مجلة مغرب القانونالقانون العامفؤاد الربع: الــــنـــظام الـــعالــمي زمــــــن كــــورونا

فؤاد الربع: الــــنـــظام الـــعالــمي زمــــــن كــــورونا

فؤاد الربع باحث في القانون الدولي والعلاقات الدولية

رئيس مركز الشرق للدراسات والأبحاث جرسيف

مقدمة:

 في زمن جديد أطلق عليه زمن كورونا ،لدلالته على تسارع انتشاره في مختلف دول العالم ، ولخطورته بإعتباره من أخطر أنواع الفيروسات التي عرفها القرن الواحد والعشرون ،هذا الزمن الجديد الذي اقترن اسمه بفيروس لايمكن رؤيته إلا رؤية مجهرية فاحصة ومتمعنة، وهو زمن دقيق وسريع في تغيراته ودلالاته وتأثيراته وانتشاره ، فيروس قدر له أن يقطع مع قرن متسارع كان قد أطلق عليه زمن العولمة.

فهذه الجائحة جاءت لتعيد طرح سؤال العولمة لا كظاهرة ميزت نظام العلاقات الدولية لفترة ليست بالهينة ، وإنما جاءت لتعيد سؤال تقييم العولمة ومخرجاتها.

فجائحة كرونا لم تقتصر على مجال جغرافي واحد فقط وإنما استفادت من مخرجات العولمة حيث أنها انتقلت من الصين إلى مختلف دول العالم في زمن يمكن القول عنه أنه تجاوز زمن العولمة،كما أن هذا الفيروس تم تعويمه وانتشاره بشكل واسع بفضل ما شهده عصر العولمة من تزايد وسائل الاتصال والمواصلات والطرق السيارة للمعلومات.

فموضوع كورونا في علاقته بالنظام الدولي أصبح حديث المتتبعين لنظام العلاقات الدولية وللدارسين المتخصصين وغيرهم ، حيث أنه وفي ظرف وجيز (زمن كورونا) كتبت العديد من المقالات التي تحدثت عن تغير  النظام العالمي، كما أن العديد من خبراء العلاقات الدولية نحو هذا المنحى،مؤكدين على أن النظام العالمي سيتغير مباشرة بعد كورونا.

ومن هذا المنطلق تنبع أهمية هذا الموضوع لكونه يبحث في متغيرات ستمس جوهر النظام الدولي ، إلا أنه وبالرغم من الحركية التي سيشهدها النظام الدولي ،هل يحق لنا أن نفترض قيام نظام عالمي جديد زمن كورونا؟وماهي ملامح هذا النظام ؟

ومنهم الفاعلون الجدد فيه؟

وهل لوباء كرونا دور في قيام هذا النظام؟وإن كان لهذا الوباء دور في تغيير النظام العالمي فمن الفاعل الحقيقي الذي يقف وراءه؟ وماهي مدخلات هذا النظام وماهي مخرجاته؟ وماهي آلياته؟ وماهي أهدافه؟ وما دور القوى الكبرى فيه؟

هذه الأسئلة وأخرى كثيرة كفيلة بأن تجيب على إشكالية محورية للدراسة وتتعلق بالبحث في مدى إمكانية تغير النظام الدولي في الظرفية الحرجة التي يمر بها العالم.

ولتناول هذا الموضوع سأحاول تقسيمه إلى محورين رئيسيين، أتناول في محور أول كورونا من النشأة و التطور إلى الأزمة.

على أن أتناول في محور ثاني: ملامح النظام العالمي بعد كورونا

المحور الأول: كورونا من النشأة والتطور إلى الأزمة.

سنحاول من خلال هذا المحور البحث في أسباب نزول هذه الجائحة حتى صارت وباءا عالميا  يقض مضجع السلطات في جميع أنحاء المعمور ، لنرصد في عنصر آخر انعكاسات هذه الجائحة على مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

1- كورونا النشأة والتطور

شكل فيروس كورونا منذ ظهوره لغزا حير العالم ولا زال إلى حدود هذه اللحظة التي نخط فيها هذه الكلمات حيث لازال البحث ساريا لفك شفرات هذا الفيروس، ولازالت المختبرات الطبية في البلدان المتقدمة تبدل قصارى جهودها في تنافس محموم على إيجاد مضادات حيوية لهذا الفيروس وتوفير دواء عاجل يحول بينه وبين العدد الهائل لحالات الوفيات ،وقبل أن نرصد ماخلفه هذا الفيروس فلابد من محاولة الخوض في أسباب النزول وما اكتنفها من غموض.

أ-متى وكيف ظهر فيروس كورونا؟

عرفت منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا باعتباره من الفيروسات التي قد تتسبب في المرض للحيوان والإنسان .ومن المعروف أن عددا من فيروسات كورونا  تسبب لدى البشر حالات عدوى  الجهاز التنفسي التي تتراوح حدتها من نزلات البرد الشائعةإلى الأمراض الأشد وخامة مثل متلازمة الشرق الأوسط التنفسية والمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة السارس، ويسبب كورونا المكتشف مؤخرا مرض “فيروس كورونا كوفيد 19” وهو مرض معد مرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة الشديدة (SARS-COV 2) (1).

هذا وقد اكتشف هذا المرض في دجنبر 2019 في مدينة ووهانالصينية ثم انتشر فيما بعد ذلك منذ منتصف شهر يناير 2020 حيث أعلنت عدة بلدان  في أوروبا وأمريكا الشمالية وآسيا والمحيط الهادئ عن وصول إصابات إلى أراضيها، ومنذ 31 يناير 2020 ثبت أن ثلثي المصابين في ووهان الصينية مرتبط بسوق الجملة للمأكولات البحرية في ووهان والذي يبيع مختلف الحيوانات الحية(2).

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في العلاقة مع ظهور المرض وانتشاره هو لماذا تأخرت الصين في الإعلان عن هذا الفيروس الخطير؟ مع الأخذ في الاعتبار الامكانات الهائلة التي تتوفر عليه الصين.

وكجواب على هذا السؤال الذي كان مادة دسمة للمواقع الإخبارية على اختلاف أشكالها وألوانها وشبكات التواصل الاجتماعي على تعدادها فقد وجهت عدة انتقادات للصين لتكتمها على المرض ولسياسة التعتيم التي مارستها ، الأمر الذي ساهم في تأخر مواجهة الفيروس القاتل(3)، وقد ذكرتصحيفة “نيويورك تايمز”الأمريكية أن سياسة التعتيم وتلميع السمعة الصينية ساهمت في تفشي كورونا “فالدكتور لي” كان أول طبيب كتب عن الفيروس ،مشيرا في مدونته إلى حالات مخيفة تشبه السارس، ومطالبا بإجراءات فورية تشمل العزل والحجر الصحي للتعامل معه(5).

وحسب ماجاء على لسان الموقع الرسمي لقناة سكاي نيوز فإن الحكومة الصينية أرغمت لي على توقيع مذكرة حكومية أدانته بنشر معلومات كاذبة ،وبتصرفات غير قانونية ،واعتقل لأيام بسبب هذه التهمة وكان ذلك نهاية دجنبر 2019.

وفي تقرير صادر عن مؤسسة SCMP columnist ترجمته مؤسسة الجزيرة الإخبارية صادر بتاريخ 25 يناير 2020 كتبه الصحافي الأمريكي الصينيالمخضرم ” شان غوي وانغ” تحت عنوان وباء البيروقراطية .. لماذا تأخرت الصين بالكشف عن حجم انتشار كورونا؟ أرجع وانغ سبب كل ذلك إلى البيروقراطية الإدارية والسياسية التي تعرفها الصين(6).

هذا التأخر الصيني في الإعلان عن المرض كان محط انتقادات الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” حيث اتهم هذا الأخير الصين بالتأخر في الإفصاح عن الكارثة مما أضر بالعالم وزاد من عدم السيطرة على الوباء.

وقال أيضا الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”:لو أفصح المسؤولون في الصين مبكرا عن كورونا لأمكن الحد من انتشاره(4).

فالرئيس “ترامب” اتهم الصين بشكل صريح في نشر الوباءحيث أطلق عليه اسم الفيروس الصيني،حيث أن الصين ومع بلوغ الأزمة دروتها ظلت تتحكم في المعلومات بإحكام ، وتتجنب المساعدة من مراكز مكافحة الأمراض والوقاية الأمريكي ، ومنعت منظمة الصحة العالمية السفر إلى ووهان، وأفادت Gaixin Global أن المختبرات الصينية قد قامت باكتشاف تسلسل جينوم الفيروس التاجي بحلول نهاية ديسمبر ،لكن المسؤولين الصينيين أمروا بتدمير العينات وعدم نشر نتائجها، وفي 30 دجنبر حذر الدكتور ” لي وين لاينغ” الأطباء الصينيين من الفيروس ، وبعد عدة أيام اتهمته السلطات المحلية بأكاذيب التيأخلت بشدة بالنظام الاجتماعي.

ومما يؤكد فرضية تأخر الصين في الإعلان عن هذا الفيروس هو تاريخ ظهوره وانتشاره في الصين حيث سجلت أول حالة بتاريخ 17 نونبر ومنذ ذلك التاريخ كان العدد يتضاعف كل يوم ،فإلى حدود 20 دجنبر بلغ عدد الإصابات إلى 60 حالة إصابة مؤكدة ، وفي اليوم الأخير من سنة 2019 ارتفع عدد الحالات المؤكدة بالصين إلى 266 حالة ،وفي اليوم الأول من العام الجديد 2020 بلغ العدد 381.

فبالرغم من الانتشار المتسارع للعدوى وإلى حدود 14 يناير 2020 قالت منظمة الصحة العالمية “لم تجد التحقيقات الأولية التي أجرتها السلطات الصينية أي دليل واضح على انتقال العدوى من شخص إلى أخر”.

وبتاريخ 22و 23 يناير ناقشت لجنة الطوارئ التابعة لمنظمة الصحة العالمية ما إذا كانت ستعلن COVID19 من”الطوارئ الصحية العامة ذات الاهتمام الدولي “، إلا أن المدير العام للمنظمة “تيدروسغيبريسوس” رفض الإعلان لاعتراضات الصين وأصدر الإعلان في 30 يناير ،ولم تعلن منظمة الصحة العالمية عن وباء الفيروس التاجي إلا بتاريخ 11 مارس 2020.

إن الغاية من سرد هذه التواريخ بالرغم من اختصارها الشديد لم يكن من قبيل الصدفة أو من قبيل الإطناب في الشيء وإنما بغية إثارة الشك حول السلوك الصيني في التعامل مع كورونا حتى انتشرت وابتلي العالم بها.

هذا الشك هو الذي أثار حفيظة الساسة الأمريكيين مؤكدين ما مرة  على دور الصين في انتشار هذا الفيروس، إلى جانب منظمة الصحة العالمية التي حملها ترامب المسؤولية الكاملة.إلا أن الرد الصيني لم يتأخر كثيرا حيث كتب “ليجيانزهاو”نائب رئيس إدارة المعلومات بوزارة الخارجية الصينية مؤكدا احتمالية أن يكون الجيش الأمريكي هو من جاء بفيروس كورونا الجديد “كوفيد 19 إلى منطقة “ووهان” في الصين التي تعتبر المنطقة التي بدأ وانتشر منها الفيروس في الألعاب العسكرية العالمية في ووهان في شهر أكتوبر(7).

وبعد أن انتقدت الصين ما جاء على لسان “ترامب” صرح هذا الأخير بأنه يقول بأن الفيروس الصيني فقط لأنه ظهر وانتشر في الصين.

إن الشك الذي تم الحديث عنه يفسر العديد من الاتجاهات الفكرية ويغذي الكثير من التحليلات السياسية للعلاقات الدولية وهذا ما سيتم التعرض له في المحور الثاني من الدراسة.

ففي خضم نظرية المؤامرة التي يغذيها الشك وعدم اليقين الذي يميز طابع العلاقات مابين الدول ظهر اتجاه ثالث يذهب إلى القول بأن ادعاء المؤامرة فيما يتعلق بفيروس كوروناعار من الصحة ولا أساس له من الناحية العلمية ، حيث جاء في دراسة نشرتها مجلة Nature العلمية المعروفة والتي تأسست عام 1869(8) أن فيروي كورونا المستجد هو الجيل السابع من فيروسات كورونا التي تصيب الانسان وأبرز الأجيال السابقة فيروس “سارس” المسبب للمتلازمة التنفسية الحادة والذي ظهر فيالعام 2003 وفيروس “ميرس” المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية والذي ظهر في العام 2012 وشارك في هذه الدراسة عدد من الباحثين في الأمراض الجرثوميةوالأوبئة والمناعة في جامعات أمريكية وبريطانية وأسترالية ونشرت في 17 مارس 2020 وخلص هؤلاء الباحثون إلى القول “تثبت أبحاثنا أن فيروس كوروناالمستجد ليس مصمما في مختبرات أو فيروسا معدلا ، وهو ما أكدته مجلة the Lancet” (التي تأسست عام 1823) الطبية العريقة في بيانها الصادر بتاريخ 19 فبراير 2020 حيث جاء في البيان “ندين بشدة نظريات المؤامرة (ConspirayTheory) التي تتحدث عن أن فيروس كورونا المستجد ليس طبيعي المنشأ”(9).

مقال قد يهمك :   خالد الإدريسي: دور الطعن بالنقض فــي ضمــان الأمــن القضائي

إذن هناك مجموعة من الحقائق العلمية التي أكدت طبيعة المنشأ ونفت أن يكون الفيروس من فعل فاعل.

وفي ظل هذا الخضم المليء بالتناقضات فإن كورونا لم يقف عندها وإنما تطور وانتشر كما تنتشر النار في الهشيم.

ب – تطور وانتشار كورونا:               

إن انتشار فيروس كورونا أضحى واقعا تتناقله مختلف شبكات الأخبار الوطنية والدولية وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي ، وجميع وسائل الإعلام المرئية منها والمقروءة والمسموعة،فكلها ترصد وتتبع عدد الوفيات وعدد الإصابات وعدد الذين تماثلوا للشفاء.

فتسارع الوسائل التقنية السريع أدى إلى صنع تطبيقات جد متطورة تستطيع بواسطتها تتبع المخالطين ومراقبتهم ، وتحديد أماكن تواجدهم ، وتطبيقات أخرى تتيح لك متابعة تطور الحالة الوبائية في العالم …

ولعل أبرز الصور الكارثية التي سيسجلها تاريخ كورونا هو تلك الصور التي تنقل عدد الموتى في ايطاليا واسبانيا وإيران ، إضافة إلى موقف القوة الذي أظهره الرئيس الأمركي “ترامب”الذي سخر واستهزء في البداية من فيروس كورونا مقللا من خطورته(10) ،معطيا الانطباع بأنه لن يمس الولايات المتحدة الأمريكية ، مكذبا معطيات منظمة الصحة العالمية رغم تحذيراتها ،مؤكدا أن بلاده مسيطرة على الوضع وأن الولايات المتحدة الامريكية ستعالج هذه الحالات وستصبح صفرا،وكان يقصد بذلك الخمسة عشرة حالة الأولى التي أصيبت داخل أمريكا، إلا أن قوة ترامب وإدارته سرعان ما ستتهاوى لصالح قوة فيروس صغير لايرى إلا بالمجهر،فيروس جعل ترامب يطلق الكلام على عواهنه ، وتسبب في إدخال العالم في أزمة لم يكن يتوقعها.

2- كورونا: الأزمة الفجائية والحلول المنتظرة.

لم يكن العالم يوما ما وخاصة في ظل تطور هائل للعلوم والتكنولوجيا أن يعيش أزمة فجائية خانقة، أطبقت عليه ولم تترك له الفرصة للتفكير واختيار الحلول المناسبة لمواجهته، لذلك سنناقش في هذه الفسحة العلمية واقع الأزمة وسبل الخروج منها.

أ-واقع الأزمة:

في ظل تزايد الاعتماد المتبادل بين الدول وفي ظل مكوكية سرعة المعلومات ،وفي ظل تزايد وسائل الاتصال والمواصلات ،فالفيروسات أيضا تعولمت واستفادت من حجم التواصل الهائل بين الدول وبين الأفراد،فكورونا منذ ظهوره وإلى حدود اللحظة استطاع الوصول إلى جل بلدان العالم تقريبا ،مخلفا وراءه أزمة كبيرة أطلق عليها أزمة كورونا .

فهذا الفيروس استطاع أن يشل الحركة الدولية واستطاع أن يغلق الحدود بين الدول ، بل وداخل البلد الواحد أغلق الاتصال بين مدنه وبلداته؛فاستطاع أن يبقي على الفرد داخل نطاق جغرافي محدود وقيدحركيته وحريته في التجول وقطع أوصاله العائلية.

فكرونا تسبب في شلل اقتصادي كبير للعالم مخلفا وراءه خسائر مادية لا تعدولاتحصى(11) ،وتسبب في انهيار الأسهم، وأسعار السلع والنفط …وغيرها كثير. واستطاع هذا الفيروس أن يحجر على الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية لأغلب بلدان العالم.

كما أن هذا الفيروس جعل قطاع الصحة في أغلب البلدان على المحك ، حيث استطاع التغلب على أفضل الدول تطورا في المجال الصحي (12)،إذ شهد تقدمها الطبي مدى عجزها على أن تتحمل قوة هذه الجائحة.لن أستطيع حصر خسائر كورونا لأن كورونا أقوى من الخسارة نفسها  ولن تستطيع البشرية إحصاء خسائرها إلا بعد القضاء التام والنهائي عليها .

وتنبغي الاشارة في هذا الصدد إلى الحكمة العربية القائلة “مصائب قوم عند قوم فوائد” والتي أرنو من ورائها إلى القول بأن من يستثمر الأزمة الاستثمار الأمثل يستطيع أن يخرجرابحا منها،فقطاعات انتاج المواد الطبية (أجهزة التنفس،الأقنعة… وغيرها ) استطاعت أن تراكم ثروات مهمة في ظل الأزمة ، واستطاعت أن تبلغ طاقتها الانتاجية الشاملة .

ب –أزمة كورونا أي سبيل لتجاوزها؟

لايختلف اثنان ولا يتناطح كبشان حول الخسائر الكارثية التي ستخلفها جائحة كورونا،فإلى جانب الخسائر المادية التي مست الأرواح والأموال والأرزاق ففيروس كورونا ستكون له آثار نفسية وخيمة إلى جانب تأثيرات سياسية واقتصاديةواجتماعية وثقافية وتربوية …فما السبيل لتجاوز أزمة كورونا؟

تتسارع الكتابات لإيجاد حلول للأزمة التي ستتركها كورونا وعدد مهم من الدراسات وضع سيناريوهات لما بعد كورونا(13) ، وكل يدلي بدلوه لإيجاد تصورات حول مابعد كورونا (14)،إلا أنه وبالنظر إلى أن الأزمة مست البلاد والعباد بمعنى أنها أزمة عامة وشاملة ؛فإن الحل المقترح لن يتأتى إلا وفق مقاربة شمولية تأخد بعين الاعتبارالأولويات دون ترك ماعاداها ، ومهما قدمت من مقترحات فإنها ستبقى عناصر موجهة بالنظر إلى قيد التخصص ومن ضمن هذه المقترحات التي من شأنها أن تساعد المغرب وغيره من الدول السائرة في طرق النمو نذكر مايلي:

  •  تتبع الوضعية الوبائية مع البحث عن سبل العلاج التام والقضاء على الفيروس بشكل نهائي.
  • تشكيل لجنة مشتركة قطاعية لدراسة سبل الخروج من الأزمة بأقل الخسائر، ودعم ومساعدة جميع القطاعات(15).
  • حماية الاستقرار المالي ودعم النشاط الاقتصادي عن طريق الاستثمار في الأزمة .
  •  دعم الشركات والمقاولات الصغرى عن طريق الإعفاء الضريبي المؤقت ،إضافة إلى المساعدات المادية المباشرة والغير مباشرة  وخاصة التي تضررت خلال إقفال الأسواق العالمية كضمان لعودتها للأسواق بعد انتهاء الأزمة.
  • تحفيز القطاعات التي تجابه الأزمة والتي توجد في الصفوف الأمامية (الصحة ,الأمن ,النظافة).
  • فرض الضريبة على الأرباح وخاصة على الشركات التي استفادت من الريع الاقتصادي وحققت أرباحا طائلة في السنوات القليلة الماضية.
  • تشجيع الانتاج المحلي للتوجه نحو الاستثمار في قطاعات الأزمة.
  •  دعم قيم روح المواطنة وتحمل المسؤولية.
  •  إحياء الثقة في الذات وحب الوطن والتضحية .
  • تعزيز روابط التضامن .
  •  التحفيز والدعم والتشجيع على البحث العلمي والتحصيل العلمي .
  • وضع سيناريوهات للأزمات وللأعداء المحتملين والبحث في طرائق لمجابهتها وكيفية الاستعداد لها ووضع استراتيجيات استباقية والعمل وفقها عن طريق دعم علم المستقبليات وعلم الاستشراف وإنشاء مراكز للدراسات والأبحاث في كل جهة ،وتوفير الامكانيات المادية والمعنوية لها.
  •  إحداث فرق علمية متخصصة من داخل مراكز الأبحاث والدراسات متفرغة للبحث العلمي بمختلف تخصصاته وتفرعاته.
  • زيادة الأدوار التوجيهية للدولة وفق المخططات الوطنية.
  • خلق منصة تفاعلية بين مركز القرار ومراكز البحث الجهوي.
  •  تقوية المنتوج المغربي والمقاولات المغربية ودعم استثماراتها سواء في الداخل أو الخارج.
  • التعامل مع شركاء جدد وفق منطق رابح –رابح .
  • الحفاظ على العلاقات المغربية مع أوروبا مع تحسين موقع المغرب وفقا لما يخدم توجهات المغرب الاستراتيجية.
  • البحث عن تحالفات قوية  ليست مبنية فقط على المصلحة المادية والاستغلال من طرف واحد.
  • التخلص من التبعية تدريجيا مع العمل في صمت .
  • دعم عناصر القوة الوطنية ، واستغلال الامكانيات المتاحة أحسن استغلال .
  • الاهتمام بالموارد البشرية باعتبارها المحرك الأساسي للتنمية.
  • إنشاء صندوق خاص بلأزمات وخلق وحدة بحثية تدرس الأزمات.
  • الاعتماد على الذات وتحقيق الأبعاد الاستراتيجية لمفهوم الأمن.
  • تشجيع البحث العلمي.
  • الاعتماد على منظومة القيم الوطنية ودعم الأسرة باعتبارها النواة الأساسية للمجتمع.
  •  تقوية الشعور العام للمغاربة بالانتماء إلى الوطن والقدرة على النهوض في مختلف المجالات.
  •  توجيه الاعلام لما يخدم برنامج التنمية الوطنية.
  •  التركيز على قطاع التعليم والصحة باعتبارهما أهم ركيزتين لصنع إنسان قادر على رفع التحديات.
  •  ترشيد الانفاق العام وتوجيهه لخدمة أهداف التنمية.
  • مواكبة التطور المعلوماتي الهام من خلال أعمال الرقابة والتوجيه.
  •  الضرب بيد من حديد على ناهبي المال العام.

المحور الثاني :ملامح النظام العالمي مابعد كورونا.

سيحاول هذا المحور الاجابة على سؤال جوهري وهو هل نحن فعلا أمام تشكل نظام عالمي جديد؟

إن محاولة إيجاد اجابة عن هذا السؤال الجوهري لكفيلة بالمساهمة في إزالة الضبابية وعدم وضوح الرؤيا التي يعرفها العالم بعد تفشي كورونا(16).

فعالم اليوم يعيش ويتخبط في أزمة لم يكن يتوقعها ، والأمر من ذلك هو أن السياسيين مرتبكون في إتخاد قرارات سيادية للتعامل مع هذه الأزمة، وهذا لايرجع بالأساس إلى الجبن السياسي ، بقدر مايرجع لحسابات التكلفة المادية والبشرية لميزان الربح والخسارة واستراتيجيات الحفاظ على قوة الدولة ومكانتها الدولية.

إن رائحة الموت التي خلفها كورونا في إيطاليا جعلت العالم يرتعد إلى درجة أن صرح بعض الزعماء والمسؤولين بأننا في حالة حرب(17).

لذلك فإن ما يشهده من هلع وتسابق للحصول على الأدوات الطبية ،ومن خطوات احترازية استثنائية تجد مبرراتها في حالة الحرب هاته، وهو ماجعل العديد من الدارسين والباحثين في العلاقات الدولية يتحدثون عن نظام دولي جديد قيد التشكل ،وأن زمن مابعد كورونا لن يكون ماقبله .وأن العالم مابعد كورونا لن يكون عالم ماقبلها(18).

إذن فماهي المتغيرات الجديدة التي أدت إلى التبشير بميلاد نظام عالمي جديد؟وماهي معالم هذا النظام؟ وماهي أسسه وضوابطه؟وماهي تركيبته الجيوستراتيجية ؟وماهي رهاناته؟ وماهي أساليب إشتغاله؟

في الحقيقة ونظرا لراهنية الموضوع فإن هناك أسئلة كثيرة تحتاج إلى أن تنتظم وفق نسق علمي وبحثي لكي تحاول الاجابة والخوض في موضوع جد هام ويصعب الإبحار فيه دون عدة وخطة استراتيجية.

أولا:النظام العالمي الجديد ومآل الزعامة الأمريكية.

بعد انهيار المعسكر الشرقي وتزعم الولايات المتحدة الأمريكية قيادة العالم  ساد العصر الأمريكي اقتصاديا وعسكريا وسياسيا واستراتيجيا وتمددت أسس النظام اليبرالي وعم النموذج الأمريكي في الحياة ، ولم يكن أحد يجرؤ على معارضة السياسة الأمريكية وفقا لمقولة من ليس معنا فهو ضدنا،إلا أنه وفي الآونة الأخير  سجل صعود هائل لاقتصاديات بعض البلدان الآسيوية وعلى رأسها الصين، كما سجل عودة الذب الروسي إلى لعب دوره على الساحة السياسية الدولية (19).

و ظهرت كتابات تتحدث عن نظام متعدد الأقطاب في ظل بروز قوى جديدة قادرة على التأثير  في نظام العلاقات الدولية ،ولها إسهامات مهمة يه ، إلا أن الصعود القوي للصين وتزايد حجم تجارتها البينية وحجم ناتجها الخام ، وتزايد حجم مديونيتها  للدول ، وتفوقها التكنولوجي ،إلى جانب نهضتها الشاملة في العديد من القطاعات ،وصعودها السلمي الهادئ ،إضافة إلى امتلاكها للعديد من مقومات القوة الأخرى ،فهي تحتل اليوم المرتبة الثانية في العالم على الصعيد الاقتصادي ،والمرتبة الاولى في الناتج الداخلي العام (20).

مقال قد يهمك :   نور الدين لعرج: القيود الواردة على تداول أسهم شركة المساهمة في القانونين القطري والمغربي

فالصعود المتسارع للصين أدى إلى انبهار العالم بالتجربة الصينية وظهرت عدة كتابات تتحدث عن تحول القوة نحو الشرق.

وحذرت العديد من الكتابات من استيقاظ التنين الصيني ،وذهبت كتابات أخرى إلى القول بأن الاقتصاد الصيني سيتفوق على نظيره الأمريكي بحلول العام 2030،وقد بدت بعض عناصر التفوق التكنولوجي الصيني جلية للعالم بعد ما حققته شركة هواويHUAWEI من تفوق على نظيراتها في آسيا وأوروبا وأمريكا.

وجاءت سكرة كورونا بحديث عن بداية تشكل نظام عالمي جديد فهل يصدق القول إذن؟

 أ-آثار كورونا على النظام العالمي:

لازلت أتذكر إلى عهد قريب نقاشا علميا مع أستاذي الدكتور حسن عنبري وهو خبير في علم الجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية، حينها سألته هل نحن أمام نظام عالمي جديد؟

فكانت إجابته أن الحديث عن نظام عالمي جديد مسألة سابقة لأوانها،والجائحة أكيد أن لها آثار على العلاقات الدولية  بصفة عامة.

وفي مقال للأستاذ خالد حجي تحت عنوان ما معنى «  قبل كورونا ومابعده » وأكد أنه يخيل له أن فكرة ماقبل ومابعد كورونا تحضر العقول للقبول بحتميات جديدة لا سبيل إلى دفعها(21).

وفي اتجاه معاكس للرأيين السابقين قامت مجلة “فورين بوليسي”الدائعة الصيت باستطلاع للرأي هم كبار المنظرين في العلاقات الدولية في العالم (ستيفان والت،ريتشارد هاس، نيكولاس بيرنز،كيشورمحبوباني ،جون ألين ، جون ايكينبري،شيفشانكارمينون ) حول تقديرهم الأولي المختصر لتداعيات جائحة كورونا على النظام الدولي وتوازناته ، وخلصت المجلة إلى تقاطع الخلاصات الرئيسية لغالبيتهم ، رغم تباين خلفياتهمالفكرية، وأبرزها تعزيز دور الدولة القومية وتزايد الضوابط والكوابح للعولمة وتسريع عملية انتقال مركز الثقل الدولي من الغرب إلى الشرق.

وكتقييم أولي لهذه الاتجاهاتالفكرية يتضح منذ الوهلة الأولى أن النظام العالمي ليس بصدد تغير جدري مباشرة بعد القضاء على فيروس كورونا ، وإنما هناك تغيرات شتى مست سلوكيات كل من الدول والأفراد والقيم والأفكار السياسية وفي المفاهيم والأدوار وغيرها ،وأن هذه التغيرات هي من ستعجل وتفسح الطريق وتسرعها في تغيير وتشكيل نظام عالمي جديد،وفي انتقال مركز الثقل من الغرب نحو الشرق ، ومن أبرز هذه المتغيرات نجد:

~ تزايد السلطوية في النظم السياسية وتراجع حقوق الانسان:

مباشرة بعد انتشار كورونا برزت إلى السطح سياسات عمومية أبانت كلها عن ازدياد دور الدولة والسلطة السياسية في الهيمنة على القرار دون إشراك لباقي الفاعلين(22)، وأعلنت أغلب الدول إن لم نقل جلها قانون الطوارئ الذي بموجبه تستحوذ الحكومات  على أغلب الملفات ، وقد يجد هذا التحول تبريره في حالة الخطر المحدق الذي يتطلب سرعة كبيرة في التصرف والحركة .

إلا أن حالة الطوارئ رغم ما تجده من مبررات فإن هذا لا يمنع من احترام القانون ، وفي هذا الإطار لاحظ العالم العنف الذي مارسته الشرطة الاسبانية في حق عدد من المواطنين الاسبان منهم والأجانب ، وكذا العنف الذي مارسه قائد ضد أحد الأشخاص عن طريق سحله وصفعه،وهنا نستحضر مقولة قالها “ديفيد كاميرون”حينما قال :حين يتعلق الأمر بالأمن القومي لبريطانيا لاتحدثني عن حقوق الانسان.

~ عالم بدون إنسانية:

لاحظ الجميع كيف سخر رئيس أكبر دولة في العالم من الصين وهي تحصي ضحاياها منتشيا بأن بلاده مسيطرة على الوضع ،كما لاحظ العالم كيف تجابه دولة ترزخ تحت الحصار جائحة كورونا بإمكانيات ذاتية دون أن تقدر الدول العظمى حساسية الظرفية  وترفع منه ولو جزئيا لشراء المتطلبات الصحية ،إذ حذر الرئيس الفرنسي ايران من استغلال كورونا لتطوير برامجها النووية والتنصل من إلتزاماتتها ،عوض التعاون معها في ظرف أقل مايمكن القول عنه أنه خاص.

كما لم يتألم العالم ولم ينتبه لمعانات آلاف اللاجئين الذين يعانون من الويلات جراء الحروب وجراء تفشي الجوع والأوبئة وقلة الغداء والماء والمأوى إلى جانب الخطر الداهم لكورونا(23).

كما شهد العالم كيف تخلت أوروبا الموحدة عن دعم حليفاتها في صربيا وإيطاليا التي لم يبقى لها إلا أن تستسلم للفيروس لولا المساعدات الروسية والصينية.

كما أن التاريخ لن ينسى أعمال القرصنة الدولية التي ارتكبتها دول لطالما تشدقت بقيم الحرية والديمقراطية والعدالة….(24)

~ تزايد الاعتماد على التقنية والانترنيت في الحياة اليومية:

في خضم عصر هيمنت عليه وسائل الاتصال الحديثة ، لم يعد بالامكان على الانسان أن يبقى في معزل عنها، فقد لاحظ العالم الدور الذي لعبته الوسائط الاجتماعية في تشكيل رأي عام مناهض للسياسات الحكومية وللأنظمة السياسية القائمة، وجاءت كورونا لتعزز وتكرس اتجاه الاعتماد على المعلوميات والإنترنيت بشكل خاص ،

ففي ظل الحجر الصحي تزايد الاتصال بالعالم الخارجي عن طريق الإنترنيت ،وأصبح الأداة الرئيسية لفك العزلة والترفيه عن النفس ،بل وأكثر من ذلك فإن أغلب الحكومات قامت بتسطير برامج التعلم عن بعد عن طريق الانترنيت ، وازداد عدد الاستشارات الطبية في العالم عبر الانترنيت بعدما ظلت فكرة التطبيب عن بعد على الهامش طوال عدة سنوات(25).

~ عودة الاعتبار للعلم والعلماء:

بعد أن سادت التبعية العلمية والمعرفية لمدة قرون للغرب وللدول الكبرى والتي كانت ليبراليتها المتوحشة تقوم على الاستهلاك وضمان التفوق العلمي لها والتبعية الاستهلاكية لما عداها من الكيانات ،إلا أنه وبمجردانتشار وباء كورونا انشغلت الأنانية الليبرالية للدول الكبرى بالبحث عن مخارج لنفسها من المأزق الذي فرضته كورونا فراحت الدول الكبرى بشركاتها العملاقة تبحث عن منفذ لنجاة شعوبها من الموت عن طريق صنع آلات التنفس الصناعي و الأسرة والكمامات وأنابيب التحليل ..

ومستغلة أيضا حجم الثروات التي راكمتها من خلال نظام العولمة في الاستحواذ على كل ما يخدم صحة شعوبها من الأسواق الدولية، وبقيت الدول الفقيرة والدول المتخلفة عاجزة  تنتظر وتتفرج في ما أنتجته طوال سنين من تخلف وجهل ،وهكذا سارعت جل الدول العظمى إلى دعوة مختبراتها للتسابق مع الزمن لإيجاد لقاح أو دواء للقضاء على كورونا وهو ماسيمكنها من استغلال الظرفية وحصد أموال عن طريق السبق العلمي ،إلا أن هذه الأنانية الإمبريالية (رغبة دونالد ترامب في شراء المختبر الألماني للأدوية، وردت عليه أنجلا ميركل بألمانيا ليست للبيع) حفزت العديد من الدول إلى إعادة الاعتبارللعلم ولكوادرها في محاولة منها الاعتماد على الذات وعلى الإمكانات المتاحة للتصدي للجائحة وإعمال عقولها لإيجاد منفذ يحفظ بقائها وبقاء شعوبها(26).

~ زيادة روح التضامن:

كما يقال في الأزمة يعرف الرجال ، لعله أصدق تعبير يطلق على حجم التضامن الذي أبان عليه المغاربة وغيرهم في هذه المحنة ، حيث شهد المغرب تضامنا شاملا ،شعبا وملكا ، وغنيا وفقيرا،حيث تم إنشاء صندوق مكافحة جائحة كورونا،فلولا هذا التضامن الاستثنائي لما استطاع فرض نظام الحجر الصحي الذي قلل نسبيا من حجم الخسائر.

ومما زاد من  فعالية مبدأ التضامن العقيدة الاسلامية السمحاء التي تدعو إلى التضامن والتآزر وقت الشدائد وفي غيرها ، إضافة الى التقاليد المغربية الراسخة والتي تنهل من مبادئ الاسلام التي على التعايش والتضامن والتسامح (27).

والمغرب ليس استثناء من ذلك، فغالبة الدول شهدت مبادرات للتضامن،إلى جانب تشجيع ودعم الأطر الصحية وأفراد الأمن.بل ذهب البعض أكثر من ذلك إلى المواكبة النفسية للأطفال.

ب-كورونا :هل تحول ميزان القوى نحو الشرق؟

كما تمت الاشارة من قبل فإن جائحة كورونا أدت بالمنابر الاعلامية الدولية إلى طرح سؤال هل نحن أمام نظام عالمي جديد؟ وأن عددا مهما من السادة المنظرين للعلاقات الدولية كانت أغلب تصريحاتهم متجهة في اتجاه تغير النظام العالمي الحالي .

وفي هذا الاطار أكد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ومستشار الأمن القومي في عهد الرئيس نيكسون “هنري كيسنجر” أن جائحة فيروس “كوفيد 19” ستغير النظام العالمي للأبد ، وأن تأثيرها المضر على الصحة العامة قد يكون مؤقتا إلا أن الأزمة السياسية والاقتصادية التي خلفها تفشي الفيروس ستستمر إلى أجيال عديدة.

إذا كان “هنري كيسنجر” والذي خبر دواليب السياسة الخارجية الأمريكية يؤكد ما دهب إليه العديد من الدارسين للعلاقات الدولية، فلاشك أن أمرا مريبا سيحدث وهو مايستدعي طرح المزيد من الأسئلة من قبيل هل زمن كورونا هو اللحظة الفارقة  في تحول النظام العالمي؟

أكيد أن النظام العالمي يحتاج إلى زمن قصد التحول ،ألا يمكن القول أن ما تنبأ به بعض الدارسين من قبل  بخصوص تحول ميزان القوى نحو الشرق قد آن أوانه؟ بالرغم من أنهم كانوا قد حددوا كمتوسط لتحقق ذلك سنة 2030 ، وإن سلمنا بذلك فكيف ستكون تركيبة المجتمع الدولي؟وماهي أسس وضوابط هذا النظام العالمي الجديد؟ وماهي الرهانات التي يمكن أن تشكل أفقا للنظام العالمي الجديد؟

أ-زمن كورونا والتحول نحو الشرق

لعل رمزية هذا العنوان تشير بالأساس  إلى التأثيرات التي خلفها هذا الفيروسمن جهة وإلى اعتبار هذه اللحظة لحظة مفصلية  لابد وأن تقف عندها مختلف الدراسات التي تهم حقل العلاقات الدولية ،بالنظر إلى حجم عدد الموتى الذي خلفته وبالنظر لحالة الركود العام الذي يشهده الاقتصاد العالمي وبالنظر لحجم الخسائر المادية التي سيخلفها ولو لم  يحن الوقت بعد لتحديدها بالتفصيل.

وكما قيل فإن من يستطيع السيطرة على هذا الفيروس أولا إلا وسيخرج منه رابحا ،وفي هذا الصدد استطاعت عدد من الدول الشرق آسيوية السيطرة على هذا الفيروس، واستعادت عافيتها وانطلقت نحو التصنيع وغزو الأسواق العالمية بالمنتجات وخاصة منها المتعلقة بوسائل محاربة كوفيد 19.

فالصين وتايوان وكوريا الجنوبية استطاعت أن تتصدى لهذا الفيروس عبر تطويقه بسياسة الحجر الصحي والتحاليل الطبية المكثفة بفضل ماتتوفر عليهمن تقنيات علمية هائلة.

فهذه الدول الثلاث إلى جانب اليابان ودول أخرى تدخل ضمن لائحة النمور الآسيوية حققت نموا لافتا خلال العقدين المنصرمين ،وهوما اصطلح عليه بالمعجزة الآسيوية(28)،فيما رأى آخرون أن المفهوم الأنسب والأكثرملائمة للتعبير عن حالة التقدم المتسارع الذي تعرفه القارة الآسيوية في مكانتها الدولية هو مفهوم القرن الآسيوي معتبرين أن القرن الحادي والعشرين سيكون لامحالة قرنا آسيويا على غرار القرن العشرين الذي كان قرنا أمريكيا بامتياز، بالنظر إلى حجم النمو الاقتصادي والى دخل الفرد وحجم الانتاج والصادرات وحجم الدخل العام و عدد براءات الاختراع بها.

مقال قد يهمك :   أيوب بنجبيلي: مدى استقلالية القضاء الاسباني في قضية استقبال إبراهيم غالي؟

ففي السنوات القليلة الماضية استطاعت الصين أن تحقق أكبر المعدلات في مختلف المجالات كان آخرها احتلالها المرتبة الأولى على صعيد براءات الاختراع على المستوى العالمي(29).

يكفينا قولا أن نخلص إلى أن ميزان القوة الاقتصادي يتجه نحو الشرق ،بمعنى آخر هل بفقدان الولايات المتحدة الأمريكية لصدارتها الاقتصادية  ستفقد قيادتها للعالم ؟ وهل يستطيع النموذج الآسيوي أن يكون نموذجا يقتدى به أو نموذجا بديلا؟

بالنظر للأدوار التي تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية في العالم فإن الدول الآسيوية وإلى حدود الساعة لاتستطيع أن تتحمل الأعباء الدولية التي تتحملها الولايات المتحدة الأمريكية (مثال منظمة الصحة العالمية) وبالنظر الى حجم الانفاق الدولي ،أضف إلى ذلك أن أغلب الدول الآسيوية تتبع النهج الليبرالي واقتصاد السوق ، ومن ضمن هذه الدول الصين رغم اختلاف أساليب الحكم فيها والى عقيدتها الكنفشيوسية.

فالصين بالرغم من صعودها الهائل فإن لها ارتباط وثيق بالسوق الأمريكية وبالمكانيزمات التي تتحكم في الاقتصاد العالمي ، كما أن نظامها السياسي ليس مدعاة للإقتداء، وأن الحديث عن تغير النظام الدولي زمن كورونا يبقى مستبعدا أو يحتاج إلى زمن آخر هو الزمن الخلدوني الذي يفترض أن يبقى هذا النظام  إلى أن تشيخ أمريكا وتهرم.

ب-كورونا من العسكرة الى التقنية:

في هذا المحور تحضرني آيات من الذكر الحكيم وحديث عن سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم وبعض الأمثلة:

يقول الله عز وجل في كتابه العزيز في سورة الاعراف

 (131) وَقَالُواْ مَهۡمَا تَأۡتِنَا بِهِ ۦمِنۡ ءَايَةٖ لِّتَسۡحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِينَ (132) فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ فَٱسۡتَكۡبَرُواْ وَكَانُواْ قَوۡمٗا مُّجۡرِمِينَ.

والآية 73 من سورة الحج:

 (72) يَٰٓأَيُّهَاٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡ‍ٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ

والحديث النبوي الشريف ” عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوكانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ماسقى كافرا منها شربة ماء رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

واستحضر المقولة التالية:

لاتحقِرنّ صغيرا في مخاصمة  § § إن البعوضة تدمي مقلة الأسد

كان أول داع  الى استحضار هذه الآيات وهذه المقولة ليس الحديث عن غطرسة ترامب وقوته العسكرية ،ولاقوة الصين وجبروتها ضد أقلية الويغور المسلمة ،وإنما للحديث عن اقتصاد المعرفة وعن دور العلم والتقنية في تغيير موازين القوى.

فجائحة كورونا لم تنفع معها حاملات الطائرات الأمريكية ولا طائرات F17 المتطورة ولا ربوتات الصين ولا الطائرة الأوروبية المشتركة ولا الصواريخ الباليستية ولا القنابل الهدروجينية ،الأمر الذي سينجم عنه سباق محموم نحو العلم والمعرفة ،فمن يمتلك ناصية العلم والتقنية يستطيع التحكم في العالم ،ويستطيع ضمان التفوق ،وهو مايبرر الصراع القائم حاليا بين شركات الأدوية العالمية حول من يصنع الدواء أولا، حيث أن الدول الكبرى سخرت إمكانيات جد مهمة للشركات ولمختبرات البحث لتحقيق السبق العلمي وتوفير دواء لكورونا يقيها شره،ويعود عليها بوافر الأرباح.

بل أكثر من ذلك ومما لايبرز الى السطح فإن هناك من الدول من تحرك جهاز مخابراتها لإغراء العلماء والشركات لبيع براءاتها وبرامجها العلمية،ولربما قد تلجأ إلى أساليب لا علم لنا بها.

أما ثاني داع لاستحضار  هذه الدلائل هو أن العلم لطالما استغرق وقتا طويلا في دراسة صغائر الأمور الذرة مثلا  لأن صغر حجمها قد يكون مدعاة للتقليل منها وعدم الاهتمام بها. كما أردت القول من خلال الآيتين الكريمتين أن هناك قاسما مشتركا بينها وهو أن الله عزوجل ضرب أمثلة من صغائر خلقه ليثير أمرا في غاية الأهمية وهو أنه مهما بلغ الانسان من الاستكبار والاستعلاء ،فإنه لن يقدم ولن يؤخر شيئا أمام بعوضة صغيرة إلا بإذن الله.

أما فيما يتعلق بالمثال الثالث فإن ذكره مرتبط لإثارة ما لأسلحة المستقبل من دمار وأخص بالذكر الأسلحة الجرثومية والغازات السامة ،فرغم صغر حجم الجراثيم فإن ماتخلفه من خسائر لأمر رهيب فعلا، ولعمري أن البعوضة تقوم هنا مقام الفيروس التاجي كورونا الذي فعل في أمريكا مالم تفعله أحداث 11 شتنبر.

أما ثالث داع لإيراد هذه الأمثلة فيرتبط بالقول بأن سلاح المرحلة القادمة ليس سلاحا تقليديا (الطائرات، السفن الحربية ، الصواريخ ) وإنما هو سلاح التقنية وسلاح المعرفة، وأن الرهان الحقيقي للدول هو رهان إمتلاك ناصية العلم والتكنولوجيا الدقيقة(30).

خاتمة:

في الحقيقة يحز في نفسي أن أضع خاتمة لهده الورقة لارتباطاتها الكثيرة والمتعددة ، ولأن جوانب أخرى فيه مازالت تحتاج إلى تعميق الدراسة، إلا أنه وبالرغم من ذلك أن هناك خارطة جيوسياسية جديدة قيد التشكل تتماشى مع نظرية القطيع،فالولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها قائدة العالم (قائد القطيع) ستسمح بالتنازل عن بعض مناطق النفوذ(جزء من القطيع) لصالح قوى دولية جديدة تنافسه على القيادة (الصين وروسيا) لكي يعمل الجميع في نسق عام تحت القيادة الأمريكية ، في أفق أن تستجمع إحدى القوى الصاعدة قوتها لتطيح بالقائد عن عرش الزعامة أو تنشأ تحالفات تغير موازين القوى الدولي.


لائحة المراجع:

 (*) تم تحكيم هذا المقال العلمي من طرف اللجنة العلمية لمركز مغرب القانون للدراسات و الأبحاث القانونية.

1-  انظر موقع منظمة الصحة العالمية www.who.int

2-أنظر محرك البحث www.wikipedia.org

3-الخبر منقول على شبكة سكاي نيوز ارابياwww.skynewarabia.com

4-صحيفة الوئام السعودية،هيئة التحرير تطورات حرب كورونا بين أمريكاوالصين..ترامب بكين

تأخرت في العلان عن الفيروس وعرضت العالم للخطر بتاريخ 19 مارس 2020 www.alweeam.com.sa.5-هيئة تحرير سكاي عربية ،تقارير:الصين تجاهلت معلومات أول طبيب حذر من كورونا ،بتاريخ 2 فبراير 2020www.skynes araabia.com

6-فرح عصاممترجمة،وباء البيروقراطية..لماذا تأخرت الصين بالكشف عن حجم انتشار كورونا؟كتب بتاريخ 29 يناير 2020   midan.aljazeera.net

7-عبد الباري عطوان ، الصين تعيد التأكيد رسميا وبالأدلة على “نظرية المؤامرة” وتتهم المخابرات الأمريكية بنشر فيروس كورونا،صحيفة رأي اليوم بتاريخ 16مارس 2020.www.raialyoum.com

8-هيئة التحرير،كلا فيروس كورونا المستجد ليس من صنع المختبرات بل هو طبيعي المنشأ بتاريخ 26 مارس 2020،www.factuel.afp.com

9-المرجع السابق نفسه.

10-خالد صفوري،مستشار مجموعة ميريديان للدراسات الاستراتيجية،تلكؤترامب واستهزاؤه بكورونا وراء تفشي الوباء في أمريكا بتاريخ 27 مارس 2020 علر الرابط التالي:www.alghad.tv

11- هيئة تحرير شبكة الجزيرة،كورونا يدمر الدول ..غولدمانساكس:الاقتصاد العالمي ينكمش بأسرع وتيرةwww.aljazeera.net  بتاريخ 23مارس 2020

12-هيئة تحرير شبكة الجزيرة،أزمة كورونا تعري القطاع الصحي في العالم وواشنطن تعتمد على الصين بتاريخ 3/أبريل 2020 www.aljazeera.net

13-هيئة تحرير شبكة أورونيوز،أي عالم ينتظرنا بعد كورونا؟سيناريوهاتمابعدالوباء..تعرف عليها ،نشر بتاريخ 24 مارس 2020 على الرابط التالي:www.euronews.com

14-أحمد علي،متخصصون عرب وصينيون يبحثون سبل مواجهة كورونا،الاندبندنت العربية بتاريخ 10 أبريل 2020 على الرابط التالي:www.independentarabia.com

15-غيتا غوبيناث، الحد من التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا بوضع سياسات موجهة كبيرة،منشور بتاريخ 10 مارس 2020 على موقع صندوق النقد الدوليwww.imf.org

16-كريستيانا جورجيف المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، فيروس كورونا:التداعيات الاقتصادية ستكون “أسوأ من أزمة الكساد الكبير” مقال منشور بتاريخ :10 ابريل على موقع  ب ب س نيوز الاخبارية عربي على الرابط التالي:www.bbc.com-

17- Cédric Pietralunga et Alexandre Lemarié , ‘’Nous sommes en guerre » » :Face au coronavirus,EmmanuelMacron sonne la « mobilisation générale »publié le 17mars 2020 site web www.lemonde .fr

18- Henry A.Kissinger, The CoroavirusPandemic Will Forever Alter the World Order ,publishedin 3 April 2020 in the websitewww.wsj.com

19- سامح راشد، روسيا “قوة عظمى محتملة” ملحق تحولات استراتيجية مجلة السياسة الدولية العدد 219 يناير 2020 ص :4

20- فؤاد الربع، السياسة الخارجية للمغرب تجاه آسيا:دراسة في المحددات ومظاهر التفاعل 1956-2012 أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام ،كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ظهر المهراز، فاس ،السنة الجامعية 2015-201- ص 37

21- خالد حجي،مامعنى “قبل كورونا ومابعده” منشور بتاريخ 07أبريل على موقع عربي بوستwww.arabicpost.net

22- ياسر جمال الدين، النظم السياسية في ميزان أزمة كورونا، المركز الديمقراطي العربي  منشور بتاريخ 23 مارس 2020 على الرابط التالي :http //democraticac.de

23- هيئة تحرير شبكة الجزيرة،فلنحافظ على إنسانيتنا في زمن فيروس كورونا،منشور بتاريخ 4 أبريل 2020 على موقع شبكة الجزيرةwww.aljazeera.net

(24)-Kim Willsher in Charny Julian Borger in Washington and Oliver Holmes in Jerusalem , US accused Of ‘modern Piracy’ after diversion of masksmeant for Europe ,Friday 3 April2020 published in the Guardian journal,www.theguardian.com

25- هيئة تحرير موقع سي إن إن العربي ،ماهي القطاعات التي من المتوقع نموها في ظل أزمة كورونا؟ منشور بتاريخ 1أبريل 2020 على الرابط التالي:www.arabic.cnn.com

26-وائل بورشاشن، النّعم والعلم و”الخلاص الجماعي”..أبرز دروس جائحة “كورونا”، منشور بتاريخ 23 مارس 2020  منشور بموقع هسبريس على الرابط التالي:www.hespress.com

27-المرجع السابق نفسه

28-أ.صلاح العمروسي ،الأهمية النظرية العالمية “للمعجزة”الآسيوية، منشوربدون تاريخ بوقع www.siironline.org

29-هيئة تحرير موقع مصراوي،للمرةالأولى..الصين تتجاوز أمريكا في طلبات براءات الاختراع،منشور بتاريخ الثلاثاء 7 أبريل 2020 على الرابط التالي www.masrawy.com

30- المعرفة والعلم..سلاح المنافسة العالمي ومفاتيح المستقبل منشور بتاريخ 2مايو 2015على الرابط التالي:www.albayan.a

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]