أحمد العلوي/حسن العلوي: المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية
أحمد العلوي حاصل على شهادة الماستر في قانون العقود والعقار، متصرف من الدرجة الثانية بوزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة
حسن العلوي طالب باحث بسلك الماستر – ماستر القانون الإجرائي وطرق تنفيد الأحكام-
مقدمة:
إن العلاقة الوجودية التي تربط الإنسان بالأرض تجسدت في محكم تنزيله، إذ جاء في قوله تعالى :” منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى”[1]. على ضوء هذه العلاقة، تمكن الإنسان من إدراك حقيقة أن الأرض، هي الأم التي تحيطه وفي الآن نفسه تتخطاه، إذ فيها وبها يتكون، وفيها يذوب، ومنها يظهر وفيها يغيب… إنها النشأة الأولى والدهشة الأخيرة[2].
هذا الإرتباط الوثيق للإنسان بالأرض ومع تطور الزمن وتزايد الأطماع، أصبح من الضروري تقنين انتفاع الإنسان بالملكية العقارية، بحيث تدرجت هذه الأخيرة من ملكية القبيلة أو العشيرة ثم الأسرة، الى أن أصبحت فردية على الشكل الذي نراه اليوم.
عموما، فاقتصادات البلدان أصبحت تراهن على الملكية العقارية، لما تشكله من أرضية حيوية لانطلاق مختلف المشاريع والاستثمارات، ذلك أن العقار يعد بحق أداة لتحقيق الإستقرار والأمن والسلم لما يلعبه من دور فعال على الصعيد الإقتصادي والسياسي والثقافي والبيئي[3].
ونظرا لهذه الأهمية التي يحظى بها العقار، سعت جل التشريعات بما فيها التشريع المغربي الى تقنين التصرفات التي تحضع لها الملكية العقارية، وانسجاما مع عنصر الرضا الذي يشكل الركن الأساسي لكل التصرفات، فإنه لا بد من افراغ هذا الرضا في قالب شكلي معين تحت اشراف جهات توثيقية[4] منحها المشرع حق تحرير التصرفات العقارية، نظرا لما تتطلبه عملية التوثيق من دقة ودراية، الهدف منها تحقيق الأمن التوثيقي والعقاري.
ولكون محرري العقود العقارية يضطلعون بمهام قانونية، فقد خصهم المشرع المغربي بمكانة متميزة من حيث النظام القانوني المؤطر لهم، وفي الآن نفسه وضع على عاتقهم التزامات عدة تستوجب فيمن يمارس مهنة التحرير أن يتقيد بمبادئ الأمانة والنزاهة والشرف واجتناب كل ما من شأنه ضرب أخلاقيات وأدبيات مهنة التوثيق، وأي إخلال بهذه الإلتزامات يترتب عليه قيام المسؤولية المدنية أو التأديبية أو الجنائية، هذه الأخيرة هي التي تشكل موضوع بحثنا.
وعليه، فإن موضوع “المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية” يطرح إشكالية محورية تتمثل في ” ما مدى توفق المشرع المغربي في إقرار المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية من خلال النصوص القانونية الخاصة والعامة ؟”.
إن تفكيك وتحليل الإشكالية التي يطرحها هذا الموضوع يقتضي منا الإعتماد على المنهج التحليلي والإستدلالي وأحيانا المنهج المقارن، ذلك وفق التقسيم الثنائي التالي:
- المطلب الأول : أساس قيام المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية
- المطلب الثاني: نطاق سريان المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية
المطلب الأول : أساس قيام المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية
ترتكز المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية على مجموعة من القواعد والأحكام الموضوعية التي تشكل الإطار القانوني الذي يخاطب من خلاله المكلفون بها، ولتنزيل هذه القواعد لا بد من مراعاة شروط المسؤولية الجنائية وموانعها.
وعليه، سندرس في هذا المطلب أركان المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية (الفقرة الأولى)، ثم شروط قيام المسؤولية الجنائية وموانعها (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: أركان المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية
إن تحديد أساس المسؤولية الجنائية لا محيد عنه خصوصا إذا كان الحديث ينصب على شخص مهني كالموثق والعدل والمحامي، لهذا فأهم ما يميز قيام المسؤولية الجنائية عموما هو توافر أركانها الثلاث المتمثلة في الركن القانوني (أولا)، ثم الركن المادي (ثانيا)، وأخيرا الركن المعنوي (ثالثا).
أولا: الركن القانوني
الركن القانوني أو ما يصطلح عليه أيضا بالركن الشرعي، ومعناه أن أي تصرف يصدر من الشخص لا يتسم بصفة الجريمة، إلا إذا وجد نص في القانون يجرمه ويعاقب عليه، حتى ولو كان هذا الفعل قد أضر بالغير.
ويلقى هذا التعريف شرعيته ومصداقيته فيما هو متعارف عليه قانونا بمبدأ ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”. وبهذا فقد نال هذا المبدأ حيزا مهما واحتل مكانة كبيرة في كل التشريعات المقارنة، بما فيها الدستور المغربي لسنة 2011[5]، بحيث نص في فصله 23 على أنه ” لا يجوز القاء القبض على أي شخص او اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وحسب الإجراءات المنصوص عليها في القانون …”.
هذا الى جانب إحتلال المبدأ لمكانة مهمة في المواثيق الدولية والإعلانات العالمية، أهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948.
أما على مستوى التشريع العادي فيجد الركن القانوني للمسؤولية الجنائية لمحرري العقود العقارية أساسه في فصول القانون الجنائي[6]، وكذا النصوص الخاصة في القوانين المنظمة لمهن التوثيق، خاصة القانون رقم 32.09 [7] المنظم لمهنة التوثيق، والقانون 16.03 [8] المتعلق بخطة العدالة، والقانون 28.08 [9] المتعلق بمهنة المحاماة.
فلكي يعتبر الفعل مجرما ومعاقبا عليه من وجهة نظر القانون الجنائي يجب أن يكون منصوصا عليه في القانون مسبقا، أي يجب أن يكون هناك نص تشريعي سابق يجرم هذا الفعل ويحظره تحت طائلة توقيع العقوبة[10]، وأن يكون هذا الفعل قد أحدث تغييرا للحقيقة بسوء نية، وباستعمال وسائل يحددها القانون تحديدا دقيقا[11].
أما على مستوى القوانين التوثيقية فنجدها تتحدث فقط عن انتحال صفة المحامي أو الموثق والعقوبات المقررة لها باستثناء المادتين 46 و 48 من القانون رقم 16.03 المتعلق بخطة العدالة بحيث نصت المادة 46 على أنه ” لا تحول المتابعة التأديبية دون تحريك الدعوى العمومية من قبل النيابة العامة أو المتضررين، زجرا للأفعال التي تكون جنحا أو جنايات”.
كما أتاحت الفقرة الأولى من المادة 48 من نفس القانون مكنة تدخل الوكيل العام للملك كلما فتحت المتابعة التأديبية أو الجنحية أو الجنائية ضد العدل وإيقافه مؤقتا عن عمله بناء على إذن من وزير العدل.
وبالتالي فالقوانين التوثيقية لم تتطرق بشكل مفصل للجرائم التي قد يرتكبها المهني تاركة ذلك للقانون الجنائي، الذي بفضل نصوصه ومقتضياته الزجرية يحقق المصلحة العامة بما فيها تحقيق الأمن التعاقدي والتوثيقي.
ثانيا: الركن المادي
يتمثل الركن المادي للجريمة في الوجه الخارجي لنشاط الفاعل وهو عبارة عن سلوك إجرامي يشكل محلا للعقوبة، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن القانون الجنائي لا يعاقب على مجرد التفكير في ارتكاب جريمة معينة، بل لا بد أن يتمظهر هذا التفكير ويقترن بنشاط مادي معين، هذا الأخير الذي يختلف من جريمة الى أخرى، فيتحقق بذلك الإعتداء على الحقوق أو المصالح أو القيم التي يحرص المشرع على صيانتها[12].
فالركن المادي يتكون من ثلاثة عناصر أساسية – الخطأ، الضرر، العلاقة السببية- لا بد من توافرها لتحقق مسؤولية منشئي التصرفات العقارية، بل الأكثر من ذلك أن تكون هناك رابطة قوية تجمع بين الضرر والخطأ وهي التي أسماها المشرع العلاقة السببية، بأن يكون خطأ الجاني هو السبب الوحيد والمباشر في حدوث الضرر.
ثالثا : الركن المعنوي
إن قيام الجريمة في القانون لا يتوقف فقط على اقتراف الفعل المكون للواقعة المادية من طرف الجاني وإنما يستلزم توفر الرابطة النفسية التي تصل بين الجاني والفعل المادي الذي قام بارتكابه.
وهذه الرابطة هي الركن المعنوي القائم على الإرادة التي توجه سلوك الجاني مع علمه التام بأن هذا الفعل مخالف للقانون، أي أن الجاني تعمد إرتكاب الفعل المجرم، غير أنه في حالة أخرى يقوم فيها الشخص بتصرف مخالف للقانون لكن دون نية القيام به وإنما يقع منه عن خطأ أو إهمال[13].
وعليه، فإن الركن المعنوي يتجسد في اتجاه إرادة منشئ التصرف العقاري سواء أكان محامي أو عدل أو موثق الى ارتكاب الجريمة مع العلم بأركانها بقصد تحقيق النتيجة الإجرامية ويجب أن يكون المحرِر عالما علما يقينيا بأن الفعل الذي أقدم عليه – التزوير، تغيير التصريحات والبيانات، حذف أو تغيير في التصريحات …- سيؤدي الى حدوث عمل إجرامي معاقب عليه.
كما يجب لكي يكتمل الركن المعنوي أن تكون إرادة منشئ الوثيقة حرة متبصرة غير مكرهة هي التي وجهته الى ارتكاب الفعل أو منعته عن القيام بواجبه القانوني.
وبهذا فتحقق أركان الجريمة كاملة من ركن قانوني، أي بوجود نص قانوني يجرم تصرف المحرِر، وكذا الركن المادي الذي يتمثل في السلوك الظاهر الإيجابي أو السلبي، وأخيرا الركن المعنوي الذي يمثل القصد الجنائي أو الخطأ، يؤدي بالنتيجة الى حدوث ضرر مبين للمتعاقد يستوجب المتابعة الجنائية لمنشئ الوثيقة العقارية، بما يحقق الأمن التوثيقي والتعاقدي.
الفقرة الثانية: شروط قيام المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية وموانعها
إن القاضي الجنائي عند فحصه للدعوى الجنائية المطروحة أمامه من أجل إصدار حكم فيها يشتغل ضمن اندماج الوقائع المادية الموجودة في الدعوى بالقانون، فالدعوى تتضمن مجالين أحدهما واقعي والأخر قانوني[14].
الجانب القانوني وهو الذي يهمنا هنا، يتمثل أساسا في مراعاة أركان الجريمة – وقد تمت معالجته على مستوى الفقرة الأولى من هذا المطلب – وكذا شروط قيام المسؤولية الجنائية والتي تتمثل في الأهلية القانونية وحرية الإختيار (أولا)، وذلك مع الأخذ بعين الإعتبار موانع قيام المسؤولية الجنائية المتمثلة في مانع الإكراه ومانع الجنون (ثانيا).
أولا : شروط قيام المسؤولية الجنائية
لا يكفي لمساءلة العدل والمحامي والموثق ارتكابهم لفعل مجرم والتسبب في الضرر، بل لا بد من توافر شروط معينة لتحقق المساءلة الجنائية.
وهذه الشروط هي شرط الأهلية القانونية (أ)، ثم شرط حرية الإختيار (ب).
أ- الأهلية القانونية
ترتبط المسؤولية الجنائية عامة من حيث أساسها بالإدراك والتمييز، ذلك أن الجريمة ينظر إليها نظرة فردية على اعتبار أنها ناتجة عن إرادة الجاني وحده. وأن الإدراك والتمييز هما عنصرا الأهلية القانونية[15].
فمناط التمييز له علاقة بالسن القانوني، الذي نص عليه المشرع الجنائي في الفقرة الأولى من المادة 458 من قانون المسطرة الجنائية ” تحدد سن الرشد القانوني ببلوغ ثمان عشرة سنة ميلادية كاملة”.
يستفاذ من هذه المادة أن الشخص كيفما كان ببلوغه سن 18 سنة ميلادية كاملة يصبح في نظر القانون قادرا على الفهم والإدراك وبالتالي تحمل المسؤولية الجنائية سواء علم بالقانون أو جهله.
وعليه، فمسألة المسؤولية تبعا للسن مستبعدة بالنسبة للعدل والموثق والمحامي، بحيث أن الأهلية المهنية التي يفرضها المشرع لولوج هذه المهن تحمل ضمنيا الأهلية القانونية المطلوبة في كل شخص.
وبالرجوع الى الفصل 132 من القانون الجنائي نجده ينص على أنه ” كل شخص سليم العقل قادرا على التمييز يكون مسؤولا على الجرائم التي يرتكبها …”.
لعل أبرز شرط يشترط في منشىء الوثيقة العقارية هو العقل لأن هذا الأخير هو مناط التكليف، وذلك بابتعاد المحرر عن السهو والغلط والسفه والحمق والجنون[16].
أما بالنسبة للقانون رقم 03-16 المتعلق بخطة العدالة فقد نصت المادة الرابعة منه على أنه” يشترط في المترشح لممارسة خطة العدالة:
……. -1 ……
-2 أن يكون بالغا من العمر خمسا وعشرون سنة، وألا يزيد على خمس وأربعين سنة بالنسبة لغير المعفيين من المباراة والتمرين، وذلك حسب التقوبم الميلادي…”.
فبقراءة البند الثاني من المادة المذكورة يتبين أن السن القانوني لممارسة مهنة العدول هي 25 سنة على الأقل، وهذا في نظرنا إجحاف في حق الطلبة لأن الأصل في الطالب أن يحصل على شهادة الإجازة في سن 21 سنة، وهذا يخول له الترشح لمباراة الملحقين القضائيين، بينما لا يمكنه أن يجتاز مباراة خطة العدالة إلا بعد بلوغه سن 25 سنة كاملة، وبهذا فحريا بالمشرع أن يتدخل ويعدل المادة الرابعة من قانون خطة العدالة وجعل السن القانوني لاجتياز مباراة خطة العدالة هو 21 سنة بدل 25 سنة.
وقانون التوثيق رقم 09-32 نص هو الأخر في المادة الثالثة منه على أنه ” يشترط في المترشح لمهنة التوثيق أن يكون:
- ……..
- متمتعا بالقدرة اللازمة لممارسة المهنة مثبتة بشهادة طبية صادرة عن مصالح الصحة التابعة للقطاع العام …”.
وبالنسبة للمحامي فقد نصت المادة 5 من القانون رقم 08-28 على أنه يشترط في المترشح لمهنة المحاماة أن يكون متمتعا بالقدرة الفعلية لممارسة المهنة بكامل أعبائها.
يستخلص مما سبق أن الأهلية القانونية لمنشئ الوثيقة العقارية ترتبط أساسا بتمتع المحامي والعدل والموثق بالقدرة اللازمة بدنيا وذهنيا لممارسة المهنة، وكذا التحلي بصفات معينة كالأمانة والوقار والحفاظ على السر المهني.
ب-حرية الإختيار
حرية الإختيار هي الشرط الثاني لقيام المسؤولية تجاه منشئي التصرف العقاري، والتي تعني القدرة على التمييز والمفاضلة بين الأمور والإختيار بناء على ذلك، وهي قدرة الشخص على مقاومة البواعث التي تدفعه لارتكاب الجريمة، وتخلف شرط الإختيار يمنع المسؤولية الجنائية لا مجرد العقاب على الجريمة[17]، الشيء الذي يجعل الموثق والعدل والمحامي مسؤولون جنائيا متى اتجهت ارادتهم لإتيان الفعل أو التزام الترك المجرم عن بينة واختيار، دون أي إكراه أو تأثير أو اضطرار، على أساس أن هذه المهن يشترط في ممتهنيها صفات عدة[18]، باعتبار أن أخطاءهم يفترض فيها أن تكون ناتجة عن إرادة حرة ومتبصرة الى حين ثبوت عكس ذلك.
وهو ما أكده قرار المجلس الأعلى – محكمة النقض حاليا – عدد 2144[19] والذي جاء فيه ” إن الباعث على الإشهاد بواسطة الموثق هو ضمان تحقيق نتيجة المعاملة المشهود بها”.
يستنتج من القرار المذكور بمفهوم المخالفة أن منشئ الوثيقة العقارية سواء أكان عدل أو موثق أو محام، لكي يسأل عن أفعاله يشترط فيه التمتع بالإرادة الحرة المتبصرة، وأن يتوجه بإرادته هذه الى ارتكاب الفعل المجرم قانونا، كأن يقوم الموثق بصفة مباشرة أو بواسطة الغير بأعمال السمسرة أو جلب الزبناء[20].
ثانيا: موانع قيام المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية
موانع قيام المسؤولية الجنائية هي تلك العوارض والأسباب المؤدية الى انتفاء هذه المسؤولية عن الجاني ومن تم اعفاءه من العقوبة، لكونها تؤثر على الوعي والإرادة وفي حال غياب أي منهما تنتفي المسؤولية الجنائية.
وتتمثل موانع قيام المسؤولية الجنائية في مانع الإكراه (أ)، ومانع الجنون (ب).
أ- الإكراه
يعتبر الإكراه عارض من عوارض الرضا، أي أنه يعني حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختاره.
والإكراه نوعان:
الأول يعدم الرضا ويفسد الإختيار، ويسمى أيضا بالإكراه التام.
الثاني يعدم الرضا ولا يفسد الإختيار، كالحبس والقيد والضرب الخفيف الذي لا يخشى منه التلف، وهو ما يسمي بالإكراه الناقص.
بالرجوع الى مجموعة القانون الجنائي نجد أن المشرع المغربي نص على غياب المسؤولية الجنائية وانتفائها في الحالة التي يكون فيها الفعل قد أوجبه القانون أو أمرت به السلطة أو اضطر الفاعل لإتيانه[21].
فقد يأتي هذا الفعل المجرم أحد محرري الوثائق العقارية كالموثق أو العدل أو المحامي، ويكون ذلك تحت وطأة الإكراه، بحيث يضطر ماديا لارتكاب الجريمة، أو يستحيل عنه اجتنابها استحالة مادية.
ومثال ذلك أن يرتكب محرر الوثيقة العقارية تزويرا تحت وطأة التهديد في شخصه أو أحد من أفراد عائلته، فلا يمكن مساءلته جنائيا في هذه الحالة. لكنه يقع عليه عبئ اثبات أن الفعل الإجرامي الذي قام به يرجع لسبب خارج عن إرادته، معتمدا في ذلك كل وسائل الإثبات المتاحة قانونا.
وإذا كان الإكراه يشكل مانع من موانع قيام المسؤولية الجنائية للموثق والعدل والمحامي، فإن الجنون يكون هو الأخر سببا لرفع المسؤولية عن محرري الوثائق العقارية متى ثبتت الإصابة به، هذا ما سنناقشه بعده.
ب -الجنون
لقد عرف بعض الفقهاء الجنون بأنه ” آفة تحل بالدماغ بحيث يبعث على أفعاله خلاف مقتضى العقل من غير ضعف في أعضائه”[22].
وعرفه البعض الأخر بأنه ” اختلال القوة التي بها إدراك الكليات[23]، أو أنه ” اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب، بأن لا تظهر أثارها وتتعطل أفعالها”[24].
أما بالنسبة للمشرع المغربي فلم يعرف الجنون، إلا أنه اعتبره مانعا من موانع المسؤولية الجنائية، وبهذا فإنه يمكن اعتبار الجنون أو الخلل العقلي كما جاء في الفصل 134 من مجموعة القانون الجنائي[25]، مصطلحا قانونيا يستوعب كل الحالات التي تؤدي الى تعطيل الملكات الذهنية عن العمل، مما يؤدي الى نقصان الإدراك.
من خلال التعاريف الفقهية الواردة أعلاه والفصل 134 من القانون الجنائي يتبين أن الجنون هو تلك الآفة التي تصيب الدماغ وتؤثر في أفعاله، أو تعطله بشكل تام أو جزئي عن العمل، وبالتالي التأثير على الإدراك والفهم.
وعليه، فإن محرري التصرفات العقارية، وإن كان يشترط فيهم التمتع بكامل قواهم العقلية [26]، فإنهم في الحالة التي يصابون فيها باضطراب عقلي يدخلون في فئة المصابون بالجنون، وبه تنتفي مسؤوليتهم الجنائية عن ما يأتونه من جرائم خلال فترة الإصابة بالجنون، كأن يقوم الموثق بتبديد الأموال الموضوعة رهن اشارته بعد اصابته بالجنون، فلا سبيل والحالة هذه لمتابعته بجريمة خيانة الأمانة المنصوص عليها في القانون الجنائي.
المطلب الثاني: نطاق سريان المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية
إن المهام المنوطة بالموثق والعدل والمحامي هي تحرير التصرفات العقارية وفق الشكل الذي حدده المشرع المغربي، بعيدا عن كل ما يثير الشبهة حول المحرَّر ويجعله محلا للطعن.
ففي حالة الخروج عن الحدود التي رسمها المشرع يكون محرر التصرف مسؤولا جنائيا، بحيث نص الفصل الأول من مجموعة القانون الجنائي على أنه” يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم بسبب ما تحدثه من إضطراب اجتماعي، ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو تدابير وقائية”.
وبهذا فإن نطاق سريان المسؤولية الجنائية يظهرعلى مستوى مقتضيات القانون الجنائي (الفقرة الأولى)، ثم على مستوى قوانين التوثيق (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: على مستوى مجموعة القانون الجنائي
لقد أدى الإستخدام المتزايد للوثائق والعقود العقارية الى حدوث اعتداءات على محتواها وذلك بهدف هدم الثقة فيها، الشيء الذي دفع المشرع الجنائي الى التنصيص على عقوبات جنائية في حالة ثبوت جريمة التزوير (أولا)، ثم في حالة جريمة النصب (ثانيا).
أولا: جريمة التزوير
التزوير هو ذلك التغيير الذي يطرأ على الحقيقة، بسوء نية وينتج عنه ضررا للغير[27]، على اعتبار أن هذا التغيير يقع بالزيادة أو الحذف أو التعديل أو التحريف في مضمون العقد، أو انشاء وثيقة غير موجودة في الأصل.
ذلك أن جريمة التزوير من الجرائم التي يسيطر عليها الغموض والاضطراب على صورها، فقد يرجع ذلك الى عموم ألفاضها التي يعول عليها في تجريم الفعل أو الى تعدد صورها، فلا يمضي عهد إلا ويكون الفكر القانوني قد واجه صور جديدة من صور الجريمة، مما يستدعي دراستها وتحليلها وبيان أركانها وتكييفها مع النصوص القانونية[28].
وقد اعتبر المشرع أن تزوير المحرر الإلكتروني هو الأخر جريمة معاقب عليها، إذ نص في الفقرة الأولى من الفصل 7-607 من القانون رقم 03-07 المتمم لمجموعة القانون الجنائي[29] على أنه:” دون الإخلال بالمقتضيات الجنائية الأشد، يعاقب بالحبس من سنة الى خمس سنوات وبالغرامة من 10.000 إلى 1000.000 درهم كل من زور أو زيف وثائق المعلوميات أيا كان شكلها إذا كان من شأن التزوير أو التزييف إلحاق ضرر بالغير”.
أما بالنسبة للعمل القضائي فإن القاضي الجنائي يمارس عمله في إطار تكافئ الأدلة الجنائية وتساندها ضمن منهج الاستدلال الذي يعتبر الوسيلة الأساسية للمنطق القضائي التي توصله الى الحقيقة الواقعية[30].
وبهذا فقد جاء في قرار لمحكمة النقض -المجلس الأعلى سابقا- أنه:” وحيث يتضح مما تقدم أن ما تضمنته الوثيقة المطعون فيها من اتفاقات تضر بمصالح المشتكي وابرام هذه الاتفاقات أمام الموثقة وتوقيعها من طرف الأطراف الأخرى في مجلس واحد وتاريخ واحد كان مخالفا للحقيقة وسكوت المتهمة عن كيفية أخذ التوقيع المنسوب للمشتكي هو دليل كاف على سوء نيتها … وأن الأفعال المرتكبة من طرفها تشكل تزويرا ماديا باصطناع التوقيع المنسوب للمشتكي بصفته متنازلا وتزويرا معنويا بالتنصيص على وقائع وبيانات مخالفة”[31].
يستنتج من مضمون القرار أعلاه أن التزوير يكون ماديا بالحذف والتغيير في تصريحات الأطراف وفي توقيعاتهم، أو تزويرا معنويا بالتنصيص على اتفاقات وبيانات لم تثبت أمام المحرر.
ومما لا شك فيه أن التزوير في المحررات الرسمية والعرفية هو منفذ ووسيلة للسطو والإستيلاء على عقارات الغير، إذ غالبا ما يتم التزوير في الوكالات أو عقود الإراثات أو الوصايا …[32].
ثانيا : جريمة النصب
من المعلوم أن جريمة النصب من الجرائم التقليدية، لكنها أخذت طابعا متميزا بين الجرائم الأخرى لما تستند عليه من مقومات وأسس ترتكز على الأعمال الذهنية والتفنن الإبتكاري والقدرات المهارية فيما يمارسه المحتالون من أساليب ووسائل خداعية بالإضافة الى قدرتهم على تكييف هذه الأساليب والوسائل بما يتلائم مع التطورات التقنية الحديثة والمتغيرات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والحضارية، وأن ما يميز جريمة النصب عن الجرائم المشابهة كونها تتم بعيدا عن العنف، أي أن المجني عليه يكون له دورا فيها، مما يدفعه الى عدم الإبلاغ عنها[33].
وبالرجوع الى الفصل 540 من مجموعة القانون الجنائي نجده ينص على أنه:” يعد مرتكبا لجريمة النصب، ويعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة من خمسمائة إلى خمسة آلاف درهم، من استعمل الإحتيال ليوقع شخصا في الغلط بتأكيدات خادعة أو إخفاء وقائع صحيحة أو استغلال ماكر لخطأ وقع فيه غيره ويدفعه بذلك الى أعمال تمس مصالحه أو مصالح الغير المالية بقصد الحصول على منفعة مالية له أو لشخص أخر…”
يتضخ من خلال الفصل 540 المذكور أن لجريمة النصب ركنان، الأول مادي ينسحب الى الإحتيال و نتيجة اجرامية تتمثل في واقعة النصب، وأخيرا العلاقة السببية، والركن الثاني هو القصد الجنائي المتمثل في غرض الحصول على منفعة مالية.
ولكي تقوم جريمة النصب لا بد من توفر جريمة سابقة وهي جريمة الإحتيال، بحيث تكون الركن المفترض في جريمة النصب مع توفر سلوك ثاني وهو تسليم المجني عليه مالا من أمواله الى الجاني بأن كان هذا التسليم مرتبط بالإحتيال ارتباط المسبب بالسبب، وإرادة الجاني في جريمة الإحتيال تنصرف الى الخداع بأي صورة تتوفر فيها الطرق الإحتيالية، الأمر الذي يعني توفر الكذب ونية تعزيزه لكي يقتنع بها، وإرادة الجاني في جريمة النصب تنصرف الى سلب ثروة المجني عليه كلها أو بعضها بعد اقناعه بطريقة من طرق الإحتيال[34].
وبهذا فإنه يمكن أن يعمد محرر الوثيقة العقارية الى استعمال وسائل احتيالية قصد دفع الغير الى التعاقد وإلحاق الضرر به، وذلك بناء على وقائع غير صحيحة يعطيها إياه استنادا الى عنصر الثقة الذي من المفروض أن يتوفر في المحَرِر.
وفي هذا الصدد نجد قرار محكمة الإستئناف بالرباط التي قضت بإدانة أحد الموثقين بجريمة النصب نتيجة إخباره لأحد الأطراف بأن الأرض خالية من المشاكل وأنه يستطيع تفويت الأرض له بعد تمام الإجراءات الإدارية، مما يجعل عنصر الضرر اللاحق بالمشتري المذكور قائما لعدم تمكنه من المبيع مقابل الثمن الذي أداه، الشيء الذي جعل التهمة ثابتة في حق المتهم بجميع عناصرها التكوينية[35].
يستفاد من مضمون القرار القضائي المذكور وبالموازاة مع مضمون الفصل 540 من مجموعة القانون الجنائي أن جريمة النصب ترتكز بالأساس على مد الطرف الأخر بتأكيدات خادعة أو إخفاء وقائع صحيحة، كأن يوهم المحرر المتعاقد بأن العقار يخلو من المشاكل وأنه باستطاعته تفويت الملك له بعد تمام الإجراءات الإدارية اللازمة، الشيء الذي يدفع بالشخص الى التعاقد حول العقار والوقوع ضحية جريمة نصب واحتيال.
الفقرة الثانية: على مستوى قوانين التوثيق
لم تقف الحماية الجنائية للتصرفات العقارية عند حد نصوص القانون الجنائي، بل نص المشرع المغربي في قوانين التوثيق على جرائم عدة كجريمة خيانة الأمانة (أولا)، ثم جريمة إفشاء السر المهني (ثانيا).
أولا: جريمة خيانة الأمانة
تدخل جريمة خيانة الأمانة ضمن الجرائم المستقلة بذاتها والتي تنامت معدلات ارتكابها في العصر الحالي بسبب تداخل وتعقد المصالح والمعاملات بين الناس في ظل تدني الوازع الديني والأخلاقي، من خلال إعتداء الشخص على ملكية الغير وانتهاك حقوقه عن طريق خيانة الثقة، وهذا كله يرجع الى غياب مفهوم خيانة الأمانة لدى الناس والعقوبة المترتبة على هذه الجريمة، فيعمدون الى تبديد أموال الناس وانتهاك حقوقهم في ظل تفضيل المصلحة الخاصة عن المصلحة العامة، وأن لخيانة الأمانة صور وأشكال عدة، إذ هي لا تقتصر على تبديد المال وإتلافه فقط بل تمتد لتشمل استخدام الشيء المؤتمن عليه في غير ما خصص له بما يسبب ضررا للمالك كتسليم الوديعة أو المال لشخص بصفته وكيلا بأجرة بقصد البيع أو الإستخدام في غرض معين لتحقيق منفعة لفائدة المالك، فيقوم الوكيل باستخدامها في غير ذلك ويتسبب في اتلافها وتبديدها[36].
وجريمة خيانة الأمانة في القانون الروماني كانت تعتبر من ضروب السرقة، إلا أنها بعد الثورة الفرنسية بدأت تأخذ معنى مستقلا متميزا، فهي لا تتشابه الأن مع السرقة إلا في كونها من جرائم الإعتداء على المال[37].
من خلال ما سبق يظهر أن جريمة خيانة الأمانة تستأثر بكيان مستقل عن باقي جرائم الأموال لا من حيث التكوين ولا فيما يرتبط بالعقاب، إذ اعتبر المشرع المغربي في الفصل 547 من القانون الجنائي الإختلاس أو التبديد بسوء نية، سواء تعلق ذلك بأمتعة أو نقودا أو أوراقا من أي نوع تنشئ التزاما أو إبراء سلمت للشخص على أساس أن يردها أو لغرض استعمالها في غرض معين، فإنه يعد خائنا للأمانة مما يستوجب معاقبته بالحبس والغرامة.
هذا إضافة الى تشديد العقوبة ومضاعفتها من خلال الفصلين 549 و550 من مجموعة القانون الجنائي في حالة ارتكاب الجريمة من طرف عدل أو حارس قضائي … وذلك أثناء قيامه بوظيفته أو بسببها، أو من قبل الأشخاص الذين يحصلون من الجمهور على مبالغ أو قيم على سبيل الوديعة أو الوكالة أو الرهن بصفتهم الشخصية أو بصفتهم المهنية.
أما على مستوى قوانين التوثيق فنجد المادة 21 من القانون 03-16 المتعلق بخطة العدالة تنص على أنه:” يبقى العدل الذي أدرجت الشهادة بمذكرته مسؤولا عن الرسوم التي أنجزها ولم يحجزها أصحابها طيلة خمس سنوات ابتداء من تاريخ الخطاب عليها بسجلات التضمين، كما يبقى مسؤولا عن المستندات …”. ونفس المسؤولية ملقاة على عاتق الموثق وهو ما نصت عليه مقتضيات القانون رقم 09-32 المنظم لمهنة التوثيق[38].
أما على مستوى العمل القضائي فإن محكمة النقض -المجلس الأعلى سابقا- اعتبرت النقود التي يتلقاها الموثق في إطار إبرام التصرفات العقارية ويعمل على اختلاسها مخالفا بذلك مسطرة وضعها في صندوق الإيداع والتدبير، جريمة خيانة الأمانة توجب المتابعة في حقه[39].
ثانيا: جريمة إفشاء السر المهني
إفشاء السر المهني يعني الإفصاح عن معلومات ووقائع لها الصفة السرية من قبل شخص مؤتمن عليها بحكم طبيعة عمله ووظيفته، خلافا للقانون.
ففي هذا الإطار نص الفصل 446 من مجموعة القانون الجنائي المغربي على أن:” الأطباء والجراحون وملاحظو الصحة، وكذلك الصيادلة والمولدات وكل شخص يعتبر من الأمناء على الأسرار بحكم وظيفته الدائمة أوالمؤقتة، إذا أفشى سرا أودع لديه، وذلك في غير الأحوال التي يجيز له القانون أو يوجب عليه فيها التبليغ عنه، فيعاقب بالحبس من شهر الى ستة أشهر وغرامة من ألف ومائتين الى عشرون الف درهم …”.
وفي نفس الإطار نص الفصل 226-13 من القانون الجنائي الفرنسي على تحديد عقوبة جريمة إفشاء السر المهني في الحبس لمدة سنة وغرامة 15000 أورو[40].
أما بخصوص العمل القضائي فقد جاء في قرار لمحكمة النقض – المجلس الأعلى سابقا- أنه:” لم يستثني الفصل 446 من مجموعة القانون الجنائي الذي يعاقب بالحبس… وكل شخص يعتبر من الأمناء على الأسرار بحكم مهنته أو وظيفته سرا أودع لديه… ولمحكمة الموضوع سلطة تقديرية في تقييم طبيعة الوثائق موضوع المتابعة وما إذا كان تسريبها إفشاء لأسرار مهنية أم لا”[41].
يستنتج من مقتضيات الفصلين المذكورين وقرار محكمة النقض، أن جنحة إفشاء السر المهني لا تتحقق إلا إذا تعمد الشخص المؤتمن على السر إفشاءه خلافا للقانون الذي يفرض عليه الكتمان، وأن يكون وراء افشاء السر المهني قصد جنائي هدفه تحقيق غرض معين، وألحق ذلك ضررا بالغير، وأن لمحكمة الموضوع سلطة تقديرية في تقييم الوثائق والحجج وما إذا كان التسريب يشكل إفشاء للأسرار المهنية أم لا، ففي حالة ثبوت التهمة في حق المتهم هنا نكون أمام جريمة توجب العقوبة التي أقرها المشرع الجنائي والمتمثلة في الحبس والغرامة.
وما دمنا نناقش مسؤولية منشئي التصرفات العقارية فإن الفصل 446 أورد عبارة جد مهمة وهي ” … إذا أفشى سرا أودع لديه …” فهذه العبارة توحي بأن كل من الموثق و العدل والمحامي، ملزم بالحفاظ على أسرار الزبناء وملفاتهم ووثائقهم التي تودع بمكتبه أو المعلومات المصرح بها أمامه من قبل الأطراف، وإلا تعرض للمساءلة القانونية وتطبق عليه مقتضيات القانون الجنائي.
واستثناء من هذه القاعدة فإنه لا يمكن الإحتجاج بمبدأ الحفاظ على السر المهني ضد الجهات القضائية – الوكيل العام للملك وقاضي التحقيق وهيئة الحكم- عند معرض البحث والتحري في قضايا الإرهاب وهذا ما نصت عليه الفقرتين الأولى والثانية من المادة 595-4 من القانون رقم 03-03 المتعلق بمكافحة الإرهاب[42] المعدل لقانون المسطرة الجنائية[43]، بحيث جاء فيهما أنه:” يجب على المؤسسات البنكية المشار إليها في المادة 595-1 أعلاه تقديم المعلومات المطلوبة منها داخل أجل أقصاه 30 يوما من تاريخ التوصل بالطلب.
لا يجوز للأبناك أن تواجه السلطات المذكورة في المادة 595-1 أعلاه أو بنك المغرب بمبدأ الحفاظ على السر المهني … “.
وتجدر الإشارة إلى أن إفشاء المهني للسر المهني يجب أن يلحق ضررا بالغير، سواء أكان ضررا ماديا أو معنويا، كأن يبوح البائع أمام العدل أو الموثق أو المحامي بأنه بحاجة ماسة للنقود فينقل هذا الأخير ذلك للطرف الأخر في العقد الذي لا يتوانا في استغلال الفرصة والتعاقد مع البائع بالثمن الذي يريده وبالشروط التي تخدم مصالحه.
خاتمة:
في الختام يمكن القول بأن موضوع المسؤولية الجنائية لمنشئي التصرفات العقارية يكتسي أهمية بالغة، على اعتبار أن الموثق والعدل والمحامي يمارسون مهنة نبيلة وهي كتابة التصرفات التي يرتضيها الأشخاص، وأن عملهم يرتبط أشد الإرتباط بحياة الناس، والذي يفرض عليهم الإلتزام بالمقتضيات القانونية المنظمة لمهنة التحرير، التي في حال مخالفتها يتعرض منشئ الوثيقة الى عقوبات تتوزع بين الحبس والغرامة.
ومن خلال المناقشة المستفيضة للموضوع تبين لنا بأن المشرع سعى من خلال القوانين المنظمة للتوثيق وكذا مجموعة القانون الجنائي الى وضع الثوابت الأساسية التي تنظم العلاقات التعاقدية بين الأفراد بما يضمن الأمن التعاقدي والتوثيقي وعبره ضمان الإستقرار الإجتماعي. غير أنه لا يفوتنا بأن ندعو المشرع بالتدخل وتعديل المادة الرابعة من قانون خطة العدالة وجعل السن القانوني لاجتياز مباراة خطة العدالة هو 21 سنة بدل 25 سنة، التي نراها من منظورنا الشخصي إجحافا في حق الطلبة الحاصلين على الإجازة في القانون ولم يصلو بعد سن 25 سنة.
الهوامش:
[1] – سورة طه الآية 55.
[2] – علي أحمد إسبر المعروف بأدونيس، موسيقى الحوت الأزرق، دار الأدب، بيروت، لبنان، طبعة 2002، ص 264.
[3] – المناظرة الوطنية حول السياسة العقارية للدولة ودورها في التنمية الإقتصادية والإجتماعية، تقرير تركيبي حول واقع قطاع العقار بالمغرب- أهم عناصر التشخيص- ص 3.
[4] – نقصد بالجهات التوثيقية في هذا الباب، العدل والموثق والمحامي. كل حسب نظامه القانوني، سوف نتعرض لكل هذه التنظيمات لاحقا.
[5] – ظهير شريف رقم 1.11.91 الصادر في 27 من شعبان 1432 (29 يوليو 2011)، بتنفيذ نص الدستور، الجريدة الرسمية عدد 5964 مكرر بتاريخ 28 شعبان 1438 (30 يوليو 2011)، ص 3600.
[6] – ظهير شريف رقم 1.59.413 صادر في 28 جمادى الثانية 1382 (26 نونبر 1962) بالمصادقة على مجموعة القانون الجنائي كما تم تعديله، الجريدة الرسمية عدد 2640 مكرر بتاريخ 12 محرم 1383 (5 يونيو 1963)، ص 1253.
[7] – ظهير شريف رقم 1.11.179 صادر في 25 من ذي الحجة 1432 (22 نوفمبر 2011) بتنفيذ القانون رقم 32.09 المتعلق بتنظيم مهنة التوثيق، الجريدة الرسمية عدد 5998 بتاريخ 27 ذي الحجة 1432 (24 نوفمبر 2011)، ص 5611.
[8] – ظهير شريف رقم 1.06.56 صادر في 15 من محرم 1427 (14 فبراير 2006) بتنفيذ القانون رقم 16.03 المتعلق بخطة العدالة، الجريدة الرسمية عدد 5400 بتاريخ فاتح صفر 1427 (2 مارس 2006)، ص 556.
[9] – ظهير شريف رقم 1.08.101 صادر في 20 من شوال 1429 (20 أكتوبر 2008) بتنفيذ القانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة، الجريدة الرسمية عدد 5680 بتاريخ 7 ذو القعدة 1429 (6 نوفمبر 2008)، ص 4044.
[10] – سلامة مأمون محمد، شرح قانون العقوبات، القسم العام، مطبعة جامعة القاهرة، طبعة 1991، ص 175.
[11] – ينص الفصل 352 من مجموعة القانون الجنائي على أنه ” يعاقب بالسجن من عشر الى عشرين سنة وغرامة من 100.000 الى 200.000 درهم، كل قاض أو موظف عمومي وكل موثق او عدل ارتكب أثناء قيامه بوظيفته تزويرا بإحدى الوسائل التالية:
-1 وضع توقيعات مزورة؛
-2 تغيير المحرر أو الكتابة أو التوقيع؛
-3 وضع أشخاص وهميين أو استبدال أشخاص بأخرين؛
-4 كتابة إضافية أو مقحمة في السجلات أو المحررات العمومية بعد تمام تحريرها أو إختتامها”.
– ينص الفصل 353 من نفس القانون على أنه ” يعاقب بالسجن من عشر الى عشرين سنة وغرامة من 100.000 الى 200.000 درهم، كل قاض أو موظف عمومي أو موثق أو عدل ارتكب بسوء نية أثناء تحريره ورقة متعلقة بوظيفته، تغييرا في جوهوها أو في ظروف تحريرها، وذلك إما بكتابة اتفاقات تخالف ما رسمه أو ما أملاه الأطراف وإما بإثباته وقائع على أنها اعترف بها لديه، أو حدثت أمامه بالرغم من عدم حصول ذلك، وإما بحذف أو تغيير عمدي في التصريحات التي يتلقاها”.
– ينص الفصل 359-1 من القانون المذكور على أنه ” استثناء من أحكام الفصل 358 أعلاه، يعاقب بالعقوبات المقررة في الفصلين 352 و 353 من هذا القانون، كل محام مؤهل قانونيا لتحرير العقود الثابتة التاريخ طبقا للمادة 4 من القانون رقم 08-39 المتعلق بمدونة الحقوق العينية، ارتكب أحد الأفعال المنصوص عليها في الفصلين المذكورين”.
[12] – عبد اللطيف كرازي، الوجيز في القانون العام المغربي، الطبعة الأولى 2014، مطبعة الورود انزكان، أكادير، ص 69.
[13] – أنقوش سعاد، إشعلال صورية، الركن المعنوي في الجريمة، مذكرة لنيل شهادة الماستر في الحقوق تخصص القانون الخاص والعلوم الجنائية، جامعة عبد الرحمن ميرة – بجاية – كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم القانون الخاص، الجزائر، السنة الجامعية 2016-2017، ص 5.
[14] – عبد الرحيم موهوب، المنطق القضائي في المادة الجنائية، مجلة الباحث للدراسات والأبحاث القانونية والقضائية، العدد 52، مارس 2023، ص 245.
[15] – عاطف أيت تكنوين، المسؤولية الجنائية للموثق، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، وحدة العلوم الجنائية، جامعة القاضي عياض، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية مراكش، السنة الجامعية 2011-2012، ص 18.
[16] – العلمي الحراق، التوثيق العدلي بين الفقه المالي والتقنين المغربي، وتطبيقاته في مدونة الأسرة، الجزء الأول، مكتبة دار السلام، الرباط 2009، ص 205.
[17] – محمد كمال الدين إمام، المسؤولية الجنائية، أساسها وتطورها، دراسة مقارنة في القانون الوضعي والشريعة الإسلامية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية 1991، ص 211.
[18] – راجع المادة الثانية من القانون رقم 03-16 المتعلق بخطة العدالة، والمادة الثانية من القانون رقم 09-32 المنظم لمهنة التوثيق، بخصوص تقيد الموثق والعدل بالأمانة والوقار والنزاهة والتجرد.
[19] – قرار المجلس الأعلى عدد 2144 الصادر بتاريخ 20-07-2005 ( أوردته لبنى الوزاني، التزامات الموثق من خلال عقد بيع العقار المحفظ، أكتوبر 2010، ص 25.
[20] – راجع المادة 90 من القانون رقم 09-32 المنظم لمهنة التوثيق.
[21] – ينص الفصل 124 من مجموعة القانون الجنائي على أنه: ” لا جناية ولا جنحة ولا مخالفة في الأحوال الأتية:
– إذا كان الفعل قد اوجبه القانون وأمرت به السلطة الشرعية.
– إذا اضطر الفاعل ماديا إلى ارتكاب الجريمة، أو كان في حالة استحال عليه، معها، استحالة مادية، اجتنابها، وذلك لسبب خارجي لم يستطع مقاومته …”.
[22] – عبد الله النسفي، كشف الأسرار شرح المصنف على المنار مع شرح نور الأنوار على المنار، دار الكتب العلمية، بيروت، ص 480.
[23] – زين الدين ابن نجيم، البحر الرائق، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية، الجزء السادس، ص 45.
[24] – سعد الدين التفتازاني، شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، طبعة 1996، بيروت، ص 348.
[25] – ينص الفصل 134 من مجموعة القانون الجنائي على أنه: ” لا يكون مسؤولا، ويجب الحكم بإعفائه من كان وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه، في حالة يستحيل عليه معها الإدراك أو الإرادة نتيجة الخلل في قواه العقلية …”.
[26] – راجع في هذا الشأن المادة 4 من القانون 03-16 المتعلق بخطة العدالة، والمادة 3 من القانون 09-32 المنظم لمهنة التوثيق، والمادة 5 من القانون 08-28 المنظم لمهنة المحاماة.
[27] – راجع الفصل 351 من مجموعة القانون الجنائي.
[28] – عبد اللطيف بن موسى، الحماية الجنائية للمحرر الإلكتروني من التزوير المعلوماتي – دراسة مقارنة- رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الجنائي والعلوم الجنائية، جامعة محمد الأول، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية،وجدة، السنة الجامعية 2007-2008، ص 48.
[29] – ظهير شريف رقم 197-03-1، صادر في 16 رمضان 1424 (11 نونبر 2003) بتنفيذ القانون رقم 03-07 بتتميم مجموعة القانون الجنائي، المتعلق بجرائم المس بنظم المعالجة الآلية للمعطيات، منشور بالجريدة الرسمية عدد 5171 بتاريخ 22 دجنبر 2003.
[30] – عبد الرحيم موهوب، المنطق القضائي في المادة الجنائية، م س ص 246.
[31] – قرار صادر عن محكمة النقض عدد 12/1131 بتاريخ 28/10/2009 في الملف المدني عدد 20163/2006 ( أورده عبد الرزاق بوطاهر،مظاهر الأمن التعاقدي، المسؤولية الجنائية للموثق نموذجا، مجلة العلوم الجنائية العدد الرابع، مكتبة الرشاد سطات، السنة 2017، ص 233.
[32] – عائشة أمغار، الاستيلاء على عقارات الغير وأثره على الأمن العقاري، رسالة لنيل دبلوم الماستر في القانون الخاص، ماستر الدراسات القانونية والعقارية، جامعة القاضي عياض، كلية العلوم القانونية والإقتصادية والإجتماعية، مراكش، السنة الجامعية 2018-2019، ص 108.
[33] – رحال عبد القادر، جريمة النصب والإحتيال بين الشريعة والقانون، مذكرة لنيل درجة الماجستير في العلوم الإسلامية، تخصص شريعة وقانون، كلية العلوم الإسلامية، جامعة الجزائر، السنة الجامعية 2009-2010، ص 1.
[34] – رحال عبد القادر، المرجع نفسه، ص 38.
[35] – قرار صادر عن استئنافية الرباط عدد 23 صادر بتاريخ 10-1-2013 في الملف المدني عدد 26-11-453 (أورده عبد الرزاق بوطاهر، م س، ص 236).
[36] – عبد المحسن بن فهد الحسين، خيانة الأمانة تجريمها وعقوبتها- دراسة تأصيلية تطبيقية- رسالة لنيل دبلوم الماجستير، تخصص تشريع جنائي إسلامي، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، كلية الدراسات العليا، السعودية، السنة الجامعية 2006-2007، ص 4-5.
[37] – بوجمعة حمزة، جبار محمد، جريمة خيانة الأمانة في التشريع الجزائري، مذكرة لنيل شهادة الماستر في الحقوق، تخصص القانون الجنائي والعلوم الجنائية، جامعة زيان عاشور- الجلفة- كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، السنة الجامعية 2019-2020، ص 1.
[38] – تنص المادة 25 من القانون 09-32 على أنه:” يمنع على الموثق تسليم مستندات أو ملخص منها لغير من له الحق فيها طبقا للقانون”.
– تنص المادة 33 من نفس القانون على أنه :” يمنع على كل موثق:
أن يتسلم أموالا أو يحتفظ بها مقابل فوائد؛
أن يستعمل ولو مؤقتا مبالغ أو قيما توجد في عهدته بأي صفة كانت فيما لم تخصص له؛
أن يحتفظ بالمبالغ التي في عهدته لحساب الغير بأي صفة كانت، ويجب عليه وضعها فور تسلمها بصندوق الإيداع والتدبير…”.
-تنص المادة 50 من نفس القانون على أنه :” يجب على الموثق أن يحفظ تحت مسؤوليته أصول العقود والوثائق الملحقة بها، وصور الوثائق التي تثبت هوية الأطراف”.
[39] – قرار محكمة النقض عدد 513/3 الصادر بتاريخ 4 ماي 2011، في الملف الجنحي عدد 21-14120-6-3-2009، منشور بمجلة القبس المغربية، العدد الخامس، يوليوز 2013، ص 406.
[40] -l’article 226-13 du code pénale français : « le révélation d’une information à caractère secret …. Est punie d’un an d’emprisonnement et de 15000 euros d’amende ».
[41] – قرار محكمة النقض عدد 705/1 صادر بتاريخ 29-7-2008 في الملف عدد 14557/07 ( أورده محمد بفقير، مجموعة القانون الجنائي والعمل القضائي المغربي، منشورات دراسات قضائية، سلسلة القانون والعمل القضائي المغربيين، طبعة ثالثة فريدة، السنة 2013، ص 249).
[42] – القانون رقم 03-03 المتعلق بمكافحة الإرهاب الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.03.140 بتاريخ 26 من ربيع الأول 1424 (28 ماي 2003)، الجريدة الرسمية عدد 5112 بتاريخ 27 ربيع الأول 1424 ( 29 ماي 2003 )، ص 1755.
[43] – ظهير شريف رقم 1.02.255 صادر في 25 من رجب 1423 ( 3 اكتوبر 2002 )، بتنفيد القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 27 ذي القعدة 1423 (30 يناير 2003)، ص 315.