نور الهدى فرتول: قواعد قانونية جمركية في خدمة الاقتصاد
نور الهدى فرتول
باحثة في القانون.
مما لاشك فيه، أن الاقتصاد أصبح من أهم مقومات المجتمعات الحديثة، فكل دولة تعمل على تنمية مواردها الصناعية ورفع مستوى معيشة أفراد شعبها، فكان من الضروري تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد بعد ان تم العدول عن المذهب الليبرالي إلى نظام الفرد الحر الذي تعرض لأزمات متلاحقة أدت إلى انقسام المجتمع إلى فئات فقيرة وفئات غنية.
وتماشيا مع المنظومة الاقتصادية العالمية سارعت كل الدول إلى تغيير وتعديل قوانينها لحماية اقتصادها الوطني، فلم تكتف بالجزاءات المدنية التي عجزت عن أداء وظائفها، إذ تم اللجوء إلى العقوبات الجنائية لضمان استقرار المعاملات الاقتصادية على اعتبار أن القانون الجنائي هو حارس القوانين الأخرى، وبصفة خاصة القانون الجمركي.
وتبعا لذلك، فالعقوبة هي إيلام يصيب المجرم باسم المجتمع، في جسمه أو حريته أو ماله أو حقوقه، والألم الذي ستحدثه العقوبة لا يقصد في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق أهداف وأغراض أخرى أهمها إصلاح المجرم وتأهيله عن طريق تنفيذ العقوبة عليه. لذلك فالردع الخاص يحقق الردع العام بتنبيه الآخرين للمصير الذي ينتظرهم إن هم سلكوا نفس الطريق.
ومن الناحية القانونية تنقسم العقوبات من حيث الأهمية إلى عقوبات أصلية وعقوبات إضافية، والعقوبات المطبقة في إطار القانون الجنائي المغربي هي الواردة في الفصول 16 , 17 , 18 ,36، من ق.ج، فلا يمكن إضافة أية عقوبة غير العقوبات المنصوص عليها قانونا (الفصل 3 من ق. ج)، فالعقوبات الأصلية هي التي يحكم بها وحدها دون أن تضاف إليها عقوبة أخرى، أما العقوبات الإضافية فهي التي لا يحكم بها وحدها وإنما يحكم بها مع غيرها أو تنتج قانونا عن الحكم بعقوبة أصلية (الفصل 14 من ق.ج).
وما يهمنا في هذا الصدد، هي العقوبات الأصلية والتي تختلف باختلاف نوع الجريمة المرتكبة ما إذا كانت جناية، أو جنحة، وبما أن التركيز سيقتصر فقط على الجنح فإن العقوبات التي قررها القانون الجنائي هي المتضمنة في الفصل 17 منه، والمتمثلة في: الحبس من شهر إلى خمس سنوات باستثناء حالات العود أو غيرها التي يحدد فيها القانون مددا أخرى ثم الغرامة التي تتجاوز 1200درهم، وبالتالي فإن العقوبات الأصلية في القانون الجنائي تنقسم إلى عقوبات سالبة للحرية،وأخرى بالذمة المالية.
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف تعامل القانون الجمركي مع العقوبات الأصلية؟
إن المخالفة الجمركية لها خطورة استثنائية على مصالح الدولة الاقتصادية وتخطيطاتها في هذا المجال وذلك بالإضافة إلى مساس النتائج المترتبة عليها بشكل مباشر حتى بالمصالح المالية والضريبية، مادامت مختلف الدول ترى في حركة البضائع والسلع عبر الحدود موردا ضريبيا لا يستهان به.
واتجاه الدول لمحاربة أشكال المخالفة الجمركية،يحاول خلق جو من التناسق فيما بين السير العادي للمصالح الاقتصادية والضريبية والمالية، وفيما بين الشق الخاص من القانون الجنائي الذي تناط به مهمة الردع والحفاظ على هذه المصالح التي يعتبرها المشرع ذات اهمية خاصة، بحيث يبرر حمايتها الخروج عن القواعد العامة بشكل يظهر واضحا في نطاق ما يسميه الفقه المقارن بالقانون الجنائي الجمركي.
إزاء هذا فإن خروج هذا القانون عن القواعد العامة يظهر من خلال كافة القواعد الشكلية والموضوعية التي ينظمها، ومنها القواعد الموضوعية المتعلقة بالعقوبات والتدابير الاحتياطية الخاصة بالمخالفات الجمركية.
فإذا كان القانون الجنائي عقوبته تهدف إلى إيلام المجرم إما في جسمه أو في حريته أو ماله أو حقوقه، فإنه في إطار القانون الجمركي فإن العقوبة تنصب إما على حرية الشخص أو ماله، وبالتالي فإن العقوبات الأصلية في القانون الجمركي هي عقوبات بدورها تقسم إلى سالبة للحرية،وأخرى متعلقة بالذمة المالية.
والملاحظ في إطار هذا القانون العقوبات الأكثر فعالية هي العقوبات المتعلقة بالذمة المالية للشخص , لأنها تتماشى و أهداف هذا القانون والمتمثل بالأساس في تنمية الموارد المالية للدولة , وإن كان في الكثير من الأحيان يكون على حساب حقوق الأفراد سواء أكانوا حسني النية أو العكس , مما يفسر الدور الاقتصادي الذي يلعبه هذا القانون والمتمثل في المرونة على مستوى العقاب , بحيث لا يعير أية أهمية للعقوبات السالبة للحرية والدليل على ذلك هو مدتها القصيرة التي خرجت فيها عن القواعد العامة حيث نجد المدة تتراوح من سنة إلى ثلاث سنوات الفصل 279 مكرر من مدونة الجمارك المغربية , أو من شهر إلى سنة الفصل 280 من نفس المدونة , في مقابل ذلك نجد الغرامة قيمتها تكون جد مرتفعة إذ تعادل إما خمس مرات قيمة الأشياء المرتكب الغش بشأنها , أو أربع مرات ذلك حسب كل مخالفة والجزاء التي يطبق عليها . نفس الأمر ينطبق على المصادرة عندما تكون وجوبية بمعنى يجب الحكم بها، إذ تعتمد عليها إدارة الجمارك عندما تقم بحجز البضائع سواء كانت محظورة أو غير محظورة، لأنه في أغلب الأحيان يكون مآلها هو البيع، وبالتالي تستفيد الإدارة الجمركية من ثمنها.
تجدر الإشارة إلى إن العقوبات الأصلية في القانون الجنائي الجمركي ذات طبيعة خاصة، تخرج عن القواعد العامة المعتادة في القسم العام من القانون الجنائي، وكذلك تخرج عن المبادئ المتعارف عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يهدف إلى حماية حقوق وحريات الأفراد، إضافة إلى عدم انسجامها مع دستور 2011المغربي الذي يعلن في ديباجته تمسك المغرب بما تقتضيه المواثيق الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات وتشبثه بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا.
وكما هو معلوم فإن القانون الجمركي يقوم على ترجيح مجموعة من الاعتبارات الخاصة والتي تتمثل بالأساس في حماية الاقتصاد الداخلي، وتغذية خزينة الدولة بالموارد المالية، على حساب مجموعة من المبادئ الراسخة، ويبرز ذلك جليا في إطار تحديد نطاق تطبيق الغرامة الجمركية من حيث الأشخاص حيث نجد القصار والمجانين تطبق عليهم هذه الأخيرة، وبالتالي أصبحنا أمام قواعد قانونية جمركية في خدمة الاقتصاد.
على اساس ما سبق، فإن العقوبات الأصلية تكتسي راهنية كبيرة باعتبارها الوسيلة التي يمكن بواسطتها حماية الاقتصاد الوطني وتحقيق التنمية , ضمن ما يعرف بالنظام العام الاقتصادي .نظرا للطبيعة التقنية الخاصة بمجال المعاملات الجمركية و حساسية الميدان الذي ينظمه القانون الجمركي المرتبط بعصب الحياة الذي هو الاقتصاد وتوازناته البالغة التأثر بعدد من العوامل الداخلية والخارجية , كل هذا يفرض أن يكون هذا القانون بدوره ذو طبيعة خاصة و أن تسند لإدارة الجمارك اختصاصات هامة في مجال المراقبة والزجر وهذا ما يفسر كثرة القرارات الوزارية والمراسيم بمثابة نصوص تنظيمية المتعلقة بتطبيق مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة . إلا أن هذا لا ينفي أن الواقع العملي يبقى هو المحك الحقيقي الذي فيه يتم اختيار مدى قدرة هذه النصوص المتعلقة بالعقوبات الأصلية على استيعاب كل الوقائع المعروضة على المحاكم، وذلك من خلال رصد الاجتهادات التي أسفر عنها العمل القضائي في هذا الميدان.
إن ظاهرة الحد من العقاب والتجريم نشأت في إطار تحول السياسة الجنائية في النصف الثاني من القرن الماضي، والتي تدعو إلى عدم الإسراف في التجريم واستخدام الجزاء الجنائي كاستراتيجية لمكافحة الإجرام. وجد هذا الاتجاه فضاءه الخصب في جرائم الأعمال، على اعتبار التناقض الحاصل بين التجريم والعقاب في هذا المجال ومتطلبات المبادرة الحرة، والسرعة والثقة التي يقوم عليها الميدان الاقتصادي الشيء الذي يلزم القانون الجمركي عند عقابه على المخالفات المرتكبة من قبل هؤلاء أن يكون مرنا.
وقد أثيرت عدة تساؤلات حول هذا الاتجاه مفادها هل الحد من التجريم والعقاب له مبررات قانونية وواقعية وتستند إلى معايير؟ أم أنه مجرد أفكار فلسفية إيديولوجية تصمد طويلا أمام المد التوسعي للآلة الجنائية، وستعرف نفس مصير التيار الإلغائي الذي كان ينادي بإلغاء القانون الجنائي.
ويمكن رصد مبررات الحد من التجريم والعقاب في القانون الجمركي من خلال مبررات نفسية نظرية وأخرى مؤسساتية.
1ـ مبررات نفسية نظرية: الجرائم التي تقع من ذوي الياقات البيضاء ومنها الجرائم الجمركية، ليس بالضرورة أن تكون رادعة وتستئصل الخطورة الإجرامية وإعادة تأهيل مرتكبي هذه الجرائم، وهي من أهم وظائف العقوبة الجنائية هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن مرتكبي هذه الأفعال بصفة عامة لا تتوافر فيهم النزعة الإجرامية في كثير من الأحوال، و حتى في حالة وجودها، فإنه يمكن استئصالها عن طريق توقيع جزاءات غير جنائية، فالجزاءات الإدارية والمدنية يمكن عن طريقها استئصال تلك النزعة الإجرامية في حالة وجودها وتعطيل فرص ارتكاب مخالفات مستقبلية، كما أن إعادة التأهيل يرتبط بتحويل المجرم إلى عضو نافع ومفيد في المجتمع، ومعظم مرتكبي جرائم الأعمال أعضاء منتجين في المجتمع لا يحتاجون لإعادة التأهيل، وبالتالي فإن الحط من قدرهم وفرض جزاءات جنائية عليهم قد يحرم المجتمع من كثير من الإسهامات التي يمكن أن يقدمونها له بطرق أخرى.
2ـ مبررات مؤسساتية: إن النظام العام تسهر على حمايته مختلف أجهزة الدولة كل جهاز حسب تخصصه فمثلا الجهة المكلفة بالسهر على حماية الأمن العام هي وزارة الداخلية بمساعدة الشرطة القضائية، ولذلك يتم التعامل مع الإنسان كمواطن، وبالتالي كل إخلال لهذا النظام تكون مواجهته بعقوبات جزائية صارمة.
أما النظام العام الاقتصادي فهو أكثر تخصص يخضع لتدخل بعض المؤسسات الاقتصادية والإدارية كوزارة الاقتصاد والمالية وإدارة الجمارك، بحيث يتم التعامل مع الإنسان كموضوع نشاط اقتصادي، وبالتالي فالعقوبات المناسبة لخرق قواعد النظام يجب أن تكون تأديبية أكثر منها إجرائية هذا من جهة.ومن جهة أخرى خاصة على مستوى الفعالية نجدها تعرف تضخما جنائيا من خلال تجريم بعض نماذج من السلوكات التي لا تثير حساسية المجتمع ضدها وقد لا تتناقض مع الضمير العام للمجتمع، كجرائم التهريب. مما أفقد العقوبة قيمتها الردعية فازدادت ظاهرتي التكرار والعود وجعلت البعض يشكك في فعاليتها في مكافحة إجرام الأعمال، فبدا واضحا أن القانون الجمركي أصبح في أزمة على مستوى التطبيق والتفعيل. وامام هذه الوضعية يجب على السياسة الجنائية أن تعيد النظر في استراتيجيتها في مكافحة الجرائم الجمركية، وبالفعل بدأت تبحث عن وسائل تحقق أقصى فعالية ممكنة في مكافحة الجريمة، وبالتالي توفير أقصى درجات الحماية للاقتصاد والأفراد معا.
على أساس ما سبق، فإن العقاب في مجال المال والأعمال يجب أن يكون من جنس الفعل، كما أن هذه العقوبة هي الحل النابع في مواجهة بعض المجرمين، خاصة المهربون للبضائع، والحل من اجل إخراجه من دائرة التعامل والحرمان بتعبير المادة 220 من مدونة الجمارك مثلا، لأن المجرم إذا فشل أو استغل بسوء النية الوسط المالي والاقتصادي فيجب إخراجه ولو مدة قصيرة من هذا الوسط، خصوصا وان العمل الاقتصادي يعتمد على الثقة والائتمان.
وهذا ما أدى إلى الانتقاد بشدة سياسة التجريم والعقاب القائمة على مبدأ النفعية في المادة الجمركية، على اعتبار أن العقوبة الجنائية معيقة وغير ملائمة للدور والحركية الذي تلعبه عملية الاستيراد والتصدير في اقتصاد الدول، كما أن المجال الجمركي يأبى تدخل القانون الجنائي لتنظيمه لكونه يعيق الاستثمارات بسبب الخوف من الوقوع تحت طائلته، وان الجزاءات المدنية كافية في هذا الصدد لتعويض إدارة الجمارك عن الخسائر والأضرار التي لحقتها، أو عقوبات أخرى كالتدابير الاحتياطية.
وإذا كان الأساس في اختيار العقوبات المالية راجع إلى الاعتقاد بكونها تعتبر العقوبة الأنسب لردع مجرمي الأعمال، فإن الممارسات أثبتت عدم جدواها في الواقع العملي، فما هي مظاهر هذا الفشل؟
يعد الدفاع عن النظام العام الاقتصادي وحماية حقوق الأفراد حسني النية، من أهداف المشرع المغربي عند إصداره للقواعد القانونية الجمركية، فهذا التطور من منظور العقوبة الجنائية في هذا المجال بالمغرب جاء نتيجة لازدياد وانتشار المخالفات الجمركية في الأونة الأخيرة بشكل كبير وخطير على الاقتصاد الوطني من تهريب البضائع والغش فيها وغيرها….
ولعل غياب الاستراتيجية المدروسة للمشرع المغربي بعد ان أملت عليه الظروف الاقتصادية ومتطلبات الاستثمار الأجنبي، وظروف العولمة الاقتصادية، جعلته يسارع في استنساخ نصوص قانونية دون تكييفها مع الواقع الاقتصادي المالي المغربي. وهنا نسجل أن المشرع المغربي وإن كان قد اعتمد على العقوبات المالية كعقوبة أساسية في أغلب المخالفات الجمركية، فإننا في مقابل ذلك نجد الكثير من المتهمين المحكومين بعقوبة حبسية وغرامة جمركية يلجؤون بعد تنفيذ عقوبة الحبس إلى تطبيق مدة الإكراه البدني من أجل استخلاص الغرامة الجمركية المحكوم بها لفائدة إدارة الجمارك لأن قيمتها تكون باهضة جدا كما سبق الإشارة إلى ذلك أعلاه.