التدابير الاحترازية كآلية للوقاية من الجريمة في التشريع الجنائي الموريتاني”دراسة تحليلية في ضوء السياسة الجنائية الحديثة”

محمد عبد الرحمن أحمدو ولد أبُّو دكتور في القانون أستاذ متعاون مع جامعة انواكشوط – كلية العلوم القانونية والسياسية
تمهيد:
في ظل التحولات المتتالية التي يشهدها العالم المعاصر على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية، تزايدت التحديات الأمنية وتعقدت الظاهرة الإجرامية مما ألقى بظلاله على السياسات الجنائية التقليدية وجعل الحاجة ماسة إلى تجديد أدوات المواجهة القانونية. فلم تعد العقوبة وحدها كافية لردع الجريمة والحد من تكرارها، بل برزت الحاجة إلى آليات جديدة أكثر مرونة وفعالية تراعي خصوصية الجاني وظروف ارتكاب الفعل الإجرامي، وتعتمد مبدأ الوقاية والحماية إلى جانب الردع والزجر؛ ومن بين هذه الآليات التي فرضتها السياسة الجنائية الحديثة تبرز التدابير الاحترازية إلى الساحة الجنائية كوسيلة قانونية وآلية حديثة تسعى إلى الوقاية من الجريمة بوسائل بديلة أو موازية أكثر مرونة وتلاؤما مع خصوصية الجاني والمجتمع.
لأنها تركز على الخطورة الإجرامية للجاني أكثر من مجرد المسؤولية الجنائية، وتهدف إلى الحماية الوقائية قبل العقاب الزجري؛ وقد تبنّى المشرع الجنائي الموريتاني هذه التدابير، إلى جانب العقوبة ضمن مسار إصلاحي حديث يتماشى مع توجهات السياسة الجنائية الحديثة التي ترتكز على مبدأ الوقاية أكثر من مبدأ الردع وتستهدف الجاني لا لمعاقبته فقط، بل لتقويم سلوكه والحد من خطورته مستقبلا حماية للمجتمع واستقرارا للنظام العام.
ولعل أهمية التدابير الاحترازية في السياق الموريتاني تزداد بالنظر إلى طبيعة المجتمع وتحدياته الأمنية والاجتماعية، خاصة في ظل اتساع دائرة الجريمة وضعف وسائل إعادة التأهيل الاجتماعي للمجرمين فهي تمثل بديلا فعالا في حالات يكون فيها تطبيق العقوبة غير ممكن أو غير كاف، كما هو الحال بالنسبة للأشخاص عديمي أو ناقصي الأهلية الجنائية، كالمختلين عقليا أو القصر أو في مواجهة الجرائم المنظمة والعابرة للحدود، حيث تمكن الدولة من تحصين المجتمع دون الإخلال بمبادئ العدالة والشرعية الجنائية؛ وتكمن أهمية دراسة موضوع التدابير الاحترازية في بعدين رئيسيين:
الأهمية النظرية:
تتمثل في تسليط الضوء على الإطار المفاهيمي والقانوني لهذه التدابير وبيان تميزها عن العقوبة، من حيث الأساس القانوني و الطبيعة والأهداف، بما يساهم في إثراء المعرفة القانونية حول هذه الآليات الحديثة نسبيا في البيئة التشريعية الموريتانية.
الأهمية العملية:
تبرز الأهمية العملية للتدابير الاحترازية من خلال الوقوف على مدى فعالية هذه التدابير في الحد من تفشي الجريمة والوقاية منها، وتحقيق التوازن بين متطلبات الأمن العام وضمانات حقوق الأفراد خاصة في ظل ندرة الدراسات المتخصصة حول الموضوع في السياق الموريتاني.
بناءً علي هذا، فإن الإشكالية التي يثيرها هذا المقال تتمثل في:
إلى أي حد تمكّن المشرع الجنائي الموريتاني من إرساء نظام فعّال للتدابير الاحترازية كآلية للوقاية من الجريمة؟ وما مدى انسجام هذا النظام مع المبادئ الحديثة للسياسة الجنائية؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من التساؤلات الفرعية، من بينها:
ما هو الإطار القانوني الناظم للتدابير الاحترازية في التشريع الموريتاني؟
وما هي أنواع هذه التدابير وشروط تطبيقها؟
وما الفرق بينها وبين العقوبة من حيث الطبيعة والأهداف؟
وللإجابة عن هذه التساؤلات، سيتم اعتماد منهج تحليلي نقدي، ينطلق من دراسة النصوص القانونية المنظمة للتدابير الاحترازية في التشريع الجنائي الموريتاني، وتحليلها في ضوء النظريات الحديثة للسياسة الجنائية، مع الإشارة إلى بعض التطبيقات القضائية؛ وسنعالج هذا المقال وفق التصميم التالي:
- المبحث الأول: الإطار العام للتدابير الوقائية
- المبحث الثاني: شروط تطبيق التدابير الاحترازية وآثارها القانونية
المبحث الأول: الإطار العام للتدابير الوقائية
تعد التدابير الوقائية إحدى ركائز السياسة الجنائية المعاصرة، التي تهدف إلى تحقيق الحماية الاجتماعية ومنع الجريمة، إلى جانب العقوبة التي تركز على الردع والزجر وقد اهتم المشرع الموريتاني على غرار العديد من التشريعات الحديثة بإدراج هذه التدابير ضمن منظومته القانونية، لما لها من دور وقائي وإصلاحي فعال خصوصا في مواجهة فئات الجناة الذين يشكلون خطرا مستقبليا على المجتمع.
المطلب الأول: مفهوم التدابير الوقائية وتمييزها عن العقوبة
تتمثل التدابير الوقائية في بعض الوسائل القانونية التي تتخذ اتجاه شخص يعتبر خطرا على النظام العام أو على سلامة الآخرين حتى ولو لم يكن مسئولا جنائيا مسؤولية كاملة (كالمجنون أو غير المميز)؛ وبالتالي فهي تستند على الخطر المستقبلي للجاني وليس فقط على فعله في السابق.
الفقرة الأولى: تعريف التدابير الوقائية
تعرف التدابير الاحترازية أنها: (جزاءات جنائية ذات طابع وقائي يقررها القانون ويوقعها القاضي على كل شخص يشكل خطورة إجرامية على المجتمع بهدف القضاء على خطورته[1]، سواء كان مسئولا جنائيا أم غير مسئول جنائيا)، كما تهدف التدابير الاحترازي إلى منع تكرار الجريمة أو وقوعها مستقبلا من خلال إقصاء أو تقييد حرية الجاني أو إصلاح سلوكه دون أن تقوم على فكرة الذنب، وإنما تتعلق بتقدير الخطورة الكامنة في شخصه مما يعني أنها لا تستند إلى العقوبة على فعل ارتُكب بإرادة حرة، بل إلى حالة خطرة تهدد النظام العام، وقد تطبق على الجناة المسئولين مثل أصحاب العود الإجرامي، أو الأشخاص الذين لا يتحملون المسؤولية الجنائية كالمجانين والمعتوهين؛ وتتميز التدابير الاحترازية عن العقوبات بأنها: وقائية لا زجرية، كما تتميز أنها غير مرتبطة بالذنب بل بالحالة الخطرة،
فضلا عن كونها قابلة للتجديد أو الإنهاء تبعا لزوال الخطورة الإجرامية الكامنة في الشخص؛ وقد نظم المشرع الموريتاني أحكام التدابير الاحترازية في المادة 60 وما بعدها من القانون الجنائي باعتبارها آلية موازية للعقوبة، هدفها حماية المجتمع وضمان الأمن العام عند تعذر العقاب أو عدم كفايته.
الفقرة الثانية: العلاقة بين التدابير الاحترازية والعقوبة
يعتبر كل من العقوبة والتدابير الاحترازية من الوسائل التي يعتمدها المشرع الجنائي لحماية المجتمع من الظاهرة الإجرامية، غير أن العلاقة بينهما ليست علاقة تطابق، بل تقوم على الاختلاف في الأساس والغاية والوظيفة. فالعقوبة تقوم على مبدأ المسؤولية الجنائية وترتبط بفعل إجرامي ارتكبه الجاني بحرية وإرادة، وتستهدف الردع والزجر؛ في حين ترتكز التدابير الاحترازية على الخطورة الإجرامية للجاني وتُفرض غالبا على من لا تتوافر لديه الأهلية الجنائية الكاملة، أو على من يشكّل خطرا محتملا على النظام العام، بهدف الوقاية والحماية؛ ورغم هذا التمايز الحاصل بين التدابير لاحترازية والعقوبة فإن الأنظمة الجنائية الحديثة تجمع بين الوسيلتين في إطار سياسة جنائية متكاملة[2]، تراعي التوازن بين الردع العقابي والوقاية الاجتماعية. وفي هذا الصدد سنتطرق لأوجه التشابه بين العقوبة والتدابير الاحترازية (أولا)؛ وكذا أوجه الاختلاف بينهما (ثانيا).
أولا: أوجه التشابه بين التدابير الاحترازية والعقوبة
تشترك التدابير الاحترازية والعقوبات في كونهما جزاءين جنائيين يُفرضان على مرتكبي الأفعال الإجرامية، ويصدران عن القضاء الجنائي بموجب حكم قضائي[3]؛ كما أن كليهما يُطبّق في إطار الدعوى العمومية، بعد ثبوت ارتكاب الجريمة، ويهدفان إلى حماية المجتمع من السلوك الإجرامي، كل بطريقته. ويشتركان كذلك في كونهما قد يُؤديان إلى تقييد حرية الفرد أو الانتقاص من بعض حقوقه، كالإيداع في مؤسسة علاجية أو الحبس كعقوبة سالبة للحرية. ويمكن للقاضي الجنائي أن يحكم بهما معا في آن واحد خاصة عندما تبرر خطورة الجاني أو حالته النفسية تطبيقهما بشكل متواز؛ ومن الناحية الإجرائية، يخضع كل من العقوبة والتدبير الاحترازي لرقابة القضاء وضمانات المحاكمة العادلة.
ثانيا: أوجه الاختلاف بين التدابير الاحترازية والعقوبة
رغم ما يلاحظ من تشابه ظاهر بين العقوبة والتدابير الاحترازية فإن التدابير الاحترازية تختلف عن العقوبات في عدة جوانب جوهرية فمن حيث الأساس القانوني تقوم العقوبة على مبدأ المسؤولية الجنائية عن فعل إجرامي مرتكب بإرادة حرة، بينما تُفرض التدابير الاحترازية غالبا في حالات انعدام المسؤولية أو حالة وجود خطورة إجرامية، كحالة المجنون أو المدمن. أما من حيث الغاية، فالعقوبة تهدف إلى الردع والزجر ، في حين تهدف التدابير الاحترازية إلى الوقاية والحماية من تكرار الخطر؛ ومن حيث المدة، فالعقوبة محددة في الزمان بمقتضى نصوص قانونية، بينما التدبير الاحترازي قد تطول مدته وقد تقصر حسب السلطة التقديرية للقاضي ويراجع تلك المدة دوريا حسب وجود الخطورة في الشخص. ومن حيث الطبيعة الشخصية، فالعقوبة ترتبط بالذنب الشخصي، في حين أن التدبير الاحترازي قد يُفرض حتى في غياب الذنب إذا توفرت الخطورة[4].
المطلب الثاني: أنواع التدابير الاحترازية وأهدافها
تعد التدابير الاحترازية من الوسائل القانونية التي تهدف إلى حماية المجتمع من الخطورة الإجرامية التي قد يُشكلها الجاني، لذا تختلف التدابير الاحترازية عن العقوبات في كونها لا تقوم على المسؤولية الجنائية بل على الخطورة الإجرامية. وتُطبق هذه التدابير الاحترازية في حق الأشخاص الذين لا تتوافر فيهم الأهلية الجنائية الكاملة، كالمصابين باضطرابات عقلية أو القصر، أو حتى في حق الجناة الذين تثبت خطورتهم رغم المسؤولية الكاملة؛ وتنقسم التدابير الاحترازية إلى أنواع متعددة بحسب طبيعتها وأثرها، ويمكن تصنيفها إلى
تدابير احترازية شخصية تستهدف شخص الجاني وتقييد حريته أو سلوكه كالإيداع في مؤسسة علاجية أو الوضع تحت المراقبة أو المنع من الإقامة في أماكن معينة أو سحب رخصة السياقة أو حيازة السلاح…
أما النوع الثاني فيتعلق بالتدابير الاحترازية العينية المرتبطة بالأشياء المتعلقة بالجريمة ولا تمس الجاني مباشرة كمصادرة الأشياء أو الأموال المستخدمة في ارتكاب الجريمة أو إغلاق المحلات أو المؤسسات التي شكلت بيئة للجريمة أو إتلاف الأشياء الخطرة أو الممنوعة قانونا؛ كما أنها تتميز التدابير بكونها قابلة للانقضاء بزوال الخطورة الإجرامية، ولا يمكن أن تُفرض إلا بموجب حكم قضائي وتخضع للرقابة القضائية حفاظا على الحقوق والحريات.
الفقرة الأولى: تصنيف التدابير الوقائية
يمكن تقسيم التدابير الوقائية إلى نوعين رئيسيين يتعلق الأول منهما بالتدابير الوقائية الشخصية (أولا)؛ أما النوع الثاني فيتعلق بالتدابير الوقائية العينية (ثانيا).
أولا: التدابير الوقائية الشخصية
يقصد بالتدابير الوقائية الشخصية تلك الإجراءات التي تفرض على شخص معين بسبب خطورته وتشمل:
الإيداع في مؤسسة علاجية؛ أو المراقبة القضائية: التي تتمثل في مراقبة سلوك المحكوم عليه لفترة محددة؛ أو المنع من الإقامة في أماكن معينة؛ أو الإبعاد أو الإخراج من التراب الوطني (للأجانب)؛ و يمكن تقسيم التدابير الوقائية الشخصية إلى تدابير شخصية سالبة للحرية ( 1) وبعض التدابير الشخصية السالبة للحقوق ( 2)
1- التدابير الشخصية السالبة للحرية
تتمثل التدابير الشخصية السالبة للحرية فيما يلي :
-الإقصاء
يعرف الإقصاء أنه: تدبير احترازي شخصي يقضي بإبعاد المحكوم عليه عن مكان معين إما بمنعه من الإقامة فيه أو بإلزامه بالابتعاد عنه لفترة محددة يحكم بها القاضي[5] ويعد من التدابير السالبة للحرية بشكل جزئي لأنه ليس سجنا وإنما يقيد حرية الإقامة والتنقل و لا تحكم به إلا المحاكم العادية[6].
-الإقامة الجبرية.
يقصد بالإجبار على الإقامة أن تحدد المحكمة للمحكوم عليه مكانا للإقامة أو دائرة محصورة لا يجوز له الابتعاد عنها إلا بإذن طيلة المدة المحددة في الحكم [7]
-المنع من الإقامة.
يقصد به منع المحكوم عليه من الإقامة في أماكن معينة لمدة معينة متى اعتبرت المحكمة أن إقامة هذا الشخص في مكان معين يشكل خطرا على النظام العام أو على أمن الأشخاص[8] نظرا لطبيعة الفعل المرتكب أو لشخصية فاعله…
-الإيداع القضائي داخل مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية
يعتبر الإيداع القضائي من أهم التدابير الاحترازية التي يأمر بها القاضي؛ ويتعلق هذا التدبير بإيداع شخص يعاني من مرض عقلي داخل مؤسسة متخصصة في علاج الأمراض العقلية، إذا تبين أن حالته العقلية تجعله غير مسئول جنائيا كليا أو جزئيا عن أفعاله، أو إذا كان يشكل وجوده في المجتمع خطرا على نفسه أو على الغير [9]
2 التدابير الشخصية السالبة للحقوق
تتمثل التدابير الشخصية السالبة للحقوق فيما يلي:
-عدم الاهلية لمزاولة بعض الوظائف والخدامات؛
يطبق هذا التدبير متى تبين وجود علاقة بين الوظيفة والجريمة المرتكبة من طرف الشخص وتحكم المحكمة بهذا التدبير كلما نص القانون على ذلك صراحة[10].
-المنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن
يحكم بالمنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن عندما يتبين للمحكمة أن الجريمة المرتكبة لها علاقة مباشرة بمزاولة المهنة أو النشاط أو الفن وأن هناك قرائن قوية يخشى معها أن يصبح المحكوم عليه خطرا على أمن الناس أو صحتهم أو أخلاقهم أو على مدخراتهم[11].
– سقوط الحق في الولاية الشرعية على الأبناء.
يقوم هذا التدبير على حرمان الولي الشرعي من مزاولة المهام المنوطة به في إطار النيابة الشرعية على أبنائه؛ ويمكن أن يشمل هذا السقوط جميع حقوق الولاية أو بعضها؛ ويحكم به غالبا إذا تبين للمحكمة أن تصرفات الشخص اتجاه أبنائه غير محمولة على الشفقة والإصلاح التي تقررت الولاية الشرعية على أساسهما[12].
ثانيا التدابير الوقائية العينية
تتعلق التدابير الوقائية العينية بالوسائل أو الأدوات المستعملة في الجريمة حيث تتم مصادرة الوسائل (1) أو إغلاق المحلات المستغلة في نشاط غير مشروع ( 2)
1- المصادرة
إذا كانت المصادرة تعتبر عقوبة إضافية فإنها كذلك تعتبر تدبيرا وقائيا؛ تتمثل المصادرة في مصادرة الأشياء الخطيرة كالمخدرات، أو الأسلحة، أو الأموال الناتجة عن الجريمة…؛ ومن أمثلتها ما أشار له المشرع الموريتاني في الفقرة الأخيرة من المادة 381 من القانون الجنائي؛ ومما يحسن التنبيه إليه في هذا الصدد أن المصادرة باعتبارها تدبيرا وقائيا تسري في حق الجميع بما فيهم الحائز القانوني ؛ حيث تأمر المحكمة بالمصادرة كتدبير احترازي بالنسبة للأدوات والأشياء المحجوزة التي يعتبر صنعها أو استعمالها أو حملها أو حيازتها أو بيعها جريمة؛ حتى ولو كانت تلك الأدوات والأشياء على ملك الغير وحتى لو لم يصدر حكم بالإدانة ؛ كما أن المحكمة قد تحكم بالمصادرة كتدبير وقائي عيني دون أن تصدر حكمها بالإدانة كحالة سقوط الدعوى العمومية بالتقادم أو حالة عدم مساءلة الفاعل لخلل عقلي؛ وهذا بخلاف ما إذا كانت المصادرة كعقوبة إضافية فلا يجوز الحكم بها إلا إذا صدر حكم بالإدانة[13]
2- الإغلاق
يمكن لقاضي التحقيق أو المحكمة المختصة أن تأمر بإغلاق أحد المحلات التجارية أو الصناعية التي تُستغل في نشاط غير مشروع؛ ويمكن أن يكون هذا الإغلاق نهائيا أو مؤقتا إذا كان المحل استعمل في ارتكاب الجريمة إما بإساءة استغلال الإذن أو الرخصة الممنوحة له؛ أو من خلال عدم احترام النظم الإدارية؛ ويترتب على الحكم بإغلاق محل تجاري أو صناعي أو أي مؤسسة أخرى تم إغلاقها بناء على الأحوال التي يجيز فيها القانون ذلك أن يتم منع المحكوم عليه من مزاولة نفس المهنة أو النشاط في ذلك المحل كما يشمل المنع أفراد أسرة المحكوم عليه أو غيرهم ممن يكون المحكوم عليه قد باع له المحل أو أكراه أو سلمه إليه[14]؛ كما يسري المنع في الشخص المعنوي أو الهيئة التي كان ينتمي إليها المحكوم عليه أو كان يعمل لحسابها وقت ارتكاب الجريمة[15].
أما بالنسبة للمحلات غير التجارية والصناعية كعيادات الأطباء ومكاتب المحامين أو غير فلا يمكن للمحكمة أن تحكم بإغلاقها ما لم ينص القانون على ذلك بشكل صريح[16]
الفقرة الثانية: الأهداف الوقائية للتدابير الاحترازية
تبنى المشرع الموريتاني على غرار غيره من التشريعات المقارنة التدابير الاحترازية كوسيلة لوقاية المجتمع من خطورة المجرمين، لا لمعاقبتهم فقط، وقد نظم المشرع الموريتاني هذه المقتضيات في المادة 60 وما بعدها من القانون الجنائي.
ويمكن إيجاز الأهداف الوقائية للتدابير الاحترازية فيما يلي:
- منع تكرار الجريمة
تهدف التدابير الاحترازية إلى الحيلولة دون عودة الجاني إلى ارتكاب أفعال إجرامية، وذلك من خلال تقييد حريته أو إخضاعه لرقابة أو علاج، خاصة إذا كانت لديه سوابق أو دلت حالته على الميل إلى الإجرام المتكرر[17].
- معالجة بعض الصفات الخطرة الكامنة في شخصية الجاني:
عندما يكون الجاني غير مسئول جنائيا كالمجنون أو المختل عقليا لا تفرض عليه عقوبة[18]، بل يتخذ في حقه تدبير علاجي أو وقائي كالإيداع في مؤسسة علاجية بهدف إزالة الخطورة لا معاقبته على الفعل[19].
- حماية الأمن العام والنظام الاجتماعي:
تسعى هذه التدابير الاحترازية إلى عزل العناصر الخطيرة مؤقتا من المجتمع، بما يضمن حماية الأرواح والممتلكات من الأذى الذي قد يلحقهم بسبب وجود هؤلاء الأشخاص الذين يشكل وجودهم في المجتمع خطورة على السكينة والنظام العام، خصوصا في حالات الإجرام المستمر أو المنظم[20].
- تحقيق الإدماج الاجتماعي:
تهدف بعض التدابير إلى إعادة تأهيل الجاني ودمجه تدريجيا في المجتمع، كبديل عن العقوبة السجنية التقليدية التي قد تؤدي إلى تفاقم الانحراف؛ وتخضع هذه التدابير لمراقبة قضائية دورية، حيث يمكن تعديلها أو إنهاؤها متى زالت حالة الخطورة، مما يُبرز وظيفتها الوقائية المؤقتة لا الزجرية الدائمة [21].
المبحث الثاني: شروط تطبيق التدابير الاحترازية وآثارها القانونية
لا تفرض التدابير الاحترازية إلا بتوافر شروط قانونية محددة، أبرزها ثبوت الخطورة الإجرامية وغياب المسؤولية الجنائية الكاملة؛ ويترتب على تطبيقها آثار قانونية تمس حرية الفرد، غير أنها تظل تدابير وقائية مؤقتة تهدف إلى حماية المجتمع لا معاقبة الجاني.
المطلب الأول: شروط تطبيق التدابير الاحترازية وضمانات مشروعيتها
تعتبر التدابير الاحترازية من أهم الوسائل التي تعتمدها السياسة الجنائية للوقاية من الإجرام، ولضمان عدم المساس بحقوق الأفراد بشكل تعسفي فقد أحيطت بشروط خاصة تضمن مشروعيتها ويقتضي ذلك أن تتوفر في الشخص المعني بها خطورة إجرامية قائمة أو محتملة وأن تصدر هذه التدابير عن جهة قضائية مختصة، وفقا لإجراءات قانونية محددة، مع احترام الضمانات الأساسية المرتبطة بالمشروعية والرقابة القضائية .
الفقرة الأولى: شروط تطبيق التدابير الوقائية
تعتبر التدابير الاحترازية من بين الوسائل الوقائية التي يعتمدها المشرع لحماية المجتمع من الخطورة الإجرامية، إلا أن تطبيقها لا يكون عشوائيا، بل يتطلب توافر مجموعة من الشروط تضمن مشروعيتها وفعاليتها. وتتمثل هذه الشروط فيما يلي:
وجود فعل إجرامي أو سلوك خطير
يشترط المشرع أن يكون الشخص محل التدبير الاحترازي قد ارتكب فعلا يشكل خطرا على النظام العام، سواء كان هذا الفعل جريمة كاملة أو مجرد سلوك يهدد الأمن، حتى وإن لم تتوافر المسؤولية الجنائية في الشخص كالمجنون أو عديم الإدراك؛ وفي بعض الحالات، يكفي أن يثبت على الشخص الاعتياد على الإجرام أو الانتماء لجماعة خطرة، ليطبق في حقه التدبير[22].
ثبوت الخطورة الإجرامية
تعتبر الخطورة الإجرامية حجر الزاوية في تطبيق التدبير الاحترازي، ويقصد بها: الاحتمال الجدي لارتكاب الشخص لجرائم مستقبلا بسبب وضعه النفسي أو العقلي أو السلوكي[23]؛ ويقوم القاضي بتقدير هذه الخطورة بناء على المعطيات الشخصية للجاني مثل المجرمين أصحاب السوابق،أو بناء على تقارير طبية وليس على مجرد ارتكاب الجريمة[24] .
غياب أو نقص المسؤولية الجنائية
إذا ثبت أن الفاعل غير مسئول جنائيا أو ناقص الاهلية مما يجعل تطبيق العقوبة عليه متعذرا كحالة المجانين أو ناقصي الأهلية أو ضحايا الإدمان فإن القاضي يحكم بإخضاع الشخص للتدابير الاحترازية في هذه الحالة كحل وقائي[25].
ضرورة التدبير الاحترازي وملاءمته
لا يجوز اللجوء إلى التدبير الاحترازي إلا إذا كان ضروريا لحماية المجتمع، ولا يتوفر أي بديل آخر أقل تقييدا لحرية الشخص[26].
كما يجب أن يكون التدبير متناسبا مع درجة الخطورة وظروف الفاعل، ويتعين على القاضي في هذه الحالة مراعاة مبدأ الضرورة في التدبير الاحترازي وعدم التعسف في تقييد الحقوق.
صدور حكم قضائي
لا تُفرض التدابير الاحترازية إلا بموجب حكم قضائي مسبب صادر عن محكمة مختصة، وتخضع هذه التدابير الاحترازية لمراجعة دورية من قبل القضاء، ويمكن إنهاؤها إذا زالت الخطورة.[27].
الفقرة الثانية: الضمانات القانونية
نظرا لما تشكله التدابير الاحترازية من قيود قد تمس بحرية الفرد وحقوقه الأساسية أقر المشرع الموريتاني مجموعة من الضمانات القانونية الجوهرية لضمان مشروعية التدابير الاحترازية ومنع تعسف السلطات القضائية في تطبيقها فهذه التدابير وإن كانت ذات طبيعة وقائية لا عقابية إلا أنها قد تتخذ شكل الإيداع أو التقييد أو المراقبة، مما يفرض ضرورة إحاطتها بضمانات تكفل العدالة والشرعية والإشراف القضائي. وتتمثل هذه الضمانات في خضوع التدبير لقرار قضائي، وضرورة التقييم الطبي والنفسي، وحق الطعن، والمراجعة الدورية، إلى جانب احترام كرامة الشخص وحقوقه أثناء التنفيذ. وتعد هذه الضمانات ركيزة أساسية لتحقيق التوازن بين حماية النظام العام وصون الحريات الفردية، في إطار من الشرعية والمشروعية[28]
المطلب الثاني: آثار التدابير الاحترازية وأسباب انقضائها.
تترتب على التدابير الاحترازية آثار قانونية واجتماعية مهمة تمس حرية الفرد وحقوقه رغم أنها لا تُعد عقوبة بالمعنى التقليدي وإن كانت تفرض بشكل مؤقت ووقائي فإن استمرارها مشروط ببقاء الخطورة، وتنقضي بزوالها أو بتحسن الحالة أو بقرار قضائي يُنهي مبرراتها.
الفقرة الأولى: الآثار المترتبة على للتدابير الاحترازية
عندما يصدر حكم قضائي يقضي بخضوع شخص للتدابير الاحترازية يترتب على ذلك مجموعة من الآثار يمكن إجمالها فيما يلي:
- تقييد الحرية الشخصية بشكل مؤقت
يعد التدبير الاحترازي وسيلة لتقييد حرية الشخص، كالإيداع في مؤسسة علاجية أو التوقيف المؤقت ولكن هذا التقييد يكون مؤقتا ويهدف إلى الوقاية لا العقاب[29].
- غياب صفة المدان
لا يعتبر الشخص المحكوم عليه بالتدبير الاحترازي مدانا جنائيا بالمعنى التقليدي، لأن التدابير الاحترازية تُفرض على أساس وجود خطورة أو نقص في المسؤولية، وليس بسبب ذنب مؤكد[30]؛ لذلك، لا يتعرض الشخص لعقوبات ذات طابع جزائي تقليدي، كالحرمان من الحقوق المدنية والسياسية المرتبطة بالإدانة.
- إثبات حالة الخطورة أو العجز
يحكم على الشخص بالخضوع للتدابير الاحترازية عادة بناء على تقارير طبية أو خبرات قضائية تؤكد وجود خطر فعلي أو حالة مرضية عقلية تعيق المسؤولية الجنائية.
- المراجعة القضائية الدورية
يترتب على الحكم بالتدبير الاحترازي خضوع الشخص لمراجعة دورية من المحكمة المختصة، لتقييم مدى استمرار وجود الخطورة أو الحالة التي تستدعي التدبير الاحترازي؛ ويمكن للقاضي خلال هذه المراجعة تعديل التدبير أو إنهاؤه إذا ثبت زوال أسباب فرضه[31].
- عدم الإخلال بالحقوق الأساسية
يلتزم القضاء بضمان احترام حقوق الإنسان الأساسية للشخص الخاضع للتدبير، مثل الحق في العلاج اللائق، وحق الطعن، والحق في عدم التمييز…..
الفقرة الثانية: أسباب انقضاء التدابير الاحترازية
تعتبر التدابير الاحترازية من الوسائل التي يعتمدها المشرع لحماية المجتمع من خطورة بعض الأشخاص الذين يشكلون تهديدا للأمن أو النظام العام، دون أن يكون الهدف منها العقاب، بل الوقاية والعلاج والإصلاح. وبما أن هذه التدابير تفرض بناء على تقدير الخطورة لا على أساس المسؤولية الجنائية الكاملة، فإنها لا تعتبر دائمة بطبيعتها، وإنما تعتبر مؤقتة واستثنائية وتبقى خاضعة لرقابة قضائية وتنقضي عند زوال مبرراتها.
جدير بالذكر أن أسباب انقضاء التدابير الاحترازية متعددة ومنها ما هو عام يتعلق بزوال سبب الخطر كوفاة الشخص الخاضع للتدبير الاحترازي أو تحسن سلوكه بانتفاء الخطورة الإجرامية عنه….، ومنها ما هو خاص يرتبط بطبيعة التدبير ذاته، مثل انتهاء المدة أو صدور قرار بالعفو العام أو العفو الخاص أو التقادم ورد الاعتبار … وتهدف هذه الأسباب إلى تحقيق التوازن بين حماية المجتمع واحترام الحقوق الفردية للشخص محل التدبير، بما يتماشى مع مبدأ الشرعية والعدالة الجنائية؛ وسنتطرق لهذه الأسباب التي تنقضي بها التدابير الاحترازية في النقاط التالية:
1 وفاة المعني بالتدبير الاحترازي
تؤدي وفاة الشخص الخاضع للتدبير الاحترازي إلى انقضاء جميع الإجراءات المتخذة في حقه، باعتبار أن الهدف من التدبير شخصي ووقائي، ولا يمتد إلى الورثة أو الغير[32].
جدير بالذكر أن هذا الحكم لا ينطبق إلا على التدابير الشخصية بخلاف التدابير الاحترازية العينية التي تكون خطورتها مرتبطة بالشيء لا بالشخص وبالتالي تبقى التدابير الاحترازية العينية قائمة ولا تتأثر بوفاة المجرم كما أن وفاة أحد ممثلي الشخص المعنوي أو جميعهم لا يؤثر على التدابير الاحترازية العينية المتخذة ضد الشخص المعنوي كالمصادرة أو الإغلاق.
2- التقادم كسبب لانقضاء التدابير الاحترازية
يسقط التقادم التدابير الوقائية عادة لأن مرور مدة التقادم قد تزول معه الخطورة ا إجرامية غير أن هذه النتيجة غير مؤكدة بشكل دائم؛ لأن الخطورة الإجرامية قد لا تزول بعد انقضاء مدة التقادم وتبقى ملازمة للجاني.
3 – زوال الخطورة الإجرامية
يُعد هذا السبب هو الأساس الجوهري لانتهاء التدبير الاحترازي، حيث إن استمراره مرهون ببقاء الخطورة التي تم فرض التدبير الاحترازي من أجلها. فإذا ثبت، بتقرير طبي أو خبرة قضائية، أن الشخص لم يعد يشكل خطرا على المجتمع، أو أنه استكمل علاجه أو تم إصلاح سلوكه، جاز للمحكمة أن تأمر بإنهاء التدبير الاحترازي فورا.
4 – تحسن الحالة الصحية أو العقلية للشخص الخاضع للتدبير الاحترازي
في حالات التدابير الاحترازية ذات الطبيعة العلاجية أو التأهيلية، كالإيداع في مؤسسة علاجية أو مركز إعادة التأهيل، ينقضي التدبير تلقائيا عند تعافي الشخص، شريطة إثبات ذلك بتقرير طبي معتمد يرفع إلى السلطة القضائية المختصة.
5- العفو الشامل
يعد العفو الشامل ( العفو العام) أحد الأسباب القانونية التي تؤدي إلى انقضاء العقوبة بشكل عام ؛ وانقضاء التدابير الاحترازية إذا نص قانون العفو على ذلك بشكل صريح[33]؛ ويتميز هذا النوع من العفو بأنه لا يقتصر على إسقاط العقوبة فحسب، بل يمتد كذلك إلى محو الجريمة ذاتها وما يترتب عليها من آثار.
6-العفو الخاص
عندما ينص قرار العفو الخاص بموجب مرسوم يتضمن عفو خاص عن العقوبة بشكل صريح فإن العفو الخاص في هذه الحالة يشمل العقوبة وحدها دون التدبير الاحترازي[34] إلا إذا تضمن مرسوم العفو الخاص الإعفاء من التدابير الاحترازية فإن العفو الخاص في هذه الحالة يكون سببا من أسباب انقضاء التدابير الوقائية ولا تطبق على الشخص في هذه الحالة[35].
7- قرار قضائي بالإلغاء أو الاستبدال
يجوز للمحكمة، إما من تلقاء نفسها أو بناء على طلب من الشخص المعني أو ممثله القانوني أو النيابة العامة أن تُنهي التدبير الاحترازي أو تُبدّله إذا اقتضت الظروف ذلك، بشرط أن يكون ذلك مبررا ومنطقيا في ضوء تقييم الحالة.
8- انتهاء المدة القانونية أو تجاوزها دون مبرر
رغم أن التدبير الاحترازي غير محدد المدة غالبا، فإن بعض القوانين – ومنها التشريع الموريتاني – تلزم الجهات القضائية بمراجعة التدابير الاحترازية المحكوم بها دوريا. وإذا تجاوزت السلطات القضائية المدة دون تجديد قانوني، أو لم يعد هناك مبرر لاستمراره، فإن انقضاءه يصبح واجبا.
9-إلغاء القانون الجنائي المحكوم بمقتضاه
إذا صدر قانون جنائي جديد يزيل الصفة الجرمية عن الفعل المجرم أو إذا صدر قانون يلغي ذلك التدبير الاحترازي الذي يخضع له الشخص المحكوم عليه فإنه في هذه الحالة ينقضي التدبير الاحترازي ولا يخضع له الشخص الذي قد حكم عليه به من طرف القضاء[36]
10-إعادة الاعتبار (رد الاعتبار)
يعتبر رد الاعتبار للمحكوم عليه من بين أسباب انقضاء التدابير الاحترازية خاصة في الجريمة التي يتضمنها الحكم الذي رد الاعتبار عنه لأن رد الاعتبار للشخص يؤدي إلى زوال كافة آثار حكم الإدانة بالنسبة للمستقبل بما في ذلك التدابير الاحترازية التي تضمنها الحكم إلا أنه لا يمنح للمحكوم عليه إلا بعد ظهور صلاح السلوك عليه واندماجه في المجتمع [37] بحيث لا يشكل وجوده في المجتمع خطرا على أمن وسلامة المجتمع؛ إلا أن رد الاعتبار لا يكون سببا من أسباب انقضاء التدابير الاحترازية إلا إذا كان يتعلق بحكم يتضمن عقوبة وتدبير احترازي في نفس الوقت؛ مما يعني أنه إذا كان الحكم يقضي بتدبير احترازي فقط فإن المحكوم عليه لا يمكن أن يطلب رد الاعتبار عنه[38]
11- الإفراج الشرطي
يؤدي الإفراج الشرطي أو المقيد إلى تنفيذ العقوبة وجوبا غير أن الجهة القضائية المختصة لها الحق في الحكم بإخضاع الشخص للتدابير الاحترازية كما أن لها الحق في إعفائها من تنفيذ التدابير الاحترازية[39].
الخاتمة:
ختاما يتبين أن التدابير الاحترازية تمثل أداة فعالة في السياسة الجنائية الحديثة للوقاية من الجريمة إذ تهدف إلى حماية المجتمع من الخطر الإجرامي المحتمل أكثر من معاقبة الفعل ذاته. وقد ساهمت في إعادة صياغة المفاهيم التقليدية للعقوبة، من خلال التركيز على إصلاح الجاني ومنع تكرار السلوك الإجرامي، خاصة في الحالات التي لا تجدي فيها العقوبة وحدها
ولهذا أصبح من الضروري تبني التدابير الاحترازية كآليات قانونية بديلة ووقائية تتماشى مع تطورات المجتمع وتعقيد الظاهرة الإجرامية، نظرا لأن التدابير الاحترازية تعتبر خيارا تشريعيا متقدما، يُراهن عليه لحماية المجتمع، ليس فقط من الجريمة المرتكبة، بل من احتمال تكرارها أو تفشيها؛ وقد أظهرت هذه الدراسة أن التشريع الجنائي الموريتاني رغم إدراكه لأهمية هذه التدابير لا يزال بحاجة إلى مزيد من التأصيل والتنظيم والتفعيل سواء من حيث وضوح النصوص أو من حيث التطبيق القضائي والممارسات العملية.
كما تبين أن التدابير الاحترازية، وإن كانت ذات طبيعة مختلفة عن العقوبة فإنها تكمّلها وتُشكل معها منظومة متكاملة لحماية الأمن العام وتحقيق الردع الوقائي.
وقد توصلت هذه الدراسة إلى مجموعة من النتائج الأساسية، من أبرزها:
- أن التدابير الاحترازية في القانون الموريتاني تقوم على أسس وقائية تهدف إلى حماية المجتمع من الجناة الذين يشكلون خطرا رغم عدم توافر المسؤولية الجنائية الكاملة في بعض الحالات.
- أن المشرع الموريتاني قد فرّق بين التدابير الشخصية والعينية، غير أن تحديد شروطها وتقييدها بضمانات قانونية ما زال يحتاج إلى مزيد من الوضوح.
- أن اعتماد هذه التدابير يعكس توجهات السياسة الجنائية الحديثة، خصوصا في ما يتعلق بالتركيز على إعادة الإدماج الاجتماعي والوقاية بدل الاقتصار على العقاب.
- أن التطبيق القضائي لهذه التدابير لا يزال محدودا، ما يدل على ضعف التكوين أو غموض بعض النصوص، أو غياب آليات التفعيل العملي.
المقترحات:
انطلاقاً من هذه النتائج التي ذكرنا آنفا يمكن تقديم مجموعة من المقترحات التي من شأنها تعزيز فعالية التدابير الاحترازية في التشريع الموريتاني، وهي كالتالي:
- ضرورة إعداد مدونة جنائية متخصصة أو باب مستقل في القانون الجنائي يتعلق بالتدابير الاحترازية ويتضمن تعريفا دقيقا لها، وأنواعها، وشروط تطبيقها، ومدتها، وآليات مراقبتها وإنهائها.
- تعزيز التكوين المتخصص للقضاة وأعضاء النيابة العامة في موضوع التدابير الاحترازية، من خلال تنظيم دورات تدريبية وورشات عمل تُبرز الفرق بين العقوبة والتدبير، وتُركز على دور القضاء في مراقبة مدى ملاءمة التدبير مع الخطورة الإجرامية.
- توسيع نطاق التدابير الاحترازية في النصوص القانونية لتشمل الجرائم الحديثة كالإرهاب والجريمة المعلوماتية…، والتي قد تتطلب تدابير خاصة لمواجهة خطورتها.
- إنشاء مراكز مختصة بإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للجناة الخاضعين لتدابير احترازية، خاصة من فئة ذوي الاضطرابات العقلية أو المدمنين أو القصّر، وذلك لتفعيل البُعد الوقائي لهذه التدابير.
- تدعيم الرقابة القضائية على تنفيذ التدابير الاحترازية، وضمان خضوعها لمراجعة دورية، احتراما للحقوق الفردية وضمانات المحاكمة العادلة.
- تشجيع البحث الأكاديمي في مجال التدابير الاحترازية وربطه بالواقع العملي والقضائي، من خلال إحداث شراكات بين الجامعات والمؤسسات القضائية والأمنية.
إن تدعيم مكانة التدابير الاحترازية ضمن المنظومة الجنائية الموريتانية لا يعد فقط استجابة للتطورات التشريعية الدولية، بل يعتبر ضرورة ملحّة لحماية المجتمع من الجريمة بوسائل حديثة تراعي مبدأ التناسب والعدالة، وتُجسد بامتياز روح السياسة الجنائية الوقائية والإنسانية في آنٍ واحد.
المراجع:
الكتب
- عبد الفتاح بيومي؛ التدابير الاحترازية في القانون الجنائي – دراسة مقارنة – دار الفكر الجامعي الإسكندرية- ( دون ذكر الطبعة وتاريخ النشر)
- البشير عدي: الوجيز في القانون الجنائي العام المغربي ؛ الطبعة الثانية 2020 ؛ مطبعة الاقتصاد
- عبد الهادي الشاوي: محاضرات في القانون الجنائي العام المغربي؛ مطبعة الاقتصاد؛ حي الداخلة- أكادير الطبعة الثالثة: 2023
- فؤاد معلال: السياسة الجنائية دراسة مقارنة ؛ منشورات المعرفة الطبعة الثانية ؛ 2019
- محمد بكار: النظام القانوني للتدابير الجنائية البديلة؛ الطبعة الثالثة 2019 بيروت؛
- محمد ولد عبد الودود: ” المختصر في القانون الجنائي العام” الطبعة الخامسة: 2024-2025؛ (دون ذكر جهة النشر) .
- مصطفى ناظر بوعبيد: مستندات الاقتناع الجنائية –دراسة نظرية وتطبيقية – في التدابير الوقائية والرقابية وإجراءات الحجز والتصفية؛ الطبعة الأولى؛ 2021؛ درا الآفاق.
الاطروحات:
- إيمان بن عمر: “التدابير الاحترازية كبديل للعقوبة السالبة للحرية في التشريع التونسي” أطروحة لنيل دكتوراه في القانون الخاص،جامعة قرطاج – كلية العلوم القانونية والسياسية؛ السنة الجامعية: 2017-2018 ؛
- سميح بن شريف: السياسة الجنائية في المغرب أي آفاق؟ أطروحة لنيل دكتوراه في القانون الخاص، جامعة محمد الأول ؛ كلية الحقوق –وجدة، السنة الجامعية: 2020 – 2021.
- عبد الله ولد ببانه: “التدابير الوقائية في القانون الجنائي الموريتاني” – دراسة مقارنة مع القانون الفرنسي والمغربي” أطروحة دكتوراه في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس بالرباط كلية الحقوق؛ السنة الجامعية: 2021؛
- مولاي الحسن الإدريسي: “السياسة العقابية بالمغرب بين التحديات والإصلاحات” أطروحة لنيل دكتوراه في القانون الخاص – جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق – سلا، السنة الجامعية: 2013-2014 .
الرسائل:
- أيوب خليفي: بدائل العقوبات السالبة للحرية، رسالة ماستر في القانون الخاص – جامعة الحسن الأول؛ كلية الحقوق، السنة الجامعية: 2017-2018
- خديجة بعسين: “العقوبات البديلة في التشريع الجنائي الوطني والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان” -دراسة مقارنة- رسالة مقدمة لنيل شهادة ماستر -تخصص حقوق الإنسان – جامعة محمد الخامس، الرباط، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية؛ السنة الجامعية: 2016-2017
- محمودي نوال: دور تدابير الأمن في الحد من الظاهرة الإجرامية؛ رسالة مقدمة لنيل شهادة الماستر في الحقوق؛ جامعة محمد خيضر بسكرة؛ كلية الحقوق والعلوم السياسية- السنة الجامعية: 2016-2017؛
- محمودي، نور الهدى: “التدابير الاحترازية وتأثيرها على الظاهرة الإجرامية – رسالة ماجستير-، جامعة الحاج لخضر باتنة (الجزائر) السنة الجامعية: 2011
- ميسم هاني محمد: ” دور التدابير الاحترازية في الحد من الخطورة الإجرامية” – رسالة ماجستير، جامعة عمان العربية (الأردن). السنة الجامعية: 2022-2023
- مريم بوعزة: “بدائل السجن في السياسة العقابية المعاصرة” رسالة مقدمة لنيل شهادة ماستر – جامعة عبد المالك السعدي، كلية الحقوق- طنجة،السنة الجامعية: 2017-2018 .
المقالات:
- اباه ولد سيدي عالي: “السياسة الجنائية في التشريع الموريتاني: بين العقوبة والتدابير الوقائية” المجلة الموريتانية للدراسات القانونية والقضائية ؛ العدد الثاني؛ 2019
- عباس عبد القادر: أثر التدابير الاحترازية في الحد من جنوح الأطفال – دراسة شرعية وقانونية؛ الأكادمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية العدد : 02
- محمد فال ولد احميده: “النظام القانوني للتدابير الأمنية والاحترازية في التشريع الجنائي الموريتاني” مجلة كلية القانون؛ العدد: الرابع؛ 2017؛
- محمد الأمين ولد محمد عبد الله: “التدابير الاحترازية في القانون الجنائي الموريتاني” مجلة المعرفة القانونية – العدد: السادس؛ 2022
- نور الدين مناني: “التدابير الاحترازية ودورها في تحقيق الأمن القضائي؛ مجلة الدراسات الفقهية والقضائية؛ العدد: الثاني؛ ديسمبر 2017
القوانين:
الأمر القانوني رقم 162-83 الصادر بتاريخ 9 يوليو 1983؛ المتضمن القانون الجنائي
الهوامش:
[1] محمد ولد عبد الودود: ” المختصر في القانون الجنائي العام” الطبعة الخامسة: 2024-2025؛ (دون ذكر جهة النشر)؛ ص: 228
[2] عبد الهادي الشاوي: محاضرات في القانون الجنائي العام المغربي؛ مطبعة الاقتصاد؛ حي الداخلة- أكادير ؛ الطبعة الثالثة: 2023؛ ص: 513
[3] محمد ولد عبد الودود؛ مرجع سابق؛ ص: 228
[4] مصطفى ناظر بوعبيد: “مستندات الاقتناع الجنائية” –دراسة نظرية وتطبيقية – في التدابير الوقائية والرقابية وإجراءات الحجز والتصفية؛ الطبعة الأولى؛ 2021؛ درا الآفاق؛ ص: 78
[5] عباس عبد القادر: أثر التدابير الاحترازية في الحد من جنوح الأطفال – دراسة شرعية وقانونية؛ الأكادمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية العدد : 02 ؛ ص: 327
[6]محمودي نوال: ” دور تدابير الأمن في الحد من الظاهرة الإجرامية”؛ رسالة مقدمة لنيل شهادة الماستر في الحقوق؛ جامعة محمد خيضر بسكرة؛ كلية الحقوق والعلوم السياسية- السنة الجامعية: 2016 -2017؛ ص: 67
[7] محمودي نور الهدى: “التدابير الاحترازية وتأثيرها على الظاهرة الإجرامية” – رسالة ماجستير-، جامعة الحاج لخضر باتنة (الجزائر) السنة الجامعية: 2011؛ ص: 93
[8] مريم بوعزة: “بدائل السجن في السياسة العقابية المعاصرة” رسالة مقدمة لنيل شهادة ماستر – جامعة عبد المالك السعدي، كلية الحقوق- طنجة،السنة الجامعية: 2017-2018 ؛ ص: 56
[9] عبد الهادي الشاوي؛ مرجع سابق؛ ص: 144
[10] عبد الفتاح بيومي؛ التدابير الاحترازية في القانون الجنائي – دراسة مقارنة – دار الفكر الجامعي الإسكندرية- ( دون ذكر الطبعة وتاريخ النشر) ص: 67
[11] نور الدين مناني: “التدابير الاحترازية ودورها في تحقيق الأمن القضائي”؛ مجلة الدراسات الفقهية والقضائية؛ العدد: الثاني؛ ديسمبر 2017؛ ص: 157
[12] البشير عدي: الوجيز في القانون الجنائي العام المغربي ؛ الطبعة الثانية 2020 ؛ مطبعة الاقتصاد؛ ص: 196
[13] عبد الهادي الشاوي ؛ مرجع السابق؛ ص: 149
[14] عبد الله ولد ببانه: “التدابير الوقائية في القانون الجنائي الموريتاني” – دراسة مقارنة مع القانون الفرنسي والمغربي” أطروحة دكتوراه في القانون الخاص، جامعة محمد الخامس بالرباط كلية الحقوق؛ السنة الجامعية: 2021 ص: 89
[15] البشير عدي؛ مرجع سابق؛ ص: 198
[16] عبد الهادي الشاوي؛ مرجع سابق؛ ص: 150
[17] فؤاد معلال: السياسة الجنائية دراسة مقارنة ؛ منشورات المعرفة الطبعة الثانية ؛ 2019؛ ص: 176
[18] أيوب خليفي: بدائل العقوبات السالبة للحرية، رسالة ماستر في القانون الخاص – جامعة الحسن الأول؛ كلية الحقوق، السنة الجامعية: 2017/2018؛ ص: 89
[19] ميسم هاني محمد: ” دور التدابير الاحترازية في الحد من الخطورة الإجرامية” – رسالة ماجستير، جامعة عمان العربية (الأردن). السنة الجامعية: 2022-2023؛ ص: 145
[20] مصطفى ناظر بوعبيد؛ مرجع سابق؛ ص: 92
[21] محمد بكار: النظام القانوني للتدابير الجنائية البديلة؛ الطبعة الثالثة 2019 بيروت؛ ص: 98
[22] محمد ولد عبد الودود؛ مرجع سابق؛ ص: 229
[23] سميح بن شريف: السياسة الجنائية في المغرب أي آفاق؟ أطروحة لنيل دكتوراه في القانون الخاص، جامعة محمد الأول ؛ كلية الحقوق –وجدة، السنة الجامعية: 2020 – 2021 ؛ ص: 63
[24] ميسم هاني محمد؛ مرجع سابق؛ ص: 153
[25] خديجة بعسين: “العقوبات البديلة في التشريع الجنائي الوطني والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان” -دراسة مقارنة- رسالة مقدمة لنيل شهادة ماستر -تخصص حقوق الإنسان – جامعة محمد الخامس، الرباط، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية؛ السنة الجامعية: 2016-2017؛ ص: 98
[26] مولاي الحسن الإدريسي: “السياسة العقابية بالمغرب بين التحديات والإصلاحات” أطروحة لنيل دكتوراه في القانون الخاص – جامعة محمد الخامس، كلية الحقوق – سلا، السنة الجامعية: 2013-2014 ؛ ص: 72
[27] محمد الأمين ولد محمد عبد الله: “التدابير الاحترازية في القانون الجنائي الموريتاني” مجلة المعرفة القانونية – العدد: السادس؛ 2022 ص: 276
[28] اباه ولد سيدي عالي: “السياسة الجنائية في التشريع الموريتاني: بين العقوبة والتدابير الوقائية”” المجلة الموريتانية للدراسات القانونية والقضائية ؛ العدد الثاني؛ 2019 ص: 87
[29] محمد فال ولد احميده: “النظام القانوني للتدابير الأمنية والاحترازية في التشريع الجنائي الموريتاني” مجلة كلية القانون؛ العدد: الرابع؛ 2017؛ ص: 187
[30] محمد بكار؛ مرجع سابق؛ ص: 109
[31] سميح بن شريف: مرجع سابق؛ ص: 69
[32] إيمان بن عمر: “التدابير الاحترازية كبديل للعقوبة السالبة للحرية في التشريع التونسي” أطروحة لنيل دكتوراه في القانون الخاص؛ جامعة قرطاج – كلية العلوم القانونية والسياسية؛ السنة الجامعية: 2017-2018 ؛ ص: 89
[33] محمد ولد عبد الودود؛ مرجع سابق؛ ص: 233
[34] إيمان بن عمر؛ مرجع سابق؛ ص: 94
[35] محمد ولد عبد الودود؛ مرجع سابق؛ ص: 233
[36] البشير عدي؛ مرجع سابق؛ ص: 199
[37] عبد الله ولد ببانه؛ مرجع سابق؛ ص: 95
[38] للمزيد من الإيضاح يمكن مراجعة محمد ولد عبد الودود؛ مرجع سابق؛ ص: 234
[39] عبد الهادي الشاوي؛ مرجع سابق؛ ص: 152