مقاربة الأمن وحقوق الإنسان في مواجهة التطرف: ظاهرة الإرهاب نموذجا (تقرير أطروحة)
حسن فيلالي باحث في العلوم القانونية
السيد الرئيس، السادة أعضاء لجنة المناقشة الموقرين، الحضور الكرام.
اسمحوا لي قبل أن أضع بين أيديكم تقريرا موجزا حول موضوع أطروحتي للدكتوراه المعنونة بـــ:
مقاربة الأمن وحقوق الإنسان في مواجهة التطرف:
ظاهرة الإرهاب نموذجا.
أن أتقدم بالشكر لله تعالى على نعمة العلم والتعلم والتوفيق لإتمام هذا العمل، كما أتقدم بعبارات الشكر وعظيم الامتنان إلى فضيلة الدكتور أحمد درداري لتفضله بالإشراف على هاته الأطروحة وإخراجها إلى حيز الوجود. من خلال توجيهاته النيرة وملاحظاته العلمية. ويسرني أن أغتنم هذه الفرصة لأعبر له عن أصدق المودة والتقدير.
كما أتقدم بخالص عبارات التقدير والاحترام والشكر لأعضاء اللجنة العلمية على قبولهم مناقشة هذا البحث.
وأنا على يقين بأن مناقشتَكُم ستكون إضافة نوعية لهذا البحث، وتوجيها نقديا سيصوب مضمونه ويقوي عناصره ويرقى به إلى الأحسن.
كما أقدم شكري الموصول لكل من كان له الفضل في مساعدتي على إتمام هذا البحث.
إن البحث العلمي أداة أساسية لتطوير الإنتاج (المادي والرمزي)، وعنصر مركزي لخلق التنمية الشاملة والأمن الدائم، ذلك أن مخرجاته لا تقتصر على تطوير تقنيات جديدة ومنتجات أفضل، بل تتجاوز ذلك إلى تطوير أشكال التكيف مع محيط كل مجتمع، وتدبير الممتلكات الرمزية والمادية تدبيرا متوازنا يضمن الاستقرار والأمن للجميع. مثلما تسعى أيضا إلى ضمان كرامة الإنسان وصيانة حقوقه الأساسية.
ومن هذا المنطلق نشير إلى ضرورة اضطلاع الجامعة بدورها المعرفي والثقافي في تكريس التنافسية والإبداعية والمبادرة، وعلى لزوم انخراط كافة الفاعلين الجامعيين (طلبة وأساتذة باحثين وأطر إدارية وتقنية) في كل المشاريع الرامية إلى الرفع من جودة البحث العلمي، مع ما يعنيه ذلك من وجوب إشاعة جو من الثقة والحوار والمسؤولية والشفافية والحكامة داخل المؤسسة الجامعية من جهة، ثم بين هؤلاء ونظرائهم من المتدخلين السوسيواقتصاديين والسياسيين من جهة ثانية. أما الغاية الأسمى من كل ذلك فهي بالتأكيد تعزيز جاذبية المؤسسات البحثية، وتحقيق الإقلاع الاقتصادي المنشود، وضمان التنمية البشرية المستدامة، وتحقيق الأمن بكل تجلياته داخل المجتمع، بالموازاة مع حفظ حقوق الإنسان وحرياته العامة.
ونتطلع أن يكون بحثنا هذا حلقة متواضعة ومولودا جديدا يساهم في تطوير البحث العلمي المغربي وإغنائه، في انتظار تحقيق التأهيل العلمي الرصين والهادف والمنفتح على سوق الشغل بكل تجلياته الاجتماعية والاقتصادية والتنموية.
وتأسيسا عليه، فإنه على الرغم من قدم الجهود الدولية الرامية لمكافحة التطرف والإرهاب الدولي، التي أسفرت عن إبرام العديد من الاتفاقيات الدولية، العالمية والإقليمية الرامية إلى منع وقمع بعض صور وأشكال التطرف والإرهاب والعقاب عليها، إلا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما تلاها من هجمات إرهابية في مختلف بقاع المعمورة أدت إلى تزايد إدراك الدول لأهمية وضرورة اتخاذ تدابير وطنية فضلا عن تعزيز التعاون فيما بينها على الصعيدين العالمي والإقليمي لمواجهة تلك الظاهرة.
فالتطرف والإرهاب يأخذ نطاقا واسعا من قبل المحللين للقانون الدولي والقانون الجنائي، وذلك لأن هذه الظاهرة تمثل تهديدا كبيرا للمجتمع الدولي، وقد يترك آثارا عميقة على أمن الممتلكات، وهو ما يمثل تهديدا لحياة المواطنين مثل ما حدث في العراق، والإرهاب قضية لها أهمية كبيرة وهي مظهر من مظاهر أشكال الجريمة الإرهابية، وهو يأتي تحت اسم وأشكال مختلفة.
لذلك، فإن المملكة المغربية جعلت من محاربة التطرف والإرهاب سياسة عمومية؛ والسياسات العمومية بصفة عامة، تبدو وكأنها توجد خارج المعارف الأكاديمية، فكلمة “سياسات عامة” لا تعني الكثير بالنسبة للجامعيين أو الموظفين الكبار. كما أن هذه الترجمة الأدبية المأخوذة من العبارة الإنجليزية Public Policy غير مستحبة في آذان الفرنسيين، والنتيجة أن سؤال إدماج السياسات العامة، ضمن علم السياسة ما زال مطروحا إلى اليوم.
والمغرب كباقي الدول منخرط من خلال مؤسساته الحكومية والمدنية في مسلسل تأمين مفاهيم حقوق الإنسان، وأولها حماية الأفراد والجماعات، لأن التطرف العنيف على اختلاف خلفياته السياسية والدينية والاقتصادية والأمنية يمس بحقوق الإنسان، مما يفرض استخدام المقاربة الأمنية بالمعنى الضيق أو الواسع للكلمة للحد منه أو مواجهته.
ولعل النموذج الأمني المغربي أصبح مثالا يحتذى به في مجال محاربة التطرف وذلك لكونه:
- نجح في التصدي للعمليات الإرهابية التي استهدفت المساس بالمغرب مقارنة بالكثير من الدول.
- تأطيره للجانب الديني ونهج مقاربة ناجحة في استبعاد أشكال الإسلام العدائية والمتعصبة حكمها حقل إمارة المؤمنين.
- اليقظة الأمنية للمغرب التي تلعب على وتر استباق الأزمة واحتوائها قبل وقوعها على أرض الواقع.
- وأخيرا التنسيق والتعاون الدولي في مجال الاستخبارات الأمنية.
والإرهاب قد يقوم به فرد، أو مجموعة، أو مجموعات منظمة من الأفراد، وقد تقوم به حكومة أو دولة ضد شعب، أو دولة أو دول أخرى.
فإذا كانت الأفراد أو المجموعات، تلجأ للإرهاب كوسيلة يائسة لجلب الاهتمام بقضيتهم، فإن الحكومات تلجأ إليه لردع خصومها، علما بأنه يتوافر لديها وسائل أخرى عوضا عن ذلك أهمها الحلول السياسية.
ومن خلال التأطير العام للموضوع الذي سبق، يتبين لنا بأن التطرف والإرهاب كظاهرة مرتبط ارتباطا وثيقا بمجموعة من المبادئ والعناصر وعلى رأسها حقوق الإنسان، التي أصبحت هي المعيار الأساسي لرصد الديمقراطية في بلد ما، وهو ما جعل الاهتمام بها أي “حقوق الإنسان” هاجسا عند جميع الدول، من خلال سعيها إلى تحرير الإنسان من الظلم والاستبداد والخوف وضمان الحرية والمساواة والتضامن من أجل إرساء دولة القانون في تناسق وترابط مع كل الفئات المكونة للمجتمع المدني الهادف إلى ضمان الأمن والاستقرار والرخاء والطمأنينة.
فحقوق الإنسان إذن هي تلك الحقوق التي تحدد في آن واحد حرية الإنسان وواجباته وتهدف في جوهرها إلى احترام كرامة الإنسان وإعلاء قيمته.
إنها تشكل لغة مشتركة للإنسانية إذ تستطيع جميع الشعوب بفضلها أن تفهم الغير، وهو ما يعني أن مسألة حقوق الإنسان لم تعد مسألة داخلية مرتبطة بسيادة الدولة، بل اتخذت بعدا دوليا تجلى في صدور مجموعة من الإعلانات والمواثيق الدولية.
أما فيما يخص مصطلح “الأمن” فهو مفهوم يصعب تحديده وإعطاء معنى محدد وشامل له ولو من الناحية النظرية، وهذا راجع بالأساس إلى تعدد استعمالات هذا المفهوم وما أصبح يحمله من معان في قطاعات متباينة، إذ أن الحديث عن الأمن قد ينتقل بنا من أمن المجتمع أو الدولة إلى أمن الأشخاص أو الأمن الفردي، ومن الأمن الخارجي أو الدفاع الخارجي إلى الأمن الداخلي أو الوطني ومن الأمن الغذائي أو الصحي أو البيئي إلى الأمن الحضاري أو الثقافي أو الإعلامي.
وأمام صعوبة إيجاد تعريف محدد وشامل لمصطلح الأمن تعددت التعاريف، فهناك من عرفه بأنه إحساس الفرد والجماعة البشرية بإشباع دوافعها العضوية والنفسية وعلى قمتها دافع الأمن بمظهرية المادي والنفسي، المتمثلين في اطمئنان المجتمع إلى ازوال ما يهدد مظاهر هذا الدافع المادي كالسكن الدائم المستقر، والدوافع النفسية المتمثلة في اعتراف المجتمع بالفرد ودوره ومكانته فيه، حيث تسير حياة المجتمع في هدوء نسبي.
في حين نجد من عرفه بأنه هو قدرة المجتمع على مواجهة ليس فقط الأحداث والوقائع الفردية للعنف، بل جميع المظاهر المتعلقة بالطبيعة المركبة والمؤدية للعنف.
غير أن المفهوم الجوهري للأمن يظل دائما هو عدم الخوف والإحساس بالطمأنينة والاستقرار، أما المفهوم الشكلي للأمن فيظل ببعض عناصره المتغيرة موضع اختلاف واتفاق وفقا للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
فالأمن إذن هو العمود الفقري للحياة واستمرارها، فهو محور السعادة والراحة النفسية والطمأنينة، وهو ما جعل جميع الدول توليه اهتماما بالغا سواء من خلال قوانينها الداخلية أو من خلال الاتفاقيات التي تبرمها مع باقي الدول، لكن ما يمكن تسجيله في هذا الإطار هو أن طغيان الهاجس الأمني على السياسة الداخلية لمجموعة من الدول كان وراء وقوع بعض الانفلاتات التي كان لها في بعض الأحيان مسا بحقوق الإنسان وتأثيرا واضحا في قيم الديمقراطية، ذلك أن التدخل الأمني يجب أن يراعي مجموعة من المعايير القانونية وأن يتوقف عند حد من الحدود وهذه الحدود هي التي أصبح يطلق عليها اليوم بالحكامة الأمنية.
فالحكامة من بين المصطلحات التي أصبحت تطفو على السطح وكثر الاهتمام بها، فهي تلك الآليات التي تضمن نوعا من الأمان وتناسق المحيط الاجتماعي وإشراك كل القوى الحية المكونة للمجتمع.
وبغض النظر عن التأصيل العلمي والأكاديمي لموضوع المقاربة الأمنية والمقاربة الحقوقية في محاربة التطرف، فإن حدود موضوعنا ترتكز على إبرازنا لمجهودات المغرب باعتباره استثناء في هذا المجال، وذلك من خلال المداخل التالية:
المدخل الديني: إعادة تنظيم وتأطير المعطى الديني من أجل حماية تدين المواطنين من أشكال الإسلام المتطرفة. ويعتبر حقل إمارة المؤمنين، بالموازاة مع المجهودات التي تقوم بها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى ضامنا للخط الديني المعتدل المالكي المذهب، الأشعري العقيدة، الجنيدي التصوف.
كما اعتمد المغرب على برنامج تعميم نشرة رسمية على الأئمة، وتأسيس “مديرية التعليم العتيق” في “وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية”، إلى جانب مراجعة القوانين التي ترعى أماكن العبادة الإسلامية، وتشكيل مجلس ديني في أوروبا للجالية المغربية والاستعانة بالمحطات الإذاعية والتلفزيونية لترسيخ القيم الدينية المعتدلة، ولهذه الجهود وغيرها أهميةٌ خاصة لا سيما وأن هناك حوالي 245 ألف قيم ديني بما فيهم الأئمة في المملكة.
المدخل السياسي: ويتعلق باستراتيجية البلاد لمكافحة التطرف، تتجلى في مجموعةً من الإصلاحات السياسية التي نصت عليها التعديلات الدستورية الأخيرة وطنيا، وترابيا كـ “الجهوية المتقدمة”، باعتبارهما مجالي عمل الأحزاب السياسية والنقابات وهيئات المجتمع المدني للقيام بأنشطتها رافضة فكرة التطرف السياسي، فضلاً عن المجهودات الرامية إلى زيادة احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، ومساعي التنمية الهادفة إلى تفادي تهميش الأفراد والمجتمعات المحلية، وذلك لتفادي التطرف وتجنب السقوط في مخالبه وخيوطه.
المدخل الحقوقي: بالنسبة للعائدين من بؤر التوتر، تم معالجة فكرة التطرف لديهم عبر الإشراف الديني الذي تولته المؤسسات الدينية الرسمية، ففي عام 2018 مثلت نسبة السجناء المتطرفين 1% من إجمالي المحكومين، والمقدر بحوالي 82 ألفا.
كما أنه من بين العناصر الأخرى لمعالجة التطرف لدى بعض السجناء هو إعادة إدماجهم في المجتمع. ومن هذا المنطلق، يُمنح للسجناء المغاربة فرصة متابعة دراستهم لكي ينالوا شهادات جامعية، فضلاً عن قيام الحكومة بشراكات مع المؤسسات الخاصة لتوفير فرص العمل والتدريب والتوظيف في النهاية لهؤلاء السجناء بعد الإفراج عنهم أو قضاء العقوبة السجنية.
إضافة إلى ذلك، فإن السير بخطى ثابتة نحو تحسين الشق الحقوقي الاستباقي، يقتضي توفير تعليم سليم، وصحة جيدة، وعمل وافر.
المدخل الأمني: إن تعزيز وحماية حقوق الإنسان وانخراط المواطن في مسلسل الإصلاح الذي يعرفه المغرب، يتطلب بلورة استراتيجية أمنية عمل تهدف إلى بناء شرطة عصرية مواطنة ذات كفاءة عالية ومجهزة بوسائل علمية حديثة، وتكون شريكة للمواطن ومعبأة لخدمته والتعاون معه، ومنفتحة على محيطها ومتواصلة مع مختلف الفاعلين وذات إلمام بقيم ومبادئ حقوق الإنسان الكفيلة بحماية الحق في الحياة والسلامة الجسدية للمواطن وضمان استمرارية التمتع بالحقوق والحريات ونجاعتها.
وحسب الموضوع الذي تطرقنا إليه في هذه الأطروحة، عملنا على طرح الإشكالية الأساسية التالية والإجابة عليها:
“إلى أي حد يمكن رصد التطور المفاهيمي والنظري لمقاربتي الأمن وحقوق الإنسان في مواجهة التطرف والإرهاب، على ضوء التغيرات الدولية والخصوصية المغربية؟”
كما استعنا بالإشكاليات الثانوية الآتية:
- ما هو مفهوم التطرف والإرهاب؟
- ما هو الإطار القانوني والتاريخي المؤطر للتطرف والإرهاب؟
- كيف تعامل المجتمع الدولي مع ظاهرة التطرف والإرهاب؟
- كيف برز مفهوم الأمن؟ وأي تطورات عالمية تحكمت في ظهوره؟
- ما هي الخصوصية الأمنية التي تجعل المغرب تجربة تستحق الدراسة؟
- كيف يستعين المغرب بالمنظومة الحقوقية في مواجهة التطرف والإرهاب؟
- ما هي المداخل التي تستقطب التطرف والإرهاب؟
- ما هي الإستراتيجية الوطنية لمواجهة أشكال التطرف والإرهاب؟ وكيف يمكن رصدها والتنبؤ بها وأخذ الاحتياطات اللازمة لتفادي وقوعها؟
- كيف يتم التوفيق بين محاربة التطرف والإرهاب وتحقيق الاستقرار الأمني والحقوقي؟
- ما هي أهم الخطوط العامة لإستراتيجية المغرب في مكافحة الظاهرة الإرهابية؟
- ما هو الإطار القانوني الذي يؤطر الإرهاب في المغرب؟
- إلى أي حد ساهمت الحكامة الأمنية بالمغرب في محاربة الإرهاب الدولي؟
- هل المقاربات الأمنية وحدها كفيلة بالحد من الظاهرة الإرهابية؟
- ما المفهوم الأمني الذي يحتاجه العالم اليوم؟
- كيف تعامل المشرع المغربي مع الظاهرة الإرهابية؟
- ما علاقة الحكامة الأمنية بحقوق الإنسان في ظل أعمال التطرف والإرهاب؟
- كيف ساهم المغرب في إنشاء تعاون أمني من أجل محاربة التطرف والإرهاب؟
بعد هذا التمهيد واستعراض الإشكال الرئيس والأسئلة الفرعية، نورد إليكم خلاصة القسم الأول الذي يقع تحت عنوان: “الإطار النظري لظاهرة التطرف والإرهاب ومقاربات المواجهة على الصعيدين الدولي والوطني“.
تعد ظاهرة التطرف والإرهاب ظاهرة معقدة لها عدة جوانب نفسية وسياسية واقتصادية واجتماعية. وقد بذلت محاولات كثيرة سواء في الفقه الدولي أو في الممارسة العملية الدولية والتي عبر عنها في الاتفاقيات الدولية أو القرارات الصادرة عن المنظمات الدولية التعريف الإرهاب في إطار قانوني. فالبعض يرى في الإرهاب كل اعتداء على الأرواح والأموال والممتلكات العامة أو الخاصة بالمخالفة لأحكام القانون الدولي العام بمصادره المختلفة، بما في ذلك المبادئ العامة للقانون بالمعنى الذي تحدده المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، ويعد الفعل إرهابيا دوليا، وبالتالي جريمة دولية سواء قام به فرد أو جماعة أو دولة. كما يشمل كذلك أعمال التفرقة العنصرية التي تباشرها بعض الدول. والبعض الآخر يرى أن اصطلاح “الإرهاب الدولي” يستخدم في الوقت الحاضر للإشارة إلى الاستخدام المنظم للعنف لتحقيق هدف سياسي، وبصفة خاصة (حوادث الاعتداء الفردية أو الجماعية أو التخريب) التي تقوم بها منظمة سياسية وتمارسها على المواطنين وتخلق جوا من عدم الأمن.
لذلك فالمشكلة التي كانت تطرح دائما ضمن تاريخ الإرهاب لا تنحصر في إدانته بل في تعريفه. ولا أحد ممن يمارسون الإرهاب يعترف بأن ما يقوم به هو عمل إرهابي بشكله المدان. فالذين يمارسون الإرهاب يعتبرونه عنفا مشروعا من وجهة نظرهم، حيث يضفون على عملهم إما شرعية دينية أو شرعية أخلاقية أو شرعية قانونية أو سياسية أو دولية… ومن يُمارس ضده العنف ينعت ذلك بالإرهاب.
وهناك من يرى أن فشل المجتمع الدولي في التوصل إلى تعريف موضوعي محدد للإرهاب يرجع إلى الأقوال الشائعة في دراسات الإرهاب من أن الإرهابي في نظر البعض هو محارب من أجل الحرية في نظر الآخرين. فموضوع الإرهاب من أكثر المواضيع إثارة للجدل ضمن التحليلات الحديثة في علم العلاقات الدولية ويرجع ذلك من جهة إلى التطور السريع في أشكال الممارسات الإرهابية، إذ تجاوزت آثارها الحدود الوطنية لتصبح ظاهرة تعنى بمستقبل كل أعضاء المجتمع الدولي، كما أن التعامل مع هذه الظاهرة اتخذ اتجاهات مختلفة ترتبط أساسا بالانتماء العقائدي والخلفيات المرتبطة بالمهام السياسية والاقتصادية ومضاعفاتها كسلاح في عملية الصراع الدائر عبر تقاطع الشمال والجنوب، بل إن توجيه التهمة بدعم الإرهاب أصبح الوسيلة الأفضل للممارسة الفعلية للإرهاب، ومن ثم أصبح مشروعا ضمن مواقف بعض الدول.
أما المغرب، فهو كباقي دول العالم العديدة التي استهدفها شبح الإرهاب ضمن إستراتيجية إرهابية دولية محكمة، حيث تعتبر أحداث 16 ماي 2003 حلقة رئيسية جعلت من المغرب رغم اندماجه في مخطط مكافحة الإرهاب الدولي والعربي، ورغم توقيعه وتصديقه على عدة مواثيق في هذا الشأن، تعتبر منعطفا تاريخيا حاسما في التعامل مع الظاهرة، خاصة في إطار المقاربة الأمنية، وهي التي انعكست سلبا بشكل كبير على المبادئ السامية العالمية لحقوق الإنسان، الأمر الذي يعتبر تراجعا خطيرا في مجال حقوق الإنسان بالمغرب، بعد المكتسبات الهامة التي سجلها خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في ظل العهد الجديد.
إن الإرهاب والأحداث الإرهابية آفة غريبة عن المجتمع المغربي الذي ظل لقرون طويلة آمنا مطمئنا متعايشا بين شرائحه الاجتماعية وروافده الثقافية ومختلف مكوناته وحساسياته، ولكن العدوى لم تستثن المغرب، حيث امتدت اليد الإرهابية إليه في مأمنه واستهدفت مشروعه السياسي والاجتماعي لبناء دولة حديثة توفر شروط الكرامة للمجتمع وتحمي حقوق الإنسان من كل الوضعيات، وأن المقاربة المغربية لم تكن فقط أمنية، بل كانت تربوية من خلال برامج التربية على حقوق الإنسان، وتحسينها من خلال برامج التوعية لوسائل الإعلام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية وبرامج عمل المجتمع المدني.
ولاستجلاء مضامين هذا القسم أكثر فقد خصصنا في فصله الأول الحديث عن ماهية التطرف والإرهاب وأشكال التعاون الدولي في مواجهتهما، في مقابل ذلك أبرزنا في الفصل الثاني أشكال مواجهة التطرف والإرهاب على الصعيدين التشريعي والمؤسساتي بالمغرب، وذلك عبر توضيح الخطوات العامة للمقاربة المغربية في مجال معالجة الجريمة الإرهابية على مستوى الإطار العام، والقوانين المغربية والضمانات والإجراءات المتخذة.
هذا، وقد أثبتت حتى الآن الكثير من التجارب الكونية أن الحلول الأمنية والعسكرية لوحدها ستكون غير مجزية إن لم يتم معالجة الأسباب الجوهرية لتفشي ظاهرة التطرف والإرهاب التي تجد لها أرضية صالحة للانتشار في ظل أجواء الفقر والجهل والأمية والبطالة والشعور بالاستلاب، مع شيء كبير من التضليل وغسل الأدمغة التي تقوم به آلة إعلامية وأيديولوجية ضخمة ولديها إمكانات هائلة، وفقا لدعاوی دينية أو مذهبية أو غير ذلك، تلك التي تجعل الإنسان البسيط “متطرفا وإرهابيا”، يندفع لتفجير نفسه أو القيام بعمل من شأنه أن يلحق الأذى بالآخرين ويؤدي إلى ترويع السكان المدنيين. قد تكون الحلول الأمنية والعسكرية مطلوبة أحيانا، لكنها ينبغي أن تكون خطوط الدفاع الأخيرة للقضاء على التطرف والإرهاب، بعد تطويقه فكريا وسياسيا وفضحه إعلاميا وكشف دوافعه ومسوغاته باعتباره جريمة ضد المجتمع والإنسانية، ومعالجة أسبابه الاجتماعية والاقتصادية، ووضع خطط تنموية طويلة الأمد لإعادة تربية المجتمع على قيم التسامح والحرية واحترام الرأي والرأي الآخر، وإقرار مبادئ التعددية والتنوع والشراكة وتأكيد الوحدة الوطنية واللحمة المجتمعية.
إن الحرب على التطرف والإرهاب هي ليست حربا ضد دبابة أو مفخخة أو جهاز تفجير أو مواجهة انتحاري، بل هي حرب تتعلق بالأفكار والعقول بالدرجة الأساسية، وكان دستور اليونسكو على حق حينما أكد أن السلام يصنع في العقول، مثلما تولد الحرب في العقول أيضا، ولهذا فإن إقرار السلام والقضاء على الإرهاب، إنما هو بالأساس كسب العقول لصالح مبادئ التسامح والسلام والمواطنة والمساواة والحرية والعدل والشراكة.
وسيظل التطرف والإرهاب مقيما في مجتمعاتنا إن لم يتم اقتلاع جذوره الفكرية وتهيئة مستلزمات تغيير المجتمع باتجاه العدل الاجتماعي، وهو الأساس الذي لا غنى عنه، ولا سيما بتوفير فرص متكافئة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا للمواطنين المتساوين المتطلعين إلى تحقيق مبادئ العدالة بكل مقتضياتها ومتطلباتها، سواء على المستويات القانونية أم السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية، وذلك من خلال بيئة ثقافية وتربوية وقانونية سليمة أساسها التعايش والحوار وقبول حق الاختلاف قوميا ودينيا واجتماعيا وسياسيا وفكريا، باعتبار الإنسان مساويا لأخيه الإنسان وله الحقوق والواجبات ذاتها، وهو الذي كرمه الله من دون تمييز إلا بالتقوى، وكان الفيلسوف الإغريقي “بروتوغوراس” هو الذي قال: الإنسان مقياس كل شيء.
وعلى نفس المنوال، تناولنا في هذا القسم السياسة الجنائية المعتمدة من طرف المشرع المغربي في مجال مكافحة الإرهاب، والممارسة القضائية المتعلقة بهذا المجال، إضافة إلى جهود المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان فيما يتعلق بقضايا الإرهاب.
وقد رأينا أن سياسة المشرع المغربي تتسم بالتوسع في التجريم والأخذ بالبعد الوقائي عبر تجريم أفعال تعد حاجزا نحو ارتكاب الفعل الإرهابي، أما السياسة العقابية فهي تتسم بالتشدد في العقاب مع إغفال البعد الإصلاحي والتهذيبي مما يكرس المقاربة الأمنية في مجال مكافحة الإرهاب، الشيء الذي قد يؤدي إلى وقوع تراجعات وتجاوزات في بعض المكسيات الحقوقية، أن معالجة الإرهاب باعتماد منطق الردع وإقصاء باقي العوامل الثقافية والاجتماعية والاقتصادية غير كاف، وعلى ضوء هذه المعطيات يمكن تجزم بأن مكافحة الإرهاب مستلزم تركية متداخلة تمزج بين ما هو أمني وسياسي وثقافي وتربوي وإعلامي.
ونمر الآن إلى عرض خلاصة القسم الثاني الذي اخترنا له عنوان: “جدلية المقاربة الأمنية والحقوقية في مواجهة التطرف والإرهاب“.
لقد أصبح التقاطع بين الأمن والحرية، منذ أحداث 11 شتنبر 2001 وصياغة قانون مكافحة الإرهاب المعروف بالولايات المتحدة الأميركية، خاضعا لتصور جديد يعكس الرغبة في أدلجة مفهوم الأمن وتحكم العقيدة الأمنية في إعادة تشكل الفعل السياسي. وكان من أهم النتائج السياسية المترتبة على تطبيق قانون “باتريو آكت” “عسكرة” السياسة واعتماد مقاربة أمنية زادت من قوة ونفوذ الأجهزة الأمنية وتآكل مصداقية الديمقراطية الأمريكية، نظرا لعدم التزام سياساتها الأمنية بالمعايير الحقوقية وفي مقدمتها محاكمة المدنيين أمام محاكم مدنية وليست عسكرية.
إلى جانب ذلك، فإن التفكير في طبيعة العلاقة القائمة بين السياسة الأمنية والالتزام باحترام حقوق الإنسان، يتطلب إعادة النظر في دور القانون الوضعي وعلاقته بالحقوق الطبيعية. من هذا المنطلق تظهر أهمية استحضار نظريات فلسلفة الأنوار التي ربطت بين قيام الدولة وضرورة الحفاظ على ما حازه الأفراد من مكتسبات في حالة الطبيعة. لقد كان متغير الأمن محوريا في رسم عوالم الاختلاف بين نظريات كل من “جون لوك” الذي دافع عما يسميه الطاعة المقيدة القائمة على عدم مساس الأمن للحرية، و”هوبز” الذي اشترط وجود الأمن بوجود دولة قوية تقوم بدور الوصاية على المجتمع العاجز عن حماية نفسه.
وبناء عليه، من غير الممكن وضع سياسات أمنية فعالة بدون إعطاء راهنية لهذه الأفكار، لأن معالجة الظاهرة الإرهابية تتطلب وجود تصور فلسفي يحدد من جديد الركائز التي ينبغي أن تقوم عليها العلاقة بين الدولة والمجتمع.
أما فيما يتعلق بالمغرب، فإن العلاقة بين السياسات الأمنية المعتمدة وحماية حقوق الإنسان تأخذ بعدا آخرا مختلفا عما هو عليه الحال في الدول الغربية، نظرا لخصوصية النسق التاريخي الذي نشأت فيه تلك الدول، وكذلك وظيفة السياسات الأمنية باعتبارها آلية لضبط الصراع حول السلطة وتدعيم التركيبة السلطوية للأنظمة القائمة.
أما بخصوص طبيعة الضوابط القانونية المعمول بها في سبيل محاربة الإرهاب، فإنها تتميز بعدم الدقة في تحديد وتعريف الفعل الإرهابي، فإذا تأملنا جيدا القانون المغربي لمكافحة الإرهاب لسنة 2003، نجده يتسم بنوع من الغموض القانوني فيما يتعلق بتحديد نوعية الأفعال المروجة للإرهاب.
إن المقاربة الأمنية للظاهرة الإرهابية قد تكون أكبر عائق أمام دمقرطة بنيات الدولة، إذا ما ظل مفهوم الأمن مختزلا في البعد السياسي مغلقا الطريق أمام معالجة شاملة لهذه الظاهرة التي باتت تشكل عنفا معولما يساهم في تدمير المجتمعات الإنسانية. لذلك فإن وضع السياسات الأمنية اليوم يستدعي أكثر من أي وقت مضى إعطاء الأولوية للتنمية الاجتماعية والثقافية بهدف محاربة “الفكر الجهادي” الذي يعتبر بمثابة المرجعية الإيديولوجية التي تؤطر الاستراتيجيات الإرهابية للحركات التكفيرية.
وعلى هذا الأساس، عملنا على تحليل مضامين هذا القسم من خلال التطرق إلى المقاربة الأمنية للمغرب المتعددة الأبعاد في مواجهة التطرف والإرهاب كفصل أول، فيما خصصنا الفصل الثاني للمقاربة الحقوقية كأقوى آلية لمواجهة التطرف والإرهاب والتحديات التي تقف أمامها.
كما رأينا في هذا القسم أن التطرف والإرهاب وحقوق الإنسان شكلوا شاغلا من شواغل برنامج الأمم المتحدة منذ أمد طويل، ولكنها أصبحت أكثر إلحاحا في أعقاب هجوم 11 سبتمبر 2001 مع حدوث طفرة في أعمال الإرهاب على نطاق العالم. ولقد أولت الأمم المتحدة، مع إدانتها الإرهاب إدانة قاطعة ومع إقرارها بواجب الدول أن تحمي من يعيشون في إطار ولايتها القانونية من الإرهاب، أولوية لمسألة حماية حقوق الإنسان في سياق تدابير مكافحة الإرهاب. وشدد الأمين العام، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، وغيرهما في منظومة الأمم المتحدة، على أن قواعد حقوق الإنسان يجب احترامها احتراما تاما.
إن الدفاع عن حقوق الإنسان وإعلاء شأن سيادة القانون في سياق مكافحة التطرف والإرهاب هو حقا جوهر استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب. وأقرت الدول بأن اتخاذ تدابير فعالة لمكافحة التطرف والإرهاب وحماية حقوق الإنسان هما هدفان لا تناقض بينهما، ويكمل كل منهما الآخر ويعززه. وتعهدت هذه الدول باتخاذ تدابير التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان ولكفالة أن تمتثل أي تدابير تتخذ لمكافحة التطرف والإرهاب لالتزاماتها المتعلقة بحقوق الإنسان.
فحين يشعر جمع حقوقي، أكاديمي ومهني، ومسؤولون حكوميون وأمنيون محترفون أن لا سبيل للقضاء على الإرهاب إلا بإستراتيجية وطنية شاملة، فإن ذلك يعني مقاربة ما هو سياسي بما هو أمني وعسكري، وما هو اقتصادي وتنموي بما هو تربوي وقانوني، وذلك من خلال تدابير وقائية تشمل دعم ورعاية الأسرة والاهتمام بتنمية الوعي الوطني من خلال إعادة النظر بالمناهج التربوية والتعليمية وتكييفها بما ينسجم مع مبادئ التسامح وحقوق الإنسان، إضافة إلى معالجة ظواهر الفساد المالي والإداري، والسعي للقضاء على الفقر ووضع حد للبطالة، وإشراك المجتمع المدني، وفئات المجتمع كافة في بناء أرضية صالحة للمصالحة الوطنية من خلال نشر وتعميم قيم التسامح. ولعل تدابير الحماية تأتي بعد تدابير الوقاية، الأمر الذي يحتاج إلى جهود حثيثة حكومية ومجتمعية التجفيف منابع الإرهاب واستهداف مصادر تمويله والعمل على منع تسلل الإرهابيين والأسلحة إلى ومن البلد المعني، أي العمل على منع الارهاب العابر للحدود من التفريخ أو التكاثر، وذلك عبر التنسيق مع دول الجوار من جهة، وعلى المستوى العالمي من جهة ثانية، وإذا كان العمل الأمني والاستخباري يحتاج جهدا مكثفا ومعرفية لمكافحة الإرهاب، فإن معالجة العوامل والأسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، تحتاج إلى جهود أكبر بكثير، ولا سيما، للنجاح في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة التطرف والارهاب، من خلال تنسيق وتعاون حكومي وغير حكومي للقضاء على هذه الظاهرة الخطرة، التي هي ظاهرة عالمية وليست محلية.
وحتى الآن أثبتت الكثير من التجارب الكونية أن الحلول الأمنية والعسكرية لوحدها ستكون غير مجزية إن لم يتم معالجة الأسباب الجوهرية لتفشي ظاهرة التطرف والإرهاب التي تجد لها أرضية صالحة للانتشار في ظل أجواء الفقر والجهل والأمية والبطالة والشعور بالاستلاب، مع شيء كبير من التضليل وغسل الأدمغة التي تقوم به آلة إعلامية وأيديولوجية ضخمة ولديها إمكانات هائلة، وفقا لدعاوى دينية أو مذهبية أو غير ذلك، تلك التي تجعل الإنسان البسيط إرهابيا”، يندفع لتفجير نفسه أو للقيام بعمل من شأنه أن يلحق الأذى بالآخرين ويؤدي إلى ترويع السكان المدنيين. قد تكون الحلول الأمنية والعسكرية مطلوبة أحيانا، لكنها ينبغي أن تكون خطوط الدفاع الأخيرة للقضاء على الإرهاب، بعد تطويقه فكريا وسياسيا وفضحه إعلاميا وكشف دوافعه ومسوغاته باعتباره جريمة ضد المجتمع والإنسانية، ومعالجة أسبابه الاجتماعية والاقتصادية، ووضع خطط تنموية طويلة الأمد لإعادة تربية المجتمع على قيم التسامح والحرية واحترام الرأي والرأي الآخر، وإقرار مبادئ التعددية والتنوع والشراكة وتأكيد الوحدة الوطنية واللحمة المجتمعية. إن الحرب على التطرف والإرهاب هي ليست حربا ضد دبابة أو مفخخ أو جهاز تفجير أو مواجهة انتحاري، بل هي حرب تتعلق بالأفكار والعقول بالدرجة الأساسية، وكان دستور اليونسكو على حق حين أكد أن السلام يصنع في العقول، مثلما تولد الحرب في العقول أيضا، ولهذا فإن إقرار السلام والقضاء على التطرف والإرهاب، إنما هو بالأساس کسب العقول لصالح مبادئ التسامح والسلام والمواطنة والمساواة والحرية والعدل والشراكة.
وسيظل التطرف والإرهاب مقيما في مجتمعاتنا إن لم يتم اقتلاع جذوره الفكرية وتهيئة مستلزمات تغيير المجتمع باتجاه العدل الاجتماعي، وهو الأساس الذي لا غنى عنه ولا سيما بتوفير فرص متكافئة اقتصادية وسياسية واجتماعية للمواطنين المتساويين المتطلعين إلى تحقيق مبادئ العدالة بكل مقتضياتها ومتطلباتها، سواء على المستويات القانونية أم السياسية أم الاقتصادية أم الاجتماعية، وذلك من خلال بيئة ثقافية وتربوية وقانونية سليمة أساسها التعايش والحوار وقبول حق الاختلاف قومية ودينية واجتماعية وسياسية وفكرية، باعتبار الإنسان مساويا لأخيه الإنسان وله الحقوق والواجبات ذاتها، وهو الذي كرمه الله من دون تمييز إلا بالتقوى، وكان الفيلسوف الإغريقي “بروتوغوراس” هو الذي قال: “الإنسان مقياس كل شيء”.
ولا بد من التأكيد على أن التطرف والإرهاب لا دين له ولا قومية أو لغة أو شعب أو منطقة جغرافية، وإن أية محاولات لإلصاقه بشعب أو مجموعة بشرية أو دين أو قومية، فإنما تلحق ضررا باستراتيجيات مكافحة التطرف والارهاب، بل توفر غطاء أحيانا لدعم قوى التطرف والتعصب والغلو من جميع الجهات، لأن التطرف والارهاب في جوهره يمثل خطرا على الإنسانية، بتهديده حياة الإنسان وترويع عيشه وأمنه واستقراره وحقه في الحياة والإبداع والتنمية والحقوق الديمقراطية.
وفي نهاية هذا القسم، لا ينبغي أن تكون ذرائع مكافحة التطرف والإرهاب وسيلة لتقليص الحريات والحد من حرية التعبير، فالأمن ينبغي أن يكون مع الكرامة، والأمن مع الحرية ولا أمن حقيقي من دون الكرامة والحرية.
وهكذا ومن خلال ما سبق، ارتأينا في ختام هذه الدراسة أن نشير في الأخير إلى أن مغرب اليوم أصبح يعرف تحولات مهمة على صعيد مجموعة من المجالات، ولعل التنظيم والتسيير يشكلان أهم عاملان لرصد هذه التحولات خاصة في مجال الحكامة الأمنية، حيث وجب تعويض المقاربة الأمنية بكل من المقاربة التشاركية والمقاربة الشمولية والمقاربة المندمجة، وذلك من أجل تبادل الأفكار والرؤی وصياغة الاستراتيجيات الأمنية التي تروم تحقيق التنمية المستدامة والتي تأخذ ضمن أبعادها جميع مقاييس دولة القانون.
كما أن ترسيخ مبادئ الحكامة الأمنية يتطلب وعيا بتطلعاتها وأهدافها سواء من جانب الجهات المسؤولة عن الحفاظ على الأمن العام أو من جانب جميع مكونات المجتمع، وهذا يعني أن تحقيق هذه الأهداف لن يستقيم إلا بوضع إستراتيجية محكمة الصياغة تكون نتاجا لمختلف الفاعلين ويتم منحها الوقت الكافي لتنفيذها.
وبذلك يتضح أن التطرف والإرهاب يثير العديد من الإشكاليات في علاقته بمنظومة الحريات بصفة عامة، وعدد من الحريات الأساسية على وجه الخصوص، مثل حق الشعوب في تقرير مصيرها ومظاهر الديمقراطية لمختلف الشعوب في المغرب وفي غيرها من أقطار العالم وعلى أساس ذلك يمكن أن نورد عددا من النقاط وهي:
- أن التطرف والإرهاب ظاهرة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ حيث شهدتها العصور القديمة سواء كانت في الشكل الفردي أو الجماعي.
- لا بد من التصدي لمحاولات الغرب المستمرة والتي تعمل على لصق الإرهاب تاريخيا بالحركات الإسلامية، حيث أن الإسلام بريء من هذه الافتراءات.
- أن التطرف والإرهاب لم يتخذ شكلا دوليا إلا بعد الحرب العالمية الثانية من خلال دعم بعض الدول للحركات والجماعات الإرهابية.
- أنه لا يمكن القول بأن هناك سبب واحد للتطرف والإرهاب، ولكنها مجموعة عوامل قد تدفع الفرد أو الجماعة إلى الانزلاق في مهاوي التطرف والإرهاب.
- أن العديد من الدول ما زالت تلعب دورا مباشرا أو غير مباشر في دعم الإرهاب، فقد تمارس الدولة الإرهاب بنفسها على الأفراد الذين ينتمون إليها من خلال الممارسات التعسفية وعدم إتاحة الوسائل السلمية لهم كالتعبير عن آرائهم، أو تتخذ من أساليب الترهيب والهجمات المسلحة على دول أخرى أو الفصل العنصري سياسة ثابتة لها، أما عن الدور غير المباشر فقد يظهر في تبني الدولة لبعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي توفر المناخ الملائم لعمليات العنف والإرهاب.
- استخدام التطرف والإرهاب بديلا عن الحرب التقليدية من جانب بعض الدول نظرا لما تتطلبه الحروب المباشرة من ثروات مادية وبشرية وما تثيره من استثناء في الرأي العام العالمي، جعل من التطرف والإرهاب وسيلة مفضلة لدى العديد من الدول، بل إن بعضها شجع على ظهور بؤر التوتر في معظم أنحاء العالم، بل على استمرار سياسات استعمارية حتى الآن في ظل عجز النظام العالمي الجديد بمختلف آلياته عن الوقوف في وجه الأنظمة الاستعمارية والعنصرية، بالرغم من اعترافه بحق الكفاح المسلح للشعوب من أجل الحصول على تقرير مصيرها.
إن الإرهاب كظاهرة عالمية معاصرة يعكس أزمة ضمير وأخلاقيات حادة ومستحكمة يعيشها النظام السياسي العالمي لافتقاده الحزم في الرد على المخالفات والانتهاكات التي تتعرض لها المواثيق الدولية بعقوبات دولية شاملة ورادعة تطبق على أية مخالفة دون انتقاء أو الكيل بمكيالين.
- أن مشكلة تعريف الإرهاب هي أول المشكلات التي تعترض طرق مكافحته مما يلزم معه الاتفاق على تعريف واحد ليزول اللبس والغموض حول ظاهرة لم تعد أي دولة أو فرد بمنحى منها. من جهة: فإن التعريف سوف يدفع الدول إلى تبني إستراتيجيات ثابتة وموحدة من أجل منع وعلاج هذه الظاهرة، ومن جهة ثانية: سيكون معيارا لقياس مدى التزام الدول بالاتفاقيات الدولية التي توقع في هذا الشأن.
لنخلص مما سبق إلى:
- أن التطرف والإرهاب صورة من صور العنف الذي يشهده العالم، على أن هذا الشكل من العنف لا يقارب في خطره على الكيان الدولي أقل مما يصنعه الفقر، البطالة، الفساد، الاختلاسات، الرشوة، الكبت، القمع، عمالة الأطفال، المرض، الرق الأبيض والمخدرات، وهي آثار مدمرة على البنيان الاجتماعي ابتداء من الأسرة وانتهاء بأرقى أشكال التنظيم الدولي.
- أن التطرف والإرهاب يبقى ظاهرة جلية أخذت وستأخذ مستقبلا حيزا كبيرا من الاهتمام الدولي دون مبرر منطقي، حيث بدأت ردود الأفعال تختلط مع الأساليب الكامنة وراء هذا العنف، وأصبح الإرهابيون ديمقراطيين، وأصحاب الحق إرهابيون دون أن يكون هناك أساس لهذه التسميات، لكن من آثار الأمور التي تدعو إلى الدهشة هي الحاجة إلى معرفة مدى ارتباط الأديان السماوية بالإرهاب.
- كون موضوع التطرف والإرهاب قد شغل هاجس العقل الإنساني مؤخرا ودفع البعض إلى تصنيف البشر إلى فئتين: إرهابيين وغير إرهابيين، فإننا نعتقد بضرورة تحديد إطار خاص بالإرهاب وتمييزه عن طوائف الانتهاكات الأخرى، وخاصة الجسيمة منها، مثل جرائم الحرب ضد الإنسانية إضافة إلى جرائم العنف غير المسلح، كالتمييز العنصري، والاتجار بالمخدرات وغيرها من الانتهاكات، لكونها السبب الأكثر دعوة إلى تفجير العنف بمختلف مظاهره على الصعيدين المحلي والدولي.
- الارتباط بالسياسة أمر لا مفر منه بخصوص التطرف والإرهاب سواء قام به فرد لصالحه أو لصالح منظمة، أم جماعة لصالح دولة، دون أن يعني ذلك انفصال باقي الجرائم حكما عن السياسة، فجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وغيرها ما هي إلا ترجمة لقرار سياسي، دون أن يكون ذلك هو الخصوصية التي تميزها عن باقي الجرائم.
وفي هذا المقام، جدير بالذكر، أن المقاربة الشمولية التي تبناها المغرب منذ أحداث 2003، أبانت عن جدواها. إذ هي تشمل إعادة هيكلة الحقل الديني، والحقوقي والأمني. كما تم إرساء أسس الحكامة الديمقراطية، وخاصة ترأس حزب إسلامي معتدل للحكومة المغربية وتجاوز إشكالية ما سمي بالربيع العربي بعد انتخابات أكدت جميع الأحزاب المشاركة فيها نزاهتها بالمقابل مع ما سبق، والمحاسبة خاصة في مجال حقوق الإنسان، ثم إعادة تدبير المجال الأمني، عبر إعادة هيكلة المديرية العامة للأمن الوطني، وإحداث المكتب المركزي للأبحاث القضائية؛ حيث ارتبطت عمليات المتابعة سواء للجريمة المنظمة أو الحركات الإرهابية بإطار قانوني وقضائي، يشكل فيه الأمن إطارا مرحليا وتدبيرا للاستباق وإلقاء القبض، بالضرورة هناك ترتيبات استخباراتية مسبقة وتجارب مهمة في نفس النطاق.
ولم يتسن لنا إلا أن نقول، في خضم ما يجري حاليا على الساحة الدولية من أحداث ومجريات في ظل انقياد العالم خلف قوة منفردة تحقق ما تريد بالتهديد والوعيد وتؤثر بشكل أو بآخر في مسار الجهود الدولية القانونية وبالصورة التي تلائمها، إن العالم لن يسلم من الإرهاب الدولي كتهديد خطير ولن يتم القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة، لا بل إنها محتملة الازدياد والتوسع، إن لم يتفق المجتمع الدولي على:
- معالجة أسباب الإرهاب والتي هي أساس خروج الظاهرة للوجود، فالقضاء على الأسباب يعني معالجة الظاهرة والقضاء عليها. أما إذا ظل الأمر على ما هو عليه بإهمال معالجة الأسباب، فستكون النتائج كارثية على المستقبل البعيد.
- وضع تعريف شامل وجامع للإرهاب لتحديد ما هو إرهاب وما هو غير إرهاب، أي وضع الحدود والفواصل القانونية لهذا الغرض، وعدم تجاهل حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها في النضال والكفاح المسلح لتحقيق هذا الحق، وبالتالي الإقرار الكامل بوجوب التمييز بين ما هو إرهاب غير مشروع وبين ما هو كفاح مسلح لحركات التحرر الوطني المشروع والمقر دوليا.
- وضع اتفاق دولي شامل لمكافحة هذه الظاهرة تشتمل ما ذكرناه آنفا وتضع الحدود المعقولة وتبين التزامات الأطراف الدولية ومن كافة النواحي القانونية لتجعل من مهمة مكافحة الإرهاب مهمة إنسانية تقع على عاتق المجتمع الدولي والإنسانية بأجمعها.
وفي ضوء ما تقدم جميعا، يمكننا استخلاص بعض ملامح خطة الإستراتيجية المغربية لمحاربة التطرف والإرهاب وهي:
أولا: أن اختيار إحدى الخطط دون الأخرى يتوقف على وجهة نظر المخطط وخبرته والظروف المحيطة، وكذلك السياسة العامة التي تسود الدولة التي يجب أن تضعها الشرطة في اعتبارها عند إصدار قرارات، خاصة القرارات التي تصدر من الإدارة العليا لجهاز الأمن وهي ما يطلق عليها القرارات الإستراتيجية.
ثانيا: ومن ملامح الإستراتيجية ضرورة تتبع حركة الجريمة في العالم وخاصة الدول المتحضرة، فقد تغير شكل الجريمة عالميا بعد السبعينيات وفي الثمانينيات.
وامتد هذا التغيير إلى معظم دول العالم التي عانت الكثير من الدول ظاهرة الإرهاب والجريمة المنظمة، والجريمة العصرية وانتشار التيارات الفكرية – السياسية – الدينية التي تسعى للامتداد خاصة بين الشباب.
ثالثا: التركيز على ارتفاع القدرات والمهارات الفنية والسلوكية لجهاز الشرطة بالتدريب والتنمية المخططة، يجعله أقدر على أداء مهامه وواجباته بكفاءة.
رابعا: ضرورة إشراك أو إسهام المواطنين في مكافحة الجريمة، إذ إن الشرطة لا تستطيع بمفردها أن تتصدى للجريمة بضراوتها وآثارها المدمرة والخطيرة، وهذا يتطلب بالضرورة إنشاء جسور التعاون بين الشرطة والمواطنين، وينبغي أن تبدأ الخطوة الأولى في سبيل هذه العلاقة من جانب الشرطة، وهذه الروابط لا سبيل إلى إقامتها إلا بالجهد والمثابرة الدائمة، ووضع منهاج لذلك يمكن من خلال تطبيقه الوصول إلى الغاية.. وقد أسفرت هذه المشاركة عن كشف غموض كثير من الجرائم.
خامسا: ضرورة توافر المقومات والمتطلبات اللازمة لقيام الإستراتيجية وهذه المقومات ضرورة لا غنى عنها لنجاحها، وسبق أن أشرنا إليها فيما سبق.
ونكرر هنا مرة أخرى ما سبق أن نوهنا إليه من ضرورة رصد الاعتمادات المالية اللازمة لتوفير تلك الأمنيات المادية.
سادسا: ضرورة توافر المقومات التنظيمية اللازمة لقيام الإستراتيجية، إذ لا يغيب عن البال أن نجاح أية إستراتيجية يعتمد – بالدرجة الأولى – على وحدة القيادة المنوط بها الإشراف على تنفيذها.
وأخيرا، فإن الإستراتيجية بمتطلباتها ومقوماتها وبمراعاة الاعتبارات المتقدمة تحقق أهدافها في توفير الأمن والاستقرار، وبالتالي تحقيق التقدم والتنمية.
تلكم هي الخطوط العريضة لمضمون الأطروحة محل المناقشة، وشكرا.
هذه الفقرة أدناه تقال بعد مداخلات اللجنة:
أجدد الشكر الموصول للأساتذة الأفاضل على مداخلاتهم القيمة، والتي انصبت على ملاحظات شكلية، وبعضها الآخر تناول ملاحظات موضوعية تهم المتن.
لذلك أعد المجلس العلمي المبارك، أن أعمل على إصلاح ما فاتني أو ما غفلت عنه أثناء إعدادي للموضوع، آخذا بعين الاعتبار كل ملاحظاتكم السديدة في شكلها وموضوعها، واعدا إياكم أن أسلم لحضراتكم كلا باسمه نسخة نهائية معدلة ومنقحة بكل ما تفضلتم به، في القريب العاجل بحول الله، حتى تكتمل الصورة العلمية الدقيقة لهذا العمل الأكاديمي الذي سوف يغني الخزانة الوطنية والدولية.
دمتم أمناء على رسالة العلم.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تعليقات 0