القطاع البنكي والنموذج التنموي الجديد
نورالدين فريش باحث في قانون الأعمال
أكد جلالة الملك بتاريخ 13 أكتوبر 2017 بمناسبة ترؤس جلالته لافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة على أن: ” المغاربة اليوم، يحتاجون للتنمية المتوازنة والمنصفة، التي تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وخاصة للشباب، وتساهم في الاطمئنان والاستقرار ، والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية، التي يطمح إليها كل مواطن”، فرغم التقدم الذي حققه المغرب إلا أن النموذج التنموي بصيغته الحالية في نظر جلالته “لم يعد قادرا” على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وبالتالي فقد أصبح لزاما إعادة النظر فيه من أجل إرساء دعامات نموذج تنموي جديد يتجاوز جميع العراقيل التي تعيق تطور النموذج الحالي، بمعالجة مختلف نقاط الضعف والاختلالات التي أبانت عنها هذه التجربة.
ومن المعلوم أن النموذج التنموي الحالي كان يأخذ قوته من دعم الاستهلاك كأداة للنمو الاقتصادي، وظهر ذلك جليا من خلال حجم القروض الممنوحة، والتي وإن حققت نتائج جيدة في سنوات قليلة فإنها سرعان ما اصطدمت بغياب مقومات الاستدامة، وهو نفس سبب فشل العديد من الاقتصاديات الأوروبية والتي بالغت في الاعتماد على دعم الاستهلاك بإغراق الأسر في الديون التي شكلت عبئا عليها دون أن تكون أداة للتنمية[1].
هذا، وقد أكد البنك الدولي[2] في تقرير له أن:” المستوى المعيشي للمغاربة يعادل حاليا نظيره لدى الفرنسيين لسنة 1950 ولدى الإيطاليين في سنة 1955، والإسبان في 1960، والبرتغاليين في 1965″، كما دعا في نفس التقرير المغرب إلى تعزيز العقد الاجتماعي، المؤسس على النهوض بمجتمع منفتح، وإعادة تركيز الدولة على مهامها السيادية، وتنمية الرأسمال البشري، وتعزيز الرأسمال الاجتماعي.
ومن هذا المنطلق يقول[3]مؤسس البنكي الدولي السيد Jean-Pierre Chauffourأن خارطة الطريق لبناء نموذج تنموي جديد بالمغرب تحاول وصف السياسة والشروط الاقتصادية التي من شأنها تنشيط قدرات النمو بالمغرب، لكن الأهم بنظره هو شعور كل مواطن أنه مطالب بالمساهمة في تنمية بلاده، وجعل المؤسسات أكثر إدماجية والنهوض بتساوي الفرص الاقتصادية، فضلا عن تعزيز الثقة بين الأشخاص، والحاجة لمسار تشاوري يخول لكل الفرقاء المناقشة والتفاهم حول انتظاراتهم بالنسبة للبلاد بحلول سنة 2040.
وبات من اللازم جعل البعد المجالي ركيزة أساسا للنموذج التنموي الجديد قصد حل جل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والتأسيس لعدالة مجالية تكون قادرة على تحقيق استدامة النموذج الوطني في الإصلاح وفي الاستقرار، واستثمار إمكانيات كل جهة أو اقليم، وإحداث توزيع عادل للثروات، والتخفيف من ثقل تمركز إنتاج الثروات في جهة أو جهات بعينها[4].
كما أكد الأستاذ خالد الشرقاوي السموني[5]أن: “ تشجيع الاستثمار الوطني والأجنبي والاهتمام بالفئات الهشة يمكن أن يعطي للعدالة الاجتماعية والمجالية مفهومها وبعدها ومدلولها الحقيقي العملي. فمثلا تشغيل الشباب والقضاء على العطالة لن يتحققا إلا من خلال وضع استراتيجية واضحة المعالم على مستوى كل جهة، لأن ترسيخ نظام الجهوية المتقدمة قد يمكن من بناء علاقات جديدة بين الإدارة والمواطن، مبنية على القرب والإصغاء والشفافية والجودة والسرعة في الإنجاز.“
في حين يرى الأستاذعبد اللطيف برحو[6] أن:” الهدف الأساسي من صياغة أي “نموذج تنموي” العمل على واجهتين أساسيتين، آليات إنتاج الثروة والقيمة الاقتصادية المُضافة، ثم آليات توزيع الثروة وثمار النمو الاقتصادي. وهذا ما يفترض وجود نسق système سياسي واقتصادي واجتماعي ملائم يسمح بتطور اقتصادي واضح، وباستفادة مختلف الفئات الاجتماعية والقطاعات الاقتصادية والمجالات الترابية بشكل منصف من ثمار التنمية ومن القيمة المضافة التي تنتجها الدولة.“
وبناء عليه، ولأن جلالة الملك أكد خلال خطابه السامي إلى الأمة بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب بتاريخ 20 غشت 2019 أن المرحلة المقبلة “مرحلة المسؤولية والإقلاع الشامل”، فإن بناء النموذج التنموي الجديد رهين بالاعتماد على المقومات والقدرات الاقتصادية، التي يمتلكها المغرب، وبمدى قدرته على تحفيز مختلف القطاعات (الفلاحة، الصناعة، الخدمات، والمهن الحرة…)، ثم الاهتمام بشكل أكبر بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني والتشغيل و المقاولات الذاتية، التي تعد من بين الروافد الأساسية للتنمية في عدد من الاقتصاديات الصاعدة[7].
ووعيا من جلالة الملك بأهمية كل الفرقاء في إرساء دعامات نموذج تنموي جديد، فقد شكل الخطاب الذي ألقاه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية العاشرة بتاريخ 11 أكتوبر 2019 لحظة تاريخية، ودعوة صريحة لهؤولاء لتحمل مسؤولياتهم بغية إنجاح النموذج التنموي الجديد، وركز جلالته على القطاع البنكي باعتباره المحرك الرئيس للاقتصاد الوطني من أجل تحقيق تنمية اقتصادية اجتماعية شاملة، فالمرحلة الجديدة حسب جلالته:” تبدأ من الآن، وتتطلب انخراط الجميع، بالمزيد من الثقة والتعاون، والوحدة والتعبئة واليقظة، بعيدا عن الصراعات الفارغة، وتضييع الوقت والطاقات.”
فممهما بلغ صواب القرارات المتخذة، وجودة المشاريع المبرمجة، فإن تنفيذها يبقى رهينا بتوفر الموارد الكافية لتمويلها يضيف جلالة الملك.
فالمغرب اليوم يتوفر على قطاع بنكي متميز تمكن من تبوء مكانة هامة على الصعيد الإفريقي، ويساهم في دعم وصمود الاقتصاد الوطني، لكن هذا الأمر لا يجعلنا ننكر أن الانطباع السائد على هذا القطاع لدى عموم المتعاملين معه، كونه يبحث عن الربح السريع والمضمون دون اعتماد مبدأ المجازفة أحيانا، وهو ما أكده الخطاب الملكي، والذي وجه دعوة صريحة لهذا القطاع إلى المزيد من الالتزام، والانخراط الإيجابي في دينامية التنمية، التي تعيشها بلادنا، لاسيما تمويل الاستثمار، ودعم الأنشطة المنتجة والمدرة للشغل والدخل.
كما دعا جلالته الأبناك، إضافة إلى الدعم والتمويل الذي توفره للمقاولات الكبرى، لتعزيز دورها التنموي، وخاصة من خلال تبسيط وتسهيل عملية الولوج للقروض، إلى الانفتاح أكثر على أصحاب المقاولات الذاتية، وتمويل الشركات الصغرى والمتوسطة…
وبناء على كل ما سبق فإننا نتساءل، إلى أي حد استطاع القطاع البنكي المغربي المساهمة في التنمية الاقتصادية؟ وتمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة؟ وما هي معيقات تمويل هذه الأخيرة؟
كل هذه التساؤلات وغيرها سنحاول الإجابة عنها من خلال تقسيم الموضوع إلى مطلبين نعالج في أولهمادور القطاع البنكي في تحقيق التنمية الاقتصادية، على أن نخصص ثانيهما للحديث عن دور هذا القطاع في تمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة، خاتمين الموضوع بتقديم مجموعة من التوصيات.
المطلب الأول: دور القطاع البنكي في تحقيق التنمية الاقتصادية
تشكل البنوكأحد الدعامات الأساسية للنشاط الاقتصادي والمحرك الأساس له، نظرا لاتصالها الوثيق بالحياة الاقتصادية من شتى نواحيها، أضف لعلاقاتها المتصلة بالحكومات والأفراد عن طريق تقديم مختلف الخدمات للفرقاء الاقتصاديين.
فالبنوك تلعب دورا رياديا في الحياة الاقتصادية المعاصرة، لما تضطلع به من دور هام في تنشيط ودعم حركية الاقتصاد الوطني، بحيث عرفت عملياتها نموا ملموسا تجاوز حدود الوظيفة التقليدية التي كانت تنحصر في عمليات القرض، إلى توزيع الائتمان[8]، بل غدت أداة فاعلة في تشجيع سياسة الادخار وضبط توازن السوق المالي، وخاصة في الحالة التي تعرف فيها هذه الأسواق حالة من الانكماش والتضخم[9].
ومعلوم أن البنوك المغربية تقود تعاملات مالية كبرى عبر أفريقيا، وتملك في الوقت الحالي شراكات وحصصا في أزيد من 20 دولة إفريقية معظمها غرب القارة، الأمر الذي يمهد لزيادة حضور استثمارات الشركات المغربية في الدول الإفريقية، على اعتبار أن هذه البنوك تعد بوابة عبور للشركات المغربية الكبيرة والمتوسطة للحصول على فرص استثمارية في الأسواق الافريقية الواعدة[10].
وبذلك نجحت البنوك المغربية في تحقيق ما يقرب ثلث إجمالي أرباحها من الشركات التابعة في جميع أنحاء أفريقيا.
فنجاح النموذج التنموي الجديد يمر عبر انخراط القطاع البنكي، لما لهذا الانخراط من تأثير إيجابي على التنمية الاقتصادية[11]، حيث يمكن إبراز بعض الأهداف الأساسية التي تنبني عليها خطة هذه الأخيرةفيمايلي:
- زيادة الدخل القومي؛
- رفع مستوى المعيشة؛
- تقليل التفاوت في الدخول والثروات؛
- تقديم التمويل اللازم للقطاعات الاقتصادية؛
وغني عن البيان، أنه عند طرح قضية التنمية الاقتصادية في أي مجتمع فإن الأمر يرتبط بشكل تلقائي بطرح القضايا المتعلقة بتمويلها، من حيث الأساليب والأجهزة، وعلى وجه الخصوص الدور الذي يمكن أن تلعبه الإدارة السليمة للقطاع البنكي للاضطلاع بهذا العبئ، ومدى إمكانيته في تغيير أوضاعه وسياساته بما يمكنه من التكيف مع الأوضاع المطلوبة لتنمية المجتمع، ونظرا لكون الطلب على خدمات البنوك طلبا مشتقا من حاجة التنمية الاقتصادية، فبذلك يمكن القول أنه كلما اتسعت حدود التنمية زادت الحاجة إلى وجود نظام بنكي أكثر تطورا وأوسع خدمات.
وحرصا من المشرع المغربي على ضمان الاستقرار والاستمرارية للدورة المالية والاقتصادية بما يكفل تمكين القطاع البنكي من القيام بدوره في تعبئة المدخرات وتوزيع الائتمانات بالشكل الذي يحقق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لمختلف مكونات الاقتصاد المغربي، فإن مسلسل إصلاح المنظومة القانونية الخاصة به قد عرف تطورا مهما، فقد تجلت أولى بوادره بإحداث البنك المخزني المغربي بموجب اتفاقية الجزيرة الخضراء (الخزيرات) المبرمة في 7 أبريل 1906، والمعدل بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.59.233 حيث صار يحمل اسم بنك المغرب، لتتوالى التشريعات والقوانين المؤطرة للقطاع البنكي وعلى رأسها الظهير الشريف رقم 1.05.38 الصادر بتنفيذ القانون رقم 76.03 الذي هو بمثابة قانون أساسي لبنك المغرب، وبتاريخ 6 يوليوز 1993 صدر الظهير الشريف رقم 1.93.147 وبتاريخ 14 فبراير 2006 صدر القانون رقم 34.03 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها، والمعدل بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.14.193 الصادر بتاريخ 24 دجنبر 2014 بتنفيذ القانون رقم 103.12 المتعلق بمؤسسات الائتمان والهيئات المعتبرة في حكمها.
وتظهر أهمية البنوك في:
- المساهمة في زيادة الناتج الاجمالي؛
- المساهمة في إدخال وتوطين التقنيات البنكية الحديثة من الصراف الآلي والحسابات البنكية المتطورة؛
- جذب جزء كبير من الأموال المدخرة خارج القطاع البنكي وإدخالها في الدورة الاقتصادية؛
- تأمين القروض اللازمة سواء كانت قصيرة أو متوسطة أو بعيدة المدى، للعمل في القطاع الصناعي والتجاري والخدماتي، بحيث تساهم في إحداث ومواكبة مشاريع استثمارية جديدة؛
- المساهمة في حل معضلة البطالة؛
وإذا كان هذا فيما يتعلق بدور القطاع البنكي في التنمية الاقتصادية، فهل استطاع هذا القطاع فعلا القيام بالدور المنتظر منه لتمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة؟ وما هي المعيقات التي تواجه هذه العملية (التمويل)؟
هذه الأسئلة وغيرها سنحاول معالجتها من خلال المطلب الثاني.
المطلب الثاني: دور القطاع البنكي في تمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة
حث جلالة الملك من خلال خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية العاشرة القطاع البنكي المغربي على المزيد من الالتزام والانخراط الإيجابي في دينامية التنمية التي تعيشها بلادنا، وعلى وجه الخصوص دعم الاستثمار ودعم الأنشطة المدرة للشغل والدخل، فجلالة الملك كان واضحا من خلال خطابه على أنه آن الأوان للقطاع البنكي إضافة إلى التمويل الذي يوفره للمقاولات الكبرى، إلى تعزيز دوره التنموي، وذلك من خلال تبسيط عمليات الولوج للقروض، والانفتاح على أصحاب المقاولات الذاتية، وتمويل الشركات الصغرى والمتوسطة، فتمويل هذه الأخيرة، يعد ركيزة أساسية لضمان التنمية والنمو الاقتصاديين وتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
غير أن تمويل الاقتصاد بصفة عامة يتوقف على تعبئة الادخار، وتأمين استغلال الموارد المعبأة، تبعا للسياسة النقدية والمالية للدولة، خاصة بالنسبة للمقاولات الصغرى والمتوسطة والتي تشكل أساس النسيج الاقتصادي المغربي والتي تعاني من مشكل الوصول إلى التمويل.
هذا، وقد تزايدالاهتمام بالمقاولات الصغرى والمتوسطة، خاصة بعد الشروع في تطبيق سياسة الخوصصة التي انتهجتها الحكومة المغربية بموجب القانون رقم 89-39 ، قصد عصرنة الاقتصاد المغربي عن طريق الانفتاح على الاقتصاد العالمي والمساهمة بشكل أوسع في المبادلات التجارية الدولية وتحسين النتائج الصناعية والمالية للمنشآت ومضاعفة الاستثمارات التي من شأنها خلق مناصب شغل وكفاءات جديدة، مما أدى إلى اتباع سياسة خاصة بهذه الشركات سنة 2002، أعطت لمسألة التمويل أهمية قصوىبغية إنعاش هذا الصنف من الشركات، والرفع من قدراتها التنافسية، وأيضا قصد إصلاح الخلل الذي تجلى في عدم تناسب عدد تلك المقاولات مع مساهمتها في الناتج الداخلي الخام، حيث مثلت أكثر من 95 % من مجموع المقاولات، ولم تساهم إلا بأقل من 20 %، في حين أنه في بعض الدول تصل المساهمة إلى أكثر من 50 %.
وعليه، نجد أن موضوع تمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة له أهمية بالغة، للعديد من الاعتبارات نوردها كالتالي:
- تعد المقاولة اليوم أداة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأداؤها لهذه الأدوار الحيوية رهين بمدى قدرتها على التمويل، خاصة بالنسبة للمقاولات الصغرى والمتوسطة التي تعاني من هاجس ضعف الموارد الذاتية وصعوبة الوصول إلى المصادر التمويلية الخارجية[12].
- تعمد وتحتفظ المقاولات الصغرى والمتوسطة بمستوى تشغيلها من خلال فترات الانتعاش الاقتصادي.
وتأسيسا على ما سبق، فإن تلبية المقاولات الصغرى والمتوسطة للحاجيات المتعددة للدولة والأفراد رهين بتجاوز جل الكبوات والمعيقات التي تحول دون تنميتها وتطورها.
ورغم المجهودات المبذولة من قبل القطاع البنكي ودوره الفعال في تمويل الاقتصاد، بفضل قدرته على جمع المدخرات وتوظيفها، فالملاحظ أن القروض البنكية ظلت قاصرة عن تمويل المقاولات، وذلك راجع في نظرنا إلى الإكراهات التي تواجه البنوك في تمويل المقاولات ذات الموارد الذاتية الضعيفة، والبنية المالية والمحاسبية الهشة، والضمانات الضعيفة والمنعدمة أحيانا، فالبنوك تأخذ في حسبانها المردودية واحترام القواعد الاحترازية، فالائتمان البنكي ماهو إلا نتيجة طبيعية للودائع التي تتلقاها المؤسسات البنكية من مختلف زبنائها، وعليه فإنها تتاجر في غالب الأحيان في أموال ليست لها، وإنما هي موضوعة لديها على سبيل الوديعة يمكن في أي وقت استرجاعها من أصحابها، وهو الأمر الذي قد تكون ينعس سلبا عليها، وذلك حينما يبادر المودعين على سحب ودائعهم من البنوك نتيجة ظهور بعض الصعوبات أو الأزمات المالية التي قد تعصف أو تهدد استمرارية الحياة التجارية لهذه المؤسسات[13]، الأمر الذي يجعلها تقتصر على تمويل المقاولات المهيكلة ذات الوضعية المالية السليمة من جهة، والضمانات الكافية من جهة أخرى.
إن غياب الشفافية، وتقديم طلبات قروض غير مستوفية للشروط المطلوبة، وإخفاء الوضعية الحقيقية للمقاولة، أضف إلى ذلك ضعف تجربة بعض المقاولين[14]، وتركيز البنوك على المردودية والضمانات ومحاولتها تجنب المخاطرة، إضافة لتشكي بعض المقاولين من عدم تقديم البنوك للاستشارات والمعلومات الضرورية، والتكلفة المرتفعة للتمويل نظرا لنسب الفائدة المرتفعة، كلها أسباب أدت إلى زعزعة الثقة بين المؤسسات البنكية والمقاولات الصغرى والمتوسطة، وأثرت على حجم التمويلات الموجهة لهذه الأخيرة، لذلك بات على القطاع البنكي الانسجام مع الدعوة الملكية الصريحة بإضفاء مرونة أكثر كقطاع مواطن، وذلك من خلال إعطاء الأولوية للضمانات المرتبطة بالمشروع الممول، مع السرعة في دراستها، ومحاولة خلق علاقة رابح رابح مع زبنائها، وذلك في انسجام تام مع المخطط الذي دعا إليه جلالة الملك، وأعطاه التوجيهات التالية:
أولا: تمكين أكبر عدد من الشباب المؤهل، حاملي المشاريع، المنتمين لمختلف الفئات الاجتماعية، من الحصول على قروض بنكية، لإطلاق مشاريعهم، وتقديم الدعم لهم، لضمان أكبر نسبة من النجاح؛
ثانيا: دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة، العاملة في مجال التصدير، وخاصة نحو إفريقيا، والاستفادة من القيمة المضافة للاقتصاد الوطني؛
ثالثا: تسهيل ولوج عموم المواطنين للخدمات البنكية، والاستفادة من فرص الاندماج المهني والاقتصادي، خاصة بالنسبة للعاملين في القطاع غير المنظم.
كما دعا جلالة الملك الأبناك إلى مواصلة جهودها واستثمار التكنولوجيا الحديثة، والابتكارات المالية، وذلك بغية توسيع قاعدة المستفيدين من الخدمات البنكية والتمويلية، في جو يتسم بخدمة المصالح المتبادلة بين الطرفين، في توازن وإنصاف تامين للدفع بعجلة التنمية.
وبناء على ما سبق فإن نجاح النموذج التنموي الجديد رهين بالانخراط التام للقطاع البنكي، وتعزيز الثقة بين المقرض (البنك) والمقترض (الزبون أو المقاولة)، كما بات لزاما على المستفيدين من القروض تحمل مسؤولياتهم والوفاء بالتزاماتهم، للمساهمة في عملية التنمية.
خاتمة
إن معالجة موضوع من هذا الحجم كموضوع القطاع البنكي والنموذج التنموي الجديد ليس بالأمر الهين، نظرا لشساعة مجاله، لذلك حاولنا لمس أبرز الإشكالات التي تحيط به، لنخلص في الأخير لمجموعة من التوصيات نرى أنه من الواجب الأخذ بها لانخراط بناء من القطاع البنكي في إنجاح النموذج التنموي الجديد، ونذكر منها:
- ضرورة خلق علاقة تطبعها الثقة بين القطاع البنكي والمقاولات الصغرى والمتوسطة؛
- تبسيط مساطر الاستفادة من القروض بالنسبة للمقاولات الصغرى والمتوسطة، وخلق علاقة رابح رابح بين هذه الأخيرة والقطاع البنكي؛
- تسقيف الحد الأقصى لنسب الفائدة المطبقة على القروض الممنوحة للمقاولات الصغرى والمتوسطة، مع اعتماد نظام المنافسة بين المؤسسات البنكية في تطبيق أسعار الفائدة على القروض تحت الحد المسقف؛
- اعتماد عنصر التكوين المستمر لخلق كفاءات بمقدورها تنمية كفاءة المقاولات الصغيرة والمتوسطة، وتمكينها من التقدم نحو مصاف المقاولات الكبرى المهيكلة؛
- تشجيع المقاولات المغربية على الاستثمار في إفريقيا، مع مواكبتها من طرف القطاع البنكي؛
- خلق لجان مشتركة بين الحكومة والقطاع البنكي والاتحاد العام لمقاولات المغرب وبعض الكفاءات والخبرات الوطنية، قصد تتبع عمليات تمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة، وتقديم الاستشارات والإرشادات التي من شأنها أن تساهم في تطويرها ووقايتها من الأزمات.
- ضبط المقاولات الصغرى والمتوسطة لمحاسبتها بشكل دقيق – ووفق المقتضيات القانونية الجاري بها العمل- يكشف المعطيات الحقيقية لوضعيتها المالية، قصد تشجيع البنوك على منحها القروض المطلوبة؛
- خلق شراكات بين الشركات الكبرى والمقاولات الصغرى والمتوسطة، بشكل يسهم في استفادة هذه الأخيرة من التجربة والمعاملات، وتشجيع البنوك على تمويلها؛
- ضرورة مواكبة المقاولات الصغرى والمتوسطة لمختلف التطورات التكنولوجية ومعايير ومتطلبات إدارة الجودة الشاملة الهادفة إلى تحسين وتطوير أدائها بصفة مستمرة والرفع من إنتاجيتها بتكاليف أقلوالتأقلم مع الشروط التي تفرضها آليات وميكانزمات السوق؛
- إن معاناة الشركات والمقاولات الوطنية من تأخير الحصول على مستحقاتها وديونها على الدولة يؤدي إلى عدم قدرتها على الوفاءبالتزاماتها المالية اتجاه الأبناك المدينة، الأمر الذي يستوجب انخراط الحكومة لتقليص آجال الوفاء بهذهالديون.
- وضع تدابيرحمائية واضحة وشفافة وقانونية ضد الاستيراد غير المشروع المتمثل في إغراق السوق المغربية بشكل مبالغ فيه بالسلع والبضائعالأمر الذي يهدد بإلحاق الضرر بالإنتاج الوطني.
- إعطاء الأولوية للشركات والمقاولات الوطنية وخاصة الصغرى والمتوسطة والصغيرة جدا في المشاريع العمومية حسب نوعية وحجم الصفقات؛
- وضع نظام خاص بهدف التوزيع العادل والشفافللمشاريع العمومية على الشركات والمقاولات الوطنية بكل أشكالها بعيدا عن نظام المناقصات غير العادل المعمول به اليوم في ظل المنافسة القوية من قبل الشركات الأجنبية التي لها حق المشاركة والتي تجعل مقاولاتنا الوطنية غير قادرة بل وعاجزة أحيانا على مواجهة قوة منافستها، بما لها من قدرات مالية واستثمارية ضخمة.
الهوامش :
[1] أنظر لمزيد من التفصيل: عبد اللطيف برحو، مقال بعنوان: “نحو صياغة نموذج تنموي جديد”، مقال منشور على موقع هسبريس بتاريخ: 13 نونبر 2018، https://www.hespress.com/writers/412017.html.
[2] تقرير البنك الدولي سنة 2017 بعنوان: “المغرب في أفق 2040”، الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي.
[3] أنظر نفس التقرير أعلاه.
لمزيد من التوسع حول الموضوع أنظر: علي حدودي: “النموذج التنموي المغربي: مقومات مرتقبة للنمودج الجديد”، مقال منشور بتاريخ 09 دجنبر 2018 على موقع: https://www.maroclaw.com.
[4] أنظر خالد الشرقاوي السموني: “النموذج التنموي الجديد والجهوية المتقدمة”، مقال منشور على موقع جريدة الصباح بتاريخ 15 فبراير 2019
https://assabah.ma/365956.html.
[5] أنظر خالد الشرقاوي السموني، نفس المرجع السابق.
عبد اللطيف برحو، مرجع سابق.[6]
[7] لمزيد من التوسع أنظر: عبد اللطيف برحو، نفس المرجع السابق.
[8] أنظر هشام البلاوي : الفوائد البنكية في القانون المغربي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاص، وحدة قانون المقاولات، جامعة محمد الخامس، اكدال، الرباط، السنة الجامعية 2003 – 2004، ص:1.
أنظر كذلك: نورالدين فريش: “حماية المستهلك: الفوائد البنكية نموذحا”، رسالة لنيل دبلوم الماستر في قانون الأعمال، كلية الحقوق المحمدية، سنة 2013.
[9] تشكل الفوائد أداة من أدوات السياسة المالية ووسيلة من وسائل مواجهة بعض التقلبات الاقتصادية، وخاصة حينما ترتفع الكتلة النقدية أو بالمقابل حينما تعرف هذه الكتلة انكماشا، حيث تقوم الأبناك في إطار السياسة العامة للاقتصاد الوطني بضبط هذا التوازن النقدي من خلال العمل على رفع وخفض أسعار الفائدة.
- للمزيد من التوسع في الموضوع أنظر: فيصل محمد فكري أحمد، مجموعة الرسائل العلمية، سعر الفائدة كأداة من أدوات السياسة الاقتصادية، دراسة مقارنة، (بدون ذكر دار ومكان النشر)، طبعة 1993، ص: 214.
[10] أنظر: مقال بعنوان: “بنوك المغرب تمهد دروب التنمية في إفريقيا”، نشر بتاريخ 17/01/2019 على الموقع الالكتروني: www.alarab.co.uk.
[11] مفهوم التنمية الاقتصادية:
ظهرت تعاريف عديدة ومتنوعة حاولت تحديد طبيعة التنمية الاقتصادية، ويمكن إيرادها فيما يلي:” التنمية الاقتصادية هي تلك الجهود المنظمة التي تبذل وفق تخطيط ورسوم للتنسيق بين الإمكانيات البشرية والمادية المتاحة في وسط اجتماعي معين، قصد تحقيق مستويات أعلى للمعيشة والحياة الاقتصادية في نواحيها المختلفة كالتعليم والصحة ومن ثم الوصول إلى تحقيق أعلى مستوى ممكن من الرفاهية الاجتماعي”.
أنظر لمزيد من التفصيل حول هذه النقطة:
- ليلى عبد جاسم الطائي، دور المصارف الصناعية في التنمية الاقتصادية، مجلة الفنون والأدب وعلوم الإنسانيات والاجتماع، العدد 25، يونيو 2018.
- جمعون نوال، دور التمويل المصرفي في التنمية الاقتصادية، رسالة لنيل شهادة الماجيستير في علوم التسيير، تخصص: نقود ومالية، كلية الإدارة وعلوم التسيير، قسم علوم التسيير، جامعة الجزائر، السنة الجامعية 2004– 2005، ص: 18.
[12]أطلق المغرب مجموعة من البرامج لتمويل المقاولاتوإن كان البعض منها فشل في أداء مهمته مثل:
برنامج نمو – امتياز
يهدف برنامج نمو-امتياز، الذي يندرج في إطار تنفيذ الميثاق الوطني للإقلاع الصناعي،لدعم الاستثمار المنتج لتعزيز النمو وخلق فرص العمل وتطوير النظم الصناعية من خلال تقديم منحةالاستثمار للمقاولات الصغرى والمتوسطة المختارة.
يمنح هذا البرنامج للمقاولات المختارة منحة للاستثمار المادي واللامادي، بما في ذلك الشراء الجزئي أو الكلي للمقاولات، لا سيما في سياق عمليات الاندماج / الاستحواذ، أي ما يعادل 20٪ من إجمالي الاستثمارات وفي حد أقصى لا يتجاوز خمسة ملايين درهم في كل مشروع تنموي. الحد الأدنى للتمويل الذاتي من قبل المستفيد محدد في 20٪ من حجم الاستثمار الكلي.
يهدف برنامج “امتياز: إلى مواكبة ثمانين (80) مقاولة سنويا في إطار اتفاق نمو يحدد من جهة، التزامات كل من الشركة والوكالة الوطنية لإنعاش المقاولة الصغرى والمتوسطةوترتيباتتقديم منحة امتياز والأهداف الإنمائية للشركة أو مجموعة الشركات المستفيدة، ومن جهة أخرى، مجالات وترتيبات تدخل الوكالة الوطنية لإنعاش المقاولة الصغرى والمتوسطة.
برنامج مساندة
يهدف برنامج مساندة لمواكبة سبعمائة (700) مقاولة سنويا في جهودها الرامية إلى تحديث وتحسين إنتاجيتها، ولا سيما خطط التقدم التي تشمل العديد من إجراءات المواكبة لتحسين الأداء والإنتاجية والدعم للوصول إلى أسواق جديدة.
تم إطلاق برامج تشغيلية خاصة لتحسين الإنتاجية وتسريع استخدام تكنولوجيا المعلومات في المقاولات، مما يحفز تعزيز قدرتها التنافسية فيما يتعلق بخفض التكلفة والوقت وتحسين الجودة.
برنامج مقاولتي
مقاولتي برنامج وضعته الحكومة لخلق المقاولات الصغيرة جدا.
يهدف هذا البرنامج إلى المساهمة في الخفض التدريجي لمعدل البطالة من خلال دعم إنشاء مقاولات تخلق الثروة ومناصب الشغل تماشيا مع المتطلبات والخصوصيات الإقليمية. ويهدف أيضا لضمان الاستدامة التدريجية للنسيج الاقتصادي الإقليمي من خلال نظام يتتبع المقاولات الجديدة خلال فترة البداية الحرجة.
الامتيازات الموضوعة رهن إشارة المقاولات تشمل:
• تقديم الدعم للشباب حاملي المشاريع الذين لا تتجاوز استثماراتهم250 ألف درهم لإنشاء مقاولاتهم؛
• المواكبة قبل وبعد خلق المقاولة؛
• تحمل الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات لمصاريف الدعم إلى حدود 10 آلاف درهم لكل حامل مشروع.
• تفويض إدارة ضمان 85٪ من القروض المصرفية من قبل صندوق الضمان المركزي للبنوك نيابة عن الدولة.
• تسبيق معفى من الفوائد يصل إلى 10٪ من قيمة الاستثمار وفي حدود 15 ألف درهم يتم سدادها على ست (6) سنوات.
حسب إحصائيات صادرة عن وزارة الشغل والإدماج المهني، لم يمكن هذا البرنامج من خلق سوى (5900) مقاولة صغيرة ما بين سنتي (2007 – 2014)، أرجعت الوزارة هذا الأمر إلى تقاعس البنوك التي لم تسهم في تمويل سوى ثمانية عشر (18) مشروعًا سنة 2013، مقابل أزيد من خمسمائة (500) سنة 2009، ثم إنَّه منذ بداية اعتماد البرنامج لم تُموِّل البنوك سوى (32) بالمائة من مجموع الشباب الحاملين للمشاريع، والتي ما فتئت تبدي حذرًا متزايدًا، مبرِّرة رفضها بعدم تقديم الشباب لمشاريع قابلة للتَّمويل.
- Voir: BENEZHA (Hajar), «Emploi: L’échec des programmes d’insertion»,L’Economiste, édition 4375, du: 09 /10/2014.
للمزيد من التفصيل أنظر الموقع الالكتروني: http://www.invest.gov.ma/?lang=ar&Id=34520.
[13] أنظر: محمد أهلي: “مخاطر القروض البنكية وآليات ضبطها”،رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في القانون الخاصـ قانون الأعمال ـ كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالدار البيضاء، السنة الجامعية، 2008-2009 ص: 1.
[14]أحمد درويش، دور البنوك في تمويل المقاولات الصغرى والمتوسطة: أبعاده ومحدوديته، مجلة الاقتصاد والمجتمع، ع 3، 1987، ص 142.