بوعزة بوطرفة: التحكيم ضمانة موضوعية للمتعاقد مع الإدارة
بوعزة بوطرفة دكتور في القانون
لقد أصبح المتعاقد مع الإدارة اليوم بمثابة معاون لها في تنفيذ برامجها ومواصلة تقديم خدماتها، لذلك فلا بد من توزيع المخاطر بين الطرفين. لكون التشدد في فرض السلطات والتعسف في استخدامها سوف يعود بالضرر على المرفق العام، سواء من ناحية تعمد المتعاقد مع الإدارة التأخير في إتمام الأعمال أو في نوعية وكفاءة هذه الأعمال المنجزة من قبله، وفي ذات الوقت سيؤدي هذا التشدد والتعسف والاستخدام المفرط للسلطة من جانب الإدارة إلى إحجام الموردين أو المقاولين الاَخرين عن المشاركة في المناقصات الحكومية التي تطرحها الجهة المتعسفة، أو أنهم قد يشاركون فيها مع وضعهم في الاعتبار كل المشاكل التي سبق أن واجهها الموردون أو المقاولون السابقون، ومن ثم رفع أسعار عطاءاتهم أو التقليل من نوعية وكفاءة الموارد المستخدمة، أو طلب مدد أطول للتنفيذ..
ولهذا ينبغي لجهة الإدارة اليوم التحرر من الفكر الذي كان سائداً منذ سنين طويلة مضت، والعمل على اعتبار المتعاقد معها معاون لها في تنفيذ برامجها واستمرارية خدماتها، والحرص قدر الإمكان على توزيع المخاطر بينهما، وإعمال مبدأ التوازن العقدي، الأمر الذي سيعود ولا شك بالنفع عليهما وعلى الدولة ككل من خلال خلق بيئة صالحة للعمل تساهم في تنمية وازدهار اقتصاد البلد.
ولا يجب أن نستنج مما سبق قوله أن تتخلى جهة الإدارة تماماً عن امتيازاتها وسلطاتها، وبالتالي إفراغ العقد الإداري من عناصره المميزة له، إنما القصد تقليص تلك الامتيازات والسلطات والإبقاء على اليسير منها قدر الإمكان، وعدم التهديد باستخدامها.
وإذا ما تم إعمال ما سبق وتم إسقاطه على مبدأ إدراج شرط التحكيم في العقود الإدارية، فلا يمكن تصور التحكيم بأنه السيف المسلط على رقبة الإدارة الذي سوف يجردها من كافة امتيازاتها وسلطاتها – كما ذهب إليه بعض الفقه السابق – في مواجهة المتعاقد معها.
إنما في ظل التعاقدات الحديثة وخاصة ما يتعلق منها بتوفير وتنظيم البنى التحتية وعقود نقل التكنولوجيا، وغيرها من أصناف العقود الإدارية المستحدثة ( مثل عقود التشييد والتشغيل ونقل الملكية، وما هو على شاكلتها ) فإن الحاجة باتت ماسة إلى وضع تصور جديد لعملية التحكيم في العقود الإدارية، تصور يتم من خلاله تبيان كل الضمانات التي ينشدها الطرفان المتعاقدان، وبما يحقق الهدف الذي يسعى إليه كل منهما، من خلال الحرص على توضيح جميع الأحكام المتعلقة بالقانون الواجب التطبيق على النزاع وعلى الإجراءات واللغة المستخدمة في التحكيم ومكان التحكيم والمدة المحددة لإصدار الحكم فيه وطرق الطعن وإجراءاته، وبما يحقق التوازن بين دور جهة الإدارة في حفاظها على حسن دوام وسير المرفق العام بانتظام واضطراد. ونكون هنا قد حافظنا على خصائص العقد الإداري و حقوق المتعاقد مع الإدارة في آن واحد.
ولا يعني كل ذلك أننا بصدد إيجاد بعض الضمانات للدولة على حساب المتعاقد معها، بل إننا نهدف من ذلك إلى إيجاد اَلية مناسبة تحقق التوازن المطلوب بين التزامات وحقوق كل طرف، إما منعاً من نشوء أية منازعات مستقبلية بينهما أو تبياناً للقوانين والإجراءات الواجب إتباعها عند حدوث تلك المنازعات وعدم ترك الفرصة للاجتهادات المختلفة، التي قد تساهم في ضياع الحقوق لأي من الطرفين ومن المؤكد أن التحكيم يوفر عددا كبير من الضمانات الموضوعية للمتعاقد مع الإدارة في مقدمتها ضمانة تحقيق العدالة الناجزة والفعلية (مطلب أول) إضافة الى ضمانة وجود المحكم المتخصص (مطلب ثاني)
المطلب الأول : ضمانة تحقيق العدالة الناجزة والفعلية.
مما لاشك فيه أن التحكيم يوفر للمتعاقد مع الادارة العديد من الضمانات الإجرائية منها و الموضوعية التي من أهمها ضمانة تحقيق العدالة الناجزة (أولا) وضمانة تحقيق العدالة الفعلية (ثانيا).
* أولا : ضمانة تحقيق العدالة الناجزة.
يُعد العدل البطيء ظلماً، ومن ثم فإن العدالة الناجزة مطلوبة، سواء في مجال المنازعات المدنية والتجارية أو الإدارية التي تتعلق بمبالغ كبيرة تترتب عليها اثأر غاية في الأهمية من حيث استمرارية بعض المؤسسات والشركات في إنتاجها من عدمه.
فالمتعاقد مع الإدارة يطمح بتوقيعه العقد معها في إنجاز المشروع المتفق عليه في الوقت المحدد دون تأخير ودون مشاكل، اَملاً بذلك في حصوله على كافة مستحقاته في التاريخ المحدد . غير أن الإدارة قد تستغل مركزها وتمارس بعضاً من سلطاتها التي تؤثر على وضعية تنفيذ المشروع، مما يضطر معه المتعاقد معها إلى الرضوخ لتلك السلطات خوفاً من ضياع المشروع وكذلك خوفاً من عدم إسناد أية مشاريع مستقبلية إليه، وبالتالي يتكبد خسارة كبيرة من جراء ذلك، كما لو طلبت الإدارة من المقاول (مثلاً) إيقاف أو تأجيل العمل لمدة شهر أو شهرين أو أكثر حتى تتمكن من إقامة أعمال أخرى ضرورية في ذات المشروع من قبل مقاول اَخر متخصص. فعندئذ سوف يقوم المقاول الرئيسي بدفع رواتب موظفيه وعماله طوال فترة التوقف غير المتوقعة. وعندما يطالب المقاول جهة الإدارة بالتعويض، تتنصل الإدارة وتعترض. وفي هذه الحالة قد يوافق المقاول مجبراً على مواصلة العمل رغم الخسارة، أو قد يلجأ إلى القضاء للحصول على حقوقه، إضافة إلى مطالبته بإنهاء التعاقد.
ومن هنا تبدأ رحلة المعاناة، حيث جميعنا يعلم مقدار الوقت والجهد المبذول أثناء إجراءات التقاضي أمام المحاكم، مما يترتب عليه ضياع القيمة الحقيقية لمطالبات التعويض، إضافة إلى تغير الأحوال المالية والاقتصادية والتجارية لأي من طرفي النزاع. الشيء الذي يصبح معه الحكم الصادر بعد سنوات عديم الفائدة.
ويرجع البطء في إجراءات التقاضي إلى عدة أسباب منها:
- عدم وجود تناسب بين عدد القضاة من حيث النوع والكم.
- أسلوب إعلان الدعاوى القديم، إضافة إلى قلة عدد مندوبي الإعلان وضعف مستواهم من ناحية الأداء والتأهيل.
- أسلوب إدارة الدعاوى.
- عدم تأهيل وإعداد قضاة متخصصين في شتى مجالات القانون، ومن ثم إحالة القضايا إليهم حسب تخصصاتهم.
- عدم وجود هيئات حل المنازعات خارج المحاكم والقضاء.
- عدم وجود الوعي القانوني اللازم لدى بعض المواطنين، فيدخلون في بعض التصرفات دون وجود غطاء قانوني، الأمر الذي يجعل القضاء في حالة نشوب نزاع يدور في متاهات البحث عن الحقيقة.
- عدم وضوح أو استقرار عناوين بعض أطراف الدعاوى.
- عدم تنفيذ بعض الأحكام من قبل بعض جهات الإدارة أو المماطلة في تنفيذها.
- إخفاء بعض المحامين بعض الحقائق عن موكليهم، وعدم توضيح وشرح تلك الحقائق لهم منذ البداية وبأمانة.
وهناك بعض من السبل الكفيلة بتطوير أداء المحاكم وإجراءاتها وهي على النحو الاَتي[1]:
- القيام بمراجعة شاملة للتشريعات المعمول بها فيما يتعلق بإدارة الدعوى وغيرها من الإجراءات الأخرى ذات العلاقة، ومحاولة تطويرها لمسايرة ركب التنمية والتطور الحاصل في شتى مجالات الحياة.
- زيادة عدد القضاة وحسن انتقائهم. فالكل يعلم بأن زيادة عدد السكان بطبيعة الحال يتبعه زيادة في عدد الدعاوى. لذلك فلا بد من مواكبة هذه الزيادة في عدد من الدعاوى بأن يتم زيادة عدد القضاة، إضافة إلى التدقيق عند الاختيار بالاعتماد على المعايير المحددة والمنضبطة.
- إيجاد برامج تدريب مستمرة للقضاة، لتأهيلهم من كافة النواحي لتمكينهم من مواكبة ومواجهة إشكاليات العولمة وتطور نظم المعلومات والتقنيات الحديثة المختلفة.
- ربط المحاكم من خلال برامج الحواسيب الاَلية بالأجهزة الأخرى بالدولة للوقوف على اَخر التشريعات والإصدارات، مما سيساهم بلا شك في سرعة الوصول إلى المعلومة القانونية.
- إنشاء وتطوير مكتبات المحاكم وتزويدها بأحدث المؤلفات والمراجع والأحكام القانونية.
- إنشاء هيئات الوساطة والصلح.
- تطوير آليات تبليغ الإعلانات، وتطوير المعلنين.
- توفير اَلية للتعاون مع أجهزة القضاء في الدول المتقدمة العربية منها أو الأجنبية، وتفعيل هذه الإلية على أرض الواقع.
- إدخال تقنية سماع الشهود عبر جهاز الأنترنيت.
- تفعيل الأخذ بالمستندات الإلكترونية في الإثبات.
- تفعيل اَلية التفتيش القضائي.
- إنشاء دوائر اقتصادية تجارية في مختلف درجات المحاكم، أو محاكم اقتصادية مستقلة.
- تطوير ضوابط ممارسة المحاماة وفق ميثاق شرف المهنة.
- تطوير مناهج تدريس القانون في الجامعات، لتتواكب مع التشريعات الحديثة والاحتياجات العصرية.
- بث التوعية القانونية عبر أجهزة الإعلام المختلفة.
ونرى أنه لو تم الأخذ ولو ببعض من السبل المشار إليها، سنكون بلا شك أمام عدالة ناجزة، تفي بمتطلبات هذا العصر الحديث وما تتطلبه المعاملات العصرية المعقدة.
حرص التشريعات على ضمانات التحكيم.
تتضمن أغلب التشريعات من النصوص ما يسرع من العملية التحكيمية ويسهل من إجراءاتها، كحل بديل ناجز للمنازعات. ومثال ذلك النصوص التي تتضمن تدخل المحكمة المختصة (في حالة عدم وجود اتفاق بين الخصوم) في تعيين المحكمين إذا امتنع أحد الأطراف عن القيام بذلك، أو إذا امتنع أحد المحكمين عن القيام بمهمته، أو في حالة عزله أو رده دون أن يكون لأي من طرفي النزاع الحق في الطعن أو استئناف قرار المحكمة في هذا الشأن[2]. وكذلك النص المتعلق بحق أي من الخصوم في رفع النزاع إلى المحكمة المختصة إذا لم يحكم المحكمون في ظرف المدة المحددة قانوناً أو تلك التي ينطبق عليها الخصوم[3]، حيث بالإضافة إلى تحديد المدة التي يتوجب على المحكمين إصدار حكمهم خلالها كضمانة تحقق العدالة الناجزة، لم يكتف بعض المشرعين بذلك، بل وضعوا ضمانة ناجزة أخرى تتمثل في حق أي من الخصوم رفع النزاع إلى المحكمة المختصة للبت فيه بدلاً من بقاء النزاع أمداً طويلاً لدى المحكمين دون حل، مما يفقد التحكيم ميزته الأساسية كأسلوب بديل وسريع لحل المنازعات.
ومن النصوص المحققة أيضاً للعدالة الناجزة، ما يقضي منها باستمرارية هيئة التحكيم في إجراءاتها وفي إصدار حكمها على الرغم من وجود دعوى أمام المحكمة المختصة تتعلق بذات النزاع موضوع التحكيم[4]. كما أن اختصاص هيئة التحكيم بالفصل في اختصاصها بنظر الدعوى موضوع التحكيم يعتبر أيضاً من النصوص التي تساهم كثيراً في تحقيق العدالة الناجزة[5].
وإضافة إلى ما سبق، فإن من أهم النصوص المساعدة على تحقيق العدالة الناجزة في التحكيم عدم جواز استئناف حكم المحكمين، إضافة إلى عدم وقف تنفيذ حكم المحكمين بوجود دعوى بطلان الحكم[6].
وعلى العكس مما تتقدم نرى بأن هناك بعض النصوص في بعض القوانين تحتاج إلى تعديل نتيجة ما تشكله من إعاقة للعدالة الناجزة، ومن هذه النصوص ما ورد في المادة (205) من قانون المرافعات المدنية والتجارية القطري من جواز استئناف حكم المحكمين، وكذلك المادة (206) من ذات القانون التي أجازت تقديم طلبي التماس إعادة النظر طبقاً للقواعد المقررة لذلك فيما يتعلق بأحكام المحاكم. وكذلك حكم المادة (242) من قانون المرافعات المدنية والتجارية البحريني التي قررت أيضاً جواز استئناف حكم المحكمين طبقاً للقواعد المقررة لاستئناف الأحكام الصادرة من المحاكم. ومثل هذه النصوص تفرغ التحكيم من أهم ميزة من مميزاته وهي تحقيق العدالة الناجزة، حيث أن السماح بجواز إعادة النظر أو استئناف حكم المحكمين يؤدي إلى تأخر العملية التحكيمية وتأخر تنفيذ الحكم، خاصة وأن هناك خطوة معرقلة أخرى تتمثل في الطعن بالحكم التحكيمي، وبالتالي فمرور العملية التحكيمية بكل هذه الإجراءات الموجودة عادة في القضاء العادي يشكل بلا شك خطوة إلى الوراء بدلاً من التسريع بإنهاء الدعوى التحكيمية.
ومن ناحية أخرى تشكل الفقرة الأخيرة من نص المادة (243) من قانون المرافعات المدنية والتجارية البحريني عقبة أخرى في طريق تحقيق العدالة الناجزة حيث تنص تلك الفقرة على ” ويترتب على رفع الدعوى ببطلان حكم المحكمين وقف تنفيذه ما لم تقض المحكمة باستمرار هذا التنفيذ “.
حيث من المعلوم أن ضمانة التحكيم تتمثل أساساً في تحقيق العدالة الناجزة التي تتيح لأطراف النزاع الحصول على الحكم بالسرعة التي يبتغيها كل منهم، إلا أن التشريع البحريني من خلال نص الفقرة أعلاه، يعطي لذي المصلحة فرصة وأد تلك الميزة المقررة للتحكيم. لذلك نرى أنه من الأوفق والأوجب حتى تكتمل لنظام التحكيم مميزاته وخاصة ميزة العدالة الناجزة أن يكون قرار وقف تنفيذ حكم التحكيم بناءً على دعوى البطلان جوازياً للقاضي إذا ما تراءى له من ظاهر الأوراق أن الحكم التحكيمي ماَله إلى البطلان، إلى جانب أن الحكم الصادر ببطلان أو رفض دعوى البطلان هو حكم قابل للطعن عليه بطرق الطعن العادية وغير العادية.
وذات النص المشار إليه موجود أيضاً في القانون المرافعات المدنية والتجارية القطرية في المادة (208) منه.
بينما على العكس من ذلك نرى بأن المشرع المصري في نص المادة (57) من قانون التحكيم المصري رقم (27) لسنة 1994 ينص صراحة على ” لا يترتب على رفع دعوى البطلان وقف التنفيذ حكم التحكيم، ومع ذلك يجوز للمحكمة أن تأمر بوقف التنفيذ إذا طلب المدعي ذلك في صحيفة الدعوى وكان الطلب مبنياً على أسباب جدية…….”.
وسار المشرع الكويتي أيضاً على هدي المشرع المصري في ذلك من خلال نص المادة (188) من قانون المرافعات المدنية والتجارية.
ونتيجة لما تقدم، فإن المتعاقد مع الإدارة يحرص دائماً على تضمين عقده معها شرط التحكيم، حتى يتمكن من تفادي كل السلبيات الموجودة في إجراءات التقاضي أمام المحاكم، وحتى يتمكن على وجه الخصوص من إنهاء النزاع والحصول على الحكم أو القرار النهائي خلال فترة قصيرة لا يؤثر على وضعه المالي أو التجاري، حتى فيما لو صدر الحكم أو القرار في غير صالحه. ذلك أنه من خلال حرية أطراف التحكيم في تحديد إجراءاته أو القانون المنظم لهذه الإجراءات، يستطيع هؤلاء تحديد المدة التي يتوجب على هيئة التحكيم إصدار حكمها خلالها. وتُعد هذه ضمانة كبيرة للطرفين، وعلى الأخص للمتعاقد مع الإدارة الذي دائماً ما يعد الطرف الضعيف في العقد الإداري، فجهة الإدارة وما لها من سلطة في الحفاظ على حسن سير وانتظام المرفق العام تستطيع استبدال المتعاقد معها باَخر يواصل تنفيذ المشروع، بينما المقاول أو المورد المتعاقد معها قد يكون المشروع الذي ينفذه حالياً هو الوحيد، أو هو الذي بني عليه الكثير من الآمال في تطوير شركته أو مؤسسته من جميع النواحي. وبالتالي فإن سرعة البت في النزاع من قبل هيئة التحكيم لا شك ضمانة له في الحفاظ على سمعة شركته، ومن ثم مواصلة أداء الشركة لأعمالها، خاصة عندما تحكم هيئة التحكيم لصالحه.
وإعمالاً للعدالة الناجزة فقد أصدرت الهيئة التحكيمية المشكلة بمركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية الذي مقره مملكة البحرين حكماً في قضية تحكيمية في غضون52 يوماً من تاريخ إحالة النزاع إليها[7].
* ثانيا : ضمانة تحقيق العدالة الفعلية.
إن العدالة لا تعني فقط احترام حقوق الناس الفعلية بل بالإضافة إلى ذلك، تكافؤ الفرص التي تمنح المجتمع الحيوية والأفراد الرغبة في العيش والعمل، والمساواة أمام القانون وفي الالتزام بالواجبات. والعدالة هي أساس الحياة الراقية ولكي تتحقق يتوجب على الإنسان الالتزام بمبادئها المبنية على الحرية والمساواة والإنصاف بالإضافة إلى احترام حقوق الناس المختلفة.
وعلى الرغم من أن القوانين الوضعية المختلفة تسعى جاهدة نحو تحقيق العدالة لكافة الأشخاص، إلا أن هذه القوانين في بعض الأحيان لا تستطيع تحقيق تلك العدالة والمساواة بين الأفراد، حيث لا يكون القانون الوضعي دائماً هو مرجعية للدفاع عن الفرد والجماعة ضد الدولة[8].
ولا شك أن الوسائل البديلة لتسوية المنازعات – والتحكيم على وجه الخصوص بمعالجته لكل نزاع على حدة، وسعيه إلى وضع إجراءات محددة وقانون يطبق عليه من خلال اختيار الأطراف لهما – يجعل من هؤلاء الأطراف مشرعين لذواتهم ولمنازعاتهم بحيث تكون الوسيلة المختارة (التحكيم) أفضل وسيلة تؤمن حسم النزاع بشكل أفضل بكثير عنه في القضاء[9].
وطالما أن العدالة تنصرف إلى تأمين السلام الاجتماعي، فإن التحكيم الذي يتأتى من إرادة المواطنين الشخصية يعتبر وسيلة فاعلة لتهدئة التوترات وإذابة الخلافات والمشاحنات بين الناس، بالإضافة إلى كونه يؤدي إلى الشعور بالمسؤولية بين أولئك الذين يختارون العدالة بأنفسهم ولا يخضعون لها[10].
ولا شك أن العدالة تنشأ من خلال التحكيم بإرادة الأطراف وتكون في هذه الحالة عدالة عقدية وليست عدالة نظامية، على الرغم من أن ليس كل ما هو تعاقدي بالضرورة يكون صحيحاً، ولكن ينظر إلى العدالة من خلال جانبها الذي يعيد التوازن إلى العقد أو اقتضاء الحقوق برضا الأطراف، وهذا ما يجعل رقابة القاضي تقف عند حد وجود ذلك الاتفاق بالتسوية بين الأطراف.
وتلجأ الشركات والمؤسسات اليوم إلى التحكيم عوضاً عن القضاء بحثاً عن الحلول السريعة المنصفة والعادلة، نظراً لكون الخلافات التجارية تخضع لظروف وشروط خاصة ولأحداث ومشاكل ذات طبيعة خاصة. لذلك لا بد من وجود أشخاص متخصصين في مختلف التخصصات يستطيعون تفسير كافة أحكام وبنود العقود وما يصاحبها من أمور فنية أثناء التنفيذ، وذلك من منظور واقعي عادل قائم على العدالة الواقعية وليس فقط من خلال تطبيق نصوص القانون الجامدة كالذي يحصل في القضاء.
ونتيجة لعدم وجود تعريف دقيق موحد لمضمون العدالة، حيث ينظر كل محكم إليها بمعيار مختلف، فإن بعض الفقه[11] يذهب إلى أن التحكيم في تحقيقه للعدالة يحل النزاع أكثر مما هو يحسمه، ويغلب روح المصلحة على روح النزاع، لأن المحكم وفقاً لمبادئ العدالة والإنصاف قد يستند إلى معيار شخصي، أو ذاتي يقوم على قواعد ليس معترفاً بها بصفة عامة يمكن أن تكون من بنات أفكاره. ولكي يحكم المحكم بقواعد العدالة والأنصاف، فإن الأمر يتطلب اتفاق أطراف النزاع على ذلك صراحة، ووضوح إرادتهم وضوحاً تاماً لا يترك مجالاً للتفسير مراعاة لحقوقهم[12].
وعلى الرغم من أن المحكم بالصلح أو بقواعد العدالة والإنصاف ليس ملزماً بتطبيق القانون، إلا أن ذلك لا يمنع أن يستند إلى بعض أحكام القانون لدعم حكمه بشرط توافق هذه الأحكام مع اعتبارات العدالة، حيث أن القانون لم يمنعه صراحة من اللجوء إلى تطبيق أحكامه[13] وبالتالي فإن استبعاد قواعد القانون من قبل المحكم بالعدالة والأنصاف هي رخصة له يستطيع إعمالها أو تركها طالما أعطى الأساس لتوافق هذه القواعد مع اعتبارات العدالة[14].
ويذهب بعض الفقه[15] إلى إطلاق مصطلح (التحكيم الطليق) على التحكيم بالصلح. ذلك أن التحكيم بالصلح قد يختلط مع الصلح كوسيلة مستقلة بذاتها من الوسائل البديلة لحل المنازعات. حيث أن التحكيم ينتهي بصدور حكم ملزم للأطراف، بينما الصلح يتحقق من خلال إقناع المصلح الأطراف بالتنازل عن جزء أو كل من حقوقهم للوصول إلى تسوية مرضية لهم. والتحكيم الطليق نابع من فكرة أساسية قائمة على إطلاق الحرية للمحكم في الفصل في النزاع دون التقيد بأية قواعد قانونية.
والتحكيم بالصلح وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف يعتبر استثناء من الأصل العام للتحكيم، ولذلك يتطلب بيانه في صلب عقد التحكيم بعبارات واضحة ودقيقة، حيث يقوم المحكم في هذه الحالة بإعمال فكره وخبرته لمحاولة التقريب بين مصلحة الطرفين عند الفصل في النزاع. ولكن يتحتم على المحكم بالصلح طبقاً لقواعد العدالة والإنصاف ألا يخالف النظام العام أو القواعد الإمرة أثناء قيامه بحل النزاع[16]، كما يتوجب عليه التقيد بموضوع النزاع المعروض عليه وعدم الخروج عنه وإلا تعرض حكمه للإبطال.
ولذلك فإن شخصية المحكم هنا من الأمور المعول عليها كثيراً خاصة في النواحي الثقافية والدينية والاجتماعية، ذلك أن هذا النوع من التحكيم يتعلق أساساً بالضمير والأخلاق[17].
وعلى الرغم من أن المحكم المفوض بالصلح لا يتقيد بأحكام القانون، إلا أنه يتوجب عليه التقيد بالأحكام المنظمة للضمانات الأساسية للأطراف المنصوص عليها في قانون التحكيم أو في باب التحكيم في قانون المرافعات، بما فيها تسبيب الحكم الصادر. ذلك أن تفويض المحكم بالصلح لا يعفيه من ضرورة بيان الأساس القانوني، أو مبادئ العدالة، والاعتبارات الأخرى التي جعلته ينتهي بموجبها إلى الحكم الذي أصدره. ومن ناحية أخرى، فإن المحكم بالصلح لا يجوز له أن يجرد أحد أطراف الخصومة مما يتمسك به من حقوق على النحو الذي يحصل في التحكيم العادي. ذلك أن المحكم بالصلح هو مصالح وبالتالي يتوجب عليه الموازنة بين حقوق الأطراف، كما يتوجب عليه التقيد بحدود موضوع التحكيم ولا يخرج عن هذه الحدود ليدخل في مسائل أخرى غير معروضة عليه من قبل أطراف التحكيم[18].
كما لا يجوز للمحكم في هذه الحالة وهو بصدد تفسير العقد أن يكيفه أو يتعامل معه بوصفه عقداً اَخر، مثل أن يتعامل مع عقد بيع على أنه عقد إيجار أو عقد ترخيص، كما يتوجب عليه التقيد بالقواعد الآمرة التي تمس النظام العام[19].
وعلى المحكم حين يستوحي مبادئ العدالة، أن يراعي في اجتهاده اعتبارات موضوعية عامة، وليس اعتبارات قائمة على تفكير شخصي وذاتي منه، أي يتوجب عليه ألا يتأثر في حكمه بأفكاره الذاتية[20]. ولا يترتب على إعمال قواعد العدالة تعديل العقد ذاته بالإضافة أو الاستبعاد. ومع ذلك، يرى بعض الفقه[21] أن المحكم بالصلح يتمتع بسلطة تقديرية مرنة، فله أن يعدل في الثمن بإنقاصه متى تراءى له أن انخفاض أو تدهور سعر العملية نتيجة لتغير الظروف قد أخل بمبدأ توازن الأداء، كما له سلطة تنظيم الوفاء التعاقدي دون أن يترتب على ذلك أي جزاء.
ويذهب بعض اَخر من الفقه[22] إلى أن المحكم (عندما يكون محكماً بالصلح وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف) يسعى إلى تحقيق العدالة دون الالتزام بنصوص معينة ويكون حراً في الوصول إلى هذه العدالة غير مقيد بأية نصوص تحكمه سوى ما اتفق عليه أطراف النزاع. وبهذا فهو يسعى للوصول إلى عدالة مرنة واقعية دون التقيد بالاعتبارات القانونية المحضة[23]، حيث يسعى قدر الإمكان للوصول إلى الحل التوفيقي بين الأطراف يكون مقبولاً من قبلهم. ولذلك فإن البعض[24] يصف التحكيم بأنه قضاء العلاقات المتصلة نتيجة لمحافظته على العلاقات بين الأطراف قبل وبعد صدور حكم التحكيم وزوال الخلاف، من خلال سعيه إلى تحقيق عدالة فعلية واقعية وليست العدالة القانونية التي قد ترضى طرفا دون اَخر في بعض الأحيان عندما تكون النصوص القانونية جامدة لا تواكب التطور والمتغيرات السريعة، خاصة في مجال التجارة والصناعة والاستثمار، أو عندما يكون صاحب الحق قد تراخى قليلاً في رفع دعواه للمطالبة بحقه نتيجة مرض أو سفر، فيخسر دعواه نتيجة رفعها بعد الميعاد.
ونتيجة لما تقدم نلحظ بأن المشرع الدولي والوطني عادة ما يضمن تشريعات التحكيم ما يسمح لأطراف التحكيم بتفويض المحكم بالحكم وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف، إيماناً من المشرع ذاته بأن النص القانوني يحقق العدالة القانونية ولكن في الوقت ذاته تحقق قواعد العدالة والإنصاف العدالة الفعلية والواقعية التي يهدف ويسعى إليها الأطراف.
وفي هذا الشأن، فإن معظم الاتفاقيات الدولية ولوائح مراكز التحكيم أجازت لجوء الأطراف إلى التحكيم وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف دون التقيد بنصوص القانون، ومن ثم ما على المحكم إلا الانصياع إلى إرادة الأطراف هذه[25]، علماً بأن أغلب الدول سارت على ذات النهج[26].
وذهبت محكمة النقض المصرية إلى أن ” التحكيم بالصلح يقوم على تفويض أشخاص ليست لهم ولاية القضاء في أن يقضوا بينهما أو يحسموا النزاع بحكم أو بصلح يقبلان شروطه، فرضاء طرفي الخصومة هو أساس التحكيم، وكما يجوز لهما الصلح دون وساطة أحد “[27].
كما ذهبت ذات المحكمة في حكم اَخر لها إلى ” وجوب اتفاق المحتكمين على جميع المحكمين المفوضين بالصلح أو الذين يحكمون بصفتهم محكمين مصالحين وتعيينهم بأسمائهم سواء في مشارطة التحكيم أو في عقد سابق عليها… ويمتنع على المحكمة في جميع الأحوال أن تعين محكماً مصالحاً لم يتفق عليه الطرفان المتنازعان[28].
وبشأن شروط اختيار المحكم المفوض بالصلح قضت ذات المحكمة بوجوب أن يكون عدد المحكمين المفوضين بالصلح وتراً وأن يذكروا بأسمائهم في مشارطة التحكيم أو في ورقة سابقة عليها، وهذا النص ينتفي معه جواز القول بإمكان تعيين آخرين، فمخالفته موجبة لبطلان المشارطة بطلاناً مطلقاً لا يزيله حضور الخصوم أمام المحكمين الذين لم تتوافر فيهم الشروط المنصوص عليها في المادة المذكورة[29]. كما أن اتفاق الخصوم على المحكم المفوض بالصلح وتسميته من النظام العام[30] وإذا لم ينص في مشارطة التحكيم على تفويض المحكمين بالصلح فإنهم يكونون محكمين بالقضاء[31].
ومن تطبيقات قواعد العدالة والإنصاف، الحكم الصادر في قضية تحكيم حكومة دولة قطر وشركة استثمار نفط قطر المحدودة، حيث قضى المحكم ” أنه ولما كان الاتفاق بين الطرفين تحكمه مبادئ العدالة والمساواة وحسن النية، وكان النزاع يتعلق بما إذا كانت الإتاوات السنوية المحددة المنصوص عليها في العقد تستحق الدفع مقدماً أو مؤخراً، ولما كانت مبادئ العدالة توجب عدم دفع الإتاوة مقدماً وتقسيطها على أقساط تدفع على فترات زمنية متعاقبة، والشريعة الإسلامية أقرت أيضاً الدفع على حصص، لذلك فإنه يحق لهذا الطرف أن يسقط الإتاوة على حصص أيضاً[32].
ومن الأمور التي يستطيع المحكم القيام بها تطبيقاً لمبادئ العدالة والإنصاف ما يلي[33]:
– استبعاد فكرة التقادم في موضوع البيع الدولي للمنقولات المادية رغم توافر شروطه، لأن الحكم بمقتضى التقادم قد يمس العدالة في النزاع.
– استبعاد نص القانون المتعلق بتحديد سعر الفائدة القانوني.
– تعديل أثر القوة القاهرة في الإعفاء من المسئولية، أو توزيع مخاطرها.
– استبعاد الشرط الجزائي أو انتقاصه رغم توافر شروط انطباقه طبقاً للقانون متى كان هذا الاستبعاد يحقق العدالة، وله كذلك أن يخفف من اثأر الشروط التعاقدية مثل الشرط الفاسخ الفوري متى كان لا يتماشى مع العدالة.
ومن ذلك أيضاً ما ذهب إليه بعض الفقه[34] من أن المخاطر التي يتعرض لها المستثمر الأجنبي في الدولة المضيفة تعد من قبيل الظروف الطارئة، مما يستوجب معه إعادة تقييم العقد، وتعديل المسؤولية تأسيساً على مبادئ العدالة.
ومما تقدم يتضح مدى أهمية وفاعلية التحكيم بالصلح وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف فيما يحققه من عدالة فعلية واقعية قياساً بالتحكيم العادي والقضاء اللذين قد يتسببان في خسائر كبيرة لأحد أطراف النزاع نتيجة التطبيق الحرفي لنصوص القانون الجامدة غير المواكبة للتطورات الحاصلة في شتى مجالات التجارة والصناعة والاستثمار ونقل التكنولوجيا.
ولكن يثور تساؤل مفاده، هل بالإمكان تطبيق قواعد العدالة والإنصاف على النزاع في التحكيم في مجال العقود الإدارية؟ وبصورة أخرى هل تستطيع جهة الإدارة أن تضمن شرط التحكيم أو مشارطة التحكيم ما يفيد حل النزاع عن طريق تطبيق قواعد العدالة والإنصاف؟
ذهب جانب من الفقه[35] إلى استبعاد تطبيق فكرة التحكيم الطليق (التحكيم وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف) على منازعات العقود الإدارية على أساس اعتبارات الملائمة وفق الحجج التالية:
1-إن فكرة التحكيم الطليق الأساسية تقوم على إعفاء المحكم من الالتزام بأحكام القانون والفصل في النزاع المعروض وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف كما يمليها عليه ضميره، إضافة إلى أن ذلك يخول المحكم سلطة تفسير نصوص العقد والتخفيف من تبعات بعض الشروط التعاقدية. وبالتالي إذا ترك للمحكم حرية تفسير نصوص العقد الإداري والقواعد القانونية التي تحكمه، فإن قراره الصادر في هذا الشأن سوف ينطوي على نوع من المباغتة للإدارة، هي في غنى عنها، وخاصة بالنسبة للشروط اللائحية التي تحتويها بعض العقود والمتعلقة بتنظيم وتسيير المرفق العام مثل تحديد طريق الاستغلال، وقوائم الأسعار، وشروط الانتفاع بالمرفق العام، والضمانات المقررة للمنتفعين بالمرفق والتي تملك الإدارة تعديلها بإرادتها المنفردة للصالح العام مقابل تعويض عادل للملتزم.
ونرى أن فكرة التحكيم الطليق لا تكمن بشكل قاطع في إعفاء المحكم من الالتزام بأحكام القانون والفصل في النزاع بمقتضى قواعد العدالة كما يمليها عليه ضميره، ولكن يتعين النظر إلى حقيقة ومبتغى ذلك النوع من التحكيم. فالهدف الأساسي من هذا التحكيم هو البحث عن الحلول الأكثر عدلاً من وجهة نظر المحكم ولكن في ضوء واقعات النزاع ومستندات كل طرف. ومن ناحية أخرى فإن المحكم وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف (في التحكيم الطليق) يستطيع أن يطبق قواعد القانون الموضوعي إذا حملت نصوصه حلولاً عادلة للنزاع حيث استبعاد قواعد القانون هي رخصة للمحكم وليس واجباً عليه، وبمعنى اَخر فإن المحكم الطليق يكون قد أنجز مهمته بالكامل إذا تطابقت الحلول التي أعطاها للنزاع مع اعتبارات العدالة[36].
ومن ناحية أخرى – بالنسبة لتعديل شروط العقد – فإن المحكم الطليق لا يملك أية صلاحية إزاء شروط وبنود العقد الجوهرية حتى لا يقلب التزامات العقد بالنسبة لأي من طرفيه.
ونصت أغلب التشريعات على أن المحكم يحكم وفقاً لشروط العقد[37]، كما تأكد هذا الأمر بواسطة محكمة التحكيم بغرفة التجارة الدولية بباريس في حكمها الصادر عام 1981 والذي انتهت فيه إلى أ ن اللجوء إلى التحكيم لا يسمح لمحكمة التحكيم بالخروج عن إطار النزاع أو أن تجري مراجعة للعقد[38].
2-تتعلق أغلب المنازعات المثارة بشأن العقود الإدارية بمسائل قانونية بحتة تتعلق بحق الإدارة في ممارسة السلطات والامتيازات الممنوحة لها بواسطة القوانين واللوائح ابتغاء تحقيق المصلحة العامة. ومن المستقر عليه أن هذه السلطات والامتيازات لا يمكن التخلي عنها مقدماً لتعلق الأمر بالنظام العام. لذا فإنه يكون من الأفضل حل هذه المنازعات من خلال البحث المطابق لقواعد القانون وليس استناداً إلى قواعد العدالة والإنصاف.
ورداً على ذلك نرى بأن هذه الحجة غاب عنها مبدأ قانوني مستقر عليه لدى الفقه والتشريع والقضاء، مفاده أنه أياً كانت القواعد القانونية واجبة التطبيق على النزاع (قانون – قواعد عدالة أو غيرها) فإنه يجب أن يُبحث أولاً في مدى تعارض تلك القواعد مع النظام العام الداخلي للدولة. فإن تبين وجود أي نوع من أنواع التعارض تنحى القاعدة القانونية جانباً وتطبق القواعد التي يتراءى للقاضي أو للمحكم أنها الأولى بالتطبيق على النزاع المطروح عليه. وبالتالي فلا محل للتفرقة التي يستند عليها صاحب الرأي في هذه الحجة، إذ النتيجة واحدة في النهاية. ومما لا شك فيه أن المحكم الطليق، وبحسب ما سبق أن أشرنا إليه، سوف يطبق قواعد العدالة والإنصاف في حدود ما تم إدراجه من بنود في العقد الإداري والمستقر على اشتماله على طائفة من الشروط الاستثنائية التي تصب في النهاية لصالح الإدارة، وتكون محصلتها النهائية هي تحقيق الصالح العام ويكون ما ساقه صاحب الرأي المعارض قد جاء فاقداً سنده.
3-إن نظريات القانون الإداري، وعلى الأخص تلك المتعلقة بإعادة التوازن المالي للعقد، تغني عن نظام التحكيم الطليق، لأن المحكم يستطيع أن يطبق منها ما يتماشى مع حماية المتعاقد مع الإدارة أثناء تنفيذ العقد.
وهذا القول مردود من حيث أن صاحب الرأي قد غاب عنه أن هناك بعض التشريعات، ومن بينها – على سبيل المثال لا الحصر التشريع البحريني – لا يوجد لديها تقنين إداري أو استقرار معين على تطبيق أي من نظريات القانون الإداري بما فيها نظريات التوازن المالي للعقد، بل حتى قانون المناقصات والمشتريات البحريني لم ينظم الجزاءات المتعارف عليها تجاه المتعاقد مع الإدارة مثل التنفيذ على الحساب أو الحجز على المعدات، اللهم ما عدا الحذف من سجلات الشراء مؤقتاً أو كلياً والإنذار ومصادرة الضمان الابتدائي، وتخفيض الدرجة، وإيقاف أو إلغاء عقد الشراء[39].
ومن ناحية أخرى فإن المحكم الطليق يهدف في النهاية إلى تحقيق الحل الذي يتراءى له أنه أكثر عدالة ويستطيع أن يستعين في ذلك بالسوابق القضائية والنظريات الفقهية التي تساعد في تحقيق المهمة الموكولة إليه. فضلاً عن ذلك وكما سبق القول فلا يوجد حجر على المحكم الطليق في الاستعانة بأية أحكام ونصوص قانونية تحقق الحل الذي يسعى إليه وبناء عليه فإن وجود نصوص تشريعية أو نظريات قانونية لا يغني عن نظام التحكيم الطليق.
4-إن المحكم الطليق – وإن كان عمله إنشائياً وخلاقاً – تماماً كما يفعل القاضي الإداري إزاء المنازعات التي تعرض أمامه، إلا أن هذه السلطة لا يمكن الاعتراف بها للمحكم، إذ إن سلطة القاضي، قد تصل إلى حد إنشاء قواعد قانونية جديدة.
ونرى أن هذه الحجة تجافي الحقيقة والواقع والمنطق. فالتحكيم في حقيقته هو طريق استثنائي لحل النزاع يتمتع فيه المحكم بكافة الصلاحية المخولة للقاضي، ويصدر حكماً بالمعنى الفني للكلمة. ويشهد الواقع العملي بأحكام تحكيم كثيرة ومتنوعة كانت دافعاً لتبني نظريات وسن تشريعات. ولا ينكر أحد الدور الإنشائي لتلك الأحكام التحكيمية دون تمييز في هذا التأثير بينها وبين الأحكام القضائية. وإذا كنا قد أجزنا بوجه عام نظام التحكيم أياً كان نوعه، فكيف نحرم المحكم من صلاحيته ونجرده مما يمكن أن يثري به المجال القانوني، الأمر الذي نرفضه في نهاية المطاف، فلا محل للتمييز غير المبرر.
وتعتبر من النتائج المهمة لمبدأ حياد المحكم في خصومة التحكيم التزامه بالعقد الأساسي بين طرفي التحكيم عند الفصل في النزاع. فإذا كان الطرفان في التحكيم الطليق وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف قد تنازلا عن جزء من حقوقهما ووضعاها تحت تصرف المحكم ليحكم فيها، فإن هذا لا يعني إطلاق سلطة المحكم وتحرره من القيود العقدية، ذلك أن العقد شريعة المتعاقدين ويجب أن يظل العقد محتفظاً بهذه المكانة، حتى يظل التحكيم الطليق وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف.
5-إن غالبية تشريعات الدول محل الدراسة قد جعلت من طريق الطعن بالبطلان الطريق الوحيد لمراجعة الأحكام الصادرة عن المحكم سواء كان محكماً بالقانون أو محكماً طليقاً. وبطبيعة الحال فإن القضاء سوف لا يجري رقابة فعالة على الأحكام الصادرة في ظل التحكيم الطليق نظراً لورود أسباب الطعن بالبطلان على سبيل الحصر وليس من بينها مسخ المحكم للعقد أو الانحراف في تفسيره.
وهذا القول مردود أيضاً. ذلك أن أسباب بطلان حكم التحكيم تتعلق بنواحي إجرائية كما هو الحال بالنسبة لعدم تعيين المحكم تعييناً صحيحاً أو الخروج عن نطاق المهمة الموكولة إليه في حال تطلب مواعيد معينة مثلاً. ومثل هذه الأسباب تسري على جميع أنواع التحكيم، فضلاً عن أن ما ساقه صاحب الرأي بالنسبة لتفسير العقد والانحراف به وخلافه، هذه أسباب يمكن قبولها للطعن على الحكم بغير طريق البطلان إذا لم يكن الحكم نهائياً ولا مجال لإثارتها في دعاوى البطلان، سواء كان تحكيماً طليقاً أو غيره، وبالتالي فلا محل لإثارة هذه الحجة من وجهة نظرنا.
6-إذا رغبت الإدارة في حل نزاعها وفقاً لقواعد العدالة، فهناك طرق أخرى غير قضائية يمكن أن تؤدي إلى ذلك ولا تنطوي على عنصر المباغتة، مثل التوفيق أو التسوية الودية والصلح.
ونرى أن التسوية الودية والصلح والتوفيق والوساطة هي فعلاً تعتبر أساليب غير قضائية لحل المنازعات وتحقق ما يحققه التحكيم الطليق من نتائج بعيداً عن القضاء، وبالتالي فإن تلك الوسائل من الممكن إثارتها أثناء نظر النزاع، سواء أمام القضاء، أو قبل ذلك، أو حتى أثناء نظرها من قبل المحكم حتى لو كان التحكيم طليقاً.
وبالتالي لا يمكن التذرع هنا بأن هذه الأسباب لا تشتمل على عنصر المباغتة، بينما التحكيم الطليق يشتمل عليه، حيث نرى حتى هذه الأساليب من الممكن أن يتمسك فيها المتعاقد مع الإدارة بطلباته بصورة غريبة ولا يتنازل عنها لقوة موقفه، الأمر الذي لا تتوقعه جهة الإدارة. ولذلك لا يمكن التذرع بعنصر المباغتة أو بتلك الأساليب لتسوية النزاع عوضاً عن التحكيم الطليق.
وأخيرا وفي ضوء كل ما سبق، يتضح جلياً أن الرأي الأكثر قبولاً من جانبنا والذي يتفق مع فكرة العدالة من منظورها العملي الموسع، هو إمكانية وجود نظام التحكيم الطليق في مجال العقود الإدارية والذي لا يضر بالمصلح العام ولا يتعارض مع النظام العام على النحو السابق بيانه.
فالتحكيم يوفر عددا كبير من الضمانات تدخل في إطار الضمانات الموضوعية للمتعاقد مع الإدارة ومنها ضمانة وجود المحكم المتخصص.
المطلب الثاني : ضمانة وجود المحكم المتخصص.
من المعلوم أن أي نظام للتحكيم – سواء كان داخلياً أو دولياً – يقوم على تبسيط إجراءات الفصل في النزاع المعروض، ومن ثم التحرر من كافة الشكليات، تحقيقاً لسرعة الفصل في النزاع.
ونظراً لأهمية التحكيم ( الدولي على وجه الخصوص ) وازدهاره وتأثيره على كافة أنواع الاستثمار والحركة الاقتصادية بصفة عامة، فقد ساعد ذلك على تنشيط الحركة التشريعية في بعض الدول من أجل سن قوانين تنظم موضوع التحكيم أملاً في التخفيف على كاهل القضاء الوطني ومحاولة جذب أطراف المنازعات إلى اتخاذ هذه الدول مقاراً لهيئات التحكيم المؤسس، وهذا في حد ذاته يمثل صورة من صور تشجيع الاستثمار.
ولا شك أن شرط التحكيم الدولي الذي يسعى إليه المتعاقد الأجنبي مع الإدارة يهدف منه أساساً إلى التخلص من احتمالية سيطرة وقبول القضاء الوطني من أجل تسوية المنازعات التي تثور أو التي يمكن أن تثور بمناسبة تنفيذ أو تفسير عقود الاستثمار. ويحتل هذا الشرط مكاناً مهماً وبارزاً في مجال الضمانات المحققة للمتعاقد مع الإدارة ترغيباً له في إنشاء استثماراته في الدولة المتعاقدة.
ولا يكفي أن يكون سبب تنظيم التحكيم الدولي هو فقط تشجيع الاستثمارات، لأنه ليس وسيلة لتحقيق سياسات التنمية الاقتصادية للبلاد، إنما يجب أن يتم من منظور المصلحة المتبادلة للطرفين ابتداءاً من إبرام اتفاق التحكيم وانتهاءً بتنفيذ حكم التحكيم[40] ومن هنا سوف نتطرق الى ضمانة اختيار المحكم المتخصص (أولا) تم الى ضمانة مبدأ الاختصاص بالاختصاص (ثانيا).
أولا : ضمانة اختيار المحكم المتخصص
ومن هذا المنطلق فإن وجود المحكم المتخصص – سواء في التحكيم الحر أو في التحكيم المؤسسي – يعتبر من الأمور المهمة جداً التي تساعد على تحقيق كل تلك الأمور، إضافة إلى سرعة الفصل في النزاع، وما يشكله ذلك من ضمانة أساسية ( للمتعاقد مع الإدارة على وجه الخصوص ) من حيث اطمئنانه بوجود الشخص المتخصص ذي الخبرة في مجال محل النزاع المعروض، الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى إصدار حكم مبني على تفهم كافة الحقائق والمشكلات الفنية والعملية لموضوع النزاع. وهذا على عكس القضاء، الذي وإن كان له الحق في الاستعانة بأي من الخبراء المتخصصين، إلا أن رأيهم استشاري بحت وقد يُطرح جانباً من قبل القاضي، إضافة إلى ما يسببه ذلك من تعطيل وتمديد من أجل القضية. فأطراف النزاع بلا شك سوف يختارون المحكمين الذي يتمتعون بمستوى مناسب من الخبرة الفنية في موضوع النزاع، ويثقون بهم وبخبراتهم، حيث إذا كان النزاع يتعلق بموضوع في المقاولات يمكنهم أن يختاروا متخصصاً في المقاولات ليكون محكماً، وإذا كان النزاع خاصاً بالبنوك والاستثمار يختارون متخصصاً في هذا المجال ليكون محكماً – وهكذا.
وهذه الميزة ( ميزة اختيار المحكم ) غير متوافرة في القضاء العادي، حيث ينظر القاضي الوطني كل أنواع المنازعات دون أن يكون متخصصاً في موضوع النزاع.
والقاضي الوطني قد يكون بارعاً في القانون الوطني ولكنه قد يكون أيضاً قليل الخبرة بشؤون التجارة الدولية، الأمر الذي يؤدي إلى تعذر قيامه بالفصل في المنازعات المتعلقة بتلك التجارة، إلا من خلال الاستعانة بخبير، ومن ثم ضياع الوقت حتى يعد هذا الخبير تقريره، إضافة إلى ما يترتب على ذلك من نفقات. لذا فإنه من الأولى أن يلجأ الخصوم مباشرة إلى هذا الخبير ويعينونه محكماً، ليفصل في النزاع خلال وقت أقصر ونفقات أقل.
وإن كانت مؤسسات وهيئات التحكيم بالنسبة للتحكيم المؤسسي تضم متخصصين في شتى أنواع التخصصات، حيث يتم تعيين هؤلاء المتخصصين كمحكمين تبعاً لنوع موضوع النزاع المتخصصين فيه. وفي هذا أيضاً ضمانة لطرفي النزاع وللمتعاقد مع الإدارة على وجه الخصوص. إلا أننا نرى أنه من الأولى زيادة عدد هيئات ومراكز التحكيم المؤسسي المتخصصة، أي أن تكون الهيئة أو المؤسسة التحكيمية سواء المحلية أو الإقليمية أو الدولية متخصصة في نوع أو أكثر من التخصصات المتشابهة، وعلى سبيل المثال : هيئة تحكيم منازعات البنوك والاستثمار، ومركز التحكيم النفطي، ومؤسسة التحكيم الهندسي، وهكذا… لأن هذه الأنواع من الهيئات والمؤسسات والمراكز المتخصصة ستحقق الكثير من الضمانات المنشودة لكافة الأطراف وعلى الأخص للمورد أو المقاول المتعاقد مع الإدارة، نتيجة وجود العدد الكافي من الخبراء المتخصصين، إضافة إلى التميز وممارسة ذات النشاط واكتساب المزيد من الخبرة في ذات التخصص، وإن كان بعضها موجوداً فعلاً مثل غرفة التحكيم البحري بباريس، جمعية التحكيم للتأمين وإعادة التأمين AIDA، ومحكمة التحكيم الرياضي(CAS).
تانيا : ضمانة مبدأ الاختصاص بالاختصاص.
إن مبدأ الاختصاص بالاختصاص يعني حق المحكم في تكوين عقيدته حول تحديد اختصاصه وتأكيد ذلك بحكم مع إعمال رقابة القضاء على هذا الحكم لاحقاً.
أي أن المحكم قد يقوم ببحث مسألة الاختصاص من تلقاء نفسه دون تكليف من الأطراف أو القانون الواجب التطبيق، وتكون له الكلمة الفصل في تحديد ما إذا كان مختصاً بالنزاع أو غير مختص نتيجة ما يكون بين يديه من مستندات وأوراق ذات علاقة بموضوع النزاع، إضافة إلى إصدار (المحكم) حكماً باختصاصه بنظر النزاع قبل الشروع في بحث النزاع وفي أي لحظة و أثناء نظر النزاع مع وضعه في الاعتبار مسألة رقابة المحكمة على هذا الحكم واستطاعتها أن تحكم ببطلانه إذا ما توافرت أسباب ذلك.
ويتميز مبدأ الاختصاص بالاختصاص بعدة خصائص منها[41] :
1) أنه اختصاص تبعي عارض يفصل في مسألة عارضة، تكون فيه سلطة المحكم مستمدة من الطبيعة القضائية لمهمته. وهذا على خلاف الاختصاص الأصيل الذي يتعلق بالبت في موضوع النزاع المحدد مسبقاً في اتفاق التحكيم.
2) أنه اختصاص مستمر، يبدأ من لحظة قبول المحكم لهمته حتى إصدار الحكم الفاصل في الموضوع، فليس له وقت محدد، إنما يستطيع المحكم إعماله في أي وقت تثار فيه الشكوك حول هذا الاختصاص.
3) أنه اختصاص مقيد. أي أن تقرير مصيره بيد القضاء، فإما أن تؤدي ذلك المحكمة أو أن تحكم ببطلانه.
وأساس نشأة هذا المبدأ هو السوابق في القضايا التحكيمية الدولية، كما فرض نفسه بعد ذلك الاتفاقيات الدولية[42]، وفي مؤسسات وهيئات التحكيم[43] وأخيراً في تشريعات الدول[44].
1- أثر مبدأ الاختصاص بالاختصاص على المحكم :
لقد استقر هذا المبدأ كما تمت الإشارة إلى ذلك اَنفاً في أغلب التشريعات المنظمة للتحكيم. وبموجبه يمنح المحكم حق الفصل في مدى اختصاصه في الدفع المقترح من قبل أي من طرفي النزاع بشأن عدم وجود اتفاق التحكيم، أو سقوطه أو بطلانه أو حالة نظر المحكم لمسألة لم يشملها موضوع النزاع ولم يتم الاتفاق عليها، أو الفصل في مدى تحقق بطلان العقد الأصلي أو عدم وجوده[45].
ونتيجة لذلك فإن على المحكم إذا ما رأى أن الدفع المقدم أمامه غير جدي أن يعلن اختصاصه بالنزاع. أما إذا رأى أن الدفع جدي فيقرر عدم اختصاصه، لأن هذا الحق مقرر له وحده قبل أية جهة أخرى. وهذا الحق معمول به في القضاء العادي أيضاً بناء على القاعدة العامة التي تجعل كل محكمة مختصة مبدئياً بالنظر في أمر اختصاصها.
وفي الوقت الحاضر تكاد أغلب التشريعات تجمع على ذلك الحق للمحكم بصورة تلقائية باعتباره قاعدة إجرائية أساسية، كما أشرنا لبعضها اَنفا، بل أصبح قاعدة عرفية دولية يحميها ويرعاها النظام العام الدولي[46].
2- أثر مبدأ الاختصاص بالاختصاص على الأطراف :
يمثل هذا الأثر في الأمور التالية :
أ) وجوب عرض الأطراف للنزاع المتعلق بأية مسألة أولاً على المحكم احتراماً للمبدأ المشار إليه. إضافة إلى ذلك يمثل تقديم مساعدة للمحكم في إنجاز مهمته.
ب) الحيلولة دون لجوء الأطراف إلى رفع أي نزاع في أية مسألة إلى المحكمة المختصة، سواء فيما يتعلق باختصاص المحكم أو ما يتعلق بموضوع النزاع. وإن كان هذا لا يمنع بطبيعة الحال من اللجوء إلى المحكمة المختصة سواء باستئناف قرار المحكم أو بالطعن عليه (بحسب الأحوال ووفق القانون).
وبصفة عامة يتوجب على الأطراف – طالما ذهبت إرادتهم إلى التحكيم – أن يراعوا النصوص القانونية والإجراءات والأعراف المتبعة فيما يتعلق باختصاصات المحكم وصلاحياته وأن يتعاونوا معه، أملاً في إنجاح عملية التحكيم التي هم من أوجدوها بمحض إرادتهم.
3- أثر مبدأ الاختصاص بالاختصاص على المحكمة المختصة :
يتمثل هذا الأثر في الحيلولة دون تدخل المحكمة المختصة في بحث مدى اختصاص المحكم في نظر النزاع من عدمه، حيث إن هذا الاختصاص منوط بالمحكم ذاته ابتداءً كما سبق بيانه. ويرجع الأمر – في حالة ما إذا تم فعلاً الدفع بعدم الاختصاص إلى هذه المحكمة – إلى كل تشريع على حدة، فعلى سبيل المثال : قد تقضي المحكمة بعدم اختصاصها ما لم يكن عقد التحكيم واضح البطلان، أو أن تحيل الأطراف إلى التحكيم إذا ما تبين لها وجود اتفاق تحكيم صحيح، أو أن تحكم بعدم قبول الدعوى إذا دفع المدعي عليه بوجود اتفاق تحكيم.
ويعتبر مبدأ الاختصاص بالاختصاص نتيجة لمبدأ استقلالية شرط التحكيم، حيث يستطيع المحكم نظر المنازعات المتعلقة ببطلان العقد الأصلي لأنه لا يستمد ولايته منه، وإنما من اتفاق التحكيم المستقل عنه.
بينما لو كان اتفاق التحكيم تابعاً أو جزءاً من العقد الأصلي، لتوجب حرمان المحكم من نظر الادعاء ببطلان هذا العقد الأصلي، إذ من غير المقبول أن يفصل المحكم في صحة عقد هو أساس ومصدر سلطته[47].
وأخيراً لا يمكن تجاهل أثر مبدأ الاختصاص بالاختصاص في العمل على تسريع العملية التحكيمية ومن ثم إصدار حكم التحكيم في أقل وقت ممكن. وهو ما يميز التحكيم عن القضاء العادي، بل يعد من أهم مزايا التحكيم، ومن ناحية أخرى يشكل هذا المبدأ ضمانة للمتعاقد مع الإدارة من حيث الحفاظ على الوقت والجهد اللازمين لبحث الدعوى التحكيمية، إضافة إلى استمرار المحكم المختار من قبله على أساس الخبرة الفنية المطلوبة في نظر الدعوى التحكيمية ومن ثم إصدار حكمه بناء على دراية وخبرة فنية وخلال وقت قياسي.
الهوامش:
[1] – المستشار/فيصل المرشد (السلطة القضائية في الكويت)، جريدة الجريدة، العدد 513 تاريخ 18/1/2009، محمود مراد، ندوة (محاكم مستقلة أم فقط دوائر اقتصادية) جريدة الأهرام، 6/1/2006 السنة 130، العدد 43495، القاضي الدكتور محمد الطراونة (السبل الكفيلة بتطوير الإجراءات القضائية)، الرابط. http:/pal-ip-org/y28thm
[2]– انظر على سبيل المثال: المادة (235) من قانون المرافعات المدنية والتجارية البحريني الصادر بالمرسوم بقانون رقم (12) لسنة 1971، والمادة(17) من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية المصري الصادر بقانون رقم (27) لسنة 1994، والمادة(204) من قانون الإجراءات المدنية الإماراتي، والمادة(16) من قانون التحكيم الأردني لسنة 2001، والمادة(195) من قانون المرافعات المدنية التجارية القطري.
[3] – انظر على سبيل المثال، المادة (237) من قانون المرافعات المدنية والتجارية البحريني، والمادة(45) من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية المصري، والمادة(9) من نظام التحكيم السعودي الصادر بقرار مجلس الوزراء رقم 164 بتاريخ 21/6/1403ه، والمادة(181) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الكويتي رقم(38) لسنة 1980 والمادة(45) من قانون التحكيم العماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم(47) لسنة 1997.
[4] – انظر على سبيل المثال المادة (13) من قانون التحكيم في المواد المدنية والتجارية المصري، المادة (13) من قانون التحكيم العماني رقم (47) لسنة 1997، المادة (12) من قانون التحكيم الأردني لسنة 2001.
[5] – انظر على سبيل المثال المادة (22) من قانون التحكيم المصري، المادة (21) من قانون التحكيم الأردني لسنة 2001، المادة (22) من قانون التحكيم العماني رقم (47) لسنة 1997.
[6] – انظر حكم المادة (52) والمادة (53) من قانون التحكيم العماني رقم (47) لسنة 1997، المادة (186) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الكويتي، المادة (48) و(49) من قانون التحكيم الأردني لسنة 2001، المادة (216) و(217) من قانون الإجراءات المدنية الإماراتي.
[7] – وأصدرت الهيئة حكمها في القضية رقم (55) بتاريخ 30/7/2011 بعد أن تم إحالته إليها بتاريخ 8/6/2011، وألزمت بموجبه إحدى القنوات الفضائية بأن تدفع إلى إحدى شركات الأقمار الصناعية مبلغاً وقدره 373500 دولار أمريكي، بعد أن ظل النزاع دون حل لمدة ثلاث سنوات.
[8] – خديجة بومسهولي، ثريا لكويس، يونس جريري، الحق والعدالة، على الرابط الإلكتروني:
http://assi/cours.ah/amontada.net/montada-f38/topic-t617.htm.
[9]– جمال الراي، الشفافية في الطريق البلدية عن المقاضاة لتسوية المنازعات التعاقدية من خلال قانون التحكيم الجديد والوساطة الاتفاقية. على الرابط الإلكتروني: هنا
[10]– جمال الراي، مرجع سابق.
[11]– منير عبد المجيد، عقود الأشغال والتحكيم فيها، مرجع سابق، ص 257.
[12] – أحمد أبو الوفا، التحكيم بالقضاء وبالصلح، مرجع سابق، ص18.
[13] – قضت محكمة باريس في 15/3/1984 بأن ” المحكم بالصلح يمكنه الفصل وفقاً للقانون بالمعنى الدقيق ” مشار إليه لدى، د.منير عبد المجيد، مرجع سابق، ص277، أنظر كذلك حكم محكمة النقض الفرنسية الصادر في 15/2/2001.
[14] – E.Laquin، Les pouvoirs des arbitres internationaux à la lumiére de l’évolution récente du droit de l’arbitrage international، JDI.1983، p.293، spec.p316.
[15]– أحمد عبد الكريم سلامة، قانون التحكيم التجاري الدولي والداخلي، دار النهضة العربية، 2004، ص67، ومحسن شفيق، التحكيم التجاري الدولي، مرجع سابق، ص54، د.وليد محمد عباس، مرجع سابق، ص747.
[16]– أنظر في ذلك حكم محكمة استئناف باريس:
Paris 1er Ch. Suppl. 12 mars 1985, Sté intraforêt et Subtej Middle East Compagnie c/J.C.Gagnant et autres, Rev.arb.1985, p.299 note E.Lorquin p.199.
وحكمها:
Paris 1er Ch. 16 mars 1995, SARL, Enodis C/Sté SNC Prodi Rev.arb.1996.p.146 obs.Y.Dénias.
[17] – أحمد محمد عبد البديع شتا، مرجع سابق، ص329.
[18] – محمود السيد عمر التحيوي، أنواع التحكيم وتميزه عن غيره (الصلح، الوكالة، الخبرة)، دار الفكر العربي، 2007، ص196.
[19] – محمود مختار أحمد بريري، مرجع سابق، ص141.
[20] – منير عبد المجيد، مرجع سابق، ص277.
[21] – مرجع سابق، ص 281.
[22] – عصام أحمد البهجي: التحكيم في عقود البوت، دار الجامعة الجديدة، 2008، ص 66 وما بعدها.
[23] – ومع ذلك فإن صدور حكم محكمة النقض المصرية ليقضي بإعفاء المحكمين من أتباع إجراءات المرافعات ليس من شأنه عدم إتباع الأحكام الخاصة بالتحكيم الواردة في ذات القانون، نقض مدني مصري – جلسة 4/2/1982-مجموعة القواعد 1-2-109-1703.
[24] – محسن شفيق: التحكيم التجاري الدولي، دراسة مقارنة في قانون التجارة الدولية رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في القانون الخاص، مرجع سابق، ص 20.
[25] – انظر على سبيل المثال: المادة (42/3) من اتفاقية واشنطن بشأن تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى، وكذلك المادة (7/2) من اتفاقية جنيف لعام 1961، والمادة (17/3) من قواعد تحكيم غرفة تجارة الدولية بباريس، المادة (33/2) من قواعد لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (اليونسترال) لعام 1976، المادة (22/3) من نظام تحكيم محكمة لندن للتحكيم الدولي، والمادة(29/3) من قواعد الهيئة الأمريكية للتحكيم (AAA)، والمادة(24) من لائحة مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية.
[26] – انظر على سبيل المثال المادة(1474) والمادة(1497) من قانون الإجراءات الجنائية المدنية الفرنسي فيما يتعلق بالتحكيم، والمادة(39/4) من قانون التحكيم المصري، والمادة(28/3) من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي والمادة(237/2) من قانون المرافعات المدنية والتجارية البحريني لعام 1985 (البحريني) الصادر بالمرسوم بقانون رقم (9) لسنة 1994، والمادة(16) من نظام التحكيم السعودي، والمادة(212/2) من قانون الإجراءات الجنائية المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة، والمادة(182/2) من قانون المرافعات المدنية والتجارية الكويتي، والمادة(39/ع) من قانون التحكيم العماني، والمادة(19) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، والمادة(187/أ/2) من القانون الفيدرالي المتعلق بالقانون الدولي الخاص (سويسرا) الصادر في 18/12/1987، والمادة (1054/3) من قانون المرافعات المدنية الهولندي.
[27] – الطعن رقم 1965 لسنة 50 ق بتاريخ 12/2/1985، نقص مدني، والطعن رقم 1288 لسنة 48 ق بتاريخ 1/2/1983 نقض مدني.
[28] – الطعن رقم 249 لسنة 33 ق – جلسة 18/5/1967 مجموعة الأحكام، السنة 18، مجموعة القوانين والمبادئ القانونية 28 – التحكيم – مرجع سابق، ص313).
[29] – الطعن رقم 88 لسنة 3 ق – جلسة 20/12/1934 – مجموعة الأحكام – الجزء الأول (مرجع سابق، ص238).
[30] – الطعن رقم 249 لسنة 33 ق – جلسة 18/5/1967 تمت الإشارة إليه مسبقاً.
[31] – الطعن، رقم 60 لسنة 30 ق جلسة 25/2/1965 مجموعة الأحكام، السنة 16، (مرجع سابق، ص318).
[32] – لمزيد من التفاصيل، أنظر: مصطفى ترو، سلطة المحكم الدولي في تعيين القواعد القانونية على موضوع النزاع، رسالة دكتوراه، كلية الحقوق – جامعة القاهرة، ص 186.
[33] – أنظر في ذلك: منير عبد المجيد، مرجع سابق، ص 278 وما بعدها.
[34] – يوسف الكابي، مرجع سابق، ص 205.
[35] – وليد محمد عباس، مرجع سابق، ص787 وما بعدها.
[36] – أنظر في ذلك:
Ch. Jarrosson, note sous C.Cass.2e ch.c 18 octobre 2001, SARL, sté grenobloise d, investissement c/sté Eunovia et autres, Rev.arb.2002, p.359-spéc, p.364.
– Paris 1er ch.suppl.15 mars 1984, sté soubaigne c/sté limmareds Skogar.Rev.arb.1985, p.285, note E.Loquin p.199.
وانظر: محمود السيد عمر التحيوي، التحكيم بالقضاء والتحكيم بالصلح مع التفويض بالصلح، منشأة المعارف بالإسكندرية 2002، ص145 وما بعدها، محمود أحمد مختار بريري، مرجع سابق ص139 وما بعدها، ومنير عبد المجيد، مرجع سابق، ص277 وما بعدها.
[37]– أنظر على سبيل المثال، المادة(28/ع) من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي لعام 1985 الصادر بالمرسوم بقانون رقم(9) لسنة 1994 (مملكة البحرين)، المادة(36/ج) من قانون التحكيم الأردني لعام 2001، والمادة(39/3) من قانون التحكيم المصري رقم(27) لسنة 1994، المادة(39/3) من قانون التحكيم العماني الصادر بالمرسوم السلطاني رقم(47) لسنة 1997.
[38]– Sentence CCI no 3327, 1981، JDI 1982، p971، obs. y. Dédains.
[39] – أنظر المادة (55) من المرسوم بمثابة قانون رقم (36) لسنة 2002 بشأن تنظيم المناقصات والمزايدات والمشتريات والمبيعات الحكومية.
[40] – د. ناريمان عبد القادر، مرجع سابق ص81 وما بعدها.
[41] – أ. أنور علي أحمد الطشي، مبدأ الاختصاص بالاختصاص في مجال التحكيم، دار النهضة العربية، 2009، الطبعة الأولى، ص38 وما بعدها.
[42] – أنظر في ذلك المادة(5) من الاتفاقية الأوربية للتحكيم التجاري الدولي، المادة(41) من الاتفاقية الدولية لتسوية المنازعات الناشئة عن استثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى (اتفاقية واشنطن)، المادة(24) من اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري.
– المادة(11) الفقرة الأولى من اتفاقية القاهرة لتسوية منازعات الاستثمار في الدول العربية المادة(21) من قواعد لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (اليونسترال) الصادرة في 15/12/1976، المادة(16) من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الصادر في 21/6/1985.
[43] – انظر في ذلك المادة(23) من نظام محكمة لندن للتحكيم الدولي(LCIA)، المادة(15) من نظام الجمعية الأمريكية للتحكيم(AAA)، المادة(20) من نظام مركز التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، المادة(6) الفقرة الثانية والرابعة من نظام التحكيم لغرفة التجارة الدولية.
[44] – انظر في ذلك المادة(1466) من تقنين الإجراءات المدنية الفرنسية رقم354 الصادر في 14/5/1980،المادة(22) من قانون التكيم المصري رقم(277) لسنة 1994 المعدل بالقانونين رقمي (9) لسنة 1997 و(8) لسنة 2000، المادة(16) من القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي البحريني الصادر بالمرسوم بقانون رقم(9) لسنة 1994، المادة(5) من قانون التحكيم القضائي الكويتي رقم(11) لسنة 1995، المادة(21) من قانون التحكيم الأردني لعام 2001.
[45] – د. أحمد أبو الوفاء – التحكيم الاختياري والإجباري، مرجع سابق، ص117، د.مصطفى الجمال، وعكاشة عبد العال، التحكيم في العلاقات الخاصة الدولية والداخلية – الجزء الأول، بدون دار نشر، 1998، ص536.
[46] – أ. أنور علي أحمد الطشي، مرجع سابق ص112 وما بعده.
[47] – د ناريمان عبد القادر، مرجع سابق ص 333.