أن يضاروا بها أو بما يفضي إلى طغيان البدائل على الأصول أيا كانت المعاذير([130]).
– وجوب التحقق من هوية الزوجين طالبي الثبوت منعا لكل تدليس قد يعمد إليه أحدهما أو كلاهما، تجنبا لحضور شخص مكان آخر،وإقراره بادعاءات خصمه تحايلا وإقرارا على الغير الذي لم يحضر، أو التحايل الذي يعمد إليه الزوجان حال تعذر حضورهما أو أحدهما أمام مجلس القضاء. خاصة وأن هناك حالات كثيرة يعمد فيها البعض إلى التحايل للاستفادة من آثار الزواج نسبا وإرثا أو للابتزاز.
فقد تضطر إحدى الزوجات حال تعددهن للحضور مكان أخرى التي تعذر عليها ذلك مرضا أو خوفا وتوجسا من مقام المحاكم، وقد يتحايل الزوج بإحضار امرأة مكان زوجته وتقر بقيام علاقة زوجية، مدعية بأنها فلانة، وقد تحضر المدعية شخصيا زاعمة بأن فلان الحاضر هو زوجها، فيقر بالعلاقة الزوجية تواطؤً، وادعاءً بأنه فلان والحال أنه شخص آخر، وهو ما يستلزم التحقق من هويات الأزواج عبر الاستظهار ببطاقة التعريف الوطنية كوثيقة فريدة معتمدة للإثبات.
– مراعاة إمكان قيام العلاقة الزوجية قبل دخول القانون الأسري حيز التطبيق لأول مرة سنة 1957، وفرضه سلوك مسطرة التعدد، وتحديده سناً معيناً لا يتأتى الزواج قبله إلا بإذن من القاضي، فلزوم تطبيق قاعدة فورية القانون الموضوعي وعدم رجعيته وسريانه على جميع الوقائع الحادثة بعد صدوره لا ينبغي أن يناهض الحق في توثيق الزواج الواقع قبل ذلك، وهو ما يقتضي التيسير وإفساح المجال لإثبات العلاقة الزوجية الواقعة قبل دخول القانون المذكور، بكافة وسائل الإثبات رغم عدم مراعاة أصحابها لقيود التعدد أو زواج القاصر لعدم سنّها وقتئذ، والغاية حماية حقوق الزوجات والأبناء من الجحود والنكران، ولعدم إمكان تصحيح وضعهم القانوني بغير مسطرة ثبوت الزوجية([131])، خاصة حال حدوث حمل أو غداة إنجاب أبناء.
– مراعاة ما إذا كان أحد طالبي الثبوت قاصرا، وإذا كان كذلك فإن هناك اتجاها قضائيا يقضي وفق الطلب، دون استلزام الحصول على إذن قاضي الزواج، لأن الحكم يعتبر تقريريا وغير منشئ لوضع جديد([132])، بمعنى أن الزواج قد وقع قولا وفعلا، فكيف يشترط إذن قاضي الزواج اللاحق([133])؟! بل إن بعض المحاكم تعتبر أن قبول دعوى الزوجية يعد في حد ذاته إذنا للقاصر، وهكذا أيدت محكمة الاستئناف بوجدة الحكم الابتدائي القاضي بثبوت الزوجية رغم أن الزوجة تعد قاصرة، معللة قرارها بأن قبول دعوى ثبوت الزوجية يعد في حد ذاته إذنا للقاصر بالزواج، إضافة إلى كون العلاقة الزوجية قد أثمرت عن إنجاب بنت.([134])
بينما يجنح اتجاه قضائي آخر إلى استلزام إذن قاضي الزواج وإلا كانت مسطرة ثبوت الزوجية معيبة، لعدم احترام الشكليات اللازمة، ولعدم إفراغ مسطرة زواج القاصر من محتواها ومن الغاية من استصدار الإذن بالزواج الخاص به([135])، فيعاقب المتحايل بنقيض القصد ولا يستفيد بذلك من تحايله([136]). وقد جاء في حكم صادر عن ابتدائية أزيلال تكريسا لهذا الاتجاه: “وحيث إن المانع حال دون إبرام عقد الزواج في حينه هو كون الزوجة قاصرة، وحيث إن السبب المذكور لا يعتبر من قبيل السبب الاستثنائي المانع من إبرام عقد الزواج في إبانه، وحيث كان بإمكان الطرفين سلوك مسطرة تزويج القاصرة، وحيث إنه والحالة هذه يبقى الطلب غير مبرر ويتعين عدم الاستجابة له.”([137])
ويستلزم اتجاه قضائي ثالث الحصول على الأقل على إذن ولي القاصر، بل ويوجب حضوره بمعية القاصر طالب الثبوت قبل الحصول على الحكم بثبوت الزوجية قياسا على الأحوال العادية، ولأن هذا الأمر لا يضير القاصر أو وليّه شيئا، ولعله بالنسبة للزوجة القاصر أدْعى و أوْكَد([138]).
وأرى أن الأسلم من الناحية القانونية، والأجدى من الناحية العملية، التمييز بين ما إذا كانت العلاقة الزوجية قد أسفرت عن وقوع حمل أو عن إنجاب أبناء أو لا؟ وتقدير كل حالة بقدرها، ومن ثمة عدم التشدد في الإجراءات حال وجود حمل أو أبناء حماية لحقوقهم، أما إذا لم تسفر عن ذلك، فلا ضير من استلزام الأذون والشكليات والرخص المتطلبة في الأحوال العادية، وذلك محافظة على استقرار الأوضاع القانونية وعلى الغايات التشريعية من استلزام الأذون والرخص، ومنعا للتحايل الذي قد يعمد إليه البعض ومن الوقوع في محظور التشجيع الضمني على إتيان نظير هذه الأفعال، وغني عن البيان أنه لا يسوغ لأحد أن ينتفع بتجاهله أو بتحايله.
وإذا كان المشرع قد عمد إلى تمديد أجل قبول طلبات ثبوت الزواج لخمس سنوات أخرى إضافية، فإن هذا الأمر لم يكن سديدا، إذإنه لم ولن ينفع في تصفية جميع حالات ثبوت الزوجية غير الموثقة أمامالعدول([139])،لأنها حالات مستجدة ومرتبطة بعادات مستحكمة في المجتمع والعقل الجمعي المغربي، أفضت إلى انتشار الزواج بالفاتحة، فضلا عن ذيوع ثقافة التراخي في توثيق العقود والتصرفات وتتبع الرخص والاستثناءات، فلا ينفع والحالة ما ذكر ضرب أجل محدد لا تمديد فيه، والإيهام بلزوم التقيد به والاضطرار في كل مرة وحين إلى تمديده لإكراهات واقعية([140])، فيقع من ثمة التشكك في مضامين النصوص القانونية، ومدى لزوم الإذعان لها، وينتزع التوقير والاحترام الواجب للقاعدة القانونية، وتنتفي الغاية من التحديد الزمني لسريان بعض المساطر، لعلم الناس بحتمية التمديد ووقوعه لا محالة، لوجود سوابق وموجبات وعلل التمديد، اللهم إذا كان المقصود بضرب الأجل أمران، أولهما تحفيز مطلق الناس على اختيار السبيل الأسلمالأصلي وهو الإشهاد العدلي، وثانيهما حمل المتزوجين بالفاتحة على تصحيح أوضاعهم قبل انصرام الأجل المحدد([141]). علما بأنه لا التفات لرأي بعض الفقه الذي قال بأنه بانتهاء الأمد الثاني لقبول طلبات ثبوت الزواج أمام المحاكم، سيعود الاختصاص للعدول لإثبات العلاقة الزوجية([142]). ذلك أن هذا الأمر يناقض غايتين رئيستين جاءت المدونة لتكريسهما من خلال سن مقتضيات المادة 16 منها، أولهما جعل الاختصاص منعقدا لهيئة قضائية بدل العدول ومن ثمة صدور حكم قضائي يثبت أي علاقة زوجية قائمة فعلا، وثانيهما القطع النهائي مع هذا النوع من الزواج وجعل عقد الزواج العدلي السبيل الفريد لإثباته، وذلك من خلال ضرب أجل سقوط محدد لا يقبل بعد انصرامه إثبات الزواج بغير تلك الحجة، ولا ريب أن في انعقاد الاختصاص للعدول بعد انقضاء الأمد المذكور مناقضة لكل تلك الغايات التشريعية.
إن الإشهاد على الزواج عند السادة المالكية وغيرهم من المذاهب المعتبرة ليس بركن فيه، يترتب على انتفائه البطلان([143])، ولا يشترط فيه، وإنما وجوده مندوب والغاية منه إثبات تحققه([144])، فالزواج قد يكون ابتداء برسم، وقد يصحح انتهاء بحكم، والعبرة فيهما بالخواتيم وبوجود ما يدل على قيام علاقة زوجية حقيقية.
ولا ريب أن موضوع ثبوت الزوجية هو زواج استجمع كافة أركانه،إلاأن توثيقه قد تأخر لمانع مادي قاهر، فيصحح ذلك الوضع عبر صدور حكم تقريري يسري بأثر رجعي حماية لحقوق الزوجين والأبناء،إذ لا ذنب لمؤاخذة الأبناء بتقصير آبائهم علما بأن تيسير قضايا الثبوت موضوعا وإجراءات إنما يكون حال عدم المنازعة،وإلا وجب التحري للوصولإلىالحقيقة الواقعية، بأحد أمرين،إما برفض الطلب منعا من الافتراء واختلاط الأنساب الناتجة عن ماء السفاح، ومحافظة على النسب الصحيح الصريح، وإما بثبوت الزوجية حفاظا على حقوق الزوجة والأبناء من الجحود والنكران ولم شتات الأسر ولحوق الأنساب بعد التحقق من صحة ونقاء الأصلاب، فتقدر كل حالة بقدرها. وتبقى الغاية السامية التي يحرص القضاء حرصا موصولا على الوصول إليها من كل ذلك وفي كلتا العاقبتين، هي المحافظة على لحمة الأسرة واستقرارها وثباتها والحفاظ من ثمة على استقرار المجتمع ككل وفق ارتباط مكين، فيحيا المجتمع بإحياء الولد بثبوت حقه في النسب، وتحيا الأم بثبوت زواجها وإبعاد الفضيحة والفحشاء عنها ويحيا المجتمع أيضا بنقض الزواج الباطل أو النسب غير الصحيح([145]).
هذا ولضمان تحقيق الأمن التوثيقي، فإنه أصبح من الضروري إلزام الراغبين في الزواج التزام الشكل الرسمي لإبرام عقد الزواج على غرار ما يجري به العمل في العديد من الدول تفاديا للتنازع والتناكر، وحتى لا تبقى الكتابة مجرد شكلية زائدة ممكنة التدارك في كل لحظة وحين، وأن ينص المشرع على معاقبة كل من أثبت زواجه أو يريد إثباته بوسيلة أخرى غير رسم الزواج، أسوة بما توجبه بعض القوانين العربية والتي لا تقبل إثبات الزواج إلا بحجة رسمية، كما هو الأمر بالنسبة للقانون الأسري التونسي والليبي والموريتاني والجزائري([146])، بل ويستلزم بعضها معاقبة كل رجل عقد زواجه خارج عتبات المحكمة بعقوبات مغلظة([147]).
وللتغلب على مختلف الصعوبات التي تكتنف سبل إثبات الزواج وتعدد البدائل المتاحة وذيوع التحايل يكون لزاما نهوض المساجد وجمعيات المجتمع المدني والأحزاب بدورها في الإرشاد والتوجيه، وكذا تدخل السلطات المعنية خلال الفترة الانتقالية الثانية لتوعية المواطنين بكل وسائل التواصل المتاحة، الورقية والسمعية والبصرية، والتحسيس بأهمية توثيق الزواج عبر الرسم العدلي وفوائده المتعددة وبأنه السبيل الأصلي والفريد لذلك، كما هو الشأن بالنسبة للحملات التحسيسية المتعلقة بالاستحقاقات الانتخابية التشريعية والجماعية، وألا يكون هذا الأمر فقط في نطاق الحملات الشكلية المناسباتية التي لا تحقق نتائج فعلية.ولأجله نادى بعض الفقه بإسناد مهمة الإشهاد على عقود الزواج إلى ضباط الحالة المدنية، حتى يتأتى ضبط الحالة الشخصية للأفراد، وتتحقق غاية تقريب الإدارة من المواطنين، ويقع توفير الجهد والمصاريف باعتبار القرب المكاني لمكاتب الحالة المدنية مقارنة مع مكاتب العدول([148]) رغم أن هذا الأمر من شأنه جعل الزواج عقدا مدنيا، كما يقع في الدول الغربية، فينزع عنه من ثمة اللبوس الشرعي، فلا يغدو ميثاقا غليظا بل عقدا عاديا يوثقه الطرفان في غفلة لوحدهما دون حضور العائلتين مراسيم التلقي داخل أسوار بيت الزوجية من حفل بهيج كما يقع عادة.
– عبد الرزاق السنهوري، “الوسيط في شرح القانون المدني الجديد”، الجزء الثاني. الإثبات، أثار الالتزام، م. س، ص: 105 وما بعدها.
– Voir aussi: CH.Lorroumet, “droit Civil : les obligations: le contrat”, Tome III.Economi. Paris.1990 N°137. P : 218 et suivant.
يراجع: الأمرانيزنطار محمد، ” أحكام رضائية العقود، بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي”، دراسة مقارنة، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة الحسن الثاني، الدار البيضاء، السنة الجامعية 1989-1990- ص:353.
وهي من القيود الاجتهادية الهامة التي تُطَوِّق عمل القاضي و تغل يده باعتباره المعني أساساً بتفسير النص القانوني أو الفقهي و تنزيله على الواقع في مطلق الدعاوى، زجرية كانت أو مدنية أو أسرية.
وهذا الأمر كان محكما أيضا في ظل مدونة الأحوال الشخصية الملغاة، حيث كان على محاكم الموضوع أن تبين الدواعي التي حملتها على إعمال حالة الاستثناء، وذلك حتى يتمكن المجلس الأعلى من مراقبة وجود دواعي الاستثناء وأسبابه. قرار عدد 29 وتاريخ 21/2/1971 مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 24 ص: 28.
فمبنى الشهادة الاسترعائية شهادة الشاهد بما في علمه، وهذا العلم إما أن يكون مبنيا على مستند أو سبب عام أو خاصوالمراد بالمستند العام في فقه الشهادات المخالطة والمجاورة وشدة الاطلاع، وأما المستند الخاص فيقصد به الحضور والمعاينة ومعرفة الأركان. للتفصيل أكثر يراجع عبد الواحد العلوي:”مقدمة في الوثائق وفقهها في التشريع الإسلامي”، مجلة القضاء الإسلامي، عدد 118 ص: 399 وعقبها.
وفيما يخص المساعدة القضائية التي نصت الدورية المذكورة على إمكان استفادة المتقاضي منها فقد نظمت بمقتضى المرسوم عدد 65-514 بتاريخ 17 رجب 1386 بمثابة قانون يتعلق بالمساعدة القضائية، نشر بالجريدة الرسمية سنة 1966، حيث جاء في فصله الأول : ” يمكن منح المساعدة القضائية لدى جميع محاكم المملكة، وكيفما كان الحال إلى الأشخاص والمؤسسات العمومية أو ذات المصلحة العمومية والجمعيات الخصوصية القائمة بعمل إسعافي والمتمتعة بالشخصية المدنية والجنسية المغربية التي نظرا لعدم كفاية مواردها تكون غير قادرة على ممارسة حقوقها أو الدفاع عنها أمام القضاء، وذلك علاوة على الحالة التي يستفيد فيها الأجانب من هذه المساعدة عملا بالمعاهدات.
تطبق هذه المساعدات على كل نزاع وعلى كل المطالبات بالحق المدني أمام محاكم التحقيق وإصدار الأحكام، كما تطبق خارج كل نزاع على أعمال القضاء الإداري والأعمال التحفظية. ولا يعمل بالمقرر الممنوحة بموجبه المساعدة القضائية إلا فيما يتعلق بالعقود والعمليات المنجزة بعد صدوره، اللهم إلا إذا كان قد تم منح مقرر مؤقت فيما سبق “.
وأعملت شهـادة السمــــــاع *** في الحمل والنكـاح والرضـاع.
للاستفاضة أكثر في الموضوع: يراجع الزرقاني على خليل، م س، المجلد 4، ص: 188.
ولعل إفراط الفقهاء في وضع ضوابط محددة لكل من المدعي والمدعى عليه، إنما كانت منعا للصورية والتحايل الذي قد يعمد إليه الخصوم، ولذلك وضعت محاذير إجرائية متعددة، فقد يتفق طرفان على التداعي بصفة صورية، فيقر الخصم المدعى عليه بمزاعم المدعي، فيقضى له طبق دعواه، ليأخذا معا مال شخص ثالث تحايلا، رغم أنه لم يمثل في الدعوى ولم يدافع عن مصالحه، بل حل شخص آخر مكانه تحايلا وتدليسا، فيجابه بإجراءات التنفيذ، ويغدو من الصعب عليه إثبات تعرضه للتحايل وإثبات عكس ما ورد في الحكم الحائز لقوة الشيء المقضي به ومحضر الجلسات والمستندات الرسمية التي تثبت حضور صاحب الحق وإقراره بمزاعم خصمه، وهو أمر يلزم المحكمة التحقق من أطراف الدعوى وإدلائهم بحجج مثبتة لمزاعمهم وعدم الاقتصار على الإقرار، تجنبا لأخذ مال شخص ثالث.
وهو ما تزكيه فتوى للعلامة المهدي الوزاني والتي جاء فيها:”لا تثبت الزوجية بالاقرار في الحضريين وإنما تثبت بالإقرار في الطارئين”. النوازل الصغرى الموسومة بالمنح السامية في النوازل الفقهية، نشر وزارة الأوقاف، مطبعة فضالة المغرب 1992 ج 2 ص: 9 وعقبها.
[51]) الخبير رجل علم أو فن أو تقنيات يمد يد المساعدة إلى القضاء في الوقت الذي لا يستطيع فيه القاضي، ولوحده، فهم جوانب علمية أو فنية أو تقنية مطروحة عليه في شكل نزاع ويتوقف عليها الفصل في الدعوى. وما قيل عن الخبير يصدق بالنسبة للترجمان عندما يتعلق الأمر مثلا إما بوثيقة مكتوبة بلغة أجنبية أو بشخص ماثل أمام المحكمة يتكلم بلغة يستعصي على المحكمة فهمها. والخبراء عموما، مثلهم في ذلك مثل التراجمة، فقد صنفهم المشرع ضمن مساعدي القضاء، وفي هذا الصدد، نصت المادة الأولى من القانون 00-45 المعتبر قانون الخبراء القضائيين:”يعتبر الخبراء القضائيين من مساعدي القضاء ويمارسون مهامهم وفق الشروط المنصوص عليها في هذا القانون وفي النصوص الصادرة تطبيقا له”. ونصت المادة الأولى من القانون 00-50 بشان التراجمة المقبولين لدى المحاكم على ذات الأمر معتبرة التراجمة هم كذلك من مساعدي القضاء. للوقوف على دور الخبراء تفصيلا يراجع:
- محمد الكشبور، “إصلاح القضاء من خلال إصلاح محيطه”. ندوة حول بناء دولة الحق بضمان سيادة القانون في الذكرى الأولى للخطاب الملكي ليوم فاتح مارس 2002، وزارة العدل، المعهد العالي للقضاء، سلسلة الندوات واللقاءات والأيام الدراسية 2، 2003، ص: 142 و144 و145.
– عبد القادر مساعد، ” القضاء الإداري المغربي ضمانة للحقوق الحريات”. أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق، أكدال الرباط الموسوم الجامعي: 2000-2001، ص: 510.
وحتى تتأتى الاستفادة من المساعدة القضائية، يتحتم على المعني توجيه طلب إلى وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية التي تنظر في النزاع الذي يعد طالب المساعدة أحد طرفيه.
– أما إذا كان النزاع معروضا على الاستئناف أو النقض، فإن الطلب يقدم في الحالة الأولى أمام الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف وفي الثانية أمام الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض.
– وإذا رفض طلب المساعدة القضائية من طرف مكتب المساعدة بالمحكمة الابتدائية، أمكن استئنافه من طرف النيابة العامة أو الطالب، داخل أجل 15 يوما ابتداء من تاريخ صدور قرار الرفض بالنسبة للنيابة العامة ومن تاريخ التبليغ بالنسبة للطالب.
وينظر في هذا الاستئناف مكتب المساعدة القضائية بمحكمة الاستئناف الذي يصدر قراره في الموضوع يكون قابلا للنقض داخل نفس الأجل المذكور.
ويترتب على ذلك إعفاء العدول من واجب التعريف بالشهود حال معرفتهم اسما وعينا ونسبا.
وإذا كان أكثر الفقهاء قد فسروا البينة بالشهادة، فإن بعضهم جعلها أكثر عموما لتسع سائر وسائل الإثبات، وفي ذلك يقول ابن القيم:”فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة فقط في القرآن مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان، مفردة ومجموعة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:” البينة على المدعي”(أخرجه البخاري ومسلم في كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه؛ وابن ماجه في الأحكام، باب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.)، المراد به أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها، كدلالة الحال على صدق المدعي ذاتها أقوى من دلالة إخبار الشاهد، والبينة والدلالة والحجة والبرهان والآية والعلامة والأمارة متقاربة المعنى.” الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. م س، ص:18 وذهب العلامة السنهوري إلى أن للبينة معنيين، معنى عاماً وهو الدليل أيا كان، كتابة أو شهادة أو قرائن، فإذا قلنا إن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، فإنما نقصد هنا البينة، بمفهومها العام، ومعنى خاص وهو شهادة الشهود دون غيرها من الأدلة الأخرى. “الوسيط في شرح القانون المدني الجديد”، م س 2/311.
والونشريسي، “المعيار” 2/547، والتسولي، “البهجة في شرح التحفة”. مطبعة دار الكتب العلمية ـ لبنان، الطبعة الأولى 1418ه ـ 1998 م. 1/132 والخطيب الشربيني: “مغني المحتاج”، طبعة دار الفكر، بيروت. بدون تاريخ. 4/448.
فوسع المشرع دائرة العمل ببينة السماع لتسع إثبات النسب حال الخطبة والشبهة.
وقد اعترض على هذا الحدّ الحطاب لأنه لا يمكن أن يُعرف هل يفتقر القول إلى التعدد، أو إلى حلف الطالب، إلا بعد أن يعرف أنه شهادة، فكيف يقال إنه شهادة؟ كما اعترض ابن مرزوق بدوره على هذا التعريف، لأنه غير جامع، فهو لا يشمل شهادة الواحد رغم أنه يعمل بها في الخلطة ويترتب عليها حكم في الطلاق والعتق. ينظر: مواهب الجليل 6/151 وشرح الزرقاني على المختصر 7/157.
فالشهادة يجب أن تكون مفسرة لا مجملة، ولأجله أوجب المجلس الأعلى أن تتضمن الشهادة السماعية بالضرر ذكر سبب الضرر، حيث نص في قرار له على أن: “بينة المدعية السماعية بالضرر عدد 560 لا تنهض بها حجة لعدم النص على سبب الضرر وعجز وكيل المدعية عن بيانه بعد تكليفه”. قرار عدد 149 وتاريخ 24/1/1967، مجلة قضاء المجلس الأعلى عدد 4 ص: 25.
لكن التيسير لا يعني مثلا قبول شهادة شاهد واحد، وهكذا اعتبر المجلس الأعلى أن:”شهادة الشاهد الوحيد الذي شهد بحضوره لا تكفي في اثبات العلاقة الزوجية”. قرار مؤرخ في: 27/9/2006 ملف عدد 971/2/1/2006 “، المنتقى من عمل القضاء في تطبيق مدونة الأسرة”. م س، ص:8.
وقد جرى العمل بهذا النوع من الشهادة قبل الألف هجرية واصطلحوا عليه باسم اللفيف، فانقسم العلماء بشأنه إلى فسطاطين، منهم من منعه لكونه لا سند له، ومنهم من أجازه للضرورة الداعية التي تقدر بقدرها، وهؤلاء لم يشترطوا في شهوده العدالة وإنما اشترطوا فيهم ستر الحال، فقد قال غير واحد من أهل العلم، الواجب في قبول غير العدول عند الحاجة السلامة من جرحة الكذب وإلا لم تقبل اتفاقا، فكان لازما الاستكثار منهم، وذلك باستجماع اثنى عشر شاهدا وفي الترشيد والتسفيه ثمانية عشر. وهذا العدد مأخوذ من العدد الذي يحصل به التواتر.
وشكل اللفيف وصورته طبق ما جرى به العمل، هو أن المشهود له يأتي باثنى عشر رجلا كيفما اتفق له، مجتمعين أو مفترقين إلى عدلين منتصبين للإشهاد، يؤدون شهادتهم التي جيء بهم بخصوصها عندهما يكتبانها في وثيقة استرعائية، كيف أدوها وعلى الطريقة التي سمعها منهم بألفاظ لا إجمال فيها ولا إبهام، مع لزوم بيان المستند والتاريخ، وعقب التاريخ توضع أسماء الشهود في عمودين، ثم يكتب أسفل ذلك رسم آخر فيه تسجيل القاضي، أي الشهادة بثبوت الرسم وصحته عنده ويترك موضع اسم القاضي أبيض، ثم يطالع القاضي بذلك فيكتب بخطه تحت أسماء الشهود صيغته المعروفة، شهدوا لدى من قدم لذلك بموجبه فثبت ويضع علامته موضع بياض، ثم يضع العدلان علامتيهما بعد الرسم الثاني شهادة على القاضي بصحته.
وفيما يخص صيغة الخطاب في الاسترعاء اللفيفي: “شهدوا لدى من قدم لذلك لموجبه فثبت”. فمعلوم أن أداء اللفيف شهادته إنما يكون عند القاضي، إلا أنه لكثرة أشغاله التي أهمها الخطاب على الرسوم والفصل بين الخصوم، جوزوا له أن ينيب عنه في أداء اللفيف من يختاره من العدول لنباهته وديانته، بيد أنه في العصور الأخيرة وقع التساهل في ذلك حتى أصبح أداء اللفيف شهادته عند كافة العدول، وبذلك اختل أمره وأفل بريقه وفسدت بعض وثائقه.
ومعنى قول القاضي شهدوا لدى من قدم لذلك لموجبه فثبت، أن الشهود أدوا شهادتهم لدى من قدمه القاضي لسماع البينات بإذن خاص أو عام لموجب تقديمه لذلك من كونه عدلا صالحا لذلك، ولضرورة إنابة القاضي إياه لشغله عنه بأمور أخرى أكثر أهمية من النظر في الخصومات وغيرها، فثبت أداء اللفيف عند من ذكر. للتفصيل أكثر يراجع الأحكام الصادرة عن مجلس الاستئناف الشرعي الأعلى، المجلد الأول، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية، سلسلة الشروح والدلائل، العدد 10 فبراير 2009 مطبعة اليت، سلا المغرب ، ص: 701 و702.
- [101]) ابن فرحون، “تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام”، نشر دار الكتب العلمية، بيروت، الجزء الأول.د ت. 1/322.
قال الإمام ابن العربي في تفسيره للآية: “فالجواب فيه أن الله سبحانه شرع ما أراده، وهو أعلم بالحكمة وأوفى بالمصلحة، وليس يلزم أن يعلم الخلق وجوه الحكمة وأنواع المصالح، وقد أشار علماؤنا أنه لو ذكرها إذا نسيت لكانت شهادة واحدة، فإذا كانت امرأتين وذكرت إحداهما الأخرى كانت شهادتها شهادة رجل واحد، كالرجل يستذكر في نفسه فيتذكر. وكانت الحكمة فيه أنه لو قال: أن تضل إحداهما فتذكر الأخرى، لكانت شهادة واحدة وكذلك لو قال: فتذكرها الأخرى لكان البيان من جهة واحدة لتذكر الذاكرة الناسية، فلما كرر ” إحداهما” أفاد تذكرة الذاكرة للغافلة وتذكرة الغافلة للذاكرة أيضا لو انقلبت الحال فيهما بأن تذكر الغافلة وتغفل الذاكرة، وذلك غاية في البيان”. أحكام القرآن، 338-337/1، تحقيق محمد عبد القادر عطا، طبعة دار الفكر، بيروت، لبنان، د ت ط.
وفي فتح الباري لابن حجر: “أجمع العلماء على القول بظاهر هذه الآية، فأجازوا شهادة النساء مع الرجال، وخص الجمهور ذلك بالديون والأموال وقالوا لا تجوز شهادتهن في الحدود والقصاص، واختلفوا في النكاح والطلاق والنسب والولاء، فمنعها الجمهور وأجازها الكوفيون.
واتفقوا على قبول شهادتهن مفردات فيما لا يطلع عليه الرجال كالحيض والولادة والاستهلال وعيوب النساء”. فتح الباري في شرح صحيح البخاري، 377/5، تحقيق الشيخين عبد العزيز بن باز ومحمد فؤاد عبد الباقي، ط1، سنة 1421هـ/2001م، دار مصر للطباعة.
ويضيف الإمام ابن حجر: “وفي الآية أن الشاهد إذا نسي الشهادة فذكره بها رفيقه حتى تذكرها أنه يجوز أن يشهد بها. ومن اللطائف ما حكاه الشافعي عن أمه أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد أن يفرق بينهما امتحانا، فقالت له أم الشافعي: ليس لك ذلك، لأن الله تعال يقول: “أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.”” فتح الباري، م س، 378-377/5.
ثم إن المادة التاسعة من مشروع القانون المذكور والتي عددت شروط شهود اللفيف لم تشر إلى شرط الذكورة، وإنما اقتصرت على كونهم مسلمين رشداء دون الإشارة إلى الصفة الجنوسية، فضلا على شروط أخرى منها ألا يقل عددهم عن خمسة، وأن يكونوا على علم تام بما يشهدون به، وألا يكونوا من ذوي السوابق العدلية، وأن يكونوا بالغين سن التمييز وقت تحمل الشهادة، وألا تكون بينهم وبين المشهود له أو زوجه قرابة أو مصاهرة من الأصول أو الفروع أو الحواشي إلى الدرجة الثالثة بإدخال الغاية، أو بينهم وبين المشهود عليه أو زوجه عداوة.
[112]) المختصر، م س، ص:109.
- وفي المدونة الكبرى:” قلت: أرأيت إن ادعى رجل على امرأة النكاح، وأنكرت، أيكون له عليها اليمين، وإن أبت جعله زوجا، قال لا أرى إباءها اليمين ما يوجب له النكاح عليه، ولا يكون النكاح إلا ببينة.” مالك بن أنس، المدونة الكبرى برواية سحنون، طبعة المكتبة الخيرية بالقاهرة، 1324هـ، ج 5، ص:179.
إن حياد القاضي الإيجابي يفرض عليه أن يقف على مسافة واحدة من جميع أطراف الدعوى، غير أن ذلك لا يمنعه من إنذار الأطراف بإصلاح المقال إذا اعترته إخلالات شكلية أو بإصلاح المسطرة إذا شابها عوار معين، وذلك، بوجوب تنصيب محام مثلا أو إدخال قاضي شؤون القاصرين أو الوكيل القضائي للمملكة أو أي طرف آخر ملزم إدخاله في الدعوى قانونا. وهذا الأمر تلزمه إياه مقتضيات الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية.
[115]) منطوق الحكم في دعوى ثبوت الزوجية لا يخرج في مطلق الأحوال عن الحالات التالية:
- بثبوت الدعوى حال توافر موجبات الثبوت.
- برفض الطلب في الحالات التالية:
- حال عدم الحصول على ما يتطلبه القانون من إذن أو رخصة أو شرط.
- حال وجود رسم زواج لم تشبه شائبة تقدح فيه، أو وجود حكم سابق مبرم قضى بثبوت الزوجية أو برفض الطلب.
- عدم قبول الطلب حال عدم إثبات الزواج المزعوم وقوعه، أو عدم الإدلاء بالوثائق المعززة للطلب، أو عدم الاستجابة لإنذار المحكمة بإصلاح المقال أو المسطرة، أو تكليفها بإجراء معين، أو تخلف الطالب عن الحضور بعد استدعائه.
- عدم قبول الدعوى حال عدم أداء الرسم القضائي أو عدم إثبات الصفة أو المصلحة أو الأهلية. (ف 1 من ق م م)
- إلغاء الدعوى على الحالة بعد صدور قرار بالتشطيب على القضية من جدول الجلسات، و عدم طلب ذي المصلحة إدراجها بعد شهرين من صدور قرار التشطيب عملا بمقتضيات الفصل 47 من قانون المسطرة المدنية.
- الإشهاد على تنازل المدعي عن دعواه، ما لم تقع المنازعة فيه من لدن المطلوب في الادعاء وفق ما ينص عليه الفصل 119 من قانون المسطرة المدنية.
و هما أمران في غاية الأهمية و على القاضي استحضارهما حال بته في القضية خاصة عند الاستجابة للطلب.
وغايته تفادي مثالب القضاء الشعبي متمثلا في قضاء الجماعات والمقاطعات المنشئ منذ سنة 1974 والذي لم يحقق غايات إنشائه وبات محل تشك وارتياب سيما قضاء الجماعات لعدم خضوع قضاته لتكوين خاص وعدم إلمامهم بالإجراءات المسطرية، وكون أغلب أحكامهم تكون محل طعن بالإلغاء أمام رئيس المحكمة، ومن ثمة إنشاء قضاء محترف فعال، قريب وناجع.
والمراد بحفظ العقل، حفظه من كل ما يغشي صفاءه بتحريم كل مسكر ومعاقبة من يتناوله.
والمراد بحفظ النسل، ما شرع لإيجاد الجنس البشري من خلال الزواج والتوالد، وما شرع لحمايته عبر حد الزنا والقذف.
والمقصود بحفظ المال ما شرع لإيجاده من خلال السعي إلى طلب الرزق الحلال، معاملات ومبادلات، وللحفاظ عليه من خلال تحريم خيانة الأمانة والغش وأكل أموال الناس بالباطل والمعاقبة على ذلك، والحث على عدم التبذير وإضاعة المال ووجوب صرفه في مصارفه الشرعية.
لمزيد تفريع ينظر، علال الفاسي، “مقاصد الشريعة ومكارمها”، مكتبة الوحدة، الدار البيضاء، د.ت.
ويدخل في مسمى الصائر، صوائر التسجيل والمعاينة والخبرة، وكل ما تكبده الطرف الذي ربح الدعوى من مصاريف أثناء اقتضائه لحقه أمام القضاء، كما يسوغ للمحكمة تشطير مصاريف الادعاء بين أطراف الدعوى مناصفة أو بنسبة محددة متى استفاد الجميع من فحوى الحكم بدرجة واحدة أو على درجات مختلفة، وهو ما يصطلح عليه قضاء بالصائر بالنسبة؛ أي بحسب نسبة استفادة كل واحد من الحكم، ومن ذلك مثلا دعاوى القسمة.
وهي قاعدة هامة سيما في باب الشهادات والتي من مفرداتها الرئيسة كون الشهادة المثبتة مقدمة على تلك النافية، إلا أن يثبت كذب الأولى وعدم صدقها، ولذلك يتحرى القضاء في قبول مطلق الشهادات، سواء من حيث طبيعة العلاقة بين الشاهد والمشهود له والمشهود عليه أو من حيث ملابسات تحمل الشهادة.
[129]) هكذا لم يخف وهج إثبات الزواج بالفاتحة بمرور السنوات رغم سعي الدولة إلى ترسيخ فكرة توثيق الزواج بالكتابة حصرا وإشاعة ثقافة التوثيق الكتابي، وهو ما يظهر من خلال استقراء الجدول الإحصائي التالي:
تطور عدد أحكام ثبوت الزوجية خلال الفترة (2004-2011) | ||||||||
السنوات | 2004 | 2005 | 2006 | 2007 | 2008 | 2009 | 2010 | 2011 |
المسجل | 8114 | 19170 | 23470 | 19818 | 27671 | 22793 | 30439 | 53652 |
المحكوم | 6918 | 14817 | 16832 | 18751 | 23390 | 13962 | 14473 | 45122 |
نسبة تغيير المحكوم | – | % 114 | % 14 | % 11 | % 25 | % -40 | % 4 | % 218.77 |
إحصائيات حول تطور عدد أحكام ثبوت الزوجية خلال الفترة (2004-2011) صادرة عن وزارة العدل والحريات.
[135]) الغاية من لزوم استصدار الإذن بزواج القاصر :
- التأكد من توفر المأذون له على النضج العقلي الكافي لتحمل تبعات إنشاء أسرة.
- التحقق من القدرة البدنية لتحمل تبعات الزواج.
- التحقق من التوفر على التمييز الضروري للرضى بعقد الزواج.
فحضور الولي بمعيته قد يعين على حماية حقوقه الشخصية والمالية أيضا، متمثلة في تحديد مبلغ الصداق الحقيقي المتفق عليه من لدن الزوجين دون مغالاة أو تقتير، وكذا ما يتعلق بتدبير الأموال المشتركة أثناء الزواج.
وكثيرا ما تعمد النيابات العامة إلى الطعن في الأحكام والقرارات التي تقضي بثبوت الزوجية رغم أن الزوجة قاصر، باعتبار أن المحكمة لم تستدع ولي القاصر، مما يعتبر مخالفة صريحة لمقتضيات المادة 27 من مدونة الأسرة، وتحايلا واضحا على القانون الذي يستلزم سلوك مسطرة زواج القاصر وجوبا، وعدم جعل زواجه واقعا مكرسا يستلزم في سائر الأحوال الإشهاد على ثبوته.
[139]) هكذا لا يزال ثبوت الزوجية ذائعا ومعتمدا مقارنة بالزواج العادي، الذي هو السبيل الأصلي وذلك ما يوضحه الجدول الإحصائي التالي:
الزواج وثبوت الزوجية | |||
السنة | الزواج | ثبوت الزوجية | المجموع |
2009 | 314400 | 13962 | 328362 |
2010 | 313356 | 11856 | 325212 |
2011 | 325415 | 38952 | 364367 |
نسب التغير بين سنتي 2009 و2010 | -0.33% | -15.08% | -0.96% |
نسب التغير بين سنتي 2010 و2011 | 3.85% | 228.54% | 12.04% |
إحصائيات حول نشاط أقسام قضاء الأسرة خلال سنة 2011 صادرة عن وزارة العدل والحريات.و هذه الأرقام الإحصائية بقيت تقريبا بدون تغير خلال سنة 2012 كما يوضحه الجدول الإحصائي الثاني:
الزواج | ثبوت الزوجية | المجموع |
325415 | 38952 | 364367 |
إحصائيات حول تطور عدد الزواج و أحكام ثبوت الزوجية خلال سنة 2012 صادرة عن وزارة العدل والحريات تحت عنوان: “العدالة في أرقام”، ص: 29.
وهو ما حمل وزارة العدل على مكاتبة القضاة المشرفين على أقسام قضاء الأسرة بمختلف محاكم المملكة بتاريخ 24 أكتوبر 2007 للوقوف على رأيهم بخصوص الأجل المحدد لقبول طلبات ثبوت الزوجية وتقديم مقترحات عملية بخصوصه.
ينظر في هذا الموضوع الدكتور مأمون الكزبري، ” نظرية الالتزامات في ضوء قانون الالتزامات والعقود المغربي”، الجزء الأول، مصادر الالتزامات، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، ص: 197 وما بعدها. وابن جزي، “القوانين الفقهية”. ص: 260. وابن رشد الحفيد، “بداية المجتهد و نهاية المقتصد”. ط دار المعرفة، بيروت، لبنان، ج2، ص: 59.