الدولة و إساءة استعمال السلطة في مواجهة رقابة الشارع العام-حراك الحسيمة نموذجا-
بقلم: إبراهيم مومي طالب باحث في سلك الدكتوراه، شعبة القانون العام/ ناشط حقوقي
لا شك أن المتتبع لمسار احتجاجات الحراك الشعبي بالريف الذي انطلقت شرارته الأولى عقب مقتل شهيد لقمة العيش المرحوم محسن فكري مساء يوم 28 أكتوبر 2016، ليجد أن الدولة بمجمل مؤسساتها التي تتقاسم مسؤولية مجريات الأحداث قد اصطبغت تحركاتها بانفعالات هي أقرب من حيث غاياتها (و ليس مضمونها و وسائل مواجهتها) بتلك التي شهدتها الدول المحافظة بعد انهزام فرنسا في معركة واترلو في 18 يونيو من عام 1815 و ما تلاها من انعقاد مؤتمر دولي بفيينا في نفس العام(1815) تمخض عنه تأسيس حلف مقدس بقيادة ميترنيخ للتصدي لكل حركات التحرر التي ستتوج _رغم كل محاولات التدخل و الإجهاض التي نجحت فيها إلى حد كبير ما بين 1818 – 1830 _ ، بانبجاس ثورات ربيع الشعوب الأوربية عام 1840.
يحدث هذا الانفعال المصحوب بتوتر شديد من طرف الدولة المغربية في وقت تتسم فيه الاحتجاجات (رقابة الشارع العام) بخاصيتين أساسيتين تشهدان على بعد المسافة بين ما شهدته أوربا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر (احتجاجات و ثورات غايتها الاستقلال و بناء دولة حديثة قائمة على تعاقدات دستورية) و بين الوضع الاحتجاجي القائم في منطقة الريف ما بين 2016_2017:
_ أولها: ارتكاز الاحتجاجات الشعبية بإقليم الحسيمة على مبدأ “السلمية“ الذي ترجم نظريا بهيمنة شعار(سلمية سلمية؛ لا حجرة لا جنوية) على جميع الأشكال الاحتجاجية؛ و العمل به موضوعيا من خلال إبداع سلاسل بشرية مميزة بصدريات ملونة تهدف إلى حماية الممتلكات العامة و الخاصة، و في الآن ذاته تعمل على تحقيق حماية ذاتية للمتظاهرات و المتظاهرين؛ و الاستعانة في تأكيد هذا الارتكاز الجوهري بإبداع أنماط جديدة من المسيرات السلميةتتخذ من أسمائها عنوانا و رسالة في آن واحد؛ من قبيل: مسيرة الورود؛ مسيرة الشموع؛ مسيرة الأكفان؛ مسيرة النساء… إضافة إلى تنظيم ورشات فنية و الدعوة إلى الطنطنة (قرع الأواني)… و ما يعقب ذلك من تطوع شباب الحراك لتنظيف الساحات و الشوارع العمومية من كل المخلفاتالناتجة عن تلك المسيرات. فكانت النتيجة أن تحققت سلامة الممتلكات العمومية و الخاصة بصورة أبهرت العالم؛ حيث لم تسجل و لو حالة اختلال بسيطة في خضم كل المحطات الميدانية سواء داخل المدينة أو في المدن و المراكز المجاورة داخل ذات الإقليم.
_ ثانيها: غاية الحراك الاحتجاجي الشعبي محددة في سقف الوثيقة المطلبية التي تؤطرها خمسة محاور مركزية: (المحور القانوني/المحور الاقتصادي/المحور الاجتماعي/المحور الثقافي/المحور الإداري)؛ مع استبعاد المحور السياسي الذي يفهم منه وجود رؤية استباقية لدى قيادات الحراك تروم إلى درء أي استغلال سياسوي محتمل،
و هو ما ترجمه تشبثهم بمبدأ الاستقلالية عن التيارات و الأحزاب السياسية (فكل المكونات السياسية ظلت محط اتهام من لدن الحراك، حيث يحملها جزء من المسؤولية في ما آلت إليه المنطقة من فساد إداري و سياسي و اقتصادي،وهو ما يعكسه خطاب الحراك في تسميتها بالدكاكين السياسية).
هذا الانفعال السلبي الذي تعاملت به الدولة بدل التفاعل الإيجابي مع مسار احتجاجات الريف الذي أخذ إسم (الحراك الشعبي المستقل) هو الذي عبرت عنه في عنوان المقال بـ “إساءة استعمال السلطة”. و من أجل ذلك؛ سأقوم بمقاربة أوجه هذه الإساءة من جهة السلطة العامة (الحكومة باعتبارها صاحبة الاختصاص الضبطي و التنظيمي) من خلال محورين:
1ـ فصل معيار المصلحة العامة عن تطور القواعد الآمرة للنظام العام ؛
2ـ استعمال العنف غير المشروع في مواجهة رقابة الشارع العام.
المحور الأول: فصل معيار المصلحة العامة عن تطور القواعد الآمرة للنظام العام
لما كان النظام العام نظاما اجتماعيا متطورا و ليس فكرة قانونية جامدة؛ فإنه يتجه نحو ضبط نشاط الأفراد و سلوكاتهم داخل بيئة المجتمع بما يضمن احترام قواعده الآمرة و الحيلولة دون حدوث اختلال بين ممارسة الحريات في المجتمع و تحقيق المصلحة العامة. و من أجل ذلك؛ فإن النظام العام الذي يتأسس على معيار المصلحة العامة لم يعد رهين ثلاثيته التقليدية بتعبير الفقيه “هوريو” (الأمن العمومي/الصحة العمومية/السكينة العمومية)[1]؛ بل تطور بتطور الوظيفة الإدارية للدولة التي باتت تتدخل في المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية لضمان ممارسة وظيفتها الضبطية ليس من أجل تقييد حريات الأفراد و نشاطهم، و إنما من أجل الحفاظ على الاستقرار المجتمعي و ضمان بيئة تسودها الرفاهية و الاستمتاع بالحقوق و الحريات الأساسية.
بناء عليه؛ إذا كان معيار المصلحة العامة _باعتباره يدور مع النظام العام وجودا و عدما_؛ يواكب تطور وظائف الدولة التدخلية و اتساع مهامها؛ فإن من أهم مرتكزات و خصائص النظام العام إلى جانب الثلاثية التقليدية، نجد “النظام العام الاقتصادي و الاجتماعي”[2]. لذلك فمتى ما عملت الدولة على ممارسة سلطتها الضبطية لتشجيع الاستثمارات الكبرى و تسهيل مناخ الأعمال لجلب السيولة النقدية قصد امتصاص معدلات البطالة و العمل على خلق فرص حياة اقتصادية متوازنة و فعالة، و خالية من مظاهر المضاربة و الرشوة و الفساد الإداري، مع ضمان حماية الحق في الملكية و عدم انتزاعها إلا لهدفالمنفعة العامة و التعويض عنها على أساس مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة… فإنها تدرأ عوامل الاضطراب و التوتر الاقتصاديين و بالتالي نكون أمام دولة تحمي النظام العام الاقتصادي. و نفس الأمر ينسحب على النظام العام الاجتماعيلتعلقه بمعيار المصلحة العامة؛ حيث يلزم الدولة أن ترفع من مؤشرات التنمية البشرية من خلال:
- الرفع من الناتج الداخلي الخام الفردي للمواطن و حماية قدرته الشرائية ؛
- ضمان الحق فيتعليم جيد و ذو جودة؛ و توفير فرص متابعته في جميع أسلاكه دون تمييز؛
- ضمان التأطير الطبي الفعال و المتعدد الاختصاصات و توفيربنيات استقبالية سليمة؛
- ضمان الحق في سكن لائق ؛
- تسهيل الولوج لمؤسسات العدالة و ضمان شروط المحاكمة المنصفة…
و لئن كانت الدولة الحديثة المتعددة الوظائف هي تلك التي يتأثر فيها معيار المصلحة العامة بتطور نظامها العام، فتتدخل لغرض إشباع حاجات الأفراد و ضمان حقوقهم و حرياتهم حسب ما ذكرناه آنفا؛ فإن أداء السلطة العامةو وظيفتها في منطقة الريف الأوسط (خاصة إقليم الحسيمة) لا تبتعد كثيرا عن أداء و وظيفة الدولة الحارسة التي ترتكزأساسا على الخصائص الآتية: (تحقيق الأمن العمومي / فرض الضرائب / عدم التدخل في الاقتصاد/ منح القسط الأوفر من الشرعية للمؤسسة العسكرية و الشرطة و المحاكم)؛ حيث ظل معيار المصلحة العامة متعلقا فقط بنظام عام جامد رهين ثلاثيته التقليدية المعهودة (الأمن العمومي ـ الصحة العمومية ـ السكينة العمومية) في غياب تام لتكييف القواعد الآمرة لهذا النظام مع التطورات الاقتصادية و التحولات الاجتماعية المتسارعة التي يشهدها المغرب (خاصة محور طنجة _ الدار البيضاء)؛ إذ أصرت السلطة العامة التنظيمية على تثبيت المعادلة التقليدية لتأمين الاستقرار الاجتماعي في منطقة الريف المتمركزة مجاليا بمحاذاة الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط؛المصدرة لرياح العولمة من جهة، و المحتضنةلما يقرب من نصف ساكنتها (إقامة و تجنيسا) من جهة أخرى.
شكلت هذه المعادلة التقليدية في تأمين الاستقرار الاجتماعي التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة إحدى أهم مظاهر إساءة استعمال السلطة، حيث تخلت الدولة عن معيار المصلحة العامة المتعلق بتطور القواعد الآمرة للنظام العام؛ و اكتفت بلعب دور الإدارة الحارسة التي أفرزت واقعا مريرا يتسم بالمظاهر الآتية:
• سريان الظهير الشريف رقم 1.58.381؛ المؤرخ في 24 نونبر 1958 الذي يجعل إقليم الحسيمة منطقة عسكرية[3]؛ حيث لازال ينتج آثارا قانونية و مادية؛ و يمكن تبيان ذلك من خلال واقعتين اثنتين:
1ـ الواقعة الأولى: ورد في محضر الضابطة القضائية رقم 120 بتاريخ 8 مارس 2012، المنجز من طرف المركز القضائي للدرك الملكي، سرية الحسيمة، مشاركة البحرية الملكية في مواجهة الجمهور في أحداث وقعت بمركز بني بوعياش.
2ـ الواقعة الثانية: ورد في محضر الضابطة القضائية رقم 211 المنجز من طرف المركز القضائي للدرك الملكي، سرية الحسيمة، مشاركة الفوج السابع الخفيف للتدخل السريع للقوات المسلحة الملكية، في مواجهة الأحداث التي وقعت ببلدة بوكيدان(سيدي بوعفيف) [4].
و لقد أكد أحد الباحثين (جمال أمعزو) الذي حاز قصب السبق في مناقشة و تحليل هذا الموضوع على أن الجيش مؤسسة محايدة في عملية التنافس السلمي حول السلطة، و يقتصر دوره في المحافظة على كيان الوطن من التهديدات الخارجية، و كل انخراط لهذه المؤسسة في الشأن السياسي بما في ذلك إخماد الاحتجاجات الشعبية ضد الحكومة يعد مساسا بمدنية الدولة. وعليه فقد عملت فرنسا سنة 1990 على إلحاق مؤسسة الدرك الوطني/ المقابلة للدرك الملكي بالمغرب، بوزارة الداخلية بعدما كانت تابعة لمؤسسة الجيش رفعا لكل إحراج، و إعمالا لمبدأ مدنية الدولة، لما يضطلع به الدرك من اختصاصات أمنية في أوساط المدنيين [5].
•تجذر الفساد السياسي لدى الكائنات الانتخابية من خلال انحراف بعض السلوكات الانتخابية و تسييد ثقافة سلبية هجينة، أساسها شراء الذمم بالمال الفاسد، و غايتها الطمع و الثراء غير المشروع و تحقيق مآرب ذاتية و مصالح ضيقة؛
• سيادة الشطط في استعمال السلطة، من خلال تحكم المؤسسات المركزية و مؤسسات اللاتمركز الإداريينفي صياغة و تنفيذ و ترتيب أولويات السياسات العمومية المحلية على حساب مؤسسات اللامركزية، و نقض مبدأ التدبير الحر، مع تغييب مبدأ المصلحة العامة الذي هو الأصل المبرر لوجودها؛
•شيوع المضاربة و الفساد الإداري في قطاع الصيد البحري، و تعتبر واقعة الشهيد “محسن فكري” إحدى تجليات هذا الفساد ؛
• شيوع المضاربة في قطاع العقار، و كنتيجة لذلك تشكل لوبي ضاغط و مهيمن في المنطقة، يفرض إملاءاته على مجالس الجماعات الترابية لضمان رسوه على الصفقات العمومية و العقود الإدارية ؛
• نزع ملكيات الخواص لأغراض بعيدة عن المنفعة العامة (سكن الرفاه/ مشاريع الرفاه السياحية/…) أو تغليب المساطر القانونية لنزعها دون مراعاة التوازن بين المصلحة العامة و مصالح الأفراد، مثال ذلك، الأراضي التي تم انتزاعها في 16 دجنبر 2016 في إطار التحديد الغابوي بإقليم الحسيمة (تصنيف نهائي) بلغت مساحتها الإجمالية (28859 هكتار) كما هو مثبت في المراسيم الحكومية المؤرخة في 16 دجنبر 2016؛ و الموقعة من طرف ( رئيس حكومة تصريف الأعمال السيد عبد الإله بنكيران)[6].
• انتشار ظاهرة احتلال الملك العام خاصة الملك البحري سواء من طرف مستثمرين أو من طرف تجار القطاع غير المهيكل، و ذلك تحت أنظار سلطات الضبط الإداري ؛
•تشتت الطلبة الجامعيين و توزعهم بين عدة جامعات للتعليم العالي مثل: جامعة محمد الأول (بوجدة) و جامعة عبد المالك السعدي (بطنجة) و جامعة سيدي محمد بنعبد الله (بفاس) و جامعات أخرى… بسبب غياب جامعة للتعليم العالي بالإقليم.
• ارتفاع نسبة الأمية حيث بلغت 39.3% مقارنة مع المعدل الوطني الذي بلغ 32.2%؛ و مقارنة مع معدل جهة طنجة ـ تطوان ـ الحسيمة الذي بلغ 31% [7].
• ارتفاع معدل البطالة بالإقليم إلى16.3% مقابل 14.9% بالجهة و16.2 % بالمملكة.
أما حسب وسط الإقامة، فإن معدل البطالة بالوسطين الحضري و القروي للإقليم يفوق نظيره الجهوي و الوطني 21.4% مقابل17.7% و 19.3% بالوسط الحضري و13.6% مقابل10.2% و 10.5% بالوسط القروي ( وتبقى ظاهرة البطالة تمس بشكل كبير النشيطين بالوسط الحضري،لكون معدل البطالة المسجل بهذا الوسط يفوق نظيره بالوسط القروي ب7.8 نقطة بإقليم الحسيمة و هو نفس المنحى المسجل على الصعيد الجهوي و الوطني.)
هذا وتنتشر البطالة بحدة في صفوف الإناث،إذ تصل بالإقليم إلى29.9%مقابل 13.1% لدى الذكور، و هو مؤشر يفوق المعدل الوطني والجهوي للبطالة لدى النساء. وتحظى النساء الحضريات بالإقليم بأعلى معدل مسجل 45.4% في حين بلغ هذا المعدل لدى النساء بالقرى21.8%.[8]
•تراجع معدل التزايد السنوي لسكان الإقليم مابين 2004 و 2014 مقارنة مع ما كان عليهما بين 1994 و2004حيث انتقل من0.3 % إلى %0.1.ويبقى هذا المعدل أقل من نظيره المسجل على الصعيد الوطني والذي وصل إلى1.25%.[9]
• استفحال ظاهرة الهجرة الدولية نحو الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، سواء الشرعية أو غير الشرعية، أملا في الانخراط في تعاقد اجتماعي يتأسس نظامه العام على الكرامة و الحرية و الإنصاف و الحماية الاجتماعية، و تتشكل آلياته على مبادئ الديمقراطية و حقوق الإنسان.
المحور الثاني: استعمال العنف غير المشروع في مواجهة رقابة الشارع العام
إن ما ميز احتجاجات الريف (الحراك الشعبي المستقل) بإقليم الحسيمة هو تأسيسها لرقابة شعبية سلمية كآلية محاسبية منبثقة من الشارع العام تهدف إلى إثارة المسؤولية السياسية للدولة و الجماعات الترابية عن تأزم الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، و تردي السياسات العمومية المنفصلة عن جوهر المصلحة العامة للمواطن،و بالتالي إشعار السلطة العامة بنشوء بوادر اختلال النظام العام.
ينشأ هذا النوع من الرقابة، في وقت تراخت فيه المؤسسات المعهود إليها ممارسة الرقابة الإدارية و السياسية و المالية و القضائية و كذا هيئات الوساطة ذات الصفة الاستشارية عن قيامها بأداء مسؤوليتها المنوطة بها دستوريا؛ ناهيك عن انزواء المثقف العضوي نحو زوايا التنظير المجردة عن الواقع و البعيدة عن دوائر الأحداث و سيرورة الوقائع؛ و غياب أدوات التمكين لمجتمع مدني ناشئ. و عليه؛ يمكن القول، إن هذه الرقابة المنبثقة من الشارع العام قد سحبت ثقتها من مجمل هذه المؤسسات، و اتجهت بتظلماتها مباشرة إلى المؤسسة الملكية باعتبارها صاحبة الإشراف العام؛ و باعتبار الملك، رئيس الدولة، و ممثلها الأسمى، و رمز وحدة الأمة، و ضامن دوام الدولة و استمرارها، و الحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور، و حسن سير المؤسسات الدستورية، و على صيانة الاختيار الديمقراطي، و حقوق و حريات المواطنين و المواطنات و الجماعات، و على احترام التعهدات الدولية للمملكة؛ و الملك هو ضامن استقلال البلاد و حوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة.[10]
في مقابل ذلك؛ اتجهت السلطة الحكومية إلى ممارسة الضبط الإداري على أساس قواعد غير مشروعة، في محاولة منها التصدي لأمواج الحراك الذي جسد عمليا شعاره (الحراك باق و يتمدد)، و انتقاما منه على خلفية إعماله لملتمس الرقابة على الحكومة و سحب الثقة من المؤسسات. و لغاية التشكيك في الثقة التي عبر عنها الحراك تجاه المؤسسة الملكية، سعى أمناء أحزاب الأغلبية المشكلة للحكومة إلى تقمص سلطة الاتهامعلى أمواج الإعلام الرسمي، مباشرة بعد انتهاء لقائهم بالسيد وزير الداخلية الذي عرض عليهم تقريرا بشأن تطورات الحراك بإقليم الحسيمة؛ تمس بوطنية شباب الحراك، حيث اتهموهمبالعمالة و تلقي أموال من الخارج و الدعوة للانفصال عن الوطن و المس بالمؤسسات الدستورية و الاستقرار الداخلي للبلاد، و ما هم _أي شباب الحراك حسب ادعائهم الكيدي_ إلا أصحاب فتنة و مطالبهم خرافة، و يلزم السلطة العامة تطبيق القانون.
و نظرا لحجم الاستنكار الذي أبداه المغاربة قاطبة من جراء هذه التصريحات “الكيدية” و المستفزة لمشاعر المواطنين بالريف و التي لا تقوم على سند أو إثبات؛ نظم شباب الحراك مسيرة احتجاجية يوم 18 ماي 2017 ردا على هذه الاتهامات الخطيرة؛ و قد سماها البعض بـ “مسيرة الولاء للوطن”. لكن السلطة التقديرية للدولة لم تراع مبدأ التناسب بين الوقائع المادية و ترتيب شكل التدخل أو الجزاء؛ حيث فوتت فرصة ضبط الوضع القائم للحفاظ على النظام العام، عندما التجأت إلى إعمال المقاربة الأمنية _بعد حادثة الجمعة بمسجد محمد الخامس_ باعتبارها جوهر وظيفة الدولة الحارسة؛ و تجافيها عن خيارات ضبطية عديدة كان من شأنها أن تنتج آثارا إيجابية لفائدة النظام العام و المصلحة العامة.و هنا تجدر الإشارة؛ إلى أن معظم تدخلاتها الأمنيةلفض التجمعات العمومية أو التجمهرات غير المسلحة لم تكن تراعىفيها تطبيق مقتضيات الفصلين 19 ـ 21 من الظهير الشريف الصادر بشأن قانون التجمعات العمومية.[11]؛ مما لا يرتب، دون ذلك؛ أي متابعة قضائية ضد أي شخص من أجل التجمهر المسلح أو التجمهر غير المسلح الذي قد يخل بالأمن العمومي.[12]؛ إذا علمنا أن مشرع الحريات العامة لم يشترط التصريح المسبق لدى السلطة الإدارية المحلية بالنسبة للتجمهر الذي لا يتسم بالوصف الجرمي، إلا في حالة كونه تجمهرا مسلحا بمعنى الفصل 18 من الظهير الشريف المذكور.[13] أما التجمعات العمومية أو المظاهرات بالطرق العمومية غير المصرح بها فيمكن القول، أن عرفا إداريا بعدم منعها عندما يتعلق الأمر بالمطالبة بالحقوق الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية كان قيد التشكل؛ استحضارا لتواتر سلوك المواطنين بعدم التصريح لدى السلطات الإدارية المحلية. و هذا الاتجاه الناشئ؛ يجد سنده الضمني لدى المشرع الدستوري الذي عنون الباب الثاني من الدستور بـ “الحقوق و الحريات الأساسية”.
و تبعا لذلك، وجب على السلطة العامة أن تتحرى التطبيق السليم لمبدأ المشروعية و قواعد القانون، من خلال البحث عن قصد المشرع الدستوري من الانتقال من مفهوم “الحريات العامة” إلى مفهوم آخر هو “الحريات الأساسية” و مدى علاقة ذلك بتطور وظائف الفرد و الدولة داخل المجتمع، و كذا تباعا، علاقة هذا التطور بالحرية و السلطة و قواعد العيش المشترك.[14]
لتفادي تكرار إساءة استعمال السلطة في مجال ضبط الحريات الأساسية؛ و وضع حد لانتهاك حق الأفراد في ممارسة حقوقهم الدستورية ذات الصلة بالحقوق و الحريات الأساسية، و ضمان عدم مصادرتها أو تقييدها أو حجزها؛ إلا بما يعزز من فرص رقابة الشارع العام كآلية محاسبية جديدة في مجال السياسات العمومية.
المراجع:
[1]ـ la trilogie traditionnelle c’est une formule d’Hauriou elle déterminent en troispoints ce qu’est certainement l’ordre public en matière de police administrativegénéral : la sécurité publique la tranquillité publique et la salubrité publique. VOIR :
-RénéChapus, RénéChapus, droit administratif générl, tom 1 édition 14,p.688.
ـ أنظر: فيصل نسيغة / رياض دنش، مقال بعنوان: النظام العام، مجلة المنتدى القانوني، العدد: 5، ص:172، جامعة محمد خيضر بسكرة؛ الجزائر.
[2]ـهناك من يضيف خاصيتين: النظام العام الخلقي (الآداب العامة)؛ و كذا جمال الرونق و الرواء (تجميل المدن).
[3]ـ الظهير الشريف رقم 1.58.381 الذي يجعل إقليم الحسيمة منطقة عسكرية، و المؤرخ في 24 نونبر 1958؛ المنشور بالجريدة الرسمية عدد 2405، ص: 2866، بتاريخ 17 جمادى الأولى 1378/ 29 نونبر 1958.
ـ لابد من الإشارة هنا، أن السيد وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت، أكد يومه الإثنين 10 أبريل 2017 بمدينة الحسيمة، أن طبيعة التنظيم الإداري للإقليم، كباقي أقاليم المملكة، تسري عليه من سنة 1959 مقتضيات الظهير الشريف 1.59.351 بشأن التقسيم الإداري للمملكة، و المنشور بالجريدة الرسمية، عدد: 2458، بتاريخ: 03 جمادى الثانية 1379/04 دجنبر 1959، و الذي صنف الإقليم كواحد من بين 16 إقليم و عمالتين المشكلين للمملكة في تلك الفترة، علما أن هذا الظهير قد خضع لعدة تعديلات تواكب التطور المجالي الذي عرفته بلادنا. (أنظر: مهدي عزاوي، مقال إخباري بعنوان: هذا ما دار في اجتماع وزير الداخلية لفتيت بالحسيمة و هذا ما قاله العماري حول ظهير العسكرة. موقع ناضور سيتي، تاريخ الولوج: 14/ 06/2017).
[4]ـ أنظر: خالد أمعزة، مقال بعنوان: بخصوص ظهير 24/11/1958 الذي بموجبه يعتبر إقليم الحسيمة منطقة عسكرية.(منشور في: موقع ريف اكسبريس/ تاريخ الولوج: 14/06/2017).
[5]ـ أنظر: خالد أمعزة، مقال بعنوان: بخصوص ظهير 24/11/1958 الذي بموجبه يعتبر إقليم الحسيمة منطقة عسكرية، مرجع سابق.
[6]ـ هذه المراسيم منشورة بالجريدة الرسمية، عدد: 6530 و المؤرخة في: 29 ربيع الأول 1438؛ الموافق لـ 29/12/2016.
[7]ـ أنظر (محور الأمية): تقرير حول الوضعية الديمغرافية و السوسيو إقتصادية بإقليم الحسيمة، يونيو 2016، المديرية الجهوية تازة ـ الحسيمة ـ تاونات؛ المندوبية السامية للتخطيط.
[8]ـ أنظر (محور البطالة): تقرير حول الوضعية الديمغرافية و السوسيو إقتصادية بإقليم الحسيمة، يونيو 2016، المديرية الجهوية تازة ـ الحسيمة ـ تاونات؛ المندوبية السامية للتخطيط.
[9]ـ وصل تعداد سكان إقليم الحسيمة حسب إحصاء 2014 إلى 399654 نسمة،و هو ما يمثل %11.2 من سكان جهة طنجة – تطوان – الحسيمة؛ و 1.2 % من السكان على الصعيد الوطني. أنظر(محور السكان و الأسر): تقرير حول الوضعية الديمغرافية و السوسيو إقتصادية بإقليم الحسيمة، يونيو 2016، المديرية الجهوية تازة ـ الحسيمة ـ تاونات؛ المندوبية السامية للتخطيط).
[10]ـ الفصل (42) من دستور المملكة، صادر بتنفيذه الظهير الشريف 1.11.91 بتاريخ 29 يوليوز 2011.
[11]ـ ظهير شريف رقم 1.58.377 صادر في 03 جمادى الأولى 1378 (15 نونبر 1958) بشأن قانون التجمعات العمومية.
[12]ـ أنظر منشور السيد وزير العدل و الحريات؛ عدد: 92 س3، المؤرخ في 02 أكتوبر 2015؛ حول موضوع: التجمهر في الطريق العمومي، الموجه إلى السادة الوكلاء العامين للملك لدى محاكم الاستئناف/و السادة وكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية.
[13]ـ أنظر منشور السيد وزير العدل و الحريات؛ عدد: 92 س3، المؤرخ في 02 أكتوبر 2015، مرجع سابق.
[14]ـ أنظر؛ مليكة النعيمي و عبد القادر مساعد، الناصر في حقوق الإنسان و الحريات الأساسية، الطبعة الأولى، 2015/1437، مطبعة سليكي أخوين ـ طنجة، ص: 33ـ 35.