إبن مسعود ياسين: محامي مع وقف التنفيذ ؟!
ابن مسعود ياسين حاصل على دبلوم الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة دفعة 2019 / باحث في ماستر قانون العقود والعقار
أجدني هذه الأيام مشغول البال أكثر من أي وقت مضى -رُفْقَة لفيف من خيرة أصدقائي- ممن حصلوا على دبلوم الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة مؤخرا. إذ لا تحفيزات تلوح في الأفق، بل تثبيط للعزائم وتخويف من مستقبل المهنة، وارتفاع صاروخي لواجبات الانخراط التي بلغت في بعض هيآت المحامين بالمغرب حوالي 15 مليون سنتيم تدفع عاجلا لا آجلا دفعة واحدة لا أقساطا مفرقة.
كم كنا أغبياء حين تنفسنا الصعداء لحظة اجتيازنا للامتحان الكتابي وبعده المقابلة الشفوية بنجاح وإصرار معتقدين أن المعركة انتهت وَحَيّهَلاً لرسالة الدفاع؟، لكن للأسف لم تستمر الفرحة طويلا إذ استيقظنا من الحلم سريعا لنجد أنفسنا أمام جبل الجليد الحقيقي . لقد بدأت تترى مطبات أخرى لم نكن نلقي لها بالا لمّا كان التحصيل العلمي همنا الوحيد، ونحن الذين لم نَخْبُر واقع المهنة بالمغرب إلا بحوارات عابرة مع فلان أو علان ترفع من شأن رسالة الدفاع ونبل أهدافها إلى حد التضحية لأجلها.
حدثني أحد الأصدقاء أنه أصيب بالأرق الشديد مؤخرا من شدة التفكير في كيفية تدبر قضية مبالغ الانخراط التي تشترطها الهيآت قبل التسجيل في لائحة التمرين، ويحدثني آخر أنه يشرف على ال45 من عمره في دجنبر القادم وقانون المهنة يفرض التسجيل في شهر أكتوبر من كل سنة ، ولم يتبق له سوى هذه الفرصة وإلا كان مآل طلبه الرفض غير مأسوف عليه. لذا قرر صديقي بعد مفاوضات مراطونية مع حكماء أسرته بيع كل ما يملك من متاعه ومتاع أهله إلا ما يسد حاجتهم لادخار مبلغ عشرة ملايين سنتيم وتسليمه للهيأة.
وتحكي أخرى أن والدها قد عرض عليها بيع شقتهم كحل أخير لتدبر أمر المبلغ وتحقيق حلم الوالدة التي انتظرت طويلا لترى ابنتها وقد التحفت العباءة السوداء.
كيف سيبدأ هؤلاء مسارهم وقد أرهقوا أنفسهم وأهليهم لدفع واجبات الانخراط ؟؟ ولكم أن تقنعوهم حينها بمقولة : ” إن قَدْرَ المحامي لا يقاس بعدد الملفات التي يقبلها وإنما بالملفات التي يرفضها”، أو بالتزامه بحث موكليه على فض النزاع عن طريق الصلح. وهو الذي بدأ مساره بديون مستطيره وهموم متراكمة لن تخبوا أو تزول إلا بعد أن يوفي ديون أسرته مهما كانت طبيعة الملفات التي تعرض عليه لأن الحصول على الأتعاب أهم وأولى، وهو لَعَمْري أمر دونه خَرْطُ القَتَاد.
وهنا أستحضر كلام الأستاذ خالد خالص المحامي بهيأة المحامين بالرباط في مقال نشر له على موقع مغرب القانون(المقال) تحت عنوان : ” واجبات الانخراط والاشتراك في هيآت المحامين بالمغرب : دراسة نقدية” معلقا على الارتفاع المهول لهذه المبالغ قائلا :
“(…) ويمكن القول بأن هذا الأمر أصبح غير موضوعي، إذ من شأنه لا محالة إثقال كاهل من يلج المهنة بديون هو في غنى عنها. ومن المحتمل أن تجد من سيحاول استرجاع هذه المبالغ بطرق غير مشروعة وهو ما يشكل خطرا عليه بصفة خاصة و على مهنة المحاماة بصفة عامة.(…)”.
ألم يسبق لرئيس النيابة العامة أن صرح أن القضاء والمحاماة هما جناحي العدل بالمملكة الشريفة؟ بَلَى!!..لكن في مثل هذه الظروف لن يكون العدل ببلدي إلا مَهيض الجناح من جهة الدفاع. ألم يسارع وزير العدل لبث رسائل التطمين من محراب القضاء– من حفل تخرج الفوج ال 42 بالمعهد العالي للقضاء– لأكثر من 4500 حاصل على دبلوم الأهلية مذكرا بدورهم في تحقيق الولوج المستنير إلى العدالة وحرص الوزارة على توفير آليات تكوينهم ومصاحبتهم.
لكن لحد الآن حضرت الأقوال ولا زالت الأفعال غائبة أو مُغَيّبَةً.
وعطفا على ذكر القطاع الوصي في هذا الشأن لا بد من التذكير أن الناجحين في دفعة 2019 لا دخل لهم في إغراق المهنة بالمعطلين من حاملي الشواهد كما يريد أن يروج البعض، بل هم الذين التزموا بقرار وزير العدل رقم 2019/1 الصادر في 7 يناير 2019 الذي تنظم بموجبه كيفية إجراء الامتحان الخاص بمنح شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة ونجحوا في كل مراحل الامتحان، وإذا كان لا بد من تقليص عدد المترشحين فالحل يجب أن يكون بتغيير نظام الامتحان إلى نظام المباراة وهو ما عبر عنه أحد الممارسين قائلا :
“(…) ونعتقد بصدق أنه بإمكان هيئات المحامين بالمغرب الحد من العدد الكبير للذين يرغبون في ممارسة مهنة المحاماة مستقبلا على أساس كفاءة المرشحين وذلك بنظام المباراة لا الامتحان لانتقاء أفضل العناصر وبنظام التكوين الجيد المبني على برامج مدروسة سلفا بصفة عامة وبإقرار شعب للتخصص بصفة خاصة(…)”. وهو مقترح وجيه ينسجم وروح المهنة وأعرافها وقوانينها ويفتح المجال لاستقطاب الكفاءات المتميزة من مختلف كليات الحقوق المغربية لأداء رسالة الدفاع.
إن الكثير من الحاصلين على دبلوم الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة سنة 2019 متحمسون جدا لأداء هذه الرسالة والاعتكاف في محرابها دفاعا عن دولة الحق والقانون، لكنهم في أشد الحاجة لمن يشد عضدهم ويثبت خطاهم ويعينهم على تسلم مشعل البذلة السوداء بمتاعبها التي لا تنتهي ومسؤولياتها الجسيمة. وهي لَعَمْري ثلاثة أمور لو تم مراجعتها بكل إنصاف ومسؤولية لأصبحنا أمام جيل جديد من المحامين الشباب يستنيرون بخبرة شيوخ المهنة ونقبائها العظام ممن بذلوا الغالي والنفيس لتكون مهنة المحاماة في هذا المستوى الذي صارت عليه اليوم :
- أولا: ترسيخ قواعد المرونة القصوى في أداء واجبات الانخراط بهيآت المحامين، ومراجعتها بالشكل الذي لا يضر أي طرف بعيدا عن كل إفراط أو تفريط.
- ثانيا: استحضار الإكراهات المادية المصاحبة لفترة التمرين التي تمتد ل3 سنوات، وخلق تحفيزات مالية للمسجلين كما هو الشأن بالنسبة للملحقين القضائيين بالمغرب. و استحضار التجارب المقارنة في هذا السياق كما هو الشأن مثلا في تونس حيث يتم تخصيص منحة التربص للمحامي المتمرن تسلم له كل 3 أشهر.
- ثالثا: إحداث المعهد الوطني للمحاماة أو المعاهد الجهوية للتكوين من أجل صقل التكوين القانوني للمحامي المتمرن.
هذه إذن ثلاث خطوات تكرس لمفهوم المصاحبة القبلية للمحامي المتمرن، وتضاف إليها المصاحبة البعدية التي تتجسد في استمرار الدعم والتوجيه والتكوين المستمر بعد التسجيل في الجدول إلى حين الانخراط الكلي في هذه المهنة الشاقة التي تحتاج لتعاون أبنائها بعضهم مع بعض أكثر من غيرها، إذ الكثيرون ممن أتم التمرين وقرر فتح مكتبه عاد القهقرى إلى مكتب أستاذه بعد أشهر معدودة لم يستطع فيها تأمين مصاريف المكتب.
صدقوني، بدون هذه الإجراءات وغيرها لن يكون حالنا أفضل من الذي وصفه الشاعر عبد الغني النابلسي قائلا :
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ++ إياك إياك أن تبتل بالماء
وأنا على يقين أن زملاء المهنة وقدمائها لهم من الغيرة ما يجعلهم رافضين لمثل هذا الوضع الذي يغرق فيه أبناؤهم من الشعب وهم مكتوفي الأيدي لا تسمع لهم ركزا.
لَكَمْ يستغرب المرء حين يكتشف أن الولوج لهيأة مدريد لا يتطلب أكثر من 5000 درهم، وهيأة باريس العريقة حوالي 8800 درهم ، في حين أن أغلب هيآت المحامين بالمغرب تفرض واجبات تصل ل 100.000 درهم، ولَكَمْ ضحكت حين أخبرني أحدهم أن مبلغ 10 ملايين سنتيم كافي للحصول على تأشيرة للجمهورية الفرنسية ، والتسجيل بهيآتها و عقد زواج مؤبد بصداقه المعجل والمؤجل وحفل زفاف كامل غير منقوص.
لا أريد أن أدخل في نقاش قانوني حول مشروعية واجبات الانخراط والاشتراك في هيآت المحامين واستدعاء النصوص القانونية والاجتهادات القضائية في هذا الباب لأنه من الموضوعات التي طُرقت قديما وحديثا ممن هم أكثر علما وفهما -من صاحب هذا المقال- من نقباء ومستشارين وأكاديميين، لكن غاية الغايات هنا هو تنبيه جميع الشركاء في هذا الملف إلى أننا أبناؤهم أولا وأخيرا ونطمح جميعا لتقديم المثال السليم للمحامي الناجح الذي يبدأ مساره المهني بكل ثبات وعزة بعيدا عن أحاسيس “الحكرة” والهوان التي يعيشها المحامي المتمرن حاليا.
أتمنى أن تصل رسالتي هذه كما أردت لها أن تصل، بعيدا عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين..فنحن لا نريد كرما حَاتميا وسبيلا مفروشا بالورود لأن اقتناعنا بالانخراط في المهنة يعني بذل الوقت والجهد والمال لإعلاء راية الدفاع في سماء العدالة وذلك هو الشرف المَروم. لكن في المقابل نريد عدلا عُمَريا يراعي المقاصد والكليات ويستحضر الفروع والجزئيات. و الرزق بيد الله أولا وأخيرا.. عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ” لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا “.
والسلام..