مجلة مغرب القانونفي الواجهةإبن مسعود ياسين: الفاخوري..فقيه القانون العقاري يَترَجَّلُ عن صهوة الجامعة

إبن مسعود ياسين: الفاخوري..فقيه القانون العقاري يَترَجَّلُ عن صهوة الجامعة

إبن مسعود ياسين

المدير المؤسس لموقع مغرب القانون

محامي بهيئة المحامين بوجدة

خريج ماستر العقود والعقار بكلية الحقوق بوجدة

باحث في سلك الدكتوراة


         لا يمكن لكل من وطئت قدماه كلية الحقوق بوجدة أن يغفل عن قامة علمية من حجم الفقيه المبرز الدكتور إدريس الفاخوري الذي حمل رسالة العلم بهذه الكلية لحوالي نصف قرن ظل مرابطا فيها على شرح المدونات القانونية وفك مختلفها والتوفيق بين أشباهها ونظائرها وملاحقة مستجداتها، وتكوين أجيال من رجال ونساء القانون الذين انتشروا عبر ربوع المملكة وخارجها حاملين رسالة أستاذهم بنبوغه الفذ وأدبه الجم وتواضعه مع طلبته قبل زملائه.

وإذا كانت “المناسبة شرط” كما يقول الأصوليون، فإن مناسبة هذا المقال لها جلجلة وأي جلجلة في نفوس من خبر الرجل عن قرب، إذ في أولى أحداث السنة الجامعية الجديدة 2024/2025 يطالع المرء حساب الفقيه القانوني إدريس الفاخوري في العالم الأزرق ليجد كلمات دبجت بعناية تلخص حوالي نصف قرن من العطاء جاء فيها:

” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

يومه السبت 31  غشت 2024 أحلت على التقاعد من طرف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار بعد اثنين وأربعين سنة وستة أشهر و29  يوما من العمل كأستاذ باحث بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة محمد الاول بوجدة حيث التحقت بهيئة التدريس في الموسم الجامعي : 1981/ 1982 كأستاذ مساعد ومحاضر ثم استاذ للتعليم العالي وخلال هذه المدة قمت بتدريس عدة مواد بشعبة القانون الخاص على مستوى الاجازة والكفاءة والدراسات العليا سواء وفق نظام وحدات التكوين والبحث او نظام الماستر كما قمت بتأطير عدة بحوث جامعية : إجازة او دبلوم دراسات عليا او ماستر او دكتوراه إشرافا وعضوية في كلية الانتماء او في عدة كليات للحقوق بالمغرب كما نظمت وساهمت وشاركت في تنظيم عدة ندوات وطنية ودولية داخل الوطن وخارجه ؛بالإضافة إلى العديد من المهام والمسؤوليات التربوية والبيداغوجية والنقابية وبعض المهام المرتبطة بمجال التخص.

خلال مساري المهني واكبت جميع الأحداث والتغيرات التي عرفتها كلية الحقوق بوجدة من اول عميد للكلية الاستاذ امحمد جلال وانتهاء بالعميد الحالي الاستاذ إدريس دريوشي وكذلك جميع رؤساء جامعة محمد الاول حيث عين الأستاذ مصطفى الشابي كأول رئيس للجامعة وعايشت الرئيس الحالي الاستاذ ياسين زغلول.

كما واكبت جميع مراحل تطور الكلية على مستوى البنية التحتية كالمدرجات والقاعات والساحات وووو…وتربطني ببعض المدرجات ذكريات لاتنسى كمدرج القدس الذي كنت ادرس فيه مادة المدخل لدراسة القانون حيث كان المدرج غاصا بالطلبة.

أتوجه بالشكر المقرون بالاعتذار لطلبتي الاعزاء والذين كان لي شرف تدريسهم أو تأطيرهم أو الإشراف على أبحاثهم على مستوى الاجازة أو دبلوم الدراسات العليا في النظام القديم أو الماستر أو الدكتوراه اعتذر منكم ان صدر مني تصرف غير لائق او كنت قاسيا معكم احياناً وصارما في أحيان كثيرة…كان هدفي من وراء ذلك هو الحرص الشديد على التكوين الجيد لذلك فأنا جد سعيد بكم طلبتي الأعزاء بعدما ان اصبحتم أطرا كفئة تزخر بكم جل الإدارات وتحتلون مناصب جدّ هامة وأطلب الله تعالى التوفيق والسداد لمن ينتظر دوره في الالتحاق بالعمل.

أتوجه بالتحية والشكر لزملائي الأساتذة بكلية الحقوق بوجدة وبجامعة محمد الاول ؛تحية خاصة للسيد عميد الكلية ونوابه وطاقمه الإداري مع متمنياتي لهم بالتوفيق والسداد في كل المهام والخطوات للرقي بالمؤسسة.

مقال قد يهمك :   الاستهتار بقانون السير ..سلوك بشري يخلّف مآسي إنسانية و اجتماعية.

كما أتوجه بالتحية والتقدير لكل الزملاء الأساتذة بمختلف كليات الحقوق بالمغرب والى طلبة هذه الكليات مع خالص المتمنيات للجميع بالتوفيق والسداد والنجاح.

أتوجه بالتحية والتقدير لموظفي كلية الحقوق ورئاسة الجامعة.

اعتذر عن كل تقصير او تجاوز وارجو منكم الصفح جميعا.

حفظكم الله ورعاكم ودمتم سالمين غانمين باذن الله.

محبكم المحال على المعاش ادريس الفاخوري.”

(انتهى كلام الدكتور إدريس الفاخوري)

ليت شعري!!، كيف كنت غائبا حين كتب وقدر فقرر ونشر؟ لعلي أقنعه أن يعيد التفكير مرة أخرى قبل أن يتخلى عن طلبة القانون تاركا مصيرهم للإشكاليات المتلاطمة في بحر الدرس القانوني دون ربان يقودهم لشط الأمان ويعينهم على فهم مقاصد القانون في كل زمان ومكان..ليت شعري!!، أليس في بحر القانون ثغرة أو ثغرات تكون دفعا مؤسسا لنا جميعا لتأجيل إحالة أستاذنا على التقاعد؟ للأسف.. هي سنة الحياة، فالتقاعد قانون يلزمنا، وهو الذي كان يذكرنا غداة وعشيا باحترام بنوده فهو الموت الذي لا يستثني أحدا.. لعمري حتى بمغادرته لأسوار الكلية يأبى إلا أن يذكرنا باحترام القانون كأنه سقراط زمانه الذي آثر شرب السم ليعطي درسا في احترام حكم القانون ونفاذه.

إن من نافل القول أن يأتي شابٌّ غِرّ من أمثالي ليدبج شهادته في رجل اتفق على نبوغه القدماء والمحدثون على السواء، ففيه يقول الفقيه الحسين بلحساني بمناسبة أشغال الندوة الدولية المنظمة يومي 23 و 24 دجنبر 2022 في موضوع “قوانين العقود والعقار: نحو رؤية مندمجة لتكريس الأمن التعاقدي والعقاري” تكريما للدكتور إدريس الفاخوري:

” أربعون سنة من العطاء المتواصل في مجال الفقه القانوني، محصنة بقدر كبير من السلوك الرفيع، والأخلاق السامية ومن تواضع العلماء، راكم بفضلها طيلة مساره المهني المتميز والمتنوع، قدرا كبيرا، من التقدير والاحترام والإكبار، ليس فقط على مستوى الجامعات والمؤسسات التي درس أو حاضر أو أطر فيها، وإنما أيضا على امتداد الوطن كله.

لقد بعث الأستاذ الفاخوري في روح تلامذته الكثيرين والموزعين على امتداد الوطن كله، الطموح إلى إنشاء مدرسة متميزة في مجال قوانين الأسرة، والقوانين العقارية بصفة أخص، وقدم في سبيل ذلك تضحيات جساما، يحفظها له كل من عاشره أو اتصل به من قريب. ويجدر التنويه في هذا السياق، كيف أنه قد حول منزله نفسه على الدوام، مع رفيقة دربه أيقونة كلية الحقوق، الأستاذة دنيا حفظها الله، إلى ملتقى لطلبته، فاتحا مكتبته الخاصة يرتادها كل باحث، أما مكتبه في مؤسسته الأصلية فقد بدوره لفائدة كل الطلبة الباحثين، حيث أنشأ به مكتبة متخصصة أصبحت اليوم مصدرا توثيقيا وطنيا، يحج إليها العديدون من مختلف المدن الجامعية من طنجة إلى لكويرة.

(..)

وقد كان الأستاذ الفاخوري، وما يزال إلى جانب مهامه العديدة، منخرطا إلى أبعد الحدود في كل الأنشطة الرامية إلى الرفع من مستوى التكوين والبحث، عبر مساهماته في مجال الإصلاح التربوي، عبر لجان المؤسسة والجامعة، وكذا بصفته خبيرا وطنيا لدى اللجنة الوطنية للاعتماد والتقييم، دون أن ننسى وضعه الدفاع عن كرامة الأساتذة الباحثين ومكانتهم الاعتبارية في صدارة اهتمامه، سواء عبر حضوره الوازن في هيئاتهم التمثيلية، من قبيل مجلس المؤسسة واللجنة العلمية ومجلس الجامعة، أو عبر حضوره الفعال في المكتب المحلي والجهوي للنقابة الوطنية للتعليم العالي، وفي لجنتها الإدارية طيلة سنوات” (انتهت شهادة الدكتور الحسين بلحساني).

مقال قد يهمك :   الرميد يحاضر من طنجة حول التطور القانوني و المؤسساتي لحقوق الإنسان بالمغرب

هذه الشهادة وغيرها كثير تعكس لنا جميعا كيف نحتت مكانة الرجل طيلة أربعين سنة ونيف في قلوب زملائه وطلبته من بداية ثمانينيات  القرن الماضي إلى منتصف العقد الثالث من الألفية الثالثة، وهي تذكير بحديث نبوي شريف رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال عن النبي ﷺ قال: “إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض..”.

        لقد أثر الفقيه إدريس الفاخوري في جيل كامل من القانونيين بالمغرب وخارجه إذ لا يمكن أن تطالع مؤلفا أو بحثا جامعيا طرق موضوعات الأسرة والعقار وأحكامها القانونية دون أن تكون آراء الفقيه الفاخوري حاضرة وبقوة، فهو العمدة في هذا الباب وقطب الرحى للكثير من الكتابات اللاحقة. لكن مع ذلك ما فتئ يلز طلبته لزا نحو بذل الوسع في الاجتهاد دون أن يجد حرجا إذا عمد طلبته لمخالفته في رأي من آرائه، وهي تاالله أخلاق الكبار التي ترغمك على الأخذ من أدبها قبل علمها، فوا أسفا على جيل سيلج كلية الحقوق بوجدة وقد غادرها رجل له علم الأولين والآخرين في بابه، ومكارم الصالحين في أخلاقه؟!

       لقد صحبت الرجل في الكثير من المناسبات طالبا وممثلا لطلبة الفوج 11 من ماستر العقود والعقار وطالبا بكلية الآداب بماستر فقه المهجر أصوله وقضاياه وتطبيقاته المعاصرة، وممارسا الآن لمهنة المحاماة، وهو الذي حرص على تكريمي بحضور رئيس جامعة محمد الأول سنة تخرجي من سلك الإجازة 2016، وشرفني بانضمامي لعضوية المركز الأكاديمي الذي أسسه “مركز إدريس الفاخوري للدراسات والأبحاث في العلوم القانونية” فكان رمزا للاستيعاب، استيعاب الاختلاف لحسن التواصل والود والإخاء الموصول لجميع الطلبة.

        ولقد حاورت الرجل في نكت علمية دقيقة فاكتشفت عقلا قانونيا ضخما قل نظيره يذكرنا بأزمنة السنهوري وأمثاله، فهو المتمكن من أدبيات المادة الأسرية والعقارية تنظيرا وممارسا، ولعل قدرته على التأريخ للنص القانوني المغربي وتعديلاته تجعل المحاور يلين ويستجيب مهما بلغت شراسته أمام قوة الحجة وبيان اللغة التي تمتاز بها كتابات الفقيه الفاخوري.

أتذكر جيدا حين تم اختياري بتاريخ 23 دجنبر 2022 في إطار أشغال الندوة الدولية المنظمة في موضوع “قوانين العقود والعقار: نحو رؤية مندمجة لتكريس الأمن التعاقدي والعقاري” تكريما للدكتور إدريس الفاخوري، وذلك من أجل إلقاء كلمة نيابة عن أجيال من طلبة الدكتور إدريس الفاخوري فقلت فيها وأجدد قولي الآن وأنا صادق في كل كلمة:

أستاذي الفاضل، أساتذتي الأعزاء، أيها الحضور الكريم كل باسمه وصفته:

    إن للحياة أحوالا شتى، وخير تلك الأحوال ما اجتمع فيه أهل الخير على خير، وصَفَت النوايا على بُغية من جميل الخلال.

      إن اجتماعنا اليوم يا سادة، لحديقة ذات بهجة، وبستان تلقي ثماره في دواخلنا سرورا مفعما بالفخر، وليس ذاك فحسب لأنه يشهد حضور ثلة من رجالات القانون الذين يشار إليهم بالبنان، وإنما أيضا لأن مناط اجتماعنا هو تكريم علم رست سفينة كفاحه في بحار ميدان تلاطمت أمواجه، وزخرت أثباجه، وعوت أنواؤه، على ساحل الشاطيء المنيف لتكريم مستحق بعد رحلة ملاحة حقها أن تكتب بالإبر على آماق البصر، فتكون النبراس المنير لمن يعتبر.. رحلة عنوانها نكران الذات، وقدسية الواجب، والاستمرارية والعطاء والكفاح والتضحية..

مقال قد يهمك :   ابتدائية الناظور: اجتهاد قضائي بخصوص الطعن بالنقض المنصوص عليه في المادة 319 من مدونة الحقوق العينية

       لا يسعنا ونحن بين يديها إلا التقدم بأسمى آيات الاحترام والتقدير والعرفان لملاحها الفذ.. من أفنى زهرة شبابه وقضى عمره مشيدا صروحا من الدراسات القانونية لطالما استعانت وتستعين وسوف تستعين بها أجيال من الباحثين على اختلاف مشاربهم وتنوع مستويات تحصيلهم.. أستاذنا عَلَم العلوم القانونية، الدكتور العلامة إدريس الفاخوري، مد الله في عمره، ومنحه الغاية مما يكنى به أمثاله من العباد الصالحين.  فهو العالم العامل بعلمه، المنكب على كتبه، المسخر ذاته للمعارف، عشرات السنين من العطاء المثمر الذي لا يعتريه كلل ولا يعرف معنى الملل.

أساتذتي الأعزاء، أيها الحضور الكريم:

      ما فتئ أستاذنا الفاضل يؤكد لطلبته وأنا واحد منهم أن زلة الجاهل هينة إذ يخفيها الجهل، وزلةُ العالم مضروب بها الطبل، وزلة رجل القانون مدفوع ثمنها على أرض الواقع بما لا يسع ذا الضمير أن يحتمله، لذا كانت وصيته لنا دائما أن لا نجعل من القانون ترفا معرفيا بل الطلب فيه من أجلّ الغايات وأولى الأولويات، وهو تكوين مستمر وعمل دؤوب لا ينقطع. لذا كان دوما لطلبته المنارة التي يستهدي بها من تحيط بهم عواصف الحيرة المعرفية في بحار طلب العلم.

     في الختام، لا شك أن اللغة تضن بمفرداتها وتعز تراكيبها وتنفر بلاغتها ويتثاقل نحوُها، وينتحي صرفُها ركنا قصيا لا يستجيب لواجب الشكر والامتنان الواجب في هذه اللحظة المتميزة.

       غير أني أقف تحية إجلال وتقدير لكم فضيلة الدكتور المحترم، وباسمي و أصالة عن أجيال كاملة تدين لكم بالفضل نقول لكم بكل فخر: “إنّا ممتنون لأننا كنا طلبتك، دمت لنا منارة نهتدي بها في لجة المعارف فنروم بحضرتك أمان العلم فلا نمل، وبتوجيهاتك الرشيدة نواصل العمل الدءوب فلا نكل، فشكرا لكم على كل شيء” .

   ——

     لا أريد أن أختم هذه الكلمات بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا”؛ (متفق عليه)

      فــــالفقيه إدريس الفاخوري لا زال حيا معنا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وإن كان قد أحيل على المعاش، لكن محبة طالب لأستاذه تدفعني لأطرق بابه راجيا بقائه معنا في دنيا الدراسات القانونية، فلا يكون تقاعده قبضا لعلمه كما حصل مع الكثيرين بل تفرغا لنشره وبثه وإعانة طلبته ما استطاع لذلك سبيلا.

والسلام عليكم.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]