مجلة مغرب القانونمتفرقات قانونيةالنموذج التنموي الجديد: منطق جديد بمداخل مستهلكة

النموذج التنموي الجديد: منطق جديد بمداخل مستهلكة

جمال المجاوي  طالب باحث بسلك الدكتوراه في القانون العام

إن رصد مسار تنزيل النموذج التنموي الجديد في علاقتهببناء دولة متماسكة قوامها الثقة، يقتضي بالأساس الحديث عن محدودية دينامية السياسات العمومية المنجزة خلال العشرية الأخيرة على الرفع من معدل التوافقات بين الثالوث الأبرز للتنمية الشمولية المستدامة والمتمثل في كل من المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، خاصة عندما ننطلق من الفرضية التي تربط بين التحولات الاجتماعية التي جرت في العديد من الأقطار،وبين الدور الذي يلعبه إعادة تنشيط دورة التكامل بين هذا الثالوث، من حيث إقرار التوازن بين متطلبات المجتمع والغايات المثلى للدولة، أو بصيغة أخرى مداخل إرساء “دولة قوية ومجتمع قوي”.

في هذا الصدد وقياسا مع الطموح الجديد،والذي تم إفراغه ضمن عدة مداخل ملائمة من حيث التصور والتنظير في تقرير النموذج التنموي الجديد، فإن السؤال المطروح اليوم أمام ما يمكن تسميته بنفاذ الحلول التنموية،هل من الممكن أن يتجاوز التصور الجديد منطق الخطاب والتنظير اللذان ظلاّ مرافقين للمبادرات التنموية السابقة؟

فبالرجوع إلى السياقات التي أسست لمرحلة التحول التي انطلقت في بلادنا منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، حتماً سنجد أن فكرة التحول كانت مؤسسة في العمق على مضمون مرتبط بتصور جديد للسياسات العمومية ولتنزيلها(المفهوم الجديد للسلطة)، لكن هذا التحول سرعان ما فقد بريقهمع توالي السنوات، مما جعل من “تواضع” التنزيل الفعالللسياسات العمومية، معطاً ثابتاً كأحد الإكراهات التقليديةأمام كل محطات الانطلاق التنموي ببلادنا، وآخرها كانت المضامين التي أقرها دستور المملكة لسنة 2011. واليوم مع تحديد معالم النموذج التنموي الجديد، الذي رفع تقريره السيد شكيب بنموسى بصفته رئيساً للجنة، أمام أنظار صاحبالجلالة، نعود لمرحلة الحماس والرغبة في التحول التنموي، ولاشك أن الناتج التشريعي والمكتسبات القيمة التي راكمها المغرب خلال العشرية الأخيرة، ستأخذ بعداً آخر أكثر تطورا وأكثر قابلية للتنزيل الفعلي بوجود مؤسسات دستورية متينة (المجلس الأعلى للحسابات مجالس الحكامة الجيدة….) فضلا عن أن مقاربة التنمية اليوم، وفق المقترحات المدرجة في تقرير اللجنة،ستأخذ طابعاً إلزامياً من خلال إفراغ النموذج الجديد ضمن “ميثاق وطني للتنمية”.

فضلا عن ذلك فإن مرحلة هذا التحول، ستعرف من جهة،نوعاً من إعادة تعريف للمؤسسة الملكية، كملكية تنفيذية فاعلة في مجال السياسات العمومية، وتركيزا على منهجية “التوافق” كقاعدة لصياغة الورش الجديد ولتنزيلهمن جهة أخرى،وهي منهجية بحكم طابعها التشاركي الاجتماعي، تتأسس على منطلقات واقعية لبناء المرحلة الجديدة والقطع مع الممارسات السابقة، وهو الشيء الذي أقره صاحب الجلالة فيخطاب افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة بتاريخ 13 أكتوبر 2017 حيث قال أنه:

مقال قد يهمك :   مدى أحقية الموظف العمومي في اجتياز امتحان الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة؟

إذا كان المغـرب قـد حقـق تقدمـاً ملموسـاً، يشـهد بـه العالـم، إلا أن النمـوذج التنمـوي الوطنـي أصبـح اليـوم، غيــر قــادر علــى الاستجابة للمطالــب الملحــة، والحاجيــات المتزايــدة للمواطنيــن، وغيــر قــادر علــى الحــد مــن الفـوارق بيـن الفئـات ومـن التفاوتـات المجاليـة، وعلـى تحقيـق العدالـة الاجتماعية، وفــي هــذا الصــدد، ندعــو الحكومــة والبرلمــان، ومختلــف المؤسســات والهيئــات المعنيــة، كل فــي مجــال اختصاصــه، لإعادة النظــر فــي نموذجنــا التنمــوي لمواكبــة التطــورات التــي تعرفهــا البلاد.

والجدير بالذكر على أن الخطاب الملكي بشأن إعداد النموذج التنموي الجديد، هو ليس دعوة للتجديد وإعادة التشخيص، بل هو تأكيد على ضرورة إعادة النظر وتكييف النموذج السابق ليتوافق مع مستجدات مغرب اليوم، وهو الشيء الذي يؤكد محدودية الأجرأة التي طالت السياسات العمومية، التي تم التقعيد لها بمقتضى المفهوم الجديد للسلطة وعززها دستور 2011، الذي اعتُبر عقب إصداره جسراًللانتقال الديموقراطي والتنموي،حيث أقر عدة مداخل لإحداثنقلة نوعية وكمية في المعدلات التنموية، ضمن فصوله الملزمة والساميةأبرزها مبدأي ربط المسؤولية بالمحاسبة وحكامة تدبير الشأن العام كمقومين للنظام الدستوري للمملكة.

فإن كان الأمر كذلك، ما الداعي لنموذج تنموي جديد؟ وإن كانالفصل 31 من الدستور يقر على أن:

“الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية تعمل على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة منالحق في العلاج والعناية الصحية؛ الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن أو المنظم من طرف الدولة؛ الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة؛ التنشئة على التشبث بالهوية المغربية، والثوابت الوطنية الراسخة؛التكوين المهني والاستفادة من التربية البدنية والفنية؛السكن اللائق؛الشغل والدعم من طرف السلطات العمومية في البحث عن منصب شغل، أو في التشغيل الذاتي؛ولوج الوظائف العمومية حسب الاستحقاق؛ الحصول على الماء والعيش في بيئة سليمة؛التنمية المستدامة. “

فإن نفس السؤال يطرح نفسه بصيغة مشابهة، ترتبط بمدى التزام هؤلاء المخاطبين بالأدوار المسندة إليهم بمقتضى هذا الفصل؟

إن إشكالية التنمية اليوم بعد مرور عشر سنوات من التنصيب الدستوري لهذه المقتضيات،والتي تهدف إلى إنضاج شروط دمقرطة الحياة السياسية واستقامة أداء المؤسسات، لم تعد مرتبطة بالتنظير بل بالأجرأة، كما يمكن القول أن الهالة التي رافقت صياغة وتقديم النموذج التنموي الجديد،يمكن أن يؤول بـ “عدم كفاية الوثيقة الدستورية على ترجمة مضامينها”، هذا التأويل يؤسس على فكرة مفادها أن الدستور لم يعد في قلب التقعيد الإجرائي والمسطري للتنمية الشمولية بل مجرد واجهة لمسلسل الدمقرطة من جهة، ومن جهة أخرى تضع الدستور موضع المجيب عن الحلول النظرية لتجاوز مرحلةانحسار الخيارات التنموية فقط،لكن الأصل في القواعد القانونية الدستوريةللتدبير التنموي هي نتاج لمسلسل تداول جماعي، أفضى إلى صياغة توافق اجتماعي ومؤسساتي ملزم وسامي، يحيط بعدة آليات ومداخل للخروج من الضيق التنموي، وميلاد مداخل جديدة تروم ترسيخ فكرة التوافق الجماعي لبناء “دولة قوية بمجتمع قوي”.

مقال قد يهمك :   العربي محمد مياد: دفاعا عن المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية

هي مؤشرات تؤكد على أن استمرار التأسيس للتنمية في ظل مغرب اليوم، بالأدوات التقليدية واستبعاد المجال الدستوري، ضمن أولويات المدبرين لأجندة “مغرب الغد”، يجعل الانتقال والتحول مجرد فرضـية ستفرغ في صيغة “ميثاق وطني للتنمية” دون أنيرقى لمنزلة الدستور من حيث الإلزامية والسمو من جهة، ومن جهة أخرى إحــداث آليــة لتتبــع وتحفيــز الأوراش الاستراتيجية وقيـادة التغييـر تحــت إشــراف جلالة الملــك، حسب اقتراح اللجنةهو الشيء الذي يطرح أيضا عدة تساؤلات حولدور المؤسسات الدستورية، باعتبارها المسؤول الأول والأخير عن التحول نحو تنمية مندمجة بإقرار للوثيقة الدستورية وإقرار لجلالة الملك، من خلال عدة مناسبات أبرزها خطاب افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة بتاريخ 14 من أكتوبر 2016 الذي قال فيه:

“إن الهدف الذي يجب أن تسعى إليه كل المؤسسات، هو خدمة المواطن، وبدون قيامها بهذه المهمة، فإنها تبقى عديمة الجدوى، بل لا مبرر لوجودها أصلا.وقد ارتأيت أن أتوجه إليكم اليوم، ومن خلالكم لكل الهيئات المعنية، وإلى عموم المواطنين، في موضوع بالغ الأهمية، هو جوهر عمل المؤسسات. وأقصد هنا علاقة المواطن بالإدارة، سواء تعلق الأمر بالمصالح المركزية، والإدارة الترابية، أو بالمجالس المنتخبة، والمصالح الجهوية للقطاعات الوزارية. كما أقصد أيضا، مختلف المرافق المعنية بالاستثمار وتشجيع المقاولات، وحتى قضاء الحاجيات البسيطة للمواطن، كيفما كان نوعها. فالغاية منها واحدة، هي تمكين المواطن من قضاء مصالحه، في أحسن الظروف والآجال، وتبسيط المساطر، وتقريب المرافق والخدمات الأساسية منه.

وعليه،يمكن القول على أن المعادلة التنموية منذ بداية التحولات في ظل المفهوم الجديد للسلطة،لا ترتبط بندرة مداخل التحول التنموي، بل هي أزمة وفرة في المداخل، لاسيما ما استجد منها بعد إصدار الجيل الجديد من التشريعات في العشرية الأخير، وآخرها لازال حبيس الرفوف التشريعية، ويتعلق الأمر بمشروع ميثاق المرافق العمومية 54.19 الذي يشكل لوحده مشروعاً تنموياً قادراً على إحداث التغيير المنشود.

مقال قد يهمك :   وجهة نظر: إشكالية الرسم على الخدمات المقدمة بالموانئ

وهنا نعود للتأكيد على أن هذا الوضع التنموي المتسم بـ “الانتظارية” لايقود إلى التوقف عن التفكير في الصيغ القادرة على إدخال المغرب إلى مرحلة الانتقال التنموي، ولاشك أن الأبواب الواسعة لهذه الصيغ تكمن بالأساس عبر بوابة الوثيقة الدستورية، عن طريق إحياء وإعادة اكتشاف سبل إعماله وتطبيقه، بحكم أن الدستور لا يطبق بمفرده ولا بمعزل عن سلوكيات الفاعلين الرسميين، وإن لم يكن كذلك، فالأمر لا يحتاج سوى العودة إلى مرجعية بعض الخطابات الملكية كمداخل للانتقال التنموي المنشود، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تفعيل الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 19لعيد العرشبتاريخ 29 يوليوز 2018، الذي ورد فيه ما يلي :

“… والواقع أنه لا يمكن توفير فرص الشغل، أو إيجاد منظومة اجتماعية عصرية ولائقة، إلا بإحداث نقلة نوعية في مجالات الاستثمار، ودعم القطاع الإنتاجي الوطنيولهذه الغاية، فإنه يتعين، على الخصوص، العمل، على إنجاح ثلاثة أوراش أساسية:

أولها: إصدار ميثاق اللاتمركز الإداري؛

وثانيها : الإسراع بإخراج الميثاق الجديد للاستثمار، وبتفعيل إصلاح المراكز الجهوية للاستثمار؛

وثالثها: اعتماد نصوص قانونية، متعلقة بتبسيط المساطر والإجراءات الإدارية والتي تشكل حافزاً قوياً وغير مسبوق للاستثمار، وخلق فرص الشغل، وتحسين جودة الخدمات، التي تقدمها الإدارات بمختلف أنواعها للمواطن…”

في الختام نعود للتأكيد على أنمسلسل التنمية بالمغرب المعنون بـــــ”الانتظارية” يمكن أن تشكل فيه عشرية النموذج التنموي الجديد (مغرب الغد 2035) آخر فصوله، شريطة أن يتم تحت مظلة مبدأي ربط المسؤولية بالمحاسبة والحكامة الجيدة، لأن الالتزامات التنموية السياسويةلم تعد خطابا مقنعا لتحرير الطاقات واستعادة الثقة،

الأكثر من ذلك أن البعد السياسي في معرض الحديث عنه، يحتاج لنموذج تنموي مصغر يرسخ ثقافة الالتزام بالتدبير الجيد والمسؤول للسياسات العمومية الاقتصادية والاجتماعية، فالتكامل بين ثالوث التنمية الشمولية-المجال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي- لا شك أن يسرع وتيرة التقدم ويحقق الرفاه للجميع.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]