المستشار حسن فتوخ: دور الضمير القضائي في تعزيز الثقة.
- الدكتور حسن فتوخ مستشار بمحكمة النقض و أستاذ بالمعهد العالي للقضاء.
القضاء مهنة شريفة، لا يمكن الاستغناء عنه في أيّ مجتمع إنساني، لأنه ملاذ الناس في تأمين حقوقهم وحرياتهم، وملاذ المظلومين في رفع الحيف والظلم عنهم. و أن هذه الصلة المتصلة بين المتقاضين والقضاء، وهذا الأمل في الوصول إلى الحق عن طريق القضاء، وهذه الثقة التامة في توزيع العدل بين الناس، وضع القضاء موضوع المهابة والقدسية والجلال، وجعل بابه مفتوحا يلجه كل راغب في التماس الحق مهما كان مركزه داخل المجتمع.
ومهما قيل عن القضاء كجهاز ودوره في تحقيق الأمن القانوني والقضائي الذي أصبح مطلبا للجميع، فإن القاضي هو الذي يعتبر الفاعل الأساسي في إدارة العملية القضائية، بدليل أن الأنظار كلها تتجه نحو شخص القاضي بصفته المسؤول عن حقوق وحريات المواطنين من خلال تعامله اليومي مع النصوص التشريعية الذي يطبقها على القضايا المعروضة عليه سواء في إطار القضاء الفردي أو القضاء الجماعي.
لذلك فإن سلوك القاضي يكتسي أهمية بالغة داخل المحكمة وخارجها، بحيث يتعين عليه أن يكون القدوة والنبراس للجميع في تحليه بالخصال الحميدة أثناء مزاولته لمهامه وأدائه لوظيفته الشريفة والسامية. إذ إن ممارسته اليومية للعمل القضائي تضعه في محك التواصل مع كتاب الضبط والمحامين والخبراء وغيرهم من الأجهزة ذات الصلة بقطاع العدالة. ومن ثمة فالحلم والتبصر واليقظة والتواضع سمات يجب أن تكون لصيقة بشخص القاضي في حركاته وسكناته حتى يتمكن من المحافظة على هبة ووقار العدل الذي يعتبر أساس الملك.
ذلك أن سلوك القاضي في افتتاح الجلسة وحكمته في تسييرها ورفعها في جو يسوده الوئام والتقدير والاحترام لهيئة الدفاع والمتقاضين الحاضرين شخصيا، من شأنه تجديد الثقة الموضوعة في شخص القاضي، ولن يزيده سلوكه الرفيع وتعقله في اتخاذ الإجراءات المسطرية لتجهيز الملف، إلا احتراما وتقديرا من طرف الجميع.
كما أن حرصه على عقد الجلسات في وقتها المحدد، والنطق بالأحكام محررة، يساهم لا محالة في تقدير شخصية القاضي التي تكرس الحرص على مصداقية القضاء في التمكين من الحقوق داخل أجل معقول، لأن التأخر في إصدار الأحكام أو تجهيز الملفات، يمكن أن يشكل ظلما آخر ينضاف إلى ظلم الخصوم فيما بينهم.
صحيح أن القاضي غير مسؤول عن التأخر في إنجاز إجراءات تبليغ الاستدعاء المنوطة بجهة المفوضين القضائيين من جهة، وعن حقوق الدفاع التي يجب احترامها عند إعلان نيابة محامي، أو طلب مهلة إضافية للجواب من جهة أخرى، إلا أن القاضي يكون مسؤولا بالدرجة الأولى عن مراقبة سلامة الإجراءات وتفعيل النصوص المسطرية لتجهيز القضية داخل أجل مناسب، على اعتبار أن مهمة المفوض القضائي في التبليغ تكون تحت إشراف القاضي، وأن منح أجل إضافي للجواب تبعا لسلطة القاضي التقديرية يمكن أن يطيل أمد النزاع، وأن عدم إنجاز الخبير للخبرة داخل الأجل المحدد رغم إنذاره وتذكيره عدة مرات، يجعل صورة القاضي بصفة خاصة، وبالتبعية صورة العدل بصفة عامة باهتة داخل المجتمع.
فالصرامة، والحزم إذن، مطلوبين في شخص القاضي للتعامل بجدية مع باقي المصالح والأجهزة، بدءا من فتح الملف بصندوق المحكمة وتعيين القاضي المقرر، ومرورا بتبليغ الاستدعاءات من طرف المفوضين القضائيين وإرجاع شواهد التسليم إلى الملفات قبل الجلسة، وانتهاء بمراقبة قانونية الاستدعاء من عدمه أثناء الجلسة وترتيب الآثار القانونية اللازمة عن ذلك.
ومع ذلك فإن القاضي يجب أن يكون سلسا ومرنا وحريصا في أداء عمله للمحافظة على تحقيق العدالة الإجرائية باعتبارها السبيل الوحيد لتحصين الحق الموضوعي المتنازع عليه بين الخصوم.
كما أن القاضي يجب أن يكون شديد الحرص في المحافظة على أخلاقياته حتى خارج المحكمة، على اعتبار أن صفته تظل لصيقة به أينما حل وارتحل، وينبغي أن يتقيد بالضوابط المهنية وأخلاقيات المهمة الجسيمة الملقاة على عاتقه للحفاظ على قدسية القضاء، والاحترام التام للجميع، وتجنب كل ما من شأنه أن يخدش أو يقدح في سمعته المهنية التي تعتبر ملكا للسلطة القضائية، وليس ملكا للقاضي. إذ يجب عليه أن يترفع عن كافة الأمور التي تقلل من شأن القضاء أو تجعل هذا الأخير محط ازدراء واحتقار من طرف الرأي العام داخل المجتمع الذي يعتبر نصفه عدوا للقاضي هذا إن عدل.
لذلك، ونظرا لجسامة الرسالة التي يؤديها القاضي، والمحفوفة بالمخاطر لتعلقها بحقوق الناس وحرياتهم، فإن القاضي يكون ملزما بالتسوية بين جميع الأطراف في مجلسه ( خصوما، محامين، شهود، تراجمة، خبراء، …. )، ومطالبا بالمزيد من بذل الجهود والتضحيات للحفاظ على شرفه وكرامته ونزاهته وحياده وموضوعيته التي تجعله في منآى عن الشبهات أو الاتهامات المجانية من طرف المتربصين بشرف رسالة القضاء، وذلك إيمانا من القاضي بضرورة النهوض بالدور المنوط به لإشاعة العدالة بين الخصوم داخل المجتمع بغية الظفر بثقة الناس واحترامهم، من خلال تحقيق الأمن القضائي الذي يحافظ على الاستقرار وحماية المراكز القانونية، ويجعل صورة القاضي مشرفة، وتمنعه من الظهور بأي مظهر يسيء إليها.