القيود الموضوعية الواردة على سلطة تعديل الدستور المغربي (ج1)
عبد القادر بناصر
باحــــــث في القانـــــــون العـــــــــــــــــــــــــــام.
مقدمـــــــــة:
إذا كانت الدساتير الجامدة تتميز بإتباع إجراءات خاصة أثناء عملية التعديل، فإن معنى هذه الإجراءات الخاصة، لا ينصرف إلى الجانب الشكلي فقط، والمتمثل في سلطة خاصة بالتعديل ومساطر محددة يتم إتباعها[1]، بل تشمل أيضا الجانب الموضوعي، ومعنى ذلك أن جوانب من الدستور يمكن تعديلها، بيد أن أخرى لا يمكن المساس بها.
فهذا الحظر الموضوعي (القيد الموضوعي) يقضي بعدم تعرض فلسفة النظام ومذهبه الإيديولوجي للتعديل،[2] وذلك حماية للدعائم الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي، أو بعض نواحي ذلك النظام، والرغبة في ضمان بقاء هذه الدعائم دون تعديل أو تبديل.[3]
إلا أن القيمة القانونية لمثل هذه النصوص، التي تحظر التعديل الدستوري في الموضوع، تبقى محل مساءلة، لنجد أجوبة فقهاء القانون الدستوري وآراءهم بشأنها تختلف وتتعدد.[4]
- فمنهم من يرى أن الحظر مطابق للشرعية الدستورية، فالأمة هي التي وضعت الدستور وهي صاحبة السيادة، فلها مطلق الحرية في إعمال المراجعة، وإخضاع الدستور للتعديل من عدمه.
- ومنهم من يقر أن حظر المراجعة مخالف لمنطق الأشياء، وقد عبر عن ذلك قادة الثورة الفرنسية بقولهم:
« la nation a le droit imprescriptible de changer sa constitution »
أي أن:
“الأمة تتمتع بحق غير قابل للتقادم فيما يخص مراجعة الدستور” .
- واتجاه ثالث: يميز بين الحظر الزمني، والحظر الدائم الذي يحول الأحكام المحظورة المراجعة إلى نصوص ميتة وجامدة إلى ما لانهاية، وتزعم هذا الاتجاه “جورج بيردو” القائل بعدم أحقية السلطة التأسيسية الحالية في تقييد السلطة التأسيسية المقبلة، ويفيد هذا أن الحظر الزمني مقبول خلافا للحظر الدائم.
ويبدو أن الآراء الثلاثة لها وجاهتها و حججها المنطقية المعقولة التي تستند عليها، غير أن واقع الحياة السياسية لا يقف كثيرا عند الاعتبارات القانونية وحدها، بل إن قيمة النصوص القانونية المانعة للتعديل تتوقف على مدى تجاوبها مع حاجات الجماعة، واتفاقها مع ما تمليه إرادة القوى الغالبة فيها، فإذا ما فقدت هذه النصوص تأييد الجماعة أو تزعزع إيمانها بأحكامها، فلن يُجْدِ كثيرا الاعتراف لها بقيمة قانونية مُلزِمة، ولن يَحُول هذا الاعتراف دون تعديلها، كما أن القول بعدم مشروعيتها لن يؤدي إلى تعديلها قبل أن يستقر في ضمير الجماعة ويسود الاعتقاد بضرورة إجراء هذا التعديل.[5]
وغالبية الدساتير تسير في اتجاه وضع قيود على سلطة التعديل، وخاصة القيود الموضوعية، فهناك نصوص تحظر التعديل بشكل أبدي، لأن القضايا المحظور تعديلها تحظى بالإجماع عليها، من قبيل الدين الإسلامي في الدول الإسلامية، وكذا بعض القواعد التي يَعُدها بعض الفقهاء، قواعد فوق دستورية، والتي ترتبط بالحقوق الأساسية وسيادة الأمة.
غير أن هناك بعض المواضيع يمكن تعديلها حتى ولو نص الدستور سابقا على عدم إمكانية تعديلها، ومثاله تخلي الدولة الجزائرية عن النظام الاشتراكي واستبداله بالنظام الاقتصادي.[6]
وحدود التعديل الدستوري، عندما ينص عليها الدستور نفسه وتكون مدونة فيه، إما تأتي مجموعة في فصل مستقل في باب مراجعة الدستور، أو تكون تلك الحدود في فصول متفرقة من الدستور، بحيث توضع في آخر كل فصل محظور تعديلُه عبارة ” لا يجوز تعديل هذا الفصل”.[7]
والمغرب، وعلى شاكلة العديد من دول المعمور، وضع قيودا على سلطة التعديل الدستوري، تم تجميعها في فصل واحد من باب المراجعة الدستورية،[8] وهذه القيود والحدود تصنف ضمن الموضوعية، وقد حددت في الدساتير السابقة في قيدي النظام الملكي والدين الإسلامي، ليضاف إليهما قيدان آخران، وردا حصرا في الدستور الأخير لسنة 2011، وهما الاختيار الديمقراطي والحقوق والحريات.
المطلب الأول : حظر تعديل النظام الملكي.
الملكية نظام حكم قديم، حيث يكون الملك على رأس الدولة، ويتميز بأن الحكم الملكي غالبا ما يكون لفترة طويلة وعادة حتى وفاة الملك، وينتقل بالوراثة إلى ولي عهده.
والنظام الملكي من أقدم أنظمة الحكم المعروفة في التاريخ، إلا أنه صار أقل انتشارا في الوقت الحاضر إذ تحولت كثير من النظم الملكية إلى نظم جمهورية.
والملك في المجتمعات القديمة كانت له جميع السلطات وبمرور الوقت تلاءم النظام الملكي مع مقتضيات التطور مما أسفر عن اكتسابه أبعادا دستورية جديدة ضمن السياق السياسي للدولة.[9]
والمغرب من الدول التي يقوم نظامها على الملكية، والتي تتميز بتجدرها في التاريخ لذا كان من البديهي، عند دخول عهد الدسترة، النص على حظر تعديلها، وهذا الحظر ينصب على الجانب الصريح (الفقرة الأولى) والجانب الضمني (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : الحظر الصريح.
إن الملكية بالمغرب تجد أصولها في التاريخ، حيث تعتبر عنصرا أساسيا تنخرط ضمنيا في النسيج التاريخي والثقافي والمجتمعي للأمة المغربية، إذ هي ليست ذات نشأة حديثة ولا جسما غريبا.
فالمغرب تكون تاريخيا منذ مجيء الادارسة وبناء النواة الأولى للدولة المغربية، فالنظام الملكي يعد من أقدم النظم الملكية، حيث بدأ مع تسلم المولى إدريس الثاني سده الحكم بعد اغتيال والده المولى إدريس الأول، رئيس أول دولة مغربية.[10]
والعرش العلوي نفسه يعتبر الوريث الوحيد لما يزيد عن ثلاثة عشر قرنا من التاريخ السلالي المغربي، الذي كان يعيش منذ القرن الثاني عشر، حتى مقدم الحماية، في ظل السلطنة المبني على حكم سلطان يعين بالبيعة، ويمارس اختصاصات واسعة، ويعد أميرا للمؤمنين مستقلا عن خليفة المشرق.[11]
هذه المكانة السامية ظلت ملتصقة بالمؤسسة الملكية، على الرغم من دخول المغرب عهد الدسترة ، الذي كرس ملكية تنفيذية فاعلة، تتوزع عنها باقي الوظائف، حيث إن أغلب صلاحيات الملك الدستوري تجد أساسها في بعض صلاحيات أمير المؤمنين لا في الدستور الذي مدها بالرداء العصري، فوظيفة الدستور ليست إلا تجديدا للعهد المقدس بين الملك وشعبه، كما أن وظيفة المؤسسات الدستورية والسياسية من برلمان وأحزاب ليست إلا إضفاء مشروعية عصرية على سلطة ملكية سامية.[12]
هذا السمو والدور المحوري للمؤسسة الملكية تكرس مع الدستور الجديد الذي حدد طبيعة الملكية بالقول:
“نظـــام الحكـــم بالمغـــرب نظـــام ملكيـــة دستوريـــة ديمقراطيـــة برلمانيـــة واجتماعيـــة”.[13]
فرغم إضافة كلمة برلمانية إلى النص الدستوري الجديد، فإن مؤسسة الملكية بالمغرب ظلت مؤسسة حاكمة وحاضرة بقوة في المجال السياسي.[14]
إن الأهمية التي تحظى بها المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي في الماضي والحاضر، لم يقف عند حد دسترة هذه الأهمية وهذا السمو، بل تجاوز ذلك إلى حظر المساس بهذا النظام في أي مبادرة للتعديل، وهذا الحظر منصوص عليه صراحة في جميع الدساتير.
فالفصل 108 من دستور 1962 يؤكد أن ” النظام الملكي للدولة وكذلك النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي لا يمكن أن تتناولها المراجعة”.
وهو الأمر ذاته الذي أكدته الفصول 100 من دستور 1970 و 1992، و101 من دستور 1972، و 106 من دستور 1996، والتي وردت بنفس صيغة دستور 1962.
ونفس الحظر في دستور 2011، وتحديدا الفصل 175،[15] مع الإشارة إلى أن هذا الفصل أورد “النظام الملكي للدولة”، في المرتبة الثانية بعد “الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي”، على خلاف الدساتير السابقة التي قدمت النظام الملكي للدولة على النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي، فضلا عن كون هذا الفصل أضاف قيودا جديدة على سلطة التعديل سنعالجها في حينها.
الفقرة الثانية : الحظر الضمني.
لا يقتصر الأمر على الحظر الصريح لمراجعة النظام الملكي، بل هناك حظر ضمني يشمل جوانب عدة، منها ما يتعلق بالملكية، ومنها ما يتعلق بقضايا أخرى على قد كبير من الأهمية.
فمما يرتبط بالملكية، وبتحليلنا لمضمون الفصل المتعلق بمجلس الوصاية[16] منذ دستور 1970 ووصولا إلى دستور 2011، نجد أن مجلس الوصاية يمارس اختصاصات العرش وحقوقه الدستورية، باستثناء ما يتعلق منها بمراجعة الدستور، وهذا من قبيل الحظر الزمني، على اعتبار فرضية أن الملك لم يبلغ سن الرشد القانوني (18 سنة)، في هذه الحالة لا يجوز تعديل الدستور من طرف مجلس الوصاية حتى يبلغ الملك سن الرشد القانوني،[17] وجدير ذكره أن دستور 1962 لم يشر إلى هذا الحظر.[18]
ثم أيضا ما يرتبط بحقل إمارة المؤمنين،[19] على اعتبار أن الملك هو حامي حمى الملة والدين والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية وهو رئيس المجلس العلمي الأعلى المختص دستوريا بإصدار الفتاوى التي تعتمد رسميا في شأن المسائل المحالة إليه.
فهذا أيضا مما يحظر تعديله، ويبدو أن حقل إمارة المؤمنين له ارتباط وثيق بالحظر الذي يطال الدين الإسلامي.
ونضيف إلى المحظورات الضمنية في الدستور المغربي، الثوابت الجامعة ومقومات الهوية الوطنية، فقد نص الفصل الأول من دستور 2011 وتحديدا الفقرة الثالثة على ما يلي :
” تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي”.
فمن بين الثوابت نجد الوحدة الوطنية متعددة الروافد، والتي أشار إليها تصدير الدستور، حيث نص على كون المملكة المغربية متشبثة بصيانة مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها العربية الإسلامية و الأمازيغية والصحراوية الحسا نية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية.
ومن المحظورات أيضا الوحدة الترابية للمملكة.[20]
المطلب الثاني : الدين الإسلامي.
يعتبر الدين الإسلامي من ثوابت الدولة المغربية، لذلك حظرت جميع الدساتير المساس به، غير أنه في السابق كان التنصيص على “النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي” بينما نجد الدستور الأخير يشير إلى “الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي “
وعليه سنتطرق في هذا الفرع إلى حظر المساس بالدين الإسلامي (الفقرة الأولى) وإلى عدم جواز تعديل الأحكام المرتبطة بالدين الإسلامي (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى : حظر المساس بالدين الإسلامي.
شكل دستور 1962 القاعدة الأولى التي على أساسها تحدد نظام الحكم في المغرب، واتضحت هوية المملكة المغربية الإسلامية والعربية، فقد نصت هذه الوثيقة الدستورية في تصديرها على أن المغرب بلد إسلامي، مستقل يتمتع بالسيادة الكاملة، ولغته الرسمية العربية، وهو جزء من المغرب الكبير.[21]
كما نصت جميع الدساتير اللاحقة على أن “الإسلام دين الدولة ، والدولة تضمن لكل واحد ممارسة شؤونه الدينية”.[22]
ودستور 2011 في تصديره يصف المملكة بأنها دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، ويشدد على أهمية الدين الإسلامي في شخصية الأمة متعددة الثقافات، ويحدد متن الدستور هذا المفهوم إذ اعتبر المغرب دولة إسلامية، بمعنى أن معظم مواطنيه مسلمون، و ينص الدستور أيضا (الفصل 3)على أن الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن حرية ممارسة الشؤون الدينية، والمغرب بذلك يختلف عن بعض الدول الإسلامية التي جعلت من الإسلام “مصدرا للتشريع” أو “المصدر الوحيد للتشريع”.[23]
ويبدو مفهوم “دين الدولة” أكثر مرونة من مفهوم “دين الدولة الرسمي”، إذ يقتضي هذا المفهوم، ضمنا، بان منظومة الشعب المغربي تتداخل مع منظومة الأمة الإسلامية القائمة في المنطقة، وبين ظهراني هذا الشعب العربي الإسلامي يعيش غير المسلمين، فاليهود كأفراد يتمتعون بالحقوق السياسية عينها التي يتمتع بها أبناء البلد المسلمون، ولكنهم كجماعة لا يستفيدون إلا من حرية العبادة.
وفضلا عن ذلك فإن وجود “دين دولة” يخول الدولة التدخل لحماية هذه الأقلية وهذه بالتحديد من مهام الملك الأساسية.[24]
ومما يعمق إسلامية الدولة أنها برئاسة ملك تتوافق مكانته مع التفسير الاستراتيجي سياسيا للتقاليد، فالفصل 41 ينص على أن الملك بصفته “أمير المؤمنين ” يضمن الالتزام بالإسلام، فهو يضمن حرية ممارسة الدين ويرأس مجلس العلماء ، وهو هيئة مخولة بإصدار الفتاوى أو الآراء الدينية في المسائل التي ترفع إليها، وبهذا المعنى يكون مجلس العلماء هيئة دستورية نوعا ما، منوطة بمراقبة الهوية الإسلامية للقوانين والأفعال.[25]
وخلاصة القول ان سلطة تعديل الدستور لا يمكن لها أن تمس بالمراجعة الدين الإسلامي، بل أيضا لا يمكن أن تمس هذه المراجعة الأحكام المرتبطة بالدين الإسلامي.
الفقرة الثانية : عدم جواز تعديل الأحكام المرتبطة بالدين الإسلامي.
تمت الإشارة إلى أن الدساتير السابقة كانت تشير إلى حظر المساس ب النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي، بينما دستور 2011 نص على “الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي”، فضلا عن ذلك فالإشارة إلى الدين الإسلامي كانت تأتي في المرتبة الثانية بعد النظام الملكي للدولة، بينما في الدستور الأخير تم تقديم الدين الإسلامي وأحكامه على النظام الملكي للدولة.
هذا التغيير وخاصة على مستوى الألفاظ باستبدال كلمة “نصوص” بكلمة “أحكام” له دلالة.
فالنص لغة:[26] الإسناد والتوفيق والتعيين،[27] واصطلاحا: هو الذي لا يقبل احتمالا فيما دل عليه، كقوله تعالى ” والسارق والسارقة، فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله”.[28]
أما الحكم لغة: فهو القضاء ويجمع على أحكام،[29] وشرعا هو : خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع،[30] والحكم نوعين تكليفي ووضعي.[31]
والدستور المغربي لسنة 2011 استعمل لفظ الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، بدل لفظ النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي المستعمل في الدساتير السابقة، ولعل من دواعي هذا التغيير، طبيعة مطالب الحركة النسائية تجاه مدونة الأحوال الشخصية إبان حكم الملك الراحل الحسن الثاني،[32] إذ سعت هذه الحركة إلى تغيير بعض مقتضيات مدونة الأحوال الشخصية بدعوى مخالفة نصوصها للدستور والاتفاقيات الدولية، ومن ضمنها الأحكام المتعلقة بالإرث،[33] الأمر الذي دفع الحسن الثاني، في خطاب وجهة للأمة بمناسبة الذكرى 32 لثورة الملك والشعب، إلى اعتبار أمر المدونة من اختصاص الملك، إذ يقول:
” فاعلمي بنتي العزيزة، المرأة المغربية، أن المدونة، هي قبل كل شيء في عنقي، وأنا المتحمل مسؤولية المدونة أو عدم تطبيق المدونة فارجعي هذا الأمر إلي..”
ويضيف الملك الراحل قائلا في نفس الخطاب ” … وارجعي إلي، فكاتبيني أيتها الجمعيات النسوية، وأرسلن إلي عبر الديوان الملكي ملاحظاتكن ومؤاخذاتكن، وما ترينه مضرا، بحالكن واستقبالكن، واعلمن أن ملك المغرب الذي في آن واحد أمير المؤمنين، له الصلاحية لأن يطبق ويفسر آخر آية نزلت على النبي (ص) حين قال الله سبحانه وتعالى ” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي” فأنا أعلم رواسخ الدين كما أعلم أين يجب الاجتهاد في الدين، فإياكن ثم إياكن أن تخلطن هذا بذاك، كاتبنني عبر الديوان الملكي، فنحن مستعدون لأن نلتقي ونجتمع بكن، وأن نرد الأمور إلى مجراها”.
لقد كان الملك الحسن الثاني حاسما في بعض مطالب الحركة النسائية، والمرتبطة بتغيير بعض الأحكام خاصة المرتبطة بالإرث، على اعتبار أن ذلك من الأمور الموكولة للملك بصفته أميرا للمؤمنين، وهو المتحمل لمسؤولية المدونة، وتغييرها يجب أن لا يتعارض مع الأحكام القطعية في الدين الإسلامي.
ولعل الأمر سيزداد وضوحا في عهد الملك محمد السادس، وذلك أيضا على اثر المطالبة بتعديل[34] مدونة الأحوال الشخصية،[35] ففي خطابه الموجه للبرلمانيين بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الثانية من الولاية التشريعية ل 10 أكتوبر 2003 يقول:
” أما بالنسبة للأسرة والنهوض بأوضاع المرأة فإنني قد أبرزت إشكالها الجوهري غداة تحملي الأمانة العظمى لإمارة المؤمنين، متسائلا في خطاب عشرين غشت لسنة 1999، كيف يمكن الرقي بالمجتمع والنساء اللواتي يشكلن نصفه تهدر حقوقهن ويتعرضن للحيف والعنف والتهميش في غير مراعاة لما خولهن ديننا الحنيف من تكريم وإنصاف؟”.
ويضيف في ذات الخطاب:
” إن الإصلاحات التي ذكرنا أهمَّها لا ينبغي أن يُنْظر إليها على أنها انتصار لفئة على أخرى، بل هي مكاسب للمغاربة أجمعين، وقد حرصنا على أن تستجيب للمبادئ والمرجعيات التالية”.
ومن بين المبادئ التي ذكرها الملك في ذات الخطاب، ويبقى أبرزها، قوله:
” لا يمكنني بصفتي أميرا للمؤمنين أن أُحِل ما حرم الله، وأُحَرم ما أحله”.
ومعنى ذلك أن تغيير الأحكام القطعية في الشريعة الإسلامية أمر غير وارد إطلاقا.
ولذلك جاء التنصيص على ذلك في دستور 2011، وتحديدا في الفصل 175 منه، الذي بين محظورات المراجعة وجعل على رأسها، الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي”.
خاتمة.
ان المراجعة الدستورية، وفي جميع الدساتير كانت لها قيود، غير أن عدد هذه القيود ارتفع من قيدين إلى أربع، ففي الدساتير السابقة “قبل دستور 2011” كانت تتمثل في النصوص المتعلقة بالدين الإسلام والنظام الملكي للدولة، لينضاف إليها قيدين جديدين في الدستور الحالي وهما: الاختيار الديمقراطي، والحقوق والحريات المنصوص عليها دستوريا.
وإضافة هذين القيدين الجديدين يبدو منطقيا، اعتبارا لتطور المسار الديمقراطي والحقوقي بالمغرب، رغم التعثرات بل الانتكاسات التي عرفها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إلا أن إصرار الأحزاب الوطنية في ظل ظروف دولية مساعدة على استكمال مسيرة البناء الديمقراطي والحقوقي أثمر واقعا جديدا، كان من نتائجه تكريس الخيار الديمقراطي وتوسيع هامش الحقوق والحريات، والتي تم إدراجها نظرا لأهميتها، ضمن محظورات التعديل الدستوري.
فما هي إذن أهم ملامح الاختيار الديمقراطي والحقوق والحريات المحظور تعديلها في دستور 2011.
يتبــــــــــــــــــــع.
لائحة المراجع.
الكتـــب:
- احمد حضراني، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، مطبعة سجلماسة، مكناس، الطبعة الثالثة 2013.
- نزيه رعد، القانون الدستوري العام، المبادئ العامة والنظم السياسية، المؤسسة الحديثة للكتاب لبنان، الطبعة الأولى 2011.
- عمر عبد الله خاموش، الاطار الدستوري لمساهمة الشعب في تعديل الدستور، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، الطبعة الاولى 2013.
- محمد ضريف، القانون الدستوري مدخل لدراسة النظرية العامة والأنظمة السياسية، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998.
- ثروت بدوي، القانون الدستوري وتطور الانظمة الدستورية في مصر ، دار النهضة العربية القاهرة 1969.
- مصطفى قلوش ، النظام الدستوري المغربي، المؤسسة الملكية، شركة بابل للطباعة والنشر الرباط 1996 –الطبعة الاولى 1997.
- محمد معتصم، النظام الدستوري المغربي، مؤسسة ايزيس للنشر الدار البيضاء الطبعة الأولى 1992.
- مجد الدين الفيروز أبادي، القاموس المحيط ، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 1995 الجزء الثاني ، ص 488.
- محمد أبو زهرة ، أصول الفقه دار الفكر العربي دون طبعة ص 121.
- عبد اللطيف البغيل، المدخل إلى الشريعة الإسلامية والحكم الشرعي والقواعد الكلية، مطبعة سليكي اخوان ، طنجة، الطبعة الثانية 2009، ص 88.
الرسائـــــل:
- محمد بوعزة ، محمد بوعزة ، الضوابط الشكلية والموضوعية للتعديل الدستوري في المغرب ، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة محمد الأول وجدة، الموسم الجامعي 2014 – 2015.
- غريبة صونيا، الاصلاح الديمقراطي في الأنظمة السياسية الملكية ، دراسة للنظام السياسي الملكي المغربي، رسالة لنيل شهادة الماستر في العلوم السياسية جامعة بسكرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية السنة الجامعية 2014 / 2015.
- علي بوعطية، جدلية الإصلاح السياسي والدستوري في المغرب مرحلة 1999- 2009، رسالة الماستر في القانون العام المعمق، كلية الحقوق طنجة، موسم 2008 – 2009.
المقالات:
- عبد الحق بلفقيه، في تقييم الدستورانية الجديدة تحول في ظل الاستمرارية، مسالك العدد 45/46 السنة 13.
النصوص التشريعية:
- دستور 1962.
- دستور 1970.
- دستور 1972.
- دستور 1992.
- دستور 1996.
- دستور 2011.
المواقع الالكترونية:
- عبد القادر بناصر”الضوابط الشكلية للسلطة التأسيسية في الدستور المغربي” المنشور بمجلة مغرب القانون: https://www.maroclaw.com/.
- ادريس مغراوي محمد مدني/ سلوى زرهوني “دراسة نقدية للدستور المغربي 2011” المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات 2012 ص 19/ تاريخ التصفح شتنبر 2019 الرابط
- رشيد زيزاوي، التطور التاريخي لمدونة الأسرة المغربية. تاريخ التصفح يونيو 2017. http//ae.linkedin.com
الهوامش
[1] – انظر مقالنا “الضوابط الشكلية للسلطة التأسيسية في الدستور المغربي” المنشور بمجلة مغرب القانون: https://www.maroclaw.com/.
[2]– احمد حضراني، القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، مطبعة سجلماسة، مكناس، الطبعة الثالثة 2013، ص 166.
[3]– نزيه رعد، القانون الدستوري العام، المبادئ العامة والنظم السياسية، المؤسسة الحديثة للكتاب لبنان، الطبعة الأولى 2011، ص 94.
[4]-عمر عبد الله خاموش، الاطار الدستوري لمساهمة الشعب في تعديل الدستور، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، الطبعة الاولى 2013، ص171 / محمد ضريف، القانون الدستوري مدخل لدراسة النظرية العامة والأنظمة السياسية، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1998، ص 94/ نزيه رعد، مرجع سابق، ص 95/ أحمد حضراني، مرجع سابق، ص 167.
[5]– ثروت بدوي، القانون الدستوري وتطور الانظمة الدستورية في مصر ، دار النهضة العربية القاهرة 1969 ص 97.
[6]– محمد بوعزة ، محمد بوعزة ، الضوابط الشكلية والموضوعية للتعديل الدستوري في المغرب ، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة محمد الأول وجدة، الموسم الجامعي 2014 – 2015، ص 69 – 70.
[7]– نفس المرجع، ص 70.
[8] – انظر: الفصل 175 من دستور 2011، ف: 108 من دستور 1962، ف: 100 من دستوري 1970 و 1992، ف: 101 من دستور 1972 ، ف: 106 من دستور 1996. فقد وردت في هذه الفصول محظورات تعديل الدستور.
[9]– غريبة صونيا، الاصلاح الديمقراطي في الأنظمة السياسية الملكية ، دراسة للنظام السياسي الملكي المغربي، رسالة لنيل شهادة الماستر في العلوم السياسية جامعة بسكرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية السنة الجامعية 2014 / 2015 ص 31.
[10]– مصطفى قلوش ، النظام الدستوري المغربي، المؤسسة الملكية، شركة بابل للطباعة والنشر الرباط 1996 –الطبعة الاولى 1997 ص 11.
[11]– محمد معتصم، النظام الدستوري المغربي، مؤسسة ايزيس للنشر الدار البيضاء الطبعة الأولى 1992 ص 31 .
[12]– نفس المرجع ص 32.
[13]– الفقرة الأولى من الفصل الأول من دستور 2011.
[14]– عبد الحق بلفقيه، في تقييم الدستورانية الجديدة تحول في ظل الاستمرارية، مسالك العدد 45/46 السنة 13 ص 23.
[15]– الفصل 175 من دستور2011 ” لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، وبالنظام الملكي للدولة، وبالاختيار الديمقراطي للأمة، وبالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور”.
[16]– الفصل 21 من دساتير 1970 ، 1972، 1992، 1996 / والفصل 44 من دستور 2011.
[17]– محمد بوعزة، مرجع سابق، ص 73.
[18]– الفقرة 1 من الفصل 21 من دستور 1962 “يعتبر الملك غير بالغ سن الرشد إلى نهاية السنة الثامنة عشر من عمره ، وقبل بلوغه سن الرشد يمارس اختصاصات العرش وحقوقه الدستورية مجلس وصاية”.
[19]– الفصل 19 من الدساتير السابقة و 41 من دستور2011.
[20]-” المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية” تصدير دستور 2011 /انظر أيضا الفقرة 3 من الفصل 7 من دستور 2011.
[21]– محمد بوعزة ،مرجع سابق ص 74.
[22]– الفصل 6 من دساتير 1970 – 1972 – 1992 – 1996 والفصل 3 من دستور 2011.
[23]– ادريس مغراوي محمد مدني/ سلوى زرهوني “دراسة نقدية للدستور المغربي 2011” المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات 2012 ص 19/ تاريخ التصفح شتنبر 2019 الرابط
[24]– نفس المرجع ص 19.
[25]– ادريس مغراوي، مرجع سابق، ص 19.
[26]– النص يندرج ضمن الألفاظ الواضحة الدلالة في علم أصول الفقه، وهي بالإضافة إلى النص، الظاهر، المفسر و المحكم، وهناك ألفاظ غير واضحة الدلالة وهي : الخفي ، المشكل ، المجمل ، المتشابه.
[27]– مجد الدين الفيروز أبادي، القاموس المحيط ، دار الكتب العلمية بيروت الطبعة الأولى 1995 الجزء الثاني ، ص 488.
[28]– محمد أبو زهرة ، أصول الفقه دار الفكر العربي دون طبعة ص 121.
[29]– مجد الدين الفيروز أبادي، مرجع سابق، ج 4 ص 39.
[30]– عبد اللطيف البغيل، المدخل إلى الشريعة الإسلامية والحكم الشرعي والقواعد الكلية، مطبعة سليكي اخوان ، طنجة، الطبعة الثانية 2009، ص 88.
[31]– الحكم التكليفي خمسة أقسام، الواجب، المندوب، المحرم، المكروه، المباح، والحكم الوضعي إما أن يكون سببا أو شرطا أو مانعا.
[32]– تم تعديل المدونة سنة 1993.
[33]– رشيد زيزاوي، التطور التاريخي لمدونة الأسرة المغربية. تاريخ التصفح1 يونيو 2017. http//ae.linkedin.com
[34]– علي بوعطية، جدلية الإصلاح السياسي والدستوري في المغرب مرحلة 1999- 2009، رسالة الماستر في القانون العام المعمق، كلية الحقوق طنجة، موسم 2008 – 2009 ، ص 59.
[35]– تم تعديل المدونة عام 2003 وأصبحت تحمل اسم مدونة الأسرة.