تصنيفات الأحكام القضائية في قانون المسطرة المدنية
مقدمة(*):
تحدد وظيفة القاضي أساسا في إصدار حكم يراعي التطبيق السليم والعادل للقانون، وهكذا فبعد تجهيز القضية يكون القاضي مدعوا للبت في النزاع من خلال إصداره لحكمه في النزاع المعروض عليه، وقد أوجب القانون أن يفرغ الحكم في شكل مكتوب تراعى فيه شكليات محددة، حيث نص قانون المسطرة المدنية على شكليات صدور الأحكام والبيانات التي يجب أن تذكر فيها و جزاء الإخلال بها [1].
وإذا كان المشرع المغربي قد بين وحدد مجموع الشكليات التي يلزم توفرها لصحة الحكم، فإنه لم يعرّف، لا في قانون المسطرة المدنية ولا في قانون المسطرة الجنائية الحكم القضائي بشكل صريح، وإن كان يستشف من مطالعة نصوص هذين القانونين أنها تفرق أحيانا بين الحكم والقرار والأمر، وفي أحيان أخرى تخلط بين هذه المصطلحات [2].
ولمواجهة هذا القصور فإنه يلزم الرجوع إلى كتابات الفقه المهتم بالموضوع[3]، وهكذا نجد أن البعض قد عرفه بأنه:
“كل إعلان لفكر القاضي في استعماله لسلطته القضائية، وذلك أيا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم، وأيا كان مضمونه “[4].
في حين عرّفه جانب آخر من الفقه بأنه: “القرار الصادر من محكمة مشكلة تشكيلا صحيحا في خصومة رفعت إليها وفق قواعد المرافعات، سواء أكان صادرا في موضوع الخصومة أو في شق منها أو في مسألة متفرعة عنه”[5].
وعموما فإن الأحكام القضائية تقسم إلى عدة تصنيفات اعتبارا لزاوية التصنيف، فهي تقسم من حيث حضور أطراف النزاع أو غيابهم عن المحاكمة إلى أحكام حضورية وأحكام غيابية، وتصنف من حيث حسمها في النزاع إلى أحكام تمهيدية وأحكام ابتدائية وأحكام انتهائية، وإلى أحكام حائزة لقوة الشيء المقضي به وأحكام نهائية، وإلى أحكام قطعية وأحكام غير قطعية، كما تصنف من جهة قابليتها للتنفيذ الجبري إلى أحكام مقررة وأحكام منشأة وأحكام إلزام، وسنبين تباعا مفهوم كل نوع من هذه الأحكام:
1 : الأحكام الحضورية والأحكام الغيابية
يقوم مفهوم الغياب في أغلب القوانين على معيار واحد أيا كانت المحكمة التي أصدرت الحكم، وهذا المعيار هو تخلف الخصوم أو وكلائهم عن حضور الجلسة رغم استدعائهم بصفة صحيحة، أما في القانون المغربي فإن وصف الحضورية والغياب أمام المحاكم الابتدائية يحدد انطلاقا من طبيعة المسطرة وهل هي شفوية أم كتابية[6].
ففي الحالة الأولى، أي في حالة المسطرة الشفوية[7]، فإنه يجب حضور الخصوم أو وكلائهم حضورا ماديا وشخصيا أثناء الجلسة، ومتى حضر هؤلاء عند المناداة عليهم في الجلسة، صدر الحكم حضوريا في مواجهتهم.
أما في الحالة الثانية، و هي حالة المسطرة الكتابية، فالحضور لا يستوجب الحضور الشخصي للأطراف إلى الجلسة، وإنما يكفي أن يدلي المدعى عليه أو نائبه بالجواب الكتابي عن مقال الدعوى، و لا يهم بعد ذلك أحضر المدعى عليه شخصيا أو نائبه في الجلسة أم لم يحضر أي منهما [8].
وقد عالج المشرع المغربي حالة تخلف المدعي عن الحضور، وحالة تغيب المدعى عليهم وحالة حضور بعضهم وغياب البعض الآخر، وأغفل الإشارة إلى بعض الحالات كحالة تعدد المدعيين وحضور البعض وغياب الآخر، وحالة تغيب كل من المدعي والمدعى عليه.
وسوف نتعرض إلى كل حالة من هذه الحالات تباعا:
الحالة الأولى : تخلف المدعي أو هو والمدعى عليه عن حضور الجلسة المحددة للدعوى
لم يتعرض المشرع المغربي لحالة تخلف الطرفين معا عن حضور الجلسة، وإنما تعرض فقط لحالة تخلف المدعي وقرر إمكانية التشطيب على الدعوى[9]، ولا يتصور غياب المدعي إلا في القضايا التي تطبق فيها المسطرة الشفوية، أما في القضايا التي تطبق فيها المسطرة الكتابية، فإن تقديمه لمقال الدعوى يجعله حاضرا، وقد جرى العمل القضائي على استعمال عبارة إنه حاضر بمقاله.
وعليه فإنه يكون من باب أولى ضرورة التشطيب على الدعوى في حالة تغيب المدعي والمدعى عليه[10].
ويعني التشطيب على الدعوى استبعادها من جدول القضايا، ويتم هذا بشرط ألا تتوفر المحكمة على أي عنصر كاف للبت في الطلب، ويقصد بذلك استبعاد الدعوى من جدول الجلسات وإيقاف البت فيها مع احتفاظها بكافة آثارها، ويمكن للمحكمة أن تحكم بإلغاء الدعوى في هذه الحالة، إذا لم يطالب المدعي الفصل في دعواه داخل أجل شهرين من قرار التشطيب من الجدول، غير أن الملاحظ من الناحية العملية أن المحاكم لا تلجأ لهذه المكنة رغم التنصيص عليها قانونا.
الحالة الثانية: حالة غياب المدعى عليه
تنص الفقرة الرابعة من الفصل 47 من ق.م.م على أنه:” يحكم غيابيا إذا لم يحضر المدعى عليه أو وكيله رغم استدعائه طبقا للقانون ما لم يكن قد توصل بالاستدعاء بنفسه وكان الحكم قابلا للاستئناف، ففي هذه الحالة يعتبر الحكم بمثابة حضوري تجاه الأطراف المتخلفة”.
يتبين إذن، أن الحكم على المدعى عليه غيابيا مشروط باستدعائه هو أو وكيله بصورة قانونية، بحيث يلزم أن توجه له الاستدعاء إما بواسطة أحد أعوان كتابة الضبط أو بواسطة أحد المفوضين القضائيين، أو عن طريق البريد برسالة مضمونة مع الإشعار بالتوصل، أو بالطريقة الإدارية، ويلزم إلى جانب ذلك ألا يكون قد تسلم الاستدعاء بنفسه.
ففي حالة توصل المدعى عليه بالاستدعاء شخصيا وتخلفه عن الحضور إلى الجلسة فإن الحكم يصدر في حقه بمثابة حضوري.
وتكمن أهمية وفائدة الحكم الغيابي، في أنه يفتح باب التعرض أمام المحكوم عليه أمام نفس المحكمة المصدرة للحكم داخل أجل عشرة أيام من تاريخ التبليغ[11]، وبالمقابل فإن الحكم الحضوري يمنح لصاحبه حق الطعن فيه بالاستئناف كطريق عادي من طرق الطعن.
الحالة الثالثة: تعدد المدعيين وحضور بعضهم وتخلف البعض الآخر
لم يتعرض المشرع المغربي لهذا الاحتمال، وإنما تعرض لحالة غياب المدعي الفرد، وعليه فإنه إذا تخلف أحد المدعيين فإنه يمكن للقاضي إذا لم يتوفر على أي عنصر يسمح له بالبت في القضية، أن يقرر التشطيب على الدعوى في مواجهة المدعي المتخلف، وحصر النظر بطلب الذين حضروا من المدعيين إذا كان الطلب قابلا للتجزئة، أما إذا كان الطلب غير قابل للتجزئة كما لو كان يتعلق بحق ارتفاق أو بقسمة أموال، فإنه يتعين على من حضر من المدعين تلقائيا أو بتكليف من القاضي دعوة المتخلفين للحضور، ليصدر في حقهم جميعا حكما واحدا مشتركا يعتبر بمثابة حضوري بالنسبة لجميع الأطراف[12].
ويتبين أن القانونين المصري والسوري قد عالجا هذه الحالة بنص صريح، إذ جاء في نص قانون المرافعات المصري في المادة 94 ما يلي:
” إذا تعدد المدعون وتخلفوا كلهم أو بعضهم عن حضور الجلسة الأولى، أجلت القضية إلى جلسة أخرى مع تكليف المدعى عليه بإعلان المتخلفين واعتبر الحكم الذي يصدر في القضية بعد ذلك حضوريا في حقهم جميعا”[13].
الحالة الرابعة : تعدد المدعى عليهم وحضور بعضهم وتغيب البعض الآخر
نظم الفصل 48 من ق. م. م حكم هذه الحالة حيث نص على أنه:
” إذا تعدد المدعى عليهم ولم يحضر أحدهم بنفسه أو بواسطة وكيله، أخرت المحكمة القضية إلى جلسة مقبلة وأمرت من جديد باستدعاء الأطراف طبقا للقواعد المقررة في الفصول 37 و38 و39 للحضور في اليوم المحدد، مع تنبيههم في نفس الوقت إلى أنه ستبت حينئذ في القضية بحكم واحد يعتبر بمثابة حضوري تجاه الأطراف المتخلفة.
لا يعتبر الحكم بمثابة حضوري إلا بالنسبة إلى الأشخاص الذي توصلوا بالاستدعاء شخصيا أو في موطنهم”.
يتضح بأن المشرع لم يتطرق إلى تخلف أحد المدعى عليهم، ولم يرتب على تخلفه إصدار حكم غيابي في مواجهته، وإنما قام بمنح فرصة للمتخلفين للحضور تحت طائلة صدور حكم بمثابة حضوري في حقهم.
2 : الأحكام الابتدائية والأحكام الانتهائية
الأحكام الابتدائية هي الصادرة عن المحكمة الابتدائية، وتقبل الطعن بالاستئناف، إما أمام غرف الاستئناف بنفس المحكمة متى كانت قيمة الدعوى لا تتجاوز 20000 درهم، وإما أمام المحاكم الاستئنافية في جميع الطلبات التي تتجاوز 20000 درهم أو كان موضوع النزاع غير محدد القيمة.
والأحكام الانتهائية هي الأحكام التي لا تقبل الطعن بالاستئناف[14]، وكذا الأحكام الصادرة عن محكمة الاستئناف نفسها، ويعتبر الحكم انتهائيا مادام الطعن فيه بالاستئناف غير جائز، ولو كان غيابيا قابلا للطعن فيه عن طريق التعرض[15]، ويقبل هذا الحكم الطعن بالطرق غير العادية، كالنقض وإعادة النظر وتعرض الغير الخارج عن الخصومة.
3 : الأحكام الحائزة لقوة الشيء المقضي به و الأحكام النهائية
الأحكام الحائزة لقوة الشيء المقضي به هي التي لا تقبل طرق الطعن العادية من تعرض واستئناف، وإن كانت تقبل الطعن بالطرق غير العادية، كإعادة النظر، وتعرض الغير الخارج عن الخصومة، والنقض.
وتجدر الإشارة إلى أن حجية الشيء المحكوم به مختلفة من حيث معناها عن قوة الشيء المحكوم به، فالأولى قرينة قانونية لا تقبل إثبات العكس، مقتضاها أن الحكم صدر صحيحا من ناحية الشكل، وعلى حق من ناحية الموضوع، أما قوة الشيء المحكوم به فهي وصف للحكم الذي لا يقبل الطعن فيه بالتعرض والاستئناف ولو كان قابلا للطعن فيه بطريقة طعن غير عادية، بل ولو طعن فيه بالفعل بأحد طرق الطعن غير العادية[16].
وتتميز الأحكام الحائزة لقوة الأمر المقضي بأنها وحده قابلة للتنفيذ الجبري في الأحوال العادية، طبقا لما نصت عليه المادة 428 من ق م م[17].
أما الأحكام النهائية أو الباتة هي الأحكام التي لا تقبل الطعن بأي طريق من طرق الطعن العادية أو غير العادية وهي أقوى درجات الأحكام[18].
ويكون الحكم نهائيا في الحالات الآتية[19]:
- إذا صدر عن المحكمة الابتدائية وأهمل المحكوم عليه الطعن فيه سواء بالاستئناف إذا كان قابلا له، أو بالتعرض إذا كان غيابيا، أو بطرق الطعن غير العادية إذا اكتسب قوة الشيء المقضي به، ففي هذه الحالة يصبح الحكم نهائيا وفاصلا في الموضوع لأن سكوت المحكوم عليه عن الطعن يحمل على قبوله ورضاه به.
- إذا صدر حكم عن محكمة الاستئناف لم يطعن فيه المحكوم عليه سواء بالتعرض إذا كان غيابيا، أو بطرق الطعن غير العادية خاصة بالنقض، ففي هذه الحالة وبعد انصرام الآجال القانونية المحددة لمباشرة الطعون المسموح بها، دون تحريك ذي المصلحة لأي ساكن، ينتقل الحكم-أو القرار-المذكور إلى حكم نهائي وبات، لا يقبل أي طريق من طرق الطعن.
- إذا بلغ الحكم مرحلة التقاضي أمام محكمة النقض، ففي هذه الحالة يصبح الحكم نهائيا إذا صدر فيه قرار عن محكمة النقض، ما لم يكن قابلا لإعادة النظر، ويستوي أن يكون قرار محكمة النقض مؤيدا أو ناقضا للحكم المطعون فيه.
4 : الأحكام القطعية والأحكام غير القطعية
تنقسم الأحكام من حيث فصلها في النزاع المعروض على المحكمة أو عدم فصلها إلى أحكام قطعية وأحكام غير قطعية.
فالأحكام القطعية هي التي تحسم النزاع المعروض على المحكمة، ولو كانت غيابية قابلة للتعرض، أو ابتدائية قابلة للاستئناف.
وليس من الضروري حتى يعتبر الحكم قطعيا أن يفصل في النزاع بجملته، بل يكفي أن يضع حدا للنزاع في بعض أجزاء الدعوى، أو الطلبات المقدمة فيها، أو الدفوع أو المسائل الفرعية ولو كانت نقط النزاع الأخرى لم يفصل فيها، كالحكم الذي يصدر بعدم قبول الدعوى لانتفاء الصفة أو الأهلية أو المصلحة، أو الذي يصدر بقبولها لتحقق هذه الشروط عند رافعها، والحكم الذي يصدر بإيقاف الفصل في النزاع حتى يبت في نزاع آخر أو حتى توجه إجراءات الخصومة قبل من له صفة فيها، و الحكم الذي يصدر في الدفع بالبطلان سواء بقبوله أو برفضه، وكذلك الحكم الذي يصدر في الدفع بعدم الاختصاص سواء بقبوله أو برفضه[20].
وقد يختلط الحكم القطعي بالحكم النهائي نظرا لتقاربهما على الأقل من حيث المصطلحات، لكن الفرق قائم بينهما، فالحكم القطعي يحسم النزاع في مسألة معينة أو في موضوع الدعوى برمته، أما الحكم النهائي فهو الذي يفصل في النزاع بصورة نهائية إذ لا يقبل أي طريق من طرق الطعن[21].
أما الأحكام غير القطعية فهي التي لا تحسم نزاعا ما في تمام موضوع الدعوى ولا في جزئية من جزئياتها، ولكنها تتعلق فقط بسير الدعوى وإجراءاتها، أو المحافظة على حقوق الأطراف في انتظار الفصل في موضوع الدعوى[22].
وتبت الأحكام غير القطعية في إجراء من الإجراءات التحفظية كتعيين حارس قضائي، أو تأمر بإجراء من إجراءات التحقيق كتعيين خبير أو معاينة الأماكن أو الأبحاث أو اليمين، وتعرف هذه الأحكام كذلك بالأحكام التمهيدية.
وتختلف الأحكام القطعية عن الأحكام غير القطعية في عدة نواح وهي[23]:
- 1-فالأولى تتمتع بحجية كاملة إذ لا يجوز للمحكمة أن تعدل عنها، كما لا يسوغ عرض النزاع الذي حكمت فيه من جديد على محكمة أخرى، إلا إذا كانت هذه المحكمة هي المختصة بالنظر في الطعن الذي قدم ضد الحكم القطعي الصادر عن المحكمة الأولى.
- 2-أما الثانية فليست إلا أحكاما وقتية لا تحسم في النزاع ولا في نقطة فيه، وهذا يعني أنه بإمكان المحكمة العدول عنها وعدم تنفيذها، فضلا عن إمكانية عرضها من جديد على محكمة أخرى للنظر فيها.
5 : الأحكام الملزمة والأحكام التقريرية و الأحكام المنشئة
وتقسم الأحكام من زاوية قابليتها للتنفيذ الجبري إلى أحكام ملزمة وتقريرية ومنشئة، وهكذا يعرف الحكم الملزم بأنه الحكم الذي يرد فيه التقرير على حق يقابله التزام الطرف الآخر بأداء حق معين[24])، أما الحكم التقريري فيعرف بأنه الحكم الذي يؤكد وجود أو عدم وجود الحق أو المركز القانوني، وهو إما إيجابي مثل الحكم بوجود رابطة زوجية بين شخصين، وإما سلبي مثل الدعوى التي يقيمها المالك بهدف الحكم بعدم وجود حق ارتفاق على ملكه ضد شخص يدعي وجود هذا الحق[25])، أما الحكم المنشئ فهو الذي يقرر حقا فينشأ عن هذا التقرير تغير في مركز سابق وينشأ مركزا جديدا مثل الحكم الصادر بالتصفية القضائية أو إبطال العقد أو التطليق أو الفسخ، و عليه فأحكام الإلزام وحدها التي تقبل أن تكون محلا للتنفيذ الجبري دون باقي الأحكام التقريرية أو المنشئة).
والتساؤل المطروح هو ما هو معيار التمييز بين هذه الأنواع المختلفة من الأحكام ؟
لقد اختلفت الآراء الفقهية حول معيار التمييز بينها، بحيث ذهب رأي فقهي إلى اعتماد النتيجة التي انتهى إليها الحكم، ومن خلالها تحدد طبيعته اعتمادا على ما تضمنه من أمر أو تأكيد أو تطبيق لجزاء معين[26].
أما الرأي الثاني فيذهب إلى البحث عن عنصر الإلزام من خلال العلاقات القانونية التي يرد عليها الحكم.
أما محكمة النقض المصرية فقد تبنت الطرح الفقهي الأول، إذ جاء في أحد قراراتها: “إن الأحكام التي يقتصر التنفيذ الجبري عليها هي تلك التي تتضمن إلزام المدعى عليه بأمر معين يقبل التنفيذ الجبري، بحيث لا يقتصر على تقرير حق أو مركز قانوني أو واقعة قانونية، بل تتعدى إلى وجوب أن يقوم المدعى عليه بعمل أو أعمال لصالح المحكوم له”[27].
وقد أوضحت محكمة النقض المصرية في قرار آخر لها أن تحديد طبيعة الحكم يكون من خلال تفهم مراميه ومقاصده وليس بمجرد الاعتماد على ظاهره فقط، ومما جاء في قرارها: “إن المناط في معرفة ما للحكم الصادر من قوة الإلزام هي بتفهم مقتضاه وتقصي مراميه” [28].
وعموما فإنه مهما تعددت تصنيفات الأحكام القضائية، فإن المهم فيها هو احترام معايير الجودة التي تفرض في الحكم أن يسعى إلى التطبيق العادل للقانون
وأن يحافظ فيه على نسق منطقي يبرر النتيجة التي انتهى إليها الحكم، وأن يدعم بالنصوص القانونية والاتفاقيات الدولية والاجتهادات القضائية والآراء الفقهية ذات الصلة بالموضوع، أما حيث لغة الحكم فإنه من الأكيد أنه يتعين على القاضي أن يكتبه بلغة مبسطة وواضحة، على اعتبار أنه لم يعد ينظر للمقررات القضائية على أنها وثيقة تقنية يكفي أن يفهمها المهنيون المعنيون بها فحسب، بل من طرف المتقاضي حاضرا وأساسيا لدعم الثقة فيها بتبسيط لغتها وتوخي جعلها في متناول العموم.
الهوامش :
(*) تم نشر هذا الموضوع ضمن دليل تقنيات تحرير الأحكام المدنية الصادر عن مديرية تكوين الملحقين القضائيين و القضاة بالمعهد العالي للقضاء.
[1] أحمد حنين، مبادئ تحرير القرارات القضائية وقواعده، دفاتر المجلس الأعلى، الإصدار الرقمي، تحرير القرارات القضائية، مركز النشر والتوثيق القضائي ص 32.
[2] ـــــ يفرق الفقه من الناحية النظرية بين الأحكام والقرارات و الأوامر التي تصدر عن الهيئات القضائية، حيث يطلق عبارة حكم على تلك التي تصدر عن قضاة المحاكم الابتدائية والمحاكم التجارية والمحاكم الإدارية في الدعاوى المرفوعة أمام تلك المحاكم، ويطلق عبارة قرار على تلك التي تصدر عن قضاة محاكم الاستئناف ومحاكم الاستئناف التجارية ومحاكم الاستئناف الإدارية ومحكمة النقض، أما الأوامر فهي التي تصدر عن رؤساء المحاكم في إطار ولائي أو في إطار استعجالي.
[3] ــ الحكم في اللغة مصدر من (حكـم) الحاء والكاف والميم أصلٌ واحد، وحكم في اللغة تطلق على عدة معان أهمها:
أ ـــ القضاء: حكم بينهم أي قضى بينهم، وتحاكموا إلى الحاكم أي تخاصموا إليه ليقضي بينهم والحاكم من نصب للحكم بين الناس ويجمع على حكام.
ومن ذلك قوله تعالى ﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ﴾الآية 57 من سورة النساء.
ب -المْنع: أي المْنع من الظُّلم والعرب تقول حكمت وأحكمت وحكمت بمعنى منعت ورددت ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكم لأنه يمنع الظالم من الظلم.
ج ـــ الفصل : حكمتُ بين القوم فصلت بينهم كما في قوله تعالى ﴿ ألم تر إلى الذي أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون﴾ ــــ سورة آل عمران الآية:23 ــــ ليحكم بينهم ليفصل بينهم فيما اختلفوا فيه.
د-العلم والفهم: ومن ذلك قوله تعالى﴿ أولئك الذين أتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين﴾ ـــــ سورة الأنعام الآية: 90،
ه -التقدير: ومن ذلك قوله تعالى﴿ يا أيها الذين أمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام﴾ ـــــ سورة المائدة الآية :97.
و ــ العدل : ومن ذلك قوله تعالى ﴿ و نادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين﴾ ــــ سورة هود ـ الآية 47، أي العادل في كل شيء، وأحكم الحاكمين، الذي لا يجور ولا يظلم أحدا، والعدل هو الثمرة المرجوة من القضاء.
زــ النبوة : ومن ذلك قوله تعالى ﴿ ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين﴾ ــــ سورة الشعراء ـ الآية 20 ـــ
وعليه فالمتأمل في جميع التعريفات السابقة يجد أن الحكم بمعنى “القضاء والفصل والمنع”.
ــــ راجع في التعريف المذكورة : ابن فارس: مقاييس اللغة 2 ــ ابن منظور: لسان العرب 12/140.
[4] فتحي والي: مبادئ قانون القضاء المدني، القاهرة: دار النهضة العربية، الطبعة الثانية.1975. ص:531.
[5] أحمد أبو الوفا: المرافعات المدنية والتجارية، مصر: دار المعارف، الطبعة العاشرة، 1970.ص:701.
[6] – عبد العزيز خضري، القانون القضائي الخاص، الطبعة الثانية، مطبعة دار النشر 2000، ص 274.
[7] ــ المسطرة أمام المحاكم الابتدائية وغرف الاستئناف بها هي كتابية كقاعدة عامة، باستثناء القضايا المنصوص عليها في الفصل 45 من ق م م، و التي تطبق بشأنها المسطرة الشفوية، وهذه القضايا هي:
1-القضايا التي تختص المحاكم الابتدائية فيها ابتدائيا وانتهائيا؛
2-قضايا النفقة والطلاق والتطليق؛
3-القضايا الاجتماعية؛
4-قضايا استيفاء ومراجعة وجيبة الكراء؛
5-قضايا الحالة المدنية.
أما أمام المحاكم الاستئنافية ومحكمة النقض فإن المسطرة تكون دائما كتابية.
[8] -عبد الكريم الطالب، المختصر في الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، الطبعة الأولى، مطبعة المعرفة مراكش، مارس 2005، ص146-147.
[9] ــــ نصت الفقرة الأولى من الفصل 47 من ق م.م على أنه:
” إذا استدعي المدعي أو نائبه بصفة قانونية ولم يحضر في الوقت المحدد، أمكن للمحكمة إذا لم تتوفر على أي عنصر يسمح لها بالبت في الطلب أن تقرر التشطيب على القضية من جدول الجلسة”.
[10] – عبد العزيز حضري، القانون القضائي الخاص، المرجع السابق ص 276.
[11] – أوقف المشرع ممارسة الطعن بالتعرض على شرطين أساسيين، أولهما يكمن في عدم توصل المعني بالأمر بنفسه بالاستدعاء، والثاني ألا يكون الحكم قابلا للاستئناف، فمتى انعدم الشرطان المذكوران كما لو توصل المحكوم عليه شخصيا بالاستدعاء فإن الحكم لا يكون غيابيا وإنما بمثابة حضوري.
للمزيد من الإيضاح راجع : عبد الكريم الطالب. المرجع السابق، ص 150.
[12] -عبد العزيز الحضري، المرجع السابق ص277.
[13]32-إدريس العلوي العبدلاوي، القانون القضائي الخاص، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة 1986، ص 180.
[14] ــ كمثال على ذلك نستدل بالمقررات القضائية الصادرة بالتطليق أو بالخلع أو بالفسخ طبقا للمادة 128 من مدونة الأسرة.
[15] – إدريس العلوي العبدولاي، القانون القضائي الخاص، المرجع السابق ص 187.
[16] – إدريس العلوي العبدلاوي، القانون القضائي الخاص المرجع السابق، ص 188.
[17] -عبد العزيز حضري المرجع السابق، ص 279.
[18] -عبد العزيز حضري المرجع السابق، ص 279.
[19] -عبد الكريم الطالب المرجع السابق ص 158.
[20] – إدريس العلوي العبدلاوي، القانون القضائي الخاص المرجع السابق ص 189.
[21] – عبد الكريم الطالب المختصر في الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية، المرجع السابق ص 158-159.
[22] -عبد العزيز حضري: القانون القضائي الخاص المرجع السابق ص. 280.
[23] – عبد الكريم الطالب : الشرح العملي لقانون المسطرة المدنية. الناشر مطبعة المعرفة الطبعة الثانية 2003 ص:271.
[24] ــ أنظر في ذلك : عبد العزيز حضري : القانون القضائي الخاص- دار النشر الجسور – وجدة – 1999- ص 182.
[25] ـ – أنظر الطيب برادة : إصدار الحكم المدني وصياغته الفنية في ضوء الفقه والقضاء، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1996، ص 63.
[26] ــ راجع : عبد الخالق محمد عمر : مباديء التنفيذ، م.س. ص 113.
[27] ــ – قـرار محكمة النقض المصرية : نقض عمالي صادر بتاريخ 12-12-1981 طعن رقم 557 لسنة 40 قضائية أورده فتحي والي : م.س. ص 39.
[28] – قرار صادر بتاريخ 09-2-1999 – طعن رقم 2595 لسنة 61 قضائية. أورده أحمد مليجي، م.س. ج1- ص 226.