مجلة مغرب القانونالقانون الخاصالعلمي الحراق: مدى ممارسة العدول لبعض مهام التحكيم والوساطة

العلمي الحراق: مدى ممارسة العدول لبعض مهام التحكيم والوساطة

د. العلمي الحراق[1]

من المعلوم أن الأصل في حل النزاعات وفض الخصومات بين الناس أن يكون بيد القضاء الرسمي للدولة؛ حيث إنه له الولاية العامة في الفصل بين الخصوم وتطبيق القانون على الجميع وإعطاء كل ذي حق حقه عن طريق الإلزام والإجبار؛ غير أنه بالموازاة مع وجود قضاء الدولة الرسمي أصبح الاعتماد على وسائل أخرى بديلة لفض المنازعات والخصومات كالتحكيم والتوفيق والوساطة وغيرها.

ونجاح التحكيم أو الوساطة في حل النزاعات رهين بمدى استعداد الأطراف للتفاوض مع بعضهم البعض وإظهار حسن النية مع تقديم تنازلات متبادلة عند الاقتضاء، مع العلم أن القضاء الرسمي يبقى شامخا وقويا ومحترما بالرغم مما أصبح يعاب عليه – دون وجه حق- بمناسبة الحديث عن التحكيم والوساطة، من كونه بطيئا في مسطرته وإجراءاته وإصدار أحكامه وارتفاع تكلفته.

التعريف بالتحكيم والوساطة:

والتحكيم هو عرض نزاع نشأ أو قد ينشأ على هيئة تحكيمية – مشكلة من محكم واحد أو ثلاثة فأكثر- يتم اختيارها من قبل الأطراف التي تسند إليها مهمة الفصل في النزاع بإصدار حكم مكتوب وملزم للأطراف؛ وهو إما تحكيم مؤسسي ينظمه مركز أو مؤسسة؛ أو تحكيم خاص يجري خارج إطار التحكيم المؤسسي.

ويشترط في المحكم أن يكون شخصا ذاتيا يتوفر على الحد الأدنى من الخبرة والكفاءة العلمية؛ وأن يكون ذا سلوك حسن، وإذا تعدد المحكمون فيجب أن يكون عددهم وترا تحت طائلة بطلان التحكيم.   

أما الوساطة فهي مهمة يسندها الأطراف إلى طرف ثالث يسمى وسيط لتقريب وجهات النظر بينهم حول نزاع نشأ بينهم أو قد ينشأ بينهم فيما بعد؛ وكذا تسهيل إبرام صلح بينهم من أجل إنهاء هذا النزاع.

 وقد يدمج التحكيم في الوساطة؛ وتدمج الوساطة في التحكيم؛ بمعنى أنه قد يتفق الأطراف على اللجوء إلى التحكيم وقبل إصدار هيئة التحكيم حكمها في النزاع؛ يتفق الأطراف على تفويض الهيئة التحكيمية صفة وسيط فيتم الانتقال من التحكيم إلى الوساطة؛ وفي هذه الحالة تفصل الهيئة في موضوع النزاع بناء على قواعد العدالة والإنصاف؛ وتنهي الهيئة مسطرة التحكيم بالإشهاد على تسوية النزاع وديا بعد إثبات شروط التسوية بحكم تحكيمي[2].

وعلى العكس من ذلك فقد يتفق الأطراف على حل نزاعهم من خلال الوساطة؛ فإن لم يتوفقوا في ذلك انتقلوا إلى التحكيم. وهذا ما يسمى بالوساطة المدمجة بالتحكيم.

وبغض النظر عن أوجه الاختلاف والاتفاق بين التحكيم والوساطة؛ سواء على مستوى الشكل أو الجوهر؛ أو على مستوى المسطرة والإجراءات المتبعة أمام هيئة التحكيم أو الوسيط؛ فإنهما يعتبران من أهم الوسائل البديلة لحل النزاعات وتسوية الخصومات بين الأطراف؛ ويهدفان في النهاية إلى التوصل إلى حل النزاعات بطرق سريعة وسهلة وقد يعتمدان على الصلح بين الأطراف، وقد أصبحا اليوم يحظيان باهتمام كبير من طرف الدول والفاعلين والباحثين ومختلف المهنيين في المجال القانوني والقضائي والاقتصادي؛ وذلك لما لهما من إيجابيات ومزايا ونتائج على مستوى سرعة البت في النزاعات  وربح الوقت والجهد والسرية والتكلفة المنخفضة إذا ما قورنا بالقضاء الرسمي.

والوساطة تنقسم إلى تقسيمات كثيرة لاعتبارات مختلفة؛ وأهمها الوساطة الاتفاقية وهي التي يتفق فيها الأطراف على تعيين وسيط يكلف بتسهيل الوصول إلى حل يرضيهم جميعا؛ والوساطة القضائية وهي التي يمارسها القضاة أو يأذنون بممارستها تحت إمرتهم؛ وهناك الوساطة التيسيرية وهي الأكثر شيوعا وهي التي يقتصر فيها دور الوسيط على تيسير عملية التفاوض بين المتخاصمين ويساعدهم على توضيح سوء الفهم بينهم؛ وهناك وساطة إلكترونية وهي التي تتم عن بعد وعن طريق الإنترنيت.

وقد أضحت الوساطة اليوم الوسيلة المفضلة لدى العديد من الدول والشركات والفئات المهنية المجتمعية؛ وأصبح الفاعلون والمهتمون يخصصون لها أياما دراسية وندوات علمية على الصعيد الداخلي والدولي؛ إلى أن قامت جل الدول بوضع قوانين خاصة بالوساطة والتحكيم.

والخصومات التي يمكن اللجوء إلى التحكيم والوساطة لحلها كثيرة ومتعددة منها القضايا التجارية والمدنية والعقارية؛ وبعض النزاعات الأسرية كالطلاق والنفقة والحضانة والميراث وغيرها من الحقوق التي يملك الأطراف حق التصرف فيها؛ أما القضايا الأخرى المتعلقة بالتحجير والترشيد وباقي الحقوق الشخصية الخارجة عن دائرة التعامل، وكذا القضايا الزجرية والجنائية وكل ما هو من النظام العام؛ فلا يطالها التحكيم والوساطة؛ وقد عرفتهما البشرية منذ القدم؛ ولما جاء الإسلام شجع عليهما وحث على اتباعهما؛ والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدل على ذلك؛ كما أن السنة النبوية وردت فيها الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة.

التحكيم والوساطة الاتفاقية في القانون المغربي وموقع العدول من ذلك:

مقال قد يهمك :   الحدوشي محمد: عملية التحديد وفق ظهير التحفيظ العقاري

على غرار باقي دول العالم؛ فقد نص المشرع المغربي على التحكيم والوساطة وأفرد لهما قانونا خاصا؛ يتعلق الأمر بالقانون رقم 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.22.34 بتاريخ 23 شوال  1443 (24 ماي 2022)[3]، ناسخا بذلك فصول الباب الثامن من القسم الخامس من قانون المسطرة المدنية الذي كان ينظم التحكيم والوساطة الاتفاقية.

ومن بين الأحكام والمقتضيات الجديدة التي جاء بها قانون رقم 95.17 المشار إليه أعلاه ما ورد في المادة 12 منه على أنه يجب على الأشخاص الذاتيين الذين يقومون اعتياديا أو في إطار المهنة بمهام المحكم، إما بصورة منفردة أو ضمن شخص اعتباري، أن يكونوا مسجلين ضمن قائمة المحكمين؛ وتحدد كيفية مسك القائمة وشروط التسجيل فيها والتشطيب منها بنص تنظيمي على ألا يسجل فيها إلا ذوو الخبرة والكفاءة العلمية.

وبعد صدور النص التنظيمي المذكور الذي هو المرسوم رقم 2.23.1119 الصادر في 5 ذي القعدة 1445 (14 ماي 2024)[4] الذي نص على كيفية مسك قائمة المحكمين و”الوسطاء” المشار إليها أعلاه وشروط التسجيل فيها والتشطيب منها؛ مؤكدا على أنه يجب على كل شخص ذاتي يقوم بمهام التحكيم بصفة اعتيادية أو في إطار المهنة التي ينتمي إليها؛ لأجل التسجيل في قائمة المحكمين، أن يكون ذا كفاءة علمية لا تقل عن شهادة الإجازة.

وإذا كان الأشخاص الذاتيون الذين يقومون بمهام التحكيم بصفة اعتيادية وهم الذين يمارسون هذه المهام في إطار القانون المنسوخ المشار إليه؛ معروفين ومعلومين ومسجلين في القوائم القديمة؛ وإذا كان الأشخاص الآخرون الذين يمارسون هذه المهام في إطار المهنة التي ينتمون إليها كالمحامين معلومين ومعروفين، فإن التساؤلات تطرح وبقوة بالنسبة لباقي المهنيين الآخرين المنضوين تحت لواء المنظومة القضائية والمساعدين للقضاء خاصة؛ ولا سيما المهن القانونية والقضائية كالخبراء القضائيين والعدول. فهل سيكون لهم دور في هذه الآلية البديلة؟ وهل هم فعلا يمارسون بشكل أو آخر بعض مهام الوساطة الاتفاقية بين المرتفقين؟ أم أنهم بعيدون عن المجال ولا علاقة لهم بالوساطة والتحكيم لا من قريب ولا من بعيد كما يدعي البعض؟ .

وإذا كان القانون يشترط في الوسيط أن يكون ذا سلوك حسن وأن يلتزم بالاستقلالية والحياد والنزاهة والتجرد وبكتمان السر المهني؛ وأن يسعى إلى تقريب وجهات نظر الأطراف لأجل تمكينهم من أجل إيجاد حل للنزاع القائم بينهم.

فإن العدول يتمتعون بنفس السلوك والصفات، بل إنهم يوثقون للناس بالعدل[5] وهو أشمل وأعمق، ويتحلون بالأمانة والوقار ويحافظون على أسرار المرتفقين، ويشتغلون بكل إخلاص وتفان وقد أدوا اليمين القانونية على ذلك، ويمتلكون معارف شرعية وقانونية وخبرة عملية مشهود لهم بها، وفيهم الأئمة والخطباء والمرشدون وأساتذة الجامعة والمعاهد،كما أنهم يحظون بالثقة بين المرتفقين، ويتوفرون على كل الوسائل والأدوات الأخرى، وبالتالي فإنهم جاهزون ومستعدون لتولي مهام التحكيم والوساطة بصفة رسمية. 

وإذا كان المشرع المغربي لم ينص صراحة على كون العدول ممن يمكنهم ممارسة الوساطة بمفهومها ومسطرتها وإجراءاتها القانونية؛ ولم ينص في قانون مهنتهم على ذلك؛ كما فعل في مهنة المحاماة[6]، فإن طبيعة مهنتهم تؤهلهم لذلك تأهيلا كاملا؛ كما أن الواقع الفعلي يثبت أنهم يمارسون بعضا من مهام التحكيم والوساطة؛ ويتدخلون بالصلح والتوفيق بين المرتفقين في كثير من الحالات والوقائع.  

ممارسة العدول التلقائية لبعض مهام الوساطة الاتفاقية:

إذن وكما سبق أعلاه؛ فإن العدول ولا سيما المبرزين والحذاق يمارسون فعليا كثيرا من مهام الوساطة الاتفاقية في المجال الأسري؛ وذلك على أكثر من صعيد ومستوى .

بل إن الكثير منهم أصبحوا اليوم يمارسون مهام أخرى غير مهامهم الأساسية؛ ولم تعد مهامهم مقتصرة فقط على التوثيق والإشهاد بين المتعاقدين؛ ويقومون بأدوار طلائعية على مستوى التعامل مع المنصات الرقمية المتعلقة بالعقود الأسرية؛ والعقود الخاضعة للتسجيل والتحفيظ والقيام بالتصاريح الضريبية وغيرها؛ بمعنى أنهم أصبحوا يقومون بمهام موظفي وزارة العدل ووزارة المالية، ومهام موظفي المحافظات العقارية[7].

وبالتالي يعتبر العدول شركاء أساسيين وفاعلين في مجال التحكيم والوساطة الاتفاقية الأسرية على الخصوص؛ وفي غيرها من المجالات ذات الصلة؛ ودورهم في إصلاح ذات البين بين المتعاقدين عامة، دور فعال نص القانون على ذلك أو لم ينص؛ لأنهم مرتبطون بذلك ارتباطا وثيقا؛ ويمكنهم فعل الكثير والعمل على إنجاح مهام التحكيم والوساطة وإدارتها باقتدار كبير.

وأكثر من هذا وذاك فإن مكاتب السادة العدول المنفتحين على مجتمعهم المواكبين للمستجدات والمتغيرات المتسارعة؛ لا تكاد تخلو من المرتفقين الذين يقصدونهم – قبل حدوث أي نزاع أو خصومة- من أجل الفهم والإفهام والاسترشاد حول مختلف القضايا الدينية والأسرية وغيرها، والعدول بهذا الاعتبار يقدمون للناس استشارات شرعية وقانونية واقتراحات وحلولا عملية لمشاكلهم المختلفة في مراحل مبكرة من الخصومة؛ ومجالس التوثيق والإشهاد لدى العدول التي يسود فيها الاطمئنان والسكينة والاحترام في نفوس المرتفقين أكثر من مجالس أخرى؛ من شأنها أن تسهم في تكريس مبدأ الحلول الحبية وتحقيق الصلح بين المتخاصمين وهو غاية الوساطة والتحكيم.

مقال قد يهمك :   مقترح قانون لتفعيل المبدأ العالمي "الملوث يُؤدي"

والعدول وهم يمارسون مهامهم الأصلية المتمثلة في التوثيق والإشهاد، تصادفهم في كثير من الأحيان مشاكل بين المتعاقدين والمرتفقين، فيضطرون – بطلب منهم – إلى التدخل من أجل حل هذه المشاكل بطرق ودية وأخوية بعيدا عن المحاكم وإجراءاتها المضنية؛ ويقترحون عليهم حلولا تكون مرضية للجميع، وعلى أساسها يتم التوصل إلى إيجاد حلول لهذه المشاكل؛ إن بين الأزواج أو بين الأصول والفروع والإخوة والأخوات؛ وتنتهي المشاكل دون تحرير أي وثيقة أو اتفاق بين المعنيين بالأمر؛ ودون أن يعلم أحد من الجيران أو الأقارب الآخرين. وفي بعض الأحيان تحرر لهم وثائق عدلية بعد اتفاق الأطراف على الحلول المقترحة وموافقتهم عليها، وهذه مهام شبيهة بمهام الوساطة الاتفاقية إن لم تكن هي هي.

ومن أمثلة ذلك نذكر ما يلي:

– يقوم العدول المبرزون بأدوار مهمة في الحيلولة دون وقوع الطلاق أو التطليق بكافة أنواعهما؛ وذلك قبل لجوء الأزواج إلى القضاء أو بعده؛ وإذا لم تنجح مساعيهم ووقع الطلاق؛ فإن مجهوداتهم تنتقل لما بعد الطلاق؛ وذلك بتسهيلهم وتيسيرهم تنفيذ ما حكمت به المحاكم دون الرجوع إليها مرة أخرى؛ سواء على مستوى النفقة أو على مستوى الحضانة أو غيرهما؛ والوثائق العدلية التطبيقية الدالة على هذا الأمر كثيرة ومتنوعة. بل وقد يبادر السادة العدول إلى الإصلاح بين المتفارقين بعد وقوع الطلاق الأول أو الثاني، فتتم الرجعة أو المراجعة بينهما؛ وهذا كثير الوقوع في الواقع العملي ولا يستطيع أحد إنكاره.

– كما أن وساطة العدول بين المتعاقدين في المجال الأسري تقع في بعض الأحيان بين الآباء والأمهات وأولادهم؛ وبين الإخوة والأخوات والأعمام؛ يتجلى هذا حين اقتسام التركات وتوزيع الإرث بين الورثة؛ حيث تجد السادة العدول يقومون بمهام “دبلوماسية” بين الورثة من أجل إصلاح ذات البين؛ والتوفيق بين الورثة وتقريب وجهات النظر بينهم؛ بعد عقدهم معهم جلسات تحضيرية “مراطونية” منفردة وأخرى مشتركة؛ تارة بمكاتبهم وتارة بمنازل المتخاصمين؛ وذلك كله من أجل التوصل إلى حل سريع نابع منهم يحقق مصالحهم وينآى بهم عن الدخول في عالم التقاضي الطويل؛ وما هذه المخارجات والمقاسمات والتفاهمات التي يوثقها العدول وباقتراحاتهم ومهاراتهم وخبراتهم وتجربتهم الميدانية؛ إلا خير دليل على ما نقول، حيث يأخذ كل ذي حق حقه ويتوصل كل وارث بما ينوبه في التركة بطريقة ودية وسريعة وبتكلفة منخفضة مع الحفاظ على علاقات الرحم بين الأولاد والآباء والأمهات والإخوة والأخوات[8]. وإذا لم تكن هذه المهام من مهام الوساطة والتحكيم؛ فماذا تكن؟.

– ويتدخل العدول بالصلح وتهدئة الأطراف وتبديد سوء الفهم بينهم منذ اليوم الأول لتأسيس الأسرة، حيث إنه في بعض الأحيان تثار أمامهم بعض المشاكل وهم يوثقون عقود الزواج حول مبلغ الصداق وكيفية أدائه وحيازته؛ أو حول مقتضيات المادة 49 من مدونة الأسرة أو غيرها، فيتدخلون بالصلح والتوفيق بين الزوجين وأسرتيهما وينجحون في المهمة وتنتهي المشاكل في حينها.

– وأيضا فإن العدول النبهاء يقومون بمهام من مهام الوساطة؛ حتى عند ما يتعلق الأمر بالبيع والشراء؛ و ذلك كأن تثار أمامهم بعض المشاكل بين البائع والمشتري؛ فيضطرون إلى استخدام مهاراتهم وقدراتهم في التوفيق بينهما وإقناعهم بعدم اللجوء إلى القضاء والجلوس إلى طاولة الحوار بعيدا عن المحكمة المختصة، ويقترحون عليهم حلولا مرضية يراعى فيها منطق الحق والعدل؛ ويتم التوصل إما إلى إقناع البائع باسترداد مبيعه عن طريق تحرير عقد الإقالة، أو إقناع المشتري بالاستمرار في شرائه مع إرضاء البائع أو العكس؛ وينتهي النزاع أمامهم بتحرير وثيقة الإقالة أو بالاستمرار في تنفيذ وثيقة الشراء، وذلك كله عن طواعية واختيار؛ وهذه صورة من صور الصلح الشفاهي الذي لا يتم توثيقه.

– وأيضا حينما يتعلق الأمر بالبيع والشراء في الشياع، وتثار أمامهم مسألة الشفعة؛ أو مسألة الضم في بيع الصفقة؛ تجد العدول الفُطُن يقومون بدور الوسيط بامتياز قصد حل المشكلة في أسرع وقت ممكن؛ وقبل أن تذهب المسطرة إلى القضاء؛ فتراهم يوفقون بين من يريد الأخذ بالشفعة أو ضم الصفقة وبين المشتري؛ وبحنكتهم ومهاراتهم العلمية والعملية وبتجربتهم الميدانية، كثيرا ما يتم دفع الأطراف إلى حل وسط متوافق عليه من طرف الجميع؛ ويتم تنفيذه في الحال ودون تدخل أي جهاز إداري أو قضائي، وذلك إما بتمكين الشفيع من شقصه في حالة البيع العادي، أو بضم الصفقة للمصفق عليه في حالة بيع الصفقة؛ أو بأخذ المشتري جميع ما اشتراه في الحالتين بعد أن يمكن المعنيين بالأمر من حصتهم في ثمن البيع، وهذه صورة أخرى من صور الصلح الشفاهي الذي يتم أمام العدول.

مقال قد يهمك :   الهجرة وتحديات الاندماج في ظل عولمة مسيجة موضوع ندوة علمية بالحسيمة

– ثم إن بعض العدول الذين زاولوا التوثيق بالخارج في مصالح التوثيق بالسفارات المغربية أو القنصليات؛ مارسوا مهام الوساطة القضائية من بابها الواسع ، وذلك في إطار الإنابات القضائية التي كانت تبعث للسفراء أو للقناصل العامين فيما يخص أفراد الجالية المغربية المقيمة بالخارج، وكانوا يقومون بمحاولات الصلح بين الأزواج طبقا للتوجيهات التي كانت توجه لهم من محاكم الأسرة؛ وكانوا ينجزون المهام المسندة إليهم بكل اقتدار وتفان، والمحاضر الموجهة من هناك إلى المحاكم شاهدة على هذا الأمر.

 – كما أن بعض العدول الذين سبق لهم أن مارسوا مهام كتابة الضبط بالمحاكم والذين كانوا يحررون محاضر الجلسات، هم أيضا لهم إلمام كبير ومهارات في كيفية إدارة الحوار والتواصل بين المتنازعين والاستماع إليهم والتعامل معهم، بفعل مهامهم السابقة إلى جانب السادة القضاة؛ إضافة إلى اكتسابهم مهارة تحرير المحاضر والأحكام؛ وهؤلاء أيضا مؤهلون لأن يتولوا مهام التحكيم القريب جدا من مهام القضاء الرسمي للدولة،

– وأيضا فإن الوساطة والتحكيم هما في الحال والمآل؛ عبارة عن كتابة وتوثيق من البداية إلى النهاية؛ فاتفاق وشرط وحكم التحكيم عبارة عن كتابة وتوثيق؛ واتفاق وشرط الوساطة والصلح عبارة عن كتابة وتوثيق؛ وجلسات التحكيم وجلسات الوساطة والاستماع إلى الأطراف والإنصات إليهم في هذه الجلسات؛ وكتابة المحاضر والتقارير وغيرها،هي هي نفس الوسائل والأدوات التي يشتغل فيها العدول يوميا؛ ولا فرق في ذلك إلا في بعض الجوانب التقنية التي فصلها القانون. أما من حيث الهدف والغاية فنفس المهام ونفس الوسائل والغايات عموما.

– وأخيرا فإن الصلح الذي هو الغاية الكبرى للوساطة الاتفاقية؛ هو من مهام العدول الذين لهم تاريخ طويل وعريض في إبرام وثيقته بين المتخاصمين[9] ؛ ويعرفون أكثر من غيرهم ضوابط الصلح شرعا وقانونا؛ ويعرفون أن الشريعة الإسلامية حثت على الصلح بين الناس ورغبت فيه، إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما.

 كما أنهم يعلمون الأحكام والمقتضيات القانونية التي تنظم الصلح بين المسلمين؛ حيث خصص قانون الالتزامات والعقود المغربي قسما خاصا بالصلح ونص على أحكام ومقتضيات خاصة به، ومنها ما نص عليه في الفصل 1101 من أن” الصلح لا يجوز بين المسلمين على ما لا يجوز شرعا التعاقد عليه بينهم”، وبالتالي فإنه يتعين على كل وسيط أن يكون على علم تام بهذه الأحكام والمقتضيات حتى لا يقع في مخالفتها و خرقها[10]، والعدول ممن لهم إلمام كبير بأحكام الشريعة وقواعد الفقه الإسلامي في إجراء الصلح بين المسلمين. وعلى هذا الأساس فهم أولى بالوساطة من غيرهم.

وختاما يمكن القول إن طبيعة عمل العدول لا تختلف عن طبيعة مهام الوساطة الاتفاقية وأنهما يتشابهان في كثير من الإجراءات والتفاصيل، وأن العدول هم من المهنيين الفاعلين في منظومة العدالة والقضاء، وأنهم فعلا يمارسون بعض مهام الوساطة تلقائيا ومنذ وقت طويل، وأنه إذا ما أسندت إليهم هذه المهام أو مهام التحكيم الأسري فإنهم سوف ينجحون فيها وسيعملون على إنجاحها لخبرتهم العملية في التعامل والتواصل والاستماع والإصغاء مع المرتفقين.


[1]  رئيس قسم قضاء الأسرة بوزارة العدل سابقا.

[2]  تنظر المادتان 46 و76 من قانون 95.17 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.22.34 بتاريخ 23 شوال  1443 (24 ماي 2022).

[3]  تم نشره بالجريدة الرسمية عدد 7099 الصادرة بتاريخ 13 يونيو 2022.

[4]  تم نشره بالجريدة الرسمية عدد 7302 الصادرة بتاريخ 23 ماي 2024.

[5]  مصداقا لقوله تعالى: (وليكتب بينكم كاتب بالعدل).

[6]  تنظر المادة 9 من قانون مهنة المحاماة.

[7]  ولدور العدول التاريخي وتأثرهم وتأثيرهم في محيطهم القضائي؛ أسند لهم المشرع المغربي الحق في أن يكونوا وكلاء للأطراف تبعا لما ينص عليه الفصل 35 من قانون المسطرة المدنية؛ غير أن هذا الحق لا يفعل على أرض الواقع.

[8]  ونماذج وثائق العدول تؤكد هذا الأمر وتعززه.

[9]  تحتفظ كتب التوثيق العدلي بنماذج مختلفة لوثيقة الصلح بين المتخاصمين. 

[10]  القسم التاسع الفصول من 1098 إلى 1116.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]