أطروحة جامعية تقارب عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص على ضوء التشريع والممارسة الدولية

نوقشت مساء يوم الثلاثاء 7 ماي 2024 في رحاب  كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال-الرباط، التابعة لجامعة محمد الخامس، أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية، حول موضوع:

“عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، مقاربة جديدة لتمويل وإنجاز المشاريع العمومية:

دراسة مقارنة في ضوء التشريع والممارسة الدولية”.

الأطروحة تقدمت بها الطالبة الباحثة مارية جوهري بكلية الحقوق اكدال الرباط، ورئيسة المركز المغربي للدراسات والأبحاث المالية والضريبية، إطار بمجلس النواب، تحت إشراف الدكتورة فاطمة الحمدان بحير أستاذة التعليم العالي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال بالرباط.

وتشكلت لجنة المناقشة من الأساتذة:

  • د. جواد النوحي: أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق أكدال الرباط، رئيسا ومقررا
  • د. فاطمة الحمدان بحير: أستاذة التعليم العالي بكلية الحقوق أكدال الرباط مشرفة وعضوة
  • د. عبد الحافظ ادمينو: أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق السويسي الرباط  مقررا
  • د. أحمد أجعون: أستاذ التعليم العالي وعميد كلية الحقوق ابن طفيل القنيطرة مقررا
  • د. الأمين لمزوري: أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق أكدال الرباط عضو
  • د. عادل الخصاصي: خبير في المالية العامة الرباط  عضوا

  وفي تقريرها المقدم أمام لجنة المناقشة، أوضحت الباحثة مارية جوهري أن موضوع عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص يرتبط بتطور نظام المشتريات العامة، وبشكل أعم بإعادة تحديد دور الدولة في المجال الاقتصادي، بحيث تعتبر عقود الشراكة أحد أساليب تخلي الدولة لصالح القطاع الخاص عن جزء من المرافق العمومية، سواء من حيث تمويلها وتشييدها أومن حيث إدارتها وتشغيلها وصيانتها وتقديم الخدمات فيها.

   وأوضحت الباحثة أن أهمية هذه الدراسة تأتي من خلال عدة اعتبارات أهمها ارتباط موضوع الشراكة بموضوع التدبير العمومي وبتقنياته المالية والإدارية، فالقطاع العمومي بالمغرب يوجد اليوم أمام تحديات ورهانات لإنشاء ثقافة جديدة في تدبير المرفق العام من طرف القطاع الخاص، تعتمد على تقاسم المخاطر وتقييم الاحتياجات وتحليل الأداء ومراقبة النتائج. هذه الثقافة تسائل جاهزية وقدرة القطاع العام على ادارة هذا النوع من العقود بشكل يضمن تحقيق القيمة أفضل مقابل المال، فإسناد تحقيق المصلحة العامة إلى قطاع خاص هدفه تحقيق الربح وإن ارتهن بتحقيق الجودة والفعالية في تدبير عقد الشراكة، فإنه يصطدم بهذا التباين إن لم نقل التناقض بين المصلحتين العامة والخاصة.

   وأبرزت الباحثة أن الغرض من هذه الأطروحة، هو تحديد الطبيعة القانونية والاقتصادية وكذا دراسة المخاطر المرتبطة بهذا النموذج التعاقدي من خلال تقييم نماذج مستقاة من التجربتين الأنجلوسكسونية والفرنسية،  لذلك أخذت هذه الدراسة بعين الاعتبار الأسس النظرية والقانونية وكذا تقييم الممارسة العملية لعقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتساؤل عن مدى ملاءمة هذا النوع من العقود لمنظومة الشراء العمومي بالمغرب، ثم دراسة الفرص الإستثمارية الممكن تحقيقيها بهذا النموذج التعاقدي والتي ستساعد على تجنب المخاطر المالية والإقتصادية للتمويل الأجنبي، وتطوير منظومة وطنية للإستثمار المشترك بين القطاعين العام والخاص.

 وأوضحت الباحثة أن موضوع عقود الشراكة يطرح عدة إشكاليات استوجبت النظر إليها من زاوية التساؤل عن قدرة وفعالية عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص PPP))  في أن تجسد خيارا بديلا لتمويل وإنشاء وتشغيل المرافق والبنيات التحتية العمومية بما يضمن التوازن بين المصلحتين العامة والخاصة وتحقيق قيمة أفضل مقابل المال في منظومة الشراء العمومي.

  ومن خلال معالجتها لإشكالية الأطروحة، حاولت الباحثة مارية جوهري اختبار مدى قدرة وفعالية عقود الشراكة، في أن تكون مقاربة جديدة قادرة على تمكين البلدان النامية مثل المغرب، من تطوير نظام للشراء العمومي أقرب ما يمكن إلى احتياجاته وأنظمته الاقتصادية والقانونية والسياسية، وأن يكون هذا النموذج التعاقدي الجديد أداة من أدوات تقدمه وليس عقبة من العقبات التي تعيقه.

مقال قد يهمك :   وجهة نظر حول نطاق سلطة المحافظ على الأملاك العقارية في مراقبة الأحكام والقرارات القضائية  

وفي هذا الصدد لما كانت طبيعة موضوع تتميز بأبعاد متعددة، اعتمدت الأطروحة مجموعة من المناهج كالمقاربة القانونية، وأدوات التحليل المقارن والتحليل الرباعي SWOT، حيث مكنت المقاربة القانونية من معالجة موضوع الأطروحة من زاويتين أساسيتين، الأولى من جانب تحليل مضمون وتوجهات الإطار القانوني المنظم لعقود الشراكة بالمغرب، ودراسة المعايير التي اعتمدها لضمان التوازن بين المصلحتين العامة والخاصة. ومن زاوية ثانية، في الجانب المرتبط بالقانون المقارن حيث تمكن من فهم منظومة الشراكة في سياقات قانونية مختلفة، تتيح التعرف على بعض الحلول القانونية التي وضعتها تشريعات أجنبية مع الإنفتاح على تشريعات عربية في إطار مقارنة الأقران.

كما أفادت أدوات التحليل المقارن من تقييم واقع الممارسة العملية من خلال التركيز على نموذجين بارزين لعقد الشراكة، الأول ينتمي لمدرسة القانون المشتركcommon law)) أو القانون الأنجلوسكسوني، والثاني يستمد جذوره من المدرسة القانونية الفرنسية المتميزة بازدواجية القضاء ومن تطور الممارسة القانونية في مجال الإداري بصفة عامة. وقد مكن كذلك التحليل الرباعي SWOTمن دراسة منظومة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، انطلاقا من تحديد مكامن الضعف والقوة، ونوع التهديدات وطبيعة الفرص المتاحة في إعداد وتصميم الاستراتيجيات الخاصة بمنظومة الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

  وأضافت الباحثة أن هذه الأطروحة تبنت نظرية العقود غير المكتملة كإطار نظري يقوم على أساس أن هناك متغيرات مستقبلية غير متوقعة في العلاقات التعاقدية بين الأطراف، هي ما يجعل العقود غير مكتملة، وتعجز ترتيبات العقد عن تضمين جميع المتغيرات التي تطرأ عليها. لذلك مكنت هذه النظرية من إتاحة مجال للتفكير حول قضية تمويل المشاريع العمومية بأسلوب الشراكة في ظل حالة عدم اليقين وعدم تماثل المعلومات نتيجة تضارب المصلحتين العامة والخاصة.

   وعليه توصلت الأطروحة إلى مجموعة من النتائج، أبرزها أن عقد الشراكة بين القطاعين العام والخاص هو نموذج مالي واقتصادي يؤسس لتقاسم حقيقي للمسؤوليات، الاستثمارات، المخاطر والأرباح والأهداف المشتركة. لذلك فهو يكيف بطبيعة خاصة، تجعله ينفرد بمجموعة من القواعد تجعله متعدد في صوره ومتنوع في أبعاده، منها البعد المالي والاقتصادي ثم البعد الإداري والتنظيمي وأخيرا البعد التعاقدي والقانوني.

وأضافت  الباحثة أنه عقد الشراكة هو من فئة العقود الشاملة ذات طبيعة الغير المكتملة والتي تتضمن على الأقل أربع عناصر أساسية: ( التصميم والتمويل، الإنشاء والصيانة والتشغيل وتقديم الخدمة العمومية)، ونظرا لطبيعته غير المكتملة فهو يتأثر بتقلبات وتغيرات السوق، مما يفرض تحديات جديدة تتطلب جاهزية واستعداد القطاع العمومي لمواجهتها ولإعادة التوزان الاقتصادي والمالي للعقد من قبيل مشكلة تضارب المصالح، وعدم تماثل المعلومات، ومشكلة السلوك الانتهازي للشريك، وتحمل وتقاسم المخاطر الذي اعتبرته الدراسة حجر الزاوية في تنظيم العلاقات التعاقدية وتوازن عقد الشراكة.

مقال قد يهمك :   مشروع قانون يهدف التقليل من نسبة الاعتقال الاحتياطي بسجون المملكة

وفي الجانب المتعلق بتحليل وتقييم الإطار القانوني المنظم لعقد الشراكة بالمغرب، أكدت الباحثة أن المشرع المغربي اقتفى نفس التوجه والمقاربة المعتمدة في النموذج اللاتيني، إلا في بعض الإستثناءات الطفيفة والجوهرية في نفس الآن. فعمل على إدخال أدوات وتقنيات جديدة في عقود الشراء العمومي مستوحاة من النموذج البريطاني والفرنسي كالتقييم القبلي الذي يعتبر شرطا إلزاميا للمصادقة على تنفيذ مشاريع الشراكة مع القطاع الخاص، وأضاف مساطر جديدة لطرق الإسناد أبرزها مسطرة الحوار التنافسي المعمول بها في النموذج الفرنسي.

 وأشارت الباحثة إلى أن الإطار القانوني لعقد الشراكة بين القطاعين العام والخاص يحقق نسبيا أرضية لاستقرار المعاملات التجارية ويقدم ضمانات لتحفيز وتوطين الرساميل الأجنبية، لكن يظل عاجزا عن احتواء كل الترتيبات التعاقدية، نظرا لغموض بعض مقتضياته وصعوبة تنزيلها، مما يصعب ترجمة بعض الأحكام إلى ترتيبات تعاقدية ملزمة وحقيقية، كالمراقبة والتتبع والتدقيق. واعتبرت أن الإطار القانوني يعمل على إضفاء المرونة على هذا النوع من العقود ويجعلها خاضعة لحرية إرادة الطرفين المتعاقدين، مما يؤثر على عدة عناصر مهمة من قبيل تنزيل ‏أهداف حسن الأداء المنوطة بالشريك الخاص، وتنفيذ المسؤوليات العمومية وترتيب الجزاءات المناسبة في حالة الفشل.

وأما الجانب المتعلق بالدراسة المقارنة، أكدت الباحثة أنه بالرغم من أوجه الاختلاف السائدة بين الأنظمة التي اختارتها الدراسة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا( فرنسا ، ابريطانيا ، افريقيا)، إلا أن معظم نتائج الممارسة العملية كانت متشابهة إلى حد ما، فشل نموذج التمويل العمومي بأسلوب عقد الشراكة في إثبات فائدته في تحقيق قيمة أفضل مقابل المال ( تسليم خدمات بتكلفة أقل). كما أن عقود الشراكة في المجالات الاجتماعية كقطاع الصحة جاءت في معظم الحالات استجابة لحاجة مالية ملحة سواء في التجارب التي تتميز ببيئة قانونية ومؤسسية قوية ومستقرة أو في الأنظمة النامية التي لازالت تتطلع إلى النمو( نماذج افريقية).

 وعلى مستوى الممارسة المغربية، اعتبرت الباحثة كذلك أن السياسة الاستثمارية لقطاع الكهرباء ( الحرارية والمتجددة) المنفذة بأسلوب الشراكة مع القطاع الخاص، أبانت عن كلفة باهظة لمشاريع الطاقة الكهربائية، ومحدودية النموذج التدبيري المعتمد، بالرغم من تنوع أدواتها التعاقدية سواء عند إنتاجها أوتوزيعها( عقود امتياز- عقود تدبير مفوض،-باقة متنوعة من عقود الشراكة). أكما اشارت إلى أن ضعف جاهزية القطاع العمومي وعدم كفاءة موارده البشرية والتقنية لتدبير وقيادة هذا النوع من مشاريع البنية التحتية، يجعله يعتمد على المساعدة الفنية والتقنية للشركات الأجنبية، فيفقد الشخص العمومي قدرته على توطين هذه الخبرة وعلى قيادة مشاريعه بمفرده.

    لذلك نبهت الباحثة إلى أن تطبيق هذا النموذج التعاقدي خاصة في المجالات السيادية أو ذات الطابع الإجتماعي، يجعل هذا الأسلوب محفوف بعدة مخاطر إذا لم يؤطر بشكل محكم، ويمكن اعتباره كنوع من الخوصصة، مع ما يستتبع ذلك من مخاطر محاسبية ومالية تهدد مبادئ النجاعة وتخفيض الكلفة المالية وتحقيق القيمة مقابل المال كأهداف أساسية لتمويل القطاع الخاص للاستثمار العمومي.  قدمت هذه الأطروحة تصورا ورؤية لتحديد عناصر النجاح والفرص الاستثمارية لعقود الشراكة، ليس فقط لتحقيق القيمة مقابل المال بل أيضا لتحقيق قيمة للمواطن والمجتمع المغربي، وذلك من خلال عدة مداخل، تشريعية وتنظيمية ومؤسسية ومحاسبية مع تقوية الإطار الرقابي بما فيه توسيع اختصاص البرلمان في مراقبة عقود الشراكة، وأيضا  تطوير أداء القطاع العمومي والترابي من خلال إصلاح منظومة المؤسسات والمقاولات العمومية باعتبارها ركيزة أساسية لتنزيل الاستثمار العمومي، وتأهيل قدرات الجماعات الترابية لتنفيذ عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص بصفتها قاطرة لتنزيل المشاريع الترابية ذات البعد الجهوي والمحلي.

مقال قد يهمك :   مبدأ الوقاية كأساس جديد للمسؤولية المدنية

 وفي الأخير أكدت الباحثة على  ضرورة تطوير سياسة وطنية للإستثمار المشترك بين القطاعين العام والخاص تقوم على عدة مقومات أهمها وضع مخطط إستثماري خاص بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، يكون بمثابة إطار يوجه وينظم جميع عمليات الشراكة مع القطاع الخاص، سواء على المستوى الوطني والقطاعي أو الجهوي والمحلي، وضبط الإستشارة الخارجية ووضع برنامج وطني  للخدمات الإستشارية.

وخلصت الباحثة أن عقود الشراكة ليست مجرد أداة للشراء العمومي ووسيلة لتعبئة موارد القطاع الخاص لمواجهة ضعف الموارد المالية، فهي أكثر من مجرد معاملات تجارية، هي حزمة من الروابط القانونية والمالية والتقنية والاقتصادية، تتحرك في بيئة مليئة بالتغيرات ومحفوفة بالمخاطر، تحتاج أن تستند على أسس استراتيجية وسياسة استثمارية مناسبة لأنها التزام عمومي طويل الأمد، يتطلب الإستقرار واليقين التعاقدي والقانوني والتنظيمي للحد من المخاطر المتعددة لهذا النموذج المالي في تدبير المرافق والبنى التحتية العمومية.

 لتتختم الأطروحة بالتأكيد على أن هذا البحث يفتح أفاق جديدة وفرصا واعدة لدراسة كيفية ترسيخ أدوات وسياسات الليبرالية الجديدة في تدبير المرافق العمومية، وذلك في إطار سياقات سياسية واقتصادية واجتماعية مختلفة وأحيانا معقدة، كما يفتح الأفاق لدراسة أسباب ومظاهر المقاومة والتهجين التي تنشأ عن هذه العملية ( عملية الاستنساخ ) للوصول إلى أدوات وصيغ مالية وإدارية تلائم وتواكب مظاهر التحول من السياسات العمومية المتمركزة حول الدولة إلى الأداء العمومي متعدد الفاعلين.

 وقد سادت خلال المناقشة أجواء علمية قانونية ومداخلات رصينة تم على إثرها التنويه بالعمل لأهمية وراهنية الموضوع الذي تناولته، وبعد المداولة تم منح الطالبة الباحثة مارية جوهري لقب دكتور في الحقوق وقبول الأطروحة بميزة مشرف جدا مع توصية بالنشر وتهنئة أعضاء اللجنة.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)