مجلة مغرب القانونالقانون الخاصالديمقراطية التشاركية وموقع المواطن والمجتمع المدني في صنع القرار المحلي  

الديمقراطية التشاركية وموقع المواطن والمجتمع المدني في صنع القرار المحلي  

محمد أيت بود دكتور في القانون العام


ملخص تنفيذي: 

نتجت الديمقراطية التشاركية- Démocratie participative عن التحولات التي مست الدولة والديمقراطية التمثيلية و أدت إلى بروز الديمقراطية التشاركية كآلية تدبيريه جديدة تتيح للمواطن والمجتمع المدني المشاركة في صنع القرار المحلي، و أصبح هذا الأخير شريكا أساسيا في صنع وتدبير السياسات العمومية الترابية، وهذا يتطلب أن يكون هذا الأخير في مستوى التحديات والرهانات المنتظرة، وأن يتوفر على الإمكانيات المادية واللوجستية وأن تمنح له المكانة الرمزية المستحقة من أجل الاٍضطلاع بالمهمة الاٍقتراحية الموكولة إليه  في دينامية الفعل العمومي الترابي، كفاعل رئيسي ضمن هذه الدينامية، لذلك فالديمقراطية التشاركية كآلية تدبيريه جديدة جاءت لسد هذا النقص الذي تركته الديمقراطية التمثيلية، وأصبح للسكان أو المواطنين دور أساسي في النهوض بمجالهم الترابي وتحقيق التنمية المستدامة من خلال المشاركة في اقتراح المشاريع وبرمجتها وتنفيذها في إطار ما تتيحه الآلية التشاركية من إمكانات فعل جد مهمة، تتمثل في الجانب القانوني والمؤسساتي والتشريعي ولكن كذلك في جانب المبادرة والمشاركة في اتخاذ القرار المحلي و تتيح له المساهمة في تنمية الحي أو القرية التي يقطنها والنهوض بأوضاعه الاٍجتماعية والاٍقتصادية[[1]].

الكلمات المفتاحية: الديمقراطية التشاركية – المواطن – المجتمع المدني – القرار المحلي.

Résumé exécutif :

La démocratie participative est le résultat des transformations qui ont touché l’État et la démocratie représentative et qui ont conduit à l’émergence de la démocratie participative en tant que nouveau mécanisme de gestion permettant aux citoyens et à la société civile de participer à la prise de décision locale, Cette dernière est ainsi devenue un partenaire essentiel dans l’élaboration et la gestion des politiques publiques territoriales, Cela exige que ce dernier soit à la hauteur des défis et des enjeux attendus, qu’il dispose des moyens matériels et logistiques nécessaires et qu’il se voie accorder la place symbolique qui lui revient afin de mener à bien la mission qui lui est confiée dans la dynamique de l’action publique territoriale, en tant qu’acteur principal de cette dynamique. C’est pourquoi la démocratie participative, en tant que nouveau mécanisme de gestion, est venue combler cette lacune laissée par la démocratie représentative, et les habitants ou les citoyens ont désormais un rôle essentiel à jouer dans la promotion de leur territoire et la réalisation du développement durable en participant à la proposition, à la programmation et à la mise en œuvre de projets dans le cadre des possibilités d’action très importantes offertes par le mécanisme participatif, sur le plan juridique, institutionnel et législatif, mais aussi en matière d’initiative et de participation à la prise de décision locale, et lui permet de contribuer au développement du quartier ou du village où il réside et à l’amélioration de sa situation sociale et économique.

Mots clés : démocratie participative – citoyen – société civile – décision locale.


تقديم:

أدت التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أصابت الدولة، تحت تأثير العولمة والنيوليبرالية إلى تراجع دور الديمقراطية التمثيلية في المجتمعات الحديثة وكذا إلى تراجع دور الدولة في القيام بوظائفها الكلاسيكية في إطار مفهوم دولة الرعاية الاٍجتماعية؛ بحيث أدى تراجع دور الدولة في المجال الاٍقتصادي والاٍجتماعي إلى تراجع دور العمل السياسي – Le Politique باعتباره العامل المحدد للديمقراطية التمثيلية والفاعل السياسي – Le Politicien   باعتباره الفاعل في النسق السياسي، لصالح المناجر –Manager المدبر التقنوقراطي المتحالف مع الرأسمالي–Capitaliste من أجل خدمة أجندات وأهداف السوق، هذه الظواهر أدت إلى بروز الديمقراطية التشاركية، ليس كبديل عن الديمقراطية التمثيلية بل كمساعد وكمكمل لها، وأدت تلك التحولات كذلك إلى نقل جزء مهم من أعباء الدولة المتعقلة بالملفات التنموية الحارقة على مستوى صنع وتدبير السياسات العمومية خاصة على المستوى الترابي نحو كيانات موازية والتي هي الجماعات الترابية و المجتمع المدني، يتم من خلالها إشراك المواطن في عملية صنع وتدبير القرار المحلي كسياسة عمومية محلية[[2]].

في هذه الورقة البحثية سأحاول أن أقارب إشكال مساهمة المواطن والمجتمع المدني في صنع القرار المحلي من خلال موقع كل منهما في دينامية هذا القرار من خلال توظيف مقترب تحليل السياسات العمومية، مع ضرورة الإقرار بأهمية المقاربة القانونية والمؤسساتية لهذا الموضوع، محاولا أن أجيب على السؤال الإشكالي الذي يؤطر هذه الورقة والذي هو:

ما موقع المجتمع المدني والمواطن في دينامية صنع القرار المحلي؟

المطلب الأول: الديمقراطية التشاركية من المفهوم إلى السياق والتمظهر

ظهرت الديمقراطية التشاركية على أعقاب تدهور دور الدولة بفعل تأثيرات العولمة الاقتصادية والنيوليبرالية الناتجة عن أزمة دولة الرعاية الاٍجتماعية في أوروبا والغرب على أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفي دول العالم الثالث مع  مطلع الثمانيات من القرن الماضي[[3]]، وفي ظل هذه الأوضاع لم تعد الدولة قادرة على القيام بوظائفها الكلاسيكية وتأمين الخدمات الإجتماعية، خاصة أمام اٍكراه تزايد حاجيات المواطن وندرة الموارد المالية الناتجة عن الأزمات الاٍقتصادية والمالية وبطء النمو الاقتصادي والالتزامات المالية الدولية والاقتراض الخارجي، الذي يكبل يد الدولة ويشرك الفاعلين الدوليين في صنع السياسات العمومية، وارتبطت المقاربة التشاركية – Approche participative  بمفهوم المشاركة السياسية في التعبئة والسياسات الرسمية عن طريق الوساطة التقليدية الحزبية  والاٍنتخابات والنقابات، تم تحول مفهوم المشاركة ليشمل المجتمع المدني وعموم المواطنين من خلال إفساح المجال لهم من أجل المشاركة في عملية صنع القرار المحلي، كإستراتيجية جديدة للدولة من أجل انجاز التنمية الإنسانية والبشرية[[4]]، فكيف تبلور مفهوم الديمقراطية التشاركية ؟

الفقرة الأولى : مفهوم الديمقراطية التشاركية

تعتبر الديمقراطية التشاركية من المفاهيم الحديثة في المجال التداولي العام وفي المجال القانوني و السياسي والإداري والتدبيري بالمغرب[[5]]، باعتبارها جاءت كنتيجة لأزمة الديمقراطية التمثيلية والتي لم تعد قادرة على النهوض بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للساكنة المحلية أمام تزايد الحاجيات وضيق الخيارات، والديمقراطية التشاركية تعني فتح المجال للمواطن وإعطائه فرصة المساهمة في اتخاذ القرار الذي يهم تنمية منطقته أو مجاله الترابي، والمشاركة مفهوم لصيق بمفهوم آخر والذي هو الحكامة – Gouvernance؛ ويعني التدبير الترابي اللامركزي عوض البيروقراطي المركزي، وهذا الإشراك للمواطن في عملية اتخاذ القرار المحلي يجب أن يسبقه تهيئ التراب من أجل ضمان مشاركة فعالة للمواطن فيها، باعتبار أن الإشكال الناتج عن الديمقراطية التمثيلية هو في المقام الأول إشكال مرتبط بالتدبير العمومي لكن في ظل عدة اٍكراهات وتناقضات سوسيولوجية، لذلك هناك علاقة تلازمية بين المشاركة واللامركزية، وكلما ارتفع منسوب اللامركزية ارتفع منسوب المشاركة، مع أن هذه الخطاطة تضل نسبية وتؤثر فيها عدة عوامل أخرى قانونية و سوسيولوجية، وكون حتمية تأثير اللامركزية تضل راجحة لعدة اعتبارات مرتبطة بسياق مشاركة السكان في المشاريع المحلية ومدى انخراطهم في المشاريع التي يتولون الإشراف المباشر عليها من جميع الجوانب[[6]].

مقال قد يهمك :   المجلس الجهوي للموثقين بوجدة ينظم ندوة علمية تقارب عقد الوعد بالبيع وإشكالاته العملية

الفقرة الثانية : مفهوم المشاركة المواطنة

مفهوم المشاركة مفهوم علائقي – إيجابي يشكل جوهر الحكامة الترابية[[7]]، والمشاركة تعني صياغة القرار جماعة  من خلال التفاعلية بين الأطراف المشاركة بواسطة المسلسل التلقيني – Processus cognitif المرافق لعملية إعداد وصنع القرار التشاركي، المتسم بالشرعية ويصب في تكريس الديمقراطية التشاركية، وفي حالة الإشراك يكون القرار التنموي متميزا بمضمونه الايجابي وتكون المشاركة مبنية على النتائج وفعالية الانجاز التي صار يرتكز عليها الفعل العمومي، وعبر الإشراك يصاغ القرار بواسطة آلية التلقين والتدريب والتجريب وتبادل الآراء والمعلومة والخبرة، ويتسم القرار البيداغوجي بالتجاوب الجماعي وتكون المشاركة اٍيجابية[[8]]، ويطرح بهذا الصدد سؤال كيف يمكن تحقيق مشاركة موسعة وفاعلة للساكنة أو المواطنين والمجتمع المدني في بنية التدبير الترابي؟

عرف مفهوم الديمقراطية التشاركية في المغرب عدة أوجه تطبيقية  كما له آليات عديدة، فهو يعني المشاركة المدنية للمواطن في صناعة القرار المحلي بغاية تحقيق التنمية والرفع من منسوب المواطنة  سواء من خلال المشاركة المباشرة للمواطن في اقتراح وتنفيذ وتدبير المشاريع التي تهم حاجياته الأساسية؛ ويعني كذلك الترافع من أجل نيل الحقوق المشروعة في التنمية والولوج إلى الخدمات الأساسية على الواجهة المدنية عبر آلية المجتمع المدني؛ أو من خلال الآلية المباشرة في صناعة القرار التنموي المحلي أو عبر آلية تقديم العرائض إلى السلطات العمومية والمنتخبة أو تقديم الملتمسات في مجال التشريع[[9]]، بحيث يتاح للمواطن المشاركة في صنع القرار المحلي الذي يهم معيشه اليومي عبر هذه الآليات القانونية مما يمكنه من المشاركة الفعلية في تدبير السياسات العمومية المحلية بالشكل الذي يحقق مطالبه وحاجياته العاجلة والملحة.

المطلب الثاني: الديمقراطية التشاركية ودورها في دينامية القرار المحلي

تم إقرار الديمقراطية التشاركية في السياق المغربي بموجب دستور 2011، كآلية دستورية تمكن المواطن من المشاركة في صنع السياسات العمومية التي تشكل هدفها الرئيسي، والديمقراطية التشاركية هي طريقة في التدبير العمومي تقوم على إشراك الفاعلين المحليين سواء أكانوا أفرادا أو مؤسسات في عملية صنع القرار العمومي الذي يهدف إلى إشباع حاجيات المواطن وإنتاج الخدمات وتقريبها منه وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي بذلك تهدف إلى تحقيق التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي خدمة لأجندة الرأسمال وأهداف السوق؛ باعتبار أن العودة إلى التراب ليس خيارا استراتيجيا للدولة مبني على إرادتها السياسية بل هو قرار ناتج عن جملة من التحولات العميقة التي مست جوهر الدولة نفسها وأثرت بشكل لافت على وظائفها الكلاسيكية وبالأخص في المجال الاٍجتماعي، بحيث أصبحت التنمية الترابية خيارا استراتيجيا للدولة تحت ضغط الإطار المرجعي المعولم؛ فكان لابد من إعادة هيكلة وظائفها وأدوارها التنموية والتدبيرية في أفق الحفاظ على النظام الاٍجتماعي، وخلق شروط الاٍستقرار التي تخدم أجندة الرأسمال والسوق، وما يميز الديمقراطية التشاركية هو كونها تقوم على مبدأ إشراك المواطن – Faire participer في عملية صنع القرار العمومي المحلي  الذي يخدم العملية التنموية من الأسفل – Développement par le bas بينما تقوم الديمقراطية التمثيلية على فكرة الاٍنتداب والتمثيل السياسي – Mandat politique في عملية صنع القرار العمومي ( البرلمان – الحكومة )، و هذا القرار العمومي يهدف إلى خلق منطق تدبير عمومي لتحقيق التنمية وكل ما يخدم المصلحة العامة، و تسمى هذه العملية التنمية من فوق – Développement par la haut وهي عملية صارت متجاوزة لصالح المقاربة الأخرى التي تهدف إلى تحقيق التنمية من أسفل، وهنا يأتي دور المواطن والمجتمع المدني والجماعات الترابية [[10]].

الفقرة الأولى: القرار المحلي والفعل العمومي المركزي

تهدف السياسات العمومية إلى إنجاز التنمية من فوق في إطار الفعل العمومي – Action Publique المركزي الذي يرتكز على  السياسات القطاعية للدولة والتي تقوم المصالح اللاممركزة بتنفيذها في إطار تقنية التدبير التعاقدي[[11]]، وتعمل هذه المصالح اللاممركزة بتنفيذ البرامج القطاعية للدولة بشراكة مع فاعلين عموميين وخواص على المستوى المحلي، وتشكل الجماعات الترابية جزءا منهم  وفقا لما تم الاٍلتزام به في العقد بين الوزارة الوصية والإدارة اللاممركزة على المستوى الترابي، ويهم مجالات متعددة مثل البنيات التحتية والبرامج الاجتماعية القطاعية، وهذه العملية تندرج في إطار الديمقراطية التمثيلية، لكن فيما يخص الجانب التطبيقي  للديمقراطية التشاركية على المستوى الترابي  فهو يقصد به إفساح المجال للمواطن من أجل الترافع عن حاجياته الأساسية وكذا المشاركة في صياغة كل القرارات التي تهم واقعه المعيشي اليومي، سواء في إطار اللجان المحلية للتنمية البشرية أو في إطار جمعيات المجتمع المدني، لذلك يجب دعم اللامركزية من طرف المؤسسات وترسيخ المسلسل الديمقراطي كحق وكضرورة بما يسمح بتوسيع قاعدة المشاركة وتبئيرها (اللامركزية + المشاركة المواطنة = الديمقراطية التشاركية)[[12]]، وإذا كانت الديمقراطية التشاركية تتجلى في المشاركة وهو معنى اٍيجابي فاٍن عكس ذلك يؤدي إلى الإقصاء الاجتماعي – Exclusion Social من المشاركة في اتخاذ القرار وبالتالي من التنمية برمتها[[13]].

من الأمور البديهية في رصد الظاهرة السياسية والمؤسساتية بالمغرب أن هناك أحيانا اٍرادوية لدى الدولة تقوم بتصريفها إلى قرارات ” مشمولة بالنفاذ المعجل “، حتى واٍن كانت هذه الاٍرادوية ليست بالضرورة نابعة من قناعة الدولة نفسها بل قد تكون نتيجة خضوع هذه الأخيرة للمؤثرات الخارجية، ومن بين هذه القرارات مسألة إشراك المجتمع المدني في صنع وتدبير السياسات العمومية وبالأخص القرار المحلي الذي يهم الساكنة ويخدم تلبية احتياجاتهم الضرورية، لكن في ظل أية شروط مجتمعية سياسية وإدارية؟

من المعلوم أن الإدارة الترابية (بشقيها المعين والمنتخب)[[14]]هي التي تشكل المحتضن الرئيسي للمجتمع المدني وهي التي من المفترض أنها تساعده في القيام بهذه المهمة المنوطة  به، والتي تخص المشاركة في اتخاذ القرار التنموي المحلي في إطار الفلسفة الديمقراطية وليس بمنطق الضبط الإداري، كما أن الجماعات الترابية تبقى بدورها محاورا أساسيا للنسيج الجمعوي بحيث يشكل هؤلاء الفاعلون خطاطة التدبير الترابي الجديد الذي يهدف إلى خلق فضاء مفتوح للفعل العمومي ببين الدولة والفاعلين على المستوى الترابي باعتبار أن مفهوم التنمية الترابية  يشير إلى إمكانية التطور إلى حد ما ذاتية أو مستقلة عن التنمية التي تهم الوطن ككل، تفترض نوعا من التنسيق من أجل وضع السياسات التنموية حيز التنفيذ أو تقديم المشورة لصانعي القرار وهذا الأمر يتطلب دمج الفاعلين في الدينامية المحلية[[15]].

مقال قد يهمك :   رشيد مشقاقة: قراءة في قرار محكمة النقض المتعلق بتبرئة زوجة قاصرة من الخيانة الزوجية

الفقرة الثانية : دور المجتمع المدني والمواطن في دينامية صنع القرار المحلي

لعل من أبرز تجليات الديمقراطية التشاركية ومظاهرها على المستوى التدبيري هي عملية المشاركة في اتخاذ القرار على المستوى المحلي أو الترابي أو المجالي، هذه المشاركة تندرج في إطار الفعل العمومي الترابي الذي يهدف إلى خلق دينامية المشاركة السياسية التي تنصب على صنع السياسات العمومية واتخاذ القرار التنموي الذي يهم إشباع حاجيات المواطن، فأي دور للمجتمع المدني والمواطن في هذه الدينامية؟

يقوم المواطن في إطار الديمقراطية التمثيلية باختيار ممثليه في المؤسسات والمجالس المنتخبة ( البرلمان – الجماعات الترابية ) ليقوموا بالنيابة عنهم باتخاذ القرار الذي يهم مصلحة هذا الأخير، هذا القرار الذي يشمل مجالات تنموية يتم بناء على تعاقد سياسي وانتخابي بين الطرفين، غير أن الأزمة التي عرفتنها الديمقراطية التمثيلية بفعل تأثيرات النيوليبرالية حدت من هامش الفعل السياسي لها لصالح الفاعل التقنوقراطي أو المناجر – Manager  البيروقراطي المتحالفان مع أصحاب رأس المال؛ بحيث صاروا يتحكمون في صنع وتدبير السياسات العمومية[[16]]؛ مما جعل القرار التنموي لم يعد بيد الفاعل السياسي.

أمام واقع ضيق هامش مبادرة الفاعل السياسي بسبب طغيان الإطار المرجعي المعولم، كان لابد من التفكير في مسألة إعادة الثقة في المؤسسات وذلك عبر آلية الديمقراطية التشاركية من خلال إشراك المواطن في عملية اتخاذ القرار الذي يخص الأمور المرتبطة بواقعه المعيش[[17]]، ومن تمظهرات هذه المشاركة وضع زمام تنمية الحي أو الدوار أو المدينة أو القرية بيد المواطن ما دام هو الذي يعرف أكثر من غيره حاجياته، بحيث يؤدي إشراكه في عملية اٍتخاذ القرار التنموي والمساهمة في تنمية الحي من خلال الإشراف على الاقتراح والبرمجة إلى التنفيذ والتقييم، إلى الانخراط الفعلي والفعال للمواطن والالتزام – Engagement الفعلي له في العملية القرارية التي تصب في تنمية الدوار والقرية أو الحي والمدينة، وضمن هذا الأفق؛ فالانخراط الفعلي – Implication réel للمواطن يؤدي إلى تقوية البعد التعلمي – Apprentissage  لديه واكتساب معارف ومهارات تدبيريه جديدة والتشبع بالروح الديمقراطية، مما سيمكنه من التدبير الأمثل للمشاريع المبرمجة وصيانتها، وتعتبر المبادرة الوطنية للتنمية البشرية – INDH ، من أبرز البرامج الإجتماعية التي تشتغل على المستوى الترابي و تمنح مكانة مستحقة للمواطن في دينامية اِتخاذ القرار على المستوى المحلي في سياق اقتراح وتنفيذ وتدبير المشاريع التنموية ذات الطابع الإجتماعي، رغم أن هذه العملية ليست متيسرة دائما وقد لا تتم في ظروف مثالية كما تقترح المقاربة التعاقبية لتحليل السياسات العمومية – Approche séquentielle، بل تعوقها معوقات كثيرة وتحف بها العديد من الاٍكراهات[[18]]، نظرا للخاصية المركبة والمعقدة لعملية اتخاذ القرار وتعدد الفاعلين واختلاف استراتيجياتهم وتناقض مصالحهم، وتخضع لمنطق تجاذبات موازين القوى، وبالتالي فالسيرورة القرارية تشتغل وفق منطق معقد يتداخل فيه البعد الإداري والتقني والسياسي والإنتخابي وتصبح مجالا للصراع حول الموارد المادية و الرمزية وفق خطاطة غير متحكم فيها من طرف المواطن، خاصة وهو غير مزود بالمعلومة الكافية وغير مؤهل من الناحية المعرفية وغير ملم بالمساطر الإدارية المعقدة وليس لديه هامش مناورة كافي مقارنة بباقي الفاعلين الإداريين والسياسيين المكونين لنسق اِتخاذ القرار، ويصبح جزءا من منظومة نسقية خاضعة لتجاذبات متعددة، أو مجرد كومبارس في مشهد تدبيري يستجدي هذه الجهة أو تلك من أجل التمكن من تملك مضمون العملية القرارية وبالتالي إنتاج الفعل التنموي[[19]].

يرتكز التدبير التشاركي الترابي على الجانب المالي والموازني- Budgétaire وهو الذي يتطلب أقصى درجات الحكامة بحيث يجب أن ترصد الميزانيات المتوافقة مع كل مشروع في إطار دراسات تقنية ذات جودة عالية جدا تعمل على التدقيق الجيد للأموال المرصودة وتتبع طرق الإنفاق مع ضرورة تقييم المشروع للحيلولة دون الاٍنزلاقات أو الاٍختلالات التي تؤدي إلى الفساد والريع، والى جانب ذلك يتميز القرار التشاركي بكونه مبني على التوافق –Compromis  وهو يهدف إلى تحقيق رضى الفئات المستهدفة –Consentement من خلال الوصول إلى الهدف المتمثل في إشباع الحاجيات وتحقيق المطالب المشروعة والتي تشكل الانتظارات الحقيقية والراهنة للمواطن، و إشراك الفاعلين المدنيين هو تكملة وليس بديلا عن المجتمع السياسي الذي يتمتع بالشرعية لاتخاذ القرارات وبلورة السياسات العمومية، وتنحصر مهمة المجتمع المدني في ممارسة الضغط والتأثير على الفاعلين العموميين من خلال الترافع عن الحاجيات والقيام بدور الوسيط والمساعد على تنزيل السياسات العمومية، وقد رصد الحوار الوطني حول المجتمع المدني الذي اِنطلق سنة 2013 العديد من التعقيدات الإدارية التي تعاني منها الجمعيات، وتندرج أحيانا في إشكالية استقلالية المجتمع المدني وضعف التكوين والتمويل وطرق الحصول على المعلومة وغياب تكافؤ الفرص والشفافية في علاقة الدولة بمكونات المجتمع المدني والتحكم في الموارد من طرف جماعات المصالح – Groupes d’intérêts، وتداخل النموذج الباتريمونيالي والكوربوراتي[[20]] – Modèle corporatisme مع نموذج الدولة الوطنية في علاقة الدولة بالمجتمع المدني، غير أن ما يميز العمل الجمعوي بشكل خاص هو ضعف المجتمع المدني وغياب الحكامة والإستراتيجية التنموية وغياب روح التضامن[[21]].

خاتمة :

يتجلى الدور الهام الذي صارت تكتسيه الديمقراطية التشاركية في عملية إشراك المواطن في صناعة القرار المحلي، وذلك سواء عبر الوسائط الجمعوية أو عبر آلية التشاور العمومي أو عبر آلية تقديم العرائض والملتمسات إلى السلطات العمومية، وأصبحت عملية إتخاذ القرار المحلي تكتسي طابع الدينامية وتعدد الفاعلين، وهي السمة الأساسية التي صارت تطبع وظائف الدولة في القرن 21 ، تحت تأثير العولمة والنيوليبرالية؛ بحيث يؤدي ذلك إلى إنتاج قرار عمومي محلي تشاركي متوافق عليه بالشكل الذي يخدم التنمية الترابية، ويستجيب للحاجيات والطلبات المتزايدة في ظل نقص الموارد،  لهذا فالتشاور العمومي صار رهانا للدولة من أجل نقل الأعباء التنموية التي تثقل كاهلها من المركز نحو التراب، وبالتالي إشراك هذا الأخير في دينامية التنمية المحلية.

مقال قد يهمك :   عبد الكبير الصوصي: أي ضمانة للمتضرر من قاعدة التطهير في العقار المحفظ؟

الهوامش :


[1] – نصت الفصول 12 -13 -14- 15 -139 -154 – 168 من الدستور المغربي لسنة 2011، على آليات الديمقراطية التشاركية، والقانون التنظيمي 44.14 بشأن تنظيم شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض إلى السلطة العمومية، والقانون 64.14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع، وكذا القوانين التنظيمية للجماعات الترابية؛ 14.111 و14.112و14.113.

[2]– مينة بنلمليح – العرائض كآلية من آليات الديمقراطية التشاركية – المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية – مطبعة الأمنية الرباط – العدد الخاص رقم 1 – الصفحة 7.

[3]– شاهر إسماعيل الشاهر – الديمقراطية وتجلياتها: الأشكال التي ظهرت بها والأبعاد التي ذهبت اٍليها – المركز الديمقراطي العربي – السنة 2020 – الصفحة 202 – الرابط:https://democraticac.de/?p=45880

[4]– Démocratie locale et participation citoyenne : la promesse et le piège – Loïc Blondeaux Dans Mouvements 2001/5 (no18), pages 44 à 51 – le lien : file:///C:/Users/mtaha/Downloads/democratie-locale-et-participation-citoyenne-la-promesse-et-le-piege.pdf

[5] – نص دستور 2011 في فصله الأول (الفقرة الثانية) على الديمقراطية التشاركية: ” يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسب “.

[6] – نور الدين العروبي – الديمقراطية التشاركية: قراءة في التجربة المغربية – مجلة الباحث للدراسات والأبحاث القانونية والقضائية – العدد 53 – أبريل 2023.

[7] – Michel BOUVIER – Quel Etat pour le 21 siècle ? – sous la direction de Ali Sedjari – l’Harmattan, Paris 2001, P 159.

[8]– Pierre-Marie Aubert- Action publique et société rurale dans la gestion des forêts marocaines : changement social et efficacité environnementale – le lien : https://tel.archives-ouvertes.fr/tel-00987319/file/these_PMA_pastel.pdf

[9] – ينص الفصل 14من دستور 2011 على ما يلي:«للمواطنات والمواطنين، ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي، الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع ” وينص الفصل 15 والفصل 139 على حق للمواطنات والمواطنين وجمعيات المجتمع المدني في تقديم عرائض لمجالس الجماعات الترابية، بهدف مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله.

وينص الفصل 15 منه على ما يلي: ” للمواطنات والمواطنين الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية. ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق.”

[10] – Michel BOUVIER – Quel Etat pour le 21 siècle ? – sous la direction de Ali Sedjari – l’Harmattan, Paris 2001, P 170.

[11] – التدبير التعاقدي هو وع من التدبير العمومي الجديد المتأثر بالإطار المرجعي المعولم، وهو يستلهم الطرق الحديثة في التدبير والتي تسمى: الماناجمنت – Management، ويقوم على تعاقد الوزارة الوصية مع الإدارة اللاممركزة على المستوى الترابي من أجل تحقيق أهداف محددة في العقد في إطار مبدأ ” العمل بالأهداف – Le travail par objectifs

[12] – مصطلح التبئير – épicentre   – في اللغة :  بَأَرْتُ أَبْأَرُ بَأْرًا حفرت بؤرة يطبخ فيها والبؤرة موقد النار ومنه البئر مكان تجتمع فيه المياه. وكلها معني تدل على الجمع والحصر، هو تقليص حقل الرؤية عند الراوي وحصر معلوماته وسمي هذا الحصر بالتبئير لأن السرد يجري فيه من خلال بؤرة تحدد إطار الرؤية وتحصره.

أنظر كذلك ابن منظور – لسان العرب – دار المعارف – القاهرة – مصر- ص285.

[13] – Rapport Mondial sur le développement humain , 1993; op, cit – P 23- le lien : https://hdr.undp.org/system/files/documents/hdr1993frcompletnostats.pdf

[14] – المسؤول الترابي المعين هو الوالي والعامل – Gouverneur  Wali et وهما يعينان بظهير شريف، والمسؤول الترابي المنتخب هو المسؤول في الجماعة الترابية (الجماعة القروية والحضرية – مجلس الإقليم – مجلس الجهة). الوالي يعين بظهير ملكي وهو ممثل السلطة المركزية على مستوى الجهة، ينسق بين المصالح اللاممركزة للدولة، ويسهر على تنفيذ السياسة الحكومية والبرامج الجهوية، وله سلطة الرقابة على العمال داخل الجهة. أما العامل يعين بمرسوم ملكي باقتراح من وزير الداخلية، وهو ممثل السلطة المركزية على مستوى الإقليم أو العمالة، ويشرف على تطبيق القوانين وتنفيذ قرارات الدولة محليا، ويراقب أعمال الجماعات الترابية، ويحافظ على الأمن والنظام العام.

[15]– Sekaina HAMMANI, Doctorante ENCG Agadir Université Ibn Zohr –  Khadija ANGADE, Enseignante chercheure ENCG Agadir Université Ibn Zohr – LA GOUVERNANCE TERRITORIALE ET LE DEVELOPPEMENT TERRITORIAL – UNE ANALYSE A TRAVERS L’APPROCHE DE LA PROXIMITE ET DU CAPITAL SOCIAL : PROPOSITION D’UN MODELE DE RECHERCHE – le lien : file:///C:/Users/mtaha/Downloads/18.sekainaHAMMANIetANGADEKhadijaANGADE.pdf

[16] –  الان توين – ماهي الديمقراطية؟ – منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية – دمشق 2000 – ص 26.

[17] – شاكر الموصف – الإطار العملي للسياسة المجالية والبيئية – منشورات المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية – العدد الخاص رقم 12 – مطبعة الأمنية – الرباط – المغرب- السنة 2019 – ص 79.

[18] – عبد الصمد عفيفي – تحليل السياسات الاجتماعية: من تشخيص المشاكل الاجتماعية إلى المساعدة على اتخاذ القرار – مؤلف جماعي بعنوان السياسات العمومية وتحديات المسألة الاجتماعية بالمغرب – منشورات كلية العلوم القانونية والاٍقتصادية والاٍجتماعية – مراكش – المغرب- أعمال الندوة الدولية المنظمة يوم 25 ابريل 2019 العدد 60 –لمطبعة والوراقة الوطنية مراكش الطبعة الأولى 2020 – الصفحة 53.

[19] – نفس المرجع السابق.

[20]  – حول مفهوم النموذج الكوربوراتي ، ينظر :

الدولة والهيمنة على المجتمع الدولة الكوربوراتية التسلطية وقيود الانتقال الديمقراطي في الجزائر – عبد القادر عبد العالي – مجلة عمران ، العدد 37 ، السنة 2021.

حول مفهوم الباتريمونيالية، ينظر :

الدولة النيوباتريمونيالية في المشرق العربي في المنطق العصبوي وإعادة إنتاج الطائفية – أشرف عثمان – مجلة عمران – العدد 11 ، السنة  2015.

[21] – أحساين سليمان – محدودية دور النهج التشاركي في التأثير على صناعة القرارات – مجلة المتوسط للدراسات القانونية والقضائية – العدد السادس – الصفحة 28.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]