العربي مياد : التطبيق العادل للقانون
العربي محمد مياد: دكتور في الحقوق.
في إطار التفاعل مع تنفيذ المقتضيات الدستورية، استرعى فضولي القانوني المقتضيات الواردة في الفصل 110 من الدستور الذي ينص على أنه :
“لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون، ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون”.
وهذا ما يدفعني إلى التساؤل:
- ما المقصود بالتطبيق العادل للقانون؟
- وهل هناك تطبيق قانوني غير عادل؟
- ثم ما علاقة العدالة القانونية بالتأويل الخلاق؟
- وهل يحق للقاضي تأويل النص القانوني متى كان واضحا بغية تحقيق العدالة؟
- وفي المقابل، هل بإمكانه التغاضي عن القاعدة القانونية الواضحة متى بدا له عدم عدالتها دون أن يتهم بأنه خرق الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية الذي ينص على أنه يجب على القاضي خاصة، أو المحكمة عامة، أن تبت في حدود الطلبات ولا يسوغ لها أن تغير تلقائيا موضوع أو سبب هذه الطلبات؟
بداية لا بد من التذكير بأن مهام قضاة الحكم أساسا ليس خلق القاعدة القانونية وإنما تطبيقها، لما في ذلك من تثبيت للمبدأ العام الذي تقوم عليه الديمقراطية كما نتوق إليها، المتمثل في فصل السلط؛ بحيث لا يجوز لأي سلطة من السلط الثلاث التقليدية (التشريعية والقضائية والتنفيذية) أن تتغول على الأخرى أو تتطاول على اختصاصها.
ومن ثم، فإن الجهة الدستورية التي تتداول في القوانين هي السلطة التشريعية، ولا يقدح في اختصاصها كون أن السلطة التنفيذية هي التي قد تبادر بوضع مشاريع القوانين، ولها الأفضلية من الناحية الواقعية في تقديم هذه المشاريع على المقترحات القوانين التي تأتي بها السلطة التشريعية، وبدرجة أدنى الملتمسات والعرائض.
غير أنه في المقابل، فإن السلطة القضائية قد تصنع القاعدة القانونية عن طريق الاجتهادات القضائية القارة التي تعتبر إحدى مصادر القاعدة القانونية، بل وهي المعمول بها، وخاصة في النزاعات ذات الطابع الإداري أو عند اللجوء إلى التأويل الخلاق في الحالة التي تكون القاعدة القانونية مبهمة وتتطلب التأويل بسبب الغموض أو التناقض.
وفي هذا الإطار، استرعى انتباهي مقال تحت عنوان “القاضي العادل والقانون المنصف”، لكاتبه لؤي حسن، منشور على موقع “شبكة فولتير” بتاريخ 23 شتنبر 2007، من ضمن ما جاء فيه أنه:
“سيحتاج قاضينا ليكتمل دوره الداعم للعدالة إلى ثقافة غير قانونية، أي ما يتعلق بمواقفه وقناعته في قضايا الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والقيمية وحتى الجمالية.
وّإن تأهيل القاضي لا يقتصر على حفظ أكبر عدد ممكن من النصوص ومعرفته بأصول المحاكمات والمرافعات، بل يجب عليه الاهتمام بثقافته، فدور القاضي هو إعلاء مكانة القانون…”.
ومن ثم، قد يكون مقبولا أن يكون المشرع ضعيفا من حيث التكوين والقدرة على الابتكار بحكم أن جل أعضائه هواة التشريع وليس مهنتهم، باستثناء رجال القانون من قضاة سابقين ومحامين وأساتذة جامعيين، وبصفة عامة خريجي كليات الحقوق، فإن الباقي يكون ملزما بالاستعانة بالمختصين بحكم أميته القانونية حتى لو كان إطارا عاليا في مجال تخصصه.
وحينما ينعت ممثلو المشرع بعدم التجربة من حيث القدرة على صياغة القاعدة القانونية، فإننا هنا لا بد من استحضار أمرين: أولهما أن مقترحات القوانين أو مشاريعها تمر على شبكة من القانونيين، أو المفروض هكذا، التي تعج بها المرافق الوزارية، وفي بعض الأحيان الخبراء القانونيين للأحزاب الممثلة في البرلمان، من أجل إبداء الرأي واقتراح الصيغ الملائمة. وثانيهما أنه يفترض في الأمانة العامة للحكومة أنها تحتوي على زبدة الخبراء القانونيين الممارسين ويمتازون بملكة الصياغة القانونية والدراية بالترسانة القانونية في المغرب.
لكن الإشكال هو أنه في بعض الأحيان قد تصاغ مشاريع القوانين باللغة اللاتينية قبل عرضها على الأمانة العامة للحكومة، مرفقة بترجمة معيبة، مما يجعلها تفقد روح النص، وبالتالي تفرغ من محتواها بحكم أن إرادة المشرع الأصلي لم تظهر وقد لا يستشار في الصياغة النهائية لمشروع القانون إما بحكم أنه لا يتقن اللغة العربية أو بحكم عدم اهتمامه بالموضوع، وفي اعتقاده أن مهمته انتهت بمجرد إرساله لمشروعه إلى الأمانة العامة للحكومة، علما أن جل المرافق الوزارية تهمش الكفاءات القانونية المتوفرة لديها وتلتجئ إلى إبرام صفقات الدراسات سواء مع المكاتب الوطنية أو الأجنبية المختصة أو تدعي التخصص.
ومن خلال التجربة الشخصية، يلاحظ أن هذه المكاتب، ولاسيما الأجنبية، تقوم بصياغة النصوص القانونية انطلاقا من مرجعيتها وفهمها، وفي بعض الأحيان من خلال مكرها وعقليتها الاستعمارية، وتصيغ مقتضيات قانونية باللغة التي تتقنها، وغالبا الإفرنجية، ثم تعرض منتوجها على صاحب الصفقة من أجل إتمام ما علق بها من ضعف وركاكة، بل في بعض الأحيان إعادة صياغتها من طرف “القانونيين المهمشين” وكل همها هو تحصيل المقابل المالي الذي يكون مبالغا فيه.
ثم يعرض هذا المنتوج المعوق على باقي المتدخلين، فنجده وقد صدر بالجريدة الرسمية وأصبح قانونا ملزما للجميع. وبعد حين يتم البحث عن تعديله وتتميمه….
هذا في الوقت الذي تعج فيه مصالح البرلمان بمقترحات قوانين جلها جيدة، لكن تهمش أو لن تبارح مكانها بحكم أنها من إعداد خبراء المعارضة، وهذا في اعتقادنا حيف تجاه هذه الأخيرة وتبخيس لمجهودات الخبراء الوطنيين، وإن كان منهم مستشارون قانونيون في الإدارات العمومية وشبه العمومية، ذنبهم أنهم ليسوا من أتباع الأغلبية ومريديهم.
وضع كهذا لا بد أن يخلق قاعدة قانونية إما مشوهة أو تحت الطلب، كما هو الشأن مثلا عندما فرضت المادة الرابعة من مدونة الحقوق العينية اللجوء إلى المحررات الرسمية كقاعدة والعرفية التي يحررها المحامي المقبول للترافع أمام محكمة النقض عندما يتعلق الأمر بالتصرفات العقارية الناقلة للملكية أو غيرها، ولم تستثن من ذلك لا الدولة ولا الجماعات الترابية أو غيرها من أشخاص القانون العام دون الالتفات للتكلفة المالية، وذلك في الوقت الذي تدعي فيه الحكومة أمام الملاء أنها في وضعية التقشف.
وهنا أطلب من وزارة العدل والحريات وحليفتها وزارة الاقتصاد المالية إجراء دراسة حول التكلفة الاقتصادية والمالية لهذا المستجد القانوني الذي أتى بها واضعو مدونة الحقوق العينية، على الميزانية العامة وما في حكمها، هذا في الوقت الذي يقال فيه ضمنا للخبراء القانونيين الذين تعج بهم المصالح الإدارية: يمكنكم البحث عن مهنة حرة لكي تستفيدوا مما أجود به من أموال في هذا الصدد، أو التعامل من الباطن.
والغريب أنه و تحت تأثير الشارع لا تجد الحكومة حرجا في البحث عن مخرج لها، كما هو الشأن عندما أصدرت قرارا مشتركا لوزير الفلاحة والصيد البحري ووزير العدل والحريات ووزير الاقتصاد والمالية رقم 4517.14 بتاريخ 17 أبريل 2015 بتحديد المبلغ المالي للدين موضوع الرهن الاتفاقي المستثنى من أحكام المادة 4 من القانون رقم 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية؛ بحيث بموجب هذا القرار يستثنى من قيد المادة 4 أعلاه الرهون الاتفاقية التي لا تتجاوز 250.000 درهم.
وهذا التعديل جاء نتيجة لمعارضة صغار الفلاحين للمقتضيات أعلاه، الشيء الذي جعل وزير الفلاحة والصيد البحري البحري يبادر إلى مراسلة وزارة العدل والحريات من أجل البحث عن استثناء للقاعدة العامة الواردة في المادة 4 المذكورة، في الوقت الذي تم فيه التمسك بإجبارية الرسمية أو العرفية المقيدة لباقي المحررات ضدا على المصالح المالية العامة.
أمام كل هذه المعطيات، يطلب من القاضي أن يطبق القانون تطبيقا عادلا، حتى لو كان هذا القانون غير عادل أو غير دستوري. ولنا في مجموعة من القوانين أسوة غير حسنة، نذكر على الخصوص الظهير رقم 1.69.30 بتاريخ 25 يوليوز 1969 المتعلق بالأراضي الجماعية الواقعة في دوائر الري الذي تضمن في ديباجته “وتعتبر العقارات المذكورة (الجماعية) لبلوغ هذه الغاية مشاعة بين ذوي الحقوق المتوفرين على هذه الصفة في تاريخ نشر ظهيرنا هذه وسيعمل من جهة أخرى على اتباع طريقة خاصة بنقل الإرث حتى يتجنب تكاثر عدد الملاكين على الشياع”.
وتنفيذا لهذا المقتضى المخالف للشريعة الإسلامية، وهو بالمناسبة صدر في حالة الاستثناء الذي كان المغرب يرزح تحتها، تضمن الفصل الثامن من الظهير المذكور أنه “إذا توفي أحد الملاكين على الشياع نقلت حصته لأحد ورثته على أن يؤدي للورثة الآخرين قيمة حقوقهم”.
وهذا يعني أن الظهير المذكور تضمن مقتضيات قانونية مخالفة للشريعة الإسلامية برمتها، قرآنا وحديثا، في مجال الإرث، وبالتالي جعل الحصة المشاعة للهالك تؤول إلى أحد ورثته، كحق عيني، ويتحول حق باقي الورثة إلى حق شخصي. مما يجعلنا نتساءل: هل من حق القاضي استنادا إلى العدالة اعتبار هذه المقتضيات غير عاملة على أساس مخالفتها للدستور الذي يعتبر دين الدولة المغربية هو الإسلام؟
زد على ذلك أن بعض القرارات القضائية الصادرة على أعلى مرجع قضائي في المغرب لم تكن تبادر إلى التعامل مع مبدأ سمو العدالة على القانون الذي أقره الفصل 110 من الدستور الحالي، وكانت تتمسك بحرفية النص بل وتجتهد في بعض الأحيان في تنزيله، مما قد يدفع الفقه والمهتم أن يستغرب لبعض القرارات القضائية ويجد حرجا في ما قضي ولا يسلم تسليما.
وكأمثلة على ما قلنا، نسوق بعض القرارات القضائية الصادرة عن المجلس الأعلى (محكمة النقض) حيث أعطيت الأفضلية للشكلية القانونية على حساب روح العدالة، وبالتالي ضاعت حقوق الدولة (بيت المال):
- القرار رقم 6053 بتاريخ 15 أكتوبر 1996 في الملف المدني عدد 5127/92 غير منشور جاء فيه “وحيث إن الطاعنة وإن أدلت بنسخة من القرار المطعون فيه مشهود بمطابقتها لأصلها، فإن صيغة الإشهاد غير مذيلة ببيان اسم الموقع عليها مما تكون معه هذه النسخة غير قانونية ويتعين معه عدم قبول مقال النقض”.
- القرار رقم 6587 بتاريخ 5 نونبر 1996 في الملف المدني عدد 75/91 غير منشور قضى بأنه “وحيث إن نسخة القرار المرفقة بمقال الطعن لا تحمل الاشهاد لمطابقتها للأصل ومذيلة بتوقيع غير مفتوح ولا يعرف لمن هو، مما لم تكن معه مطابقة لشروط الفصل 349 من قانون المسطرة المدنية الذي يكون معه الطلب غير مقبول”.
- القرار عدد 7695 بتاريخ 24 دجنبر 1996 في الملف المدني عدد 3898/92 غير منشور تضمن أنه “وحيث إن الطاعن أرفق مقاله بصورة للقرار المطعون فيه لا تحمل صيغة الاشهاد على مطابقتها لأصلها المحفوظ بكتابة الضبط حسب نص الفصل 349 من قانون المسطرة المدنية مما يجعلها غير قانونية وقضى المجلس الأعلى بعدم قبول الطلب”.
- القرار عدد 935 بتاريخ 18 دجنبر 1997 في الملف المدني عدد 4491/92 غير منشور: “وحيث إن الطاعن أرفق عريضة النقض بصورة لا تحمل اسم من صادق على موافقتها لأصلها المحفوظ بكتابة الضبط عملا بالفصلين 348 و349 من قانون المسطرة المدنية مما يجعلها كأن لم تكن”.
- القرار رقم 277 بتاريخ 30 يونيو 2004 في الملف الإداري عدد 2191ـ 4ـ 2 ـ 2003 غير منشور جاء فيه “وحيث إن مقال الاستئناف وقعه رئيس القسم القانوني نيابة عن مدير الأملاك المخزنية الذي يعتبر الممثل القانوني دون أن يدلي بالتفويض مما يعرضه لعدم القبول”.
فهل بمثل هذه القرارات القضائية وغيرها يمكن لقاضي الوقائع والقانون أن يجتهد برأيه، وهو يجد نفسه قد نقض حكمه أو قراره استنادا إلى حيثية زائدة؟ وكان بإمكان المستشار المقرر في مثل هذه النوازل إنذار ممثل الدولة بطريقة أو أخرى لتصحيح هذا العيب الشكلي إن وجد أصلا، على اعتبار أن المشرع، وهو صاحب الاختصاص في تحديد الشكلية المتطلبة قانونا لقبول أو عدم قبول الطعن، قد نص في الفصل 348 من قانون المسطرة المدنية على أنه “تسلم كتابة الضبط نسخة مطابقة للأصل من كل قرار بمجرد ما تطلب منها تضاف نسخة من القرار إلى الملف بمجرد توقيعه”.
وهنا المشرع ألزم طالب النقض بالإدلاء بنسخة صادرة عن كتابة الضبط ولم يطلب التعريف بصاحب التوقيع، لأن هذه الوثيقة تعتبر رسمية بحكم القانون حتى لو لم يظهر من وقعها على اعتبار أنها تتضمن حكما أو قرارا قضائيا يستمد قوته من أنه صادر باسم جلالة الملك وعن الجهاز القضائي الذي أصدره وليس من كتابة الضبط.
كما أن الفصل الموالي ينص على أنه يرفق تبليغ القرار بنسخة منه مشهود بمطابقتها لأصلها بصفة قانونية وتوجه وتسلم وفقا للشروط المحددة في الفصل 54.
وهذا يعني أن الطاعن غير مسؤول عن شكل ومقروئية أو عدم مقروئية النسخة التبليغية، حتى إذا قضت محكمة القانون بعدم قبول الطلب أو الطعن بدعوى أن النسخة المذكورة تحمل توقيعا غير معرف، فهنا يجب أن تقوم مسؤولية كتابة الضبط التي هي جزء من الأسرة القضائية، وبالتالي يمكن المطالبة بمساءلتها وجبر الضرر، وهذا ما يفتح الباب على مصراعيه على قيام الخطأ القضائي وشبه القضائي.
إننا ونحن نتشرف بالجلوس بمدرجات الكلية، كنا نسمع من أساتذتنا، منهم من قضى نحبه رحمه الله ومنه من نطلب الله أن يطيل في عمره، وهم يعلقون على بعض القرارات القضائية الصادرة عن المجلس الأعلى ويقفون عند بعض الحيثيات التي يختلط فيها الواقع بالقانون، وبالتالي قد يتصدى المجلس أو ينقض القرار بدون تصدي، غير أننا الآن نجد بعض القرارات تتصدى ضمنيا دون أن تحكم عن طريق صياغة مبررات النقض التي تفهم منها الدرجة الاستئنافية التوجه المرجو، كما هو الشأن بالنسبة للنقض والإحالة بسبب عدم ذكر كيفية التوصل لمعرفة أن الجنحة أو الجناية تتعلق بالمال العام، والحال أن تكييف المال بأنه عام يأتي من تعريف الموظف العمومي في القانون الجنائي، فمتى كان الجاني يدخل في مفهوم الموظف العام، فإن الأموال التي في عهدته مال عام لأن صفته الوظيفية هي التي تسهل له في الغالب الاستيلاء على المال العام.
وهذا تأسيسا على مقتضيات الفصل 224 من القانون الجنائي الذي ينص على أنه:
“يعد موظفا عموميا، في تطبيق أحكام التشريع الجنائي، كل شخص كيفما كانت صفته، يعهد إليه في حدود معينة بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة بأجر أو بدون أجر ويساهم بذلك في خدمة الدولة، أو المصالح العمومية أو الهيئات البلدية، أو المؤسسات العمومية أو مصلحة ذات نفع عام.
وتراعى صفة الموظف في وقت ارتكاب الجريمة ومع ذلك فإن هذه الصفة تعتبر باقية له بعد انتهاء خدمته، إذا كانت هي التي سهلت له ارتكاب الجريمة أو مكنته من تنفيذها”.
والحاصل أن جل الباحثين أصبحوا يتساءلون هل قاضي النقض رئيسا مباشرا لقضاة المحاكم الابتدائية والاستئناف؟ وبالتالي قد يخضع للمساءلة التأديبية متى حاد عن التوجه الذي سارت عليه غرف محاكم النقض. ثم هل إدلاء الدفاع بقرار صادر عن محكمة النقض معززا لدفوعاته ودفاعه يكون ملزما لمحكمة الموضوع بأن تقضي بمضمونه تحت طائلة المساءلة عن الخطأ الجسيم، كما هو منصوص عليه في المادة 97 من القانون التنظيمي رقم 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.16.41 بتاريخ 24 مارس 2016؟
هذه المادة تنص على أنه “يمكن توقيف القاضي حالا عن مزاولة مهامه إذا توبع جنائيا أو ارتكب خطأ جسيما…”.
ويعتبر في مفهوم هذه المادة الخطأ الجسيم، الخرق الخطير لقاعدة مسطرية تشكل ضمانة أساسية لحقوق وحريات الأطراف، وكذا الخرق الخطير لقانون الموضوع….
وقد يتساءل سائل ما الضير في أن يتم خرق قاعدة مسطرية بدون نية إحداثها وبوسع المتضرر الطعن العادي وغير العادي؟ حتى إنه ينجم عن هذا الخرق التوقيف عن مزاولة المهام، وكأننا دولة لها إشباع في القضاة.
ومجمل القول، فإن العدالة القانونية تتطلب جملة من الشروط أهمها:
- نص تشريعي جيد.
- تكوين جيد للمحامين ومن في حكمهم.
- قضاة متخصصون في النزاعات المسندة إليهم.
- تكوين متنوع. وفي هذا الإطار، يتعين على المعهد العالي للقضاء الانفتاح على الكفاءات الجامعية والإدارية، ولاسيما على مستوى التأطير، عوض إسناد مهمة التأطير للقضاة فقط، لما في ذلك من إغناء التجربة للجميع.
- التحفيز عن طريق خلق درجة جديدة في السلك القضائي عوض الإبقاء على الدرجة الاستثنائية كأعلى درجة، وذلك بالتفعيل وليس بالتمني.
- قيام قضاة المحاكم الإدارية بتداريب لدى المرافق الإدارية للتعرف على لغة الإدارة وأعرافها، فكيف يعقل أن يوكل لقضاة نزاعات ذات طابع إداري، لم يسبق لهم أن لمسوا واقعيا الفرق بين ورقة الإرسال، والرسالة الدورية، والمنشور، والقرار، والمقرر، والسلم الإداري…؟
- فتح باب اللجوء إلى المعهد العالي للقضاء منذ الحصول على الباكلوريا، فلا يعقل أن الحاصل على الباكلوريا في العلوم قد يلج كلية الطب ويعلم أنه سيصبح طبيبا، والمهندس على المنوال نفسه، أما من يلج كلية الحقوق فلا يعلم مصيره، فقد يصبح قاضيا أو محاميا أو غير ذلك، لذلك فإن ممارسة القضاء هي حرفة ومهنة وأستاذية ولا تتطلب فقط المعرفة القانونية، لذلك يجب على من يرغب في ممارسة مهنة القضاء أن يلجها منذ البداية لا أن يتيه في مدرجات الكلية، ثم يأتي ليتقدم لمباراة فينجح فيها ثم يقضي تدريبا ويعين في السلك القضائي.
أكيد أن هناك مجهودا قامت به الدولة منذ الاستقلال على مستوى تكوين قضاة أكفاء، ولا أخفي سرا أنه في جل الأحيان أجد متعة كبيرة في قراءة عمل قضائي على مستوى المحاكم الابتدائية، حيث يبدع فيه القاضي الابتدائي ويبتكر ويقارن ويستنبط ويؤول وكله رغبة في تحقيق العدالة القانونية والقضائية رغم ندرة الإمكانيات المادية، الشيء الذي قد نفقده في بعض القرارات القضائية لأسباب قد تعود إلى كثرة الملفات وتنوعها، غير أن هذا العذر غير مقبول.