مــراد زبــوح: مــسؤولية الـناقل الـبحري للـنـفايات الـخـطرة (أطروحة جامعية)

جامعة محمد الأول
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعيةوجدة
تقرير حول أطروحة الدكتوراه في موضوع:
تحت إشراف الدكتور: أحمد العلالي
إعداد الطالب الباحث: مراد زبوح
السنة الجامعية: 2021 – 2022
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أوجد الخلق فأحصاهم عددا، وخلق الموت والحياة ليبلوهم أيهم أحسن عملا، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما قبل؛
وقد قدر في هذا اليوم المبارك الأغر لهذه الأطروحة المتواضعة –بعد جهد لم تحل دونه فواصل الزمان ولا المكان– أن تكون موضوع مناقشة وتقييم ومدارسة على يد لجنة علمية مهيبة تضم صفوة من الأساتذة الأجلاء بهذه الكلية العتيدة وغيرها ممن يشرفنا أن نتوجه إليهم –في البداية– بجزيل الشكر وعظيم الامتنان والتقدير على ما أفردوه وخصوه من وقتهم الثمين لقراءتها والنظر فيها قصد تقييمها وتقويم ما وقعت فيه من اختلالات و اعتلال شكر الله لهم ذلك الجهد.
ومن خلالهم أتوجه بخالص الاحترام وموفور الاعتزاز والاعتراف بالجميل إلى أستاذي المفضال “أحمد العلالي” على ما خصني به من رعاية وإرشادات سديدة وتوجيهات نيرة طوال سنوات تأطيره وإشرافه على هذه الأطروحة، وبالغ شكري موصول إلى فضيلة الأستاذ المقتدر “عبد الرحمان أسامة” وباقي أعضاء مختبر العلوم القانونية القانونية والاجتماعية، كذلك أتقدم بوافر الشُّكر والعرفان لفضيلة الأستاذ “أطويف محمد” الذي تجشم عناء السفر للحضور إلى مدينة وجدة، وتكرمه بقبول مناقشة هذا البحث المتواضع وإثرائه بملاحظاته السديدة، على الرغم من التزاماته الكثيرة.
كما أتوجه بخالص الشكر إلى هيئة الكلية العلمية والإدارية والتربوية العامرة على كل ما وفروه لي من أجواء علمية مناسبة كان لها بالغ الأثر في تكويني وتحضير هذه الدراسة، وأشكرُ كُلَّ من ساعدني في إنجاز هذا البحث بملاحظاته وتوجيهاته وتشجيعاته، وجميع أفراد عائلتي الكبيرة والصغيرة. كما لا يفوتني أن أشكر جميع الحاضرين الذين شرفوني بحضورهم.
وأما بعد؛
فلا شك أن ارتياد موضوع نقل النفايات الخطيرة بحثا عن مواضع للانتجاع الدراسي، ونقط للارتواء المعرفي يقصدها الباحث أو يُيَمِّمُ وجهه إليها في طراب تنقله، وتجاذبات ترحاله المسكون بهواجس الظفر بالموضع الغاوي الأنسب لبلوغ رُبَى تؤسره وتشجعه على الاستقرار، ليس أمراً هَيِّناً يسيراً، أو طَريقاً مُعبَّداً قصيرا، خصوصاً إذا ما كان هذا الارتياد والسّفر محكوماً في أساسه بمقاصد علمية موضوعية يبتغيها هذا الباحث في اختياراته الاستكشافية/الاستطلاعية، بالنظر إلى ما يَحُفُّهَا من وعورة في المسالك، ويَلُفُّهَا من محاذير ومهالك، وغياب الأدِلاَّء فيها وأهل الإنجاد، وتعذر الاهتداء إلى نقط الماء، للسقاية منها والارتواء.
ولئن كان مسوّغ المغامرة في افتراع هذا الموضوع الذي وقع عليه الاختيار والقصد، وانصرف إليه الاهتمام والجِدُّ، لبلوغ الخصيب من مرابعه النائية، والانتجاع في رياض دوحة مواضعه العلمية، وما تحبلُ به من أزاهير وثمار معرفية قد دفعت بنا أمام إحجام وهجر الباحثين له إلى ارتياده والخوض في مناكبه طولاً وعرضاً لاستكشاف ما ننشده فيه من مطلوب دراسي يؤرقنا، أو لرصد وتتبع وبيان ما نراه لايزال خافياً على غيرنا أو مهمولا ومهجوراً لديه.
ولذلك، كان الارتياد والبحث في موضوع نقل النفايات الخطرة من أهم المباحث التي شدنا إليها فضول الاستكشاف، وقادنا إليها هاجس الاعتكاف، فآثرنا الانزواء فيه، والتنقيب والانكباب عليه، ومن ثمة، استقر حال الدراسة لدينا متوسّماً أو موسوماً بالعنوان التالي للأطروحة:
“مسؤولية الناقل البحري للنفايات الخطرة”.
ولم يكن اختيار هذا العنوان ولا الانخراط في خوض غمار موضوعه ومباحثه المركبة من صنيع فعل الصدفة أو العبث أو الترف العلمي، وإنما كانت تقف وراءه بواعث ومسوغات عديدة، ودواع واعتبارات مفيدة، يمكن إبرازها وحشر بيانها في رغبتي الجامحة في استثمار ما راكمته من محصلة معرفية وتكوين وتجربة علمية طوال سنوات تحصيلي الدراسية بهاته الكلية العتيدة فيما قد ينفع ويغني خزانة المكتبة الوطنية في هذا الموضوع.
ومن هذا المنطلق، يعتبر موضوع نقل النفايات الخطيرة من المواضيع التي أضحت تحظى باهتمام كبير لدى الكثير من الباحثين والمهتمين بهذا المجال، إذ إن أغلب هذه النفايات الخطرة التي يتم نقلها عن طريق البحر من دول الشمال الصناعية إلى دول الجنوب النامية والفقيرة هي نفايات خطيرة إما لكونها نفايات خطرة لذاتها، أو لكونها مادة متممة لنفايات أخرى تعد تركيبا لها، وهي مظهر من مظاهر الصفة الخطرة الملازمة للنفايات، وما الناقل البحري إلا واحد من أولئك الأشخاص الذين يتعاملون مع هذه النفايات الخطرة، إذ فرض الواقع والقانون واجب عليه بذل العناية الفائقة لتجنب أخطارها وأضرارها.
لذلك فإن مسؤولية الناقل البحري الناشئة عن نقل هذه النفايات الخطرة تتصف بالتعقيد والتداخل، كما تعد أهم موضوعات القانون، نظرا لكثرة القضايا التي تعرض أمام المحاكم والمتعلقة بالنقل البحري، ونظرا لما تثيره من منازعات بين الشاحنين والناقلين وبين هؤلاء وشركات التأمين التي يحيل إليها الشاحنون حقوقهم قبل الناقل، حيث تعد مسؤولية الناقل البحري في نقل هذه النفايات الخطرة مسؤولية تعاقدية أساسها الالتزام التعاقدي على عاتق الناقل البحري والمتمثلة في نقل هذه النفايات الخطرة من ميناء القيام وإيصالها إلى ميناء الوصول سليمة كاملة، وهو التزام بتحقيق نتيجة، لذلك تقوم مسؤولية الناقل البحري بمجرد عدم تحقق هذه النتيجة.
ومما يزيد الموضوع تعقيدا أن الجهود الدولية المبذولة وعلى الرغم من تظافرها الشديد والكبير في تقنين أنواع البضائع والنفايات الخطرة، لا يزال الموضوع يثير الكثير من القلق إذ قد تظهر على أرض الواقع نفايات خطرة معينة توصف بأنها خطيرة على الرغم من أن المعايير الدولية لا تصفها بهذا الوصف.
وإذا كانت النفايات الخطرة التي يريد الشاحن شحنها على ظهر السفينة غير مذكورة في القانون الدولي البحري للبضائع الخطرة، فإن الناقل في هذه الحالة في حاجة ماسة إلى تعليمات خاصة من الشاحن حيث يتحمل المسؤولية العقدية تجاه الناقل البحري، إذا لم يقدم المعلومات والتعليمات الوافية والدقيقة.
ومما لا شك فيه أن أي علاقة قانونية سواء على المستوى الوطني والدولي لا بد أن يصاحبها نظام موضوعي للمسؤولية، يركن إليه حال عدم تنفيذ الالتزامات موضوع الاتفاق وإلا ويتم إفراغ الالتزام القانوني من معناه ومحتواه الذي أنشئ من أجله وأصبح لا قيمة له، بحيث إن المتعارف عليه في الفقه القانوني الدولي أن كل انتهاك لالتزام دولي يترتب عنه ضررا، يستتبع قيام المسؤولية الدولية في مواجهة الشخص الدولي المخالف للالتزام الدولي، أي إلى الدولة التي ينسب إليها ذلك الانتهاك.
ومن ثمة، فإن هذا الموضوع الذي انبرت إليه هذه الأطروحة يستمد أهميته من كونه:
يكتسي بعداً هاما بالنظر إلى التزايد المستمر والمكثف للاهتمام الدولي بالمخاطر التي أصبحت تهدد البيئة بجميع أنواعها وخاصة البيئة البحرية التي هي محل الدراسة، وذلك ناتج عن تضاعف الإنتاج العالمي من النفايات الخطرة ولا ننسى الكم الهائل لارتفاع معدلات نقلها عبر الحدود الدولية، خاصة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية، سواء تعلق الأمر بالتخلص منها أو لإعادة تدويرها وهذا ما ينبئ بحدوث كوارث بيئية، لذلك أصبحت الحركات البيئية منذ مدة مهتمة بجميع جوانب البيئة الطبيعية، وبدء العمل على النتائج البيئية، وتحليل المخاطر ووضع تدابير تشريعية جديدة على المستوى الوطني و الدولي.
ولئن كانت هذه القضايا أو العناصر المختزلة تستمد منها الأطروحة مشروعيتها وأهميتها الدراسية والعلمية، فإنها لا تخفي بالمقابل طبيعة الانتظارات والأهداف التي تنتصب أمام عينيها أو تتطلع إلى تحقيقها، والتي يمكن اختصارها فيما يلي:
ارتباط موضوع الدراسة بعامل جد حساس ألا وهو الناقل البحري، وخاصة ما يتعلق بجانب مسؤولية الناقل البحري، الذي يظل حقلا خصبا بين التشديد والتخفيف، وذلك باستخدام النظر والسبل التي تحدد المسؤولية وأساسها، كما تزداد أهمية الموضوع في كونه ينطوي تحت نطاق القانون الخاص عموما والقانون البحري على وجه الخصوص، لأن هذه الحمولات التي تنقل عبر البحر هي بضائع خطرة.
وبالرغم من تعدد الأبحاث والدراسات المتعلقة بمسؤولية الناقل البحري، فهي تختلف وتتنوع بشكل يستعصي معه الحصر والتعداد، خاصة أن موضوع المسؤولية القانونية الملقاة على عاتق الناقل البحري عرف تطورات تشريعية، منها مجموعة من الاتفاقيات، جعلت من هذا الموضوع مادة دسمة للكتابات القانونية وموضوعا يتميز بالتغير والاستقرار تارة أخرى، وهذا ما ظهر بشكل واضح من خلال المعالجات الفقهية، وكذلك التحليلات الأكاديمية العلمية، فقد نتحدث هنا عن المسؤولية المتعلقة بالناقل البحري دون موضوع نقل النفايات الخطرة لذلك كثرت الكتابة عن موضوع مسؤولية الناقل البحري وهي ظاهرة طبيعية تنسجم وتتماشى مع أهمية الموضوع وخطورته وحيويته، مادام النقل البحري كان في الماضي ولا يزال مستقبلا، نظرا لاهتمام جل الفئات به وكل الفاعلين من مقاولين ومستثمرين وباحثين وبحارة وعمال البحر وأرباب السفن.
بيد أن بلوغ هذه المرامي والأهداف العلمية التي آثرت الأطروحة السعي إليها جاهدة بما تسنى لصاحبها من معرفة متواضعة، قد كانت توقد وهج التوجس والانشغال بها، ومن ثمة الانخراط في خوض غمارها مجموعة من الإشكالات والأسئلة التي أرّقت الباحث طوال سنوات غير يسيرة من التأمل والتفكير، فوجهته إلى النبش في المسؤولية عن نقل النفايات الخطرة.
وعليه، كانت من بين تلك الإشكاليات المعرفية المركبة التي تجاذبت عناصرها فضولنا المعرفي إزاء الموضوع، نسوقها اختزالا في السؤال التالي:
إلى أي حد استطاعت الاتفاقيات الدولية والتشريعات الوطنية تحديد مسؤولية الناقل البحري للنفايات الخطرة؟
وللإجابة عن هذه الإشكالية الرئيسية، اقتضت الضرورة المنهجية في معالجة هذا الموضوع وإشكالاته المعرفية المتعالقة به ، أن نعمد فيه إلى تبني مقاربة تكاملية تجمع بين المناهج والاختيارات الموازية التي تبدَّت لنا كفايتها الإجرائية في هذه الدراسة، لكونها كفيلة ببلوغ الإجابة المنشودة، والغاية العلمية المرجوة، والأهداف المنتظرة، حيث استرشدنا في هذه الأطروحة بالمنهجين التحليلي الوصفي والمقارن، في وصف هذه الظاهرة المدروسة وتحليل مكوناتها ومتعلقاتها، خصوصا أمام ما يشوب الموضوع من فراغ تشريعي فيما يخصه بصفة دقيقة، لذلك تم الوقوف عند مجموعة من التشريعات الأجنبية، والتي تظهر أهمية حداثتها في الموضوع.
أما من حيث الصعوبات التي اعترضتنا في هذا الموضوع، فإنه لم يكن بالسبيل المُدَلَّل المُتاح، ولا بالباعث على موفور الارتياح، ومن أشد ما كابدناه من تلك الصعوبات :
- عدم وجود قوانين وطنية خاصة يمكن الاستناد عليها في هذه الدراسة لمناقشة كل ما يتعلق بالموضوع، وهو ما انعكس على حجم المراجع القانونية والفقهية المغربية، ومن تم تظهر ندرة المراجع المغربية، وهو ما نتج عنه الاعتماد بدرجة أولى على التشريعات المقارنة.
- حداثة مشكلة البيئة البحرية التي تعد أهم ضحايا الناقل البحري لنفايات الخطرة ما يجعلنا نخصص له حيزا يليق به دون اغفال باقي المجالات البيئية المتضررة من هكذا نشاط، التي نجم عنها ندرة كبيرة في الأحكام القضائية.
- غموض مصطلح البيئة البحرية وصعوبة تحديد مدلولها القانوني وماهيتها.
- خصوصية الموضوع التي تعود إلى صفته المزدوجة، فهو يقع في مجال القانون الخاص وقانون البيئة، وكذلك يتعلق الموضوع بالمسؤولية القانونية التي تم تقسيمها إلى المسؤولية الجنائية والمدنية للناقل البحري للنفايات الخطرة، فالجمع بين السؤوليتين يضفي على الموضوع نوعا من الخصوصية المميزة، فبالرغم من وجود دراسات عديدة التي تناولت موضوع المسؤولية عن الأضرار البيئية، إلا أنه ليس من بينها –بحسب علمنا– دراسة تناولت موضوع المسؤولية القانونية للناقل البحري للنفايات الخطرة بصفة خاصة.
وإذا كانت هذه الندرة في الدراسات والأبحاث المتخصصة حول هذا الموضوع لها بعض ما يسوغها، فقد عانينا بموجبها عناءً شديداً جعلنا نشقُ –لسنوات غير قليلة– مساراً طويلاً من الاستقصاء والتقصي والتحرّي وغير ذلك في النظر والإطلاع على عشرات المراجع من الناحية النظرية، أملاً في أن نرسي مشروعنا الدراسي لهذه الأطروحة على نحو نتغلب فيه بوجه من الوجوه على هذا الشح وقصوره بما من شأنه أن يمكننا من بلوغ مادتنا المعرفية لهذه الدراسة ومباحثها المتباينة بما يجعلنا نستوفيها حق قدرها.
وقد بنيت أطروحتي هاته على ركيزتين أساسيتن (بابين) تتضمنها أربعة فصول موزعة على ثمانية مباحث، و مقدمة تؤطر مداخلها المعرفية والمنهجية، وخاتمة تسوِّرُها بالدفء مجموعة من الخلاصات والنتائج التي تتناغم في محصلتها مع البناء العام لصرحها الذي لم أبخل أو أتهاون –على طول الاشتغال– في جرّ وبرها وغزله كما ينبغي أولاً وحتى نسجه على الوجه الذي بين أيديكم ثانياً، فإن صلح العمل فمن توفيق الله ومثابرة صاحبه وإن لم يصلح فحسبه أن ينتفع من تهذيبكم وإرشادكم وما قد تتفضلون به في هذه المناقشة العلمية المباركة من توجيهات و انتقادات.
فأولى هاتين الركيزتين يمثلها الباب الأول الذي وسمت عنوانه بـ “المسؤولية الجنائية للناقل البحري للنفايات الخطرة”، وقد جعلته على فصلين؛ خصصت الأول لـ “تطور الأساس القانوني للمسؤولية الجنائية للناقل البحري للنفايات الخطرة”، حيث تحدّثت في المبحث الأول منه عن “طبيعة المسؤولية في الاتفاقات الدولية للناقل البحري للنفايات الخطرة“، من خلال التوقف عند هذه المسؤولية في إطار الاتفاقيات الدولية وتطور هذه القواعد، فيما أوقفت المبحث الثاني على “أساس تجريم نقل النفايات الخطرة من خلال التشريعات الوطنية“، وأما الفصل الثاني منه، فقد أفردته للنظام العقابي في جرائم تلوث البيئة البحرية بالنفايات الخطرة، حيث وزعته على مبحثين اثنين، هم الأول الحماية الجنائية للبيئة البحرية، عرجت فيه على البيئة البحرية التي تعد المجال المكاني الذي تمر فيه النفايات الخطرة في طريقها من ميناء الشحن الى ميناء التفريغ وهي مرحلة يكون من الصعب مراقبتها وضبط أفعال التخلص من النفايات الخطرة في أعماق المحيط التي قدرها برنامج الأمم المتحدة للبيئة في 20 مليون طن سنويا، والثاني تطرقت فيه للحماية الجنائية للبيئة البحرية كعنصر مهم وما ينتج عن هذه الجرائم، وختمنا هذا الباب بالتطرق إلى الأركان التكوينية لجريمة نقل النفايات الخطرة.
أما ثاني الركيزتين، فيجسدها الباب الثاني الموسوم بـ “المسؤولية المدنية للناقل البحري للنفايات الخطرة“، والذي تدرج على فصلين؛ حيث أفردت الأول منهما لـ “أساس المسؤولية المدنية عن الأضرار البيئية للنفايات الخطرة”، موزعاً إياه على مبحثين اثنين هم الأول المسؤولية المدنية القائمة على الخطأ الواجب الإثبات، وذلك عبر التطرق إلى الأساس القانوني للمسؤولية المدنية عن الأضرار البيئية التي يكون سببها النفايات الخطرة، سواء ما تعلق منها بالمسؤولية المدنية القائمة على الخطأ الواجب الإثبات، ومرورا للمسؤولية التقصيرية عن الضرر البيئي أو ما يرتبط بالأركان، والثاني تناولت فيه أحكام المسؤولية المدنية عن أضرار النفايات الخطرة.
فيما عمدت في الفصل الثاني، إلى دراسة آثار المسؤولية التقصيرية عن أضرار التلوث بالنفايات الخطرة، حيث وزعته إجرائيا على مبحثين قدمت في الأول المسؤولية التقصيرية عن أضرار التلوث البيئي عن طريق الخطأ الواجب الإثبات، وللفعل المنتج للضرر وكل ما تعلق بالبيئة المائية، كما خصصت حيزا مهما لمرتكب فعل التلويث ومدى مساءلته، فيما أوقفت المبحث الثاني لآثار الضرر المترتب عن النفايات الخطرة، وخاصة الطرق المعتمدة في تقدير التعويض عن الأضرار البيئية المحضة.
وفي الأخير سَوَّرت ركيزتي الأطروحة بخاتمة عامة، استجمعت فيها أهم النتائج والخلاصات التي توصلت إليها بشأن الموضوع، ثم ذيلتها في النهاية بإثبات للائحة المصادر والمراجع التي اعتمدتها أو تزوّدت منها في بناء هذه الدراسة، معززاً إياها بفهرس الموضوعات (المحتويات).
وهكذا، وعلى الرغم مما اكتنف بناء وإنجاز “كائن” هذه الأطروحة من وعورة في المسالك، ومشقة محفوفة بالمهالك، وما شغلته من عديدِ السَّنوات والجهد، وطوال الليالي والوكد، فقد كان ارتياد موضوعها ارتياداً وبحثاً استثنائياً، لا يخلو من الطَّرافة ومتعة الاستطلاع، وفضول التحرّي والاستكشاف، ركبت فيه جناح المخاطرة، ومطيَّة المغامرة سالكاً مجاهله الموحشة الطويلة، مُسوّداً بياضاته الماحقة، متزوّداً –على حال المألوفِ في عُرفِ الرِّيَّادِين– بقناعة عقد التصميم والإصرار، وإرادة العزم والانتصار، مُتجلّدا بالإيمان وخالص الصّبر ، متأبطأ بأمهات المصادر والمراجع في بابه.
وعليه، فقد قادني الارتياد في رياض هذه الأطروحة أو الدراسة –في النهاية– إلى تحصيل مجموعة من الخلاصات والنتائج التي يمكنني إبرازها في النقط التالية:
- صعوبة سن تعریف جامع مانع شامل، أو وضع إطار واضح ومحدد لكل فئات وأنواع النفايات الخطرة، وذلك استنادا إلى أنه لم يتم بعد توثيق المخاطر المحتملة التي تسببها أنواع معينة من النفايات، ولا توجد اختبارات موضوعية لتحديد هذه المخاطر كميا، ومن الضرورة بمكان إجراء مزيد من البحوث من أجل استنباط وسائل لتمييز المخاطر المحتملة لهذه النفايات الخطرة على البيئة.
- الإنتاج المتزايد من النفايات الخطرة تضاعف أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، ولاسيما من القطاع الطبي والصناعي، هذا فضلا عن النفايات الالكترونية، ولتجنب الأخطار التي تلحق بالصحة البشرية، وجب تحديد ماهية النفايات الخطرة والنفايات الأخرى التي تخضع لنفس الأحكام العامة للقانون، وذلك بما يتوافق مع أحكام اتفاقية بازل لعام 1989 والاتفاقيات الدولية الأخرى ذات الصلة.
- إعتماد نموذج التشريع الذي اعتمده الاجتماع الثالث لمؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية بازل، وإصدار تشريع نوعي لإدارة النفايات الخطرة يتماشى مع المتطلبات الدولية للإدارة السليمة بيئيا للنفايات الخطرة والنفايات الأخرى، ويواكب التطورات العالمية في مجال حماية البيئة ويشتمل على قواعد ومبادئ القانون الدولي البيئي البحري، وبصفة خاصة مبدأ “الملوث يدفع”، ومبدأ المسؤولية الممتدة للمنتج وتأكيد لحق الإنسان في البيئة ومن واجبه الحفاظ عليها وحمايتها والعمل على تنمية الوعي البيئي.
- عدم الاتفاق على معيار محدد رغم اعتماد اتفاقية بازل لسنة 1989، التي تضمنت في ملحقها الأول على قائمة بالنفايات الخطرة، كما حدد الملحق الثالث للاتفاقية، عدة خصائص للنفايات الخطرة، وقد أدى عدم تحديد معيار لماهية النفايات الخطرة إلى خلل في تنفيذ أحكام الاتفاقية، الأمر الذي فتح المجال الإنتهاك هذه الأحكام من لدن العديد من الدول.
- حظر نقل النفايات الخطرة من الدول المتقدمة إلى الدول النامية، وكذلك إلى الدول التي تحظر استراد تلك النفايات، سواء بموجب تشريعتها الوطنية أو من خلال الانضمام إلى اتفاقيات دولية تحظر ذلك، كما يحظر نقل النفايات الخطرة إلى الدول التي تفتقر إلى امتلاك القدرة التقنية والمرافق اللازمة و المواقع المناسبة للتخلص من النفايات الخطرة بطريقة سليمة لن تضر بالبيئة على المدى الطويل.
- الاهتمام بمفهوم البيئة وتطورها الموضوعي وعلاقتها الوثيقة بالتنمية، وذلك من أجل تحقيق نمو اقتصادي جيد، فقد ثبت لنا من خلال ما سبق صعوبة وضع تعريف شامل ودقيق للبضائع الخطرة، وذلك لأن بعض المواد يكتشف كونها تحمل خصائص خطرة، ولكنها غير مدرجة ضمن قائمة المواد الخطرة التي نظمها القانون الدولي البحري للبضائع الخطرة.
- التنظيم الدولي للبضائع الخطرة يكاد أن يكون حديث النشأة في الوقت الحاضر، رغم أن الجهود الدولية متظافرة لغرض حماية البيئة البحرية من التلوث التي تعد البضائع الخطرة مظهر من مظاهره.
وفي ختام هذا التقرير نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون قد وفقنا في إحاطة جناب لجنتكم المحترمة في هذه المناقشة العلمية بأهم المداخل المعرفية والمنهجية التي أطرت موضوع هذه الأطروحة في شقيها المضموني والشكلي، آملين أن نكون قد أفرغنا الوسع فيه وفي بيان ورصد تلك المسؤوليات التي تقع على الناقل البحري للنفايات الخطرة، وحسب جهدي ما ارتضى وقصد، فإن كان لا يسمن، فلعله يغني من جوع، فإن وُفِّق في ذلك فذاك المطلب والمنى، وإن وقف دون ذلك، وتعثر بصاحبه القلم والقرطاس، فشفيعه نية الاجتهاد والمحاولة، والمجتهد مأجور أخطأ أو أصاب.
والله من وراء القصد وولي النعمة وإليه المآب.