عبد الكبير الصوصي: أي ضمانة للمتضرر من قاعدة التطهير في العقار المحفظ؟
الدكتور عبد الكبير الصوصي العلوي
أستاذ جامعي
منشور بمجلة الأبحاث والدراسات القانونية العدد 1
يترتب عن التحفيظ إقامة رسم للملكية مسجل بكناش عقاري وبطلان ماعداه من الرسوم، وتطهير الملك من جميع الحقوق السالفة الغير المضمنة بالكناش العقاري، ومن آثار ذلك أن الرسم العقاري نهائي ولا يقبل الطعن، ويعتبر نقطة الانطلاق الوحيدة للحقوق العينية والتحملات العقارية المترتبة على العقار وقت تحفيظه دون ما عداها من الحقوق غير المقيدة.
لكن، قد يكون طالب التحفيظ ليس مالكا حقيقيا للعقار الذي تم تحفيظه باسمه، وبالرغم من ذلك استفاد من حق عيني لا يعود إليه، بالاستناد فقط على الصفة النهائية للرسم العقاري وعدم قابليته للطعن.
ولما كان صاحب الحق العيني الذي طهر منه العقار المحفظ قد ضاع منه حق عيني يعود إليه لو لا قاعدة التطهير.
لذلك، وحرصا على ضرورة تعويض صاحب الحق العيني الذي تضرر جراء قاعدة التطهير في العقار المحفظ، فإن القضاء قد كرس دعاوى شخصية يمكن معها لهذا الأخير المطالبة بالتعويض في مواجهة المستفيد من الأثر ألتطهيري للتحفيظ.
فما المقصود بقاعدة التطهير في العقار المحفظ (المطلب الأول)، وأي حماية للمتضرر من القاعدة المذكورة (المطلب الثاني).
المطلب الأول: المقصود بقاعدة التطهير في العقار المحفظ.
كثيرا ما ترفع أمام المحاكم المغربية دعاوى يطلبون بموجبها أصحابها الحكم لهم باستحقاق عقارات محفظة في اسم أشخاص آخرون لأنهم هم المالكون الحقيقيون لتلك العقارات، ويلتمسون الحكم بإبطال كل إجراءات التحفيظ التي قام بها المسجلة أسماؤهم في سجلات المحافظة العقارية كملاك لتلك العقارات، مع ما يترتب على ذلك من آثار كالتشطيب علـــــــى هذه الرسوم العقارية والحكم بإفراغ المدعى عليهم من العقار المدعى فيه.
وهذه العقارات غالبا ما يكون قد تم تأسيس الرسم العقاري لها، نتيجة تحفيظ مطلب التحفيظ مند عقود من الزمن بعد استيفاء كافة الإجراءات القانونية وعلى رأسها الإشهار ودون أن يتعرضوا على مطلب التحفيظ.
لكن تلك الدعاوى تصدر فيها أحكام قضائية مستقرة على أن التحفيظ يطهر الملك من جميع الحقوق السالفة الغير المضمنة بالكناش العقاري.
فما المقصود بقاعدة التطهير في العقار المحفظ في التشريع العقاري المغربي (الفقرة الأولى) وكيف تعاملت التطبيقات القضائية التي استطعنا الاطلاع عليها مع هذه القاعدة ( الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: قاعدة تطهير الملكية في التشريع العقاري المغربي:
القاعدة في التشريع العقاري المغربي أن التحفيظ يطهر العقار من جميع الحقوق الممكن أن تكون عالقة به قبل تحفيظه والتي لم يطالب بها أثناء مسطرة التحفيظ، وهذا ما نص عليه الفصل 2 من ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بالتحفيظ العقاري كما تم تعديله وتتميمه الذي جاء فيه أنه:
” يترتب عن التحفيظ إقامة رسم للملكية مسجل بكناش عقاري وبطلان ما عداه من الرسوم وتطهير الملك من جميع الحقوق السالفة الغير المضمنة بالكناش العقاري “.
ومن آثار هذه القاعدة التي كرسها هذا الفصل ( الفصل 2 من ظهير 12 غشت 1913) أن رسم الملك له صفة نهائية و لا يقبل الطعن وهو يكشف نقطة الانطلاق الوحيدة للحقوق العينية والتكاليف العقارية الكائنة على العقار وقت تحفيظه دون ما عداها من الحقوق الغير مسجلة. ( الفصل 62 من نفس القانون).
هذا، وأنه لا يمكن إقامة أية دعوى في العقار بسبب حق وقع الإضرار به جراء تحفيظ .( الفقرة الأولى من الفصل 64 من نفس القانون ) .
الفقرة الثانية: التطبيقات القضائية لقاعدة التطهير في العقار المحفظ.
على مستوى العمل القضائي فالمجلس الأعلى قد حسم في المقصود بقاعدة التطهير في ميدان العقار المحفظ وذلك في قراره الصادر بتاريخ 17/09/2008 بقوله:
” لكن حيث فضلا إن المحكمة غير ملزمة بتتبع الخصوم في مناحي أقوالهم ولا تجيب إلا على ماله تأثير على قضائها ، فإن المقصود من قاعدة التطهير المنصوص عليها في ظهير 12 غشت 1913 هي تحفيظ العقار وإنشاء رسم عقاري له في اسم من يحتج بها حيث يطهر العقار المحفظ من كل النزاعات ومن كل الحقوق السابقة على التحفيظ التي لم تقع الإشارة إليها في الرسم العقاري “.
وهو التوجه نفسه الذي كان يسير عليه القرار الصادر أيضا عن المجلس الأعلى بتاريخ 21 أبريل 1972 في الملف الإداري عدد 18271 الذي جاء فيه:
” وحيث إن الفصل 62 من ظهير 12 غشت 1913 المتعلق بتحفيظ العقار ينص على أن الدفتر العقاري يثبت الملكية بصفة نهائية ويحسم مادة كل نزاع بشأنها و لا يمكن مطلقا الاحتجاج بحقوق غير مسجلة فيه.”
وكرسه أيضا المجلس الأعلى في القرار عدد 2605 الصادر بتاريخ 28/10/1992 والذي جاء فيه أن :
” قاعدة التحفيظ يطهر العقار من الحقوق السابقة عليه وهي قاعدة تسري على الجميع لا فرق بين المشتري وغيره و لا بين حسن النية وسيئها ”
بل إن هذه القاعدة – قاعدة تطهير الملك في العقار المحفظ – هي قاعدة من النظام العام وفق القرار عدد 140 الصادر عن المجلس الأعلى في 21 أبريل 1971 الذي جاء فيه :
” حيث إن مقتضيات الفصلين 3 و 67 المشار إليهما أعلاه هي من قبيل النظام العام و أن خرقها يمكن أن يثار في أي مرحلة من مراحل الدعوى ولو تلقائيا إذا أغفل الخصوم ذلك،
حيث ينتج من الفصلين 3 و67 المشار لهما أن الرسوم العقارية و التقييدات المترتبة عليها والمسجلة بها تحفظ الحق الذي تنص عليه وتكون الحجة بالنسبة للغير على أن الشخص المسمى بها هو حقيقة صاحب الحقوق المبنية بها… “
أما على مستوى محاكم أول درجة فإنها هي الأخرى تسير في نفس الاتجاه الذي كرسه المجلس الأعلى، ففي حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بمراكش بتاريخ 11/11/2008 جاء فيه :
” لكن ، حيث ثبت للمحكمة بعد إطلاعها على وثائق الملف أنه فضلا عن كون العقار الذي جزء منه هو موضوع الوصية أعلاه هو عقار محفظ فإنه توالت عليه عدة تفويتات نذكر منها شهادة المحافظة العقارية المؤرخة في 18/06/2001 والتي يستفاد منها على أن العقار عدد 562/م جار على ملك (… ).
وحيث إنه مادام العقار المذكور هو عقار محفظ، ومادامت مقتضيات الفصلين 65 و 66 من القانون العقاري توجب أن تشهر بواسطة التسجيل في السجل العقاري جميع الأعمال والاتفاقات الناشئة بين الأحياء مجانية كانت أو بعوض… وإلا اعتبر غير موجود بالنسبة للغير فإن عدم تقييد الوصية المعتمدة من طرف المدعي في الصك أعلاه وتوالي عدة تفويتات وعدة ملاك على الصك المذكور يجعل صدقة الطرف المدعي والحالة هذه منتفية ويظل مصير الدعوى هو عدم القبول .”
المطلب الثاني: حماية المتضرر من قاعدة التطهير في العقار المحفظ.
كرس العمل القضائي دعاوى شخصية يمكن للمتضرر من قاعدة التطهير في العقار المحفظ أن يسلكها للمطالبة بالتعويض، وهي دعاوى يمكن أن تؤسس إما على التدليس المرتكب من طرف طالب التحفيظ (الفقرة الأولى)، أو تؤسس على دعوى الإثراء بلا سبب، أو استرداد ما دفع بغير وجه حق، أو المسؤولية التقصيرية (الفقرة الثانية).
الفقرة الأولى: دعوى شخصية مبنية على التدليس المرتكب من طرف طالب التحفيظ:
حيث يتم تأسيسها استنادا على مقتضيات الفصل 64 من ظهير التحفيظ العقاري التي تنص على أنه:
” يمكن لمن يهمهم الأمر وفي حالة التدليس فقط أن يقيموا على مرتكب التدليس دعوى شخصية بأداء تعويضات”.
حيث يحق لمن يهمهم الأمر رفع دعوى المطالبة بالتعويض في مواجهة المستفيد من التحفيظ، ولهم أن يستعملوا جميع الحجج التي لم تعد منتجة بمقتضى قرار التحفيظ للمطالبة بالحق العيني فقط، ولكنها تبقى فاعلة للمطالبة بالتعويض في مواجهة المستفيد من التحفيظ، ولذلك فبإمكانهم الاستدلال برسم الملكية أو عقد الشراء أو التبرع أو التركة…
حيث تسمع المحكمة دعواهم الرامية للتعويض في مواجهة المستفيد من التحفيظ، كما أكد ذلك المجلس الأعلى في أحد قراراته التي جاء فيها:
و” أناداك يمكن للمحكمة الأمر بإجراء خبرة لتقييم العقار تمهيدا للحكم بالتعويض المستحق للمدعي الذي حالت القواعد المنصوص عليها في الفصلين 2 و62 من ظهير التحفيظ العقاري دون استحقاقه للحق العيني”.
ومعلوم أن ” التدليس يعتبر واقعة مادية يمكن لمحكمة الموضوع استخلاصها من كافة العناصر المعروضة عليها”، وأنه ” لا رقابة عليها من المجلس الأعلى في ذلك إلا من حيث التعليل”.
هذا، ” ويقع على عاتق المتضرر من التحفيظ عبء إثبات التدليس “.
وهو بذلك له صور متعددة كما أكد على ذلك المجلس الأعلى في العديد من قراراته منها:
” أن يعلم طالب التحفيظ أن العقار الذي هو بصدد تحفيظه توجد عليه حقوق للغير ليعتبر سيء النية وبالتالي مدلسا” .
كذلك ” فإن تحفيظ عقار باسم البائع بعد بيعه لذلك العقار يعد مدلسا ضد المشتري ومن تم يلزمه تعويضه”. وفق ما أكده أيضا المجلس الأعلى في أحد قراراته.
أيضا من صوره ” تحفيظ قطعة أرضية في اسم شخص مع علمه أنه لا يملك جزءا منها يعتبر كذلك مرتكبا للتدليس ويلزمه التعويض “.
الفقرة الثانية: دعوى الإثراء بلا سبب، أو استرداد ما دفع بغير وجه حق، أو المسؤولية التقصيرية:
إذا لم يتمكن صاحب المصلحة – المتضرر من قاعدة التطهير في العقار المحفظ- من إثبات شرط التدليس المتطلب في الفصل 64 من ظهير التحفيظ العقاري، فإن له أن يلجأ للقواعد العامة ويؤسس دعواه على الأسس التالية:
أولا: تأسيس دعوى شخصية على مقتضيات الفصل 66 من قانون الالتزامان والعقود (بشأن الإثراء بلا سبب).
ينص الفصل 66 من ق ل ع على أن:
” من تسلم أو حاز شيئا أو أية قيمة أخرى مما هو مملوك للغير، بدون سبب يبرر هذا الإثراء التزم برده لمن اثر على حسابه “.
ومعلوم أنه بموجب الفصل 75 من نفس القانون فإن:
” من أثرى بغير حق إضرارا بالغير لزمه أن يرد له عين ما تسلمه، إذا كان ما زال موجودا أو أن يرد له قيمته في يوم تسلمه إياه، إذا كان قد هلك أو تعيب بفعله أو بخطاه، وهو ضامن في حالة التعيب والهلاك الحاصل بقوة قاهرة من وقت وصول الشيء إليه إذا كان قد تسلمه بسوء نية. والمحرز بسوء نية يلتزم أيضا برد الثمار والزيادات والمنافع التي جناها وتلك التي كان من واجبه أن يجنيها لو أحسن الإدارة وذلك من يوم حصول الوفاء له أو من يوم تسلمه الشيء بغير حق. وإذا كان المحرز حسن النية، فإنه لا يسأل إلا في حدود ما عاد عليه من نفع، ومن تاريخ المطالبة”
وهكذا، وبما أن التحفيظ يطهر العقار، ومن الصعوبة تصور أن المحفظ في اسمه العقار سيتخلى عنه لفائدة مالكه الحقيقي، على اعتبار أنه لو كان حقا يريد ذلك لما أقدم أصلا على إيداع مطلب تحفيظ لملك لا يعود إليه، إذ الحلال بين والحرام بين، فإن المنطق السليم يقتضي في هذه الحالة أن يتم إلزم المثري -المستفيد من التحفيظ – برد قيمة العقار في يوم تحفيظه إياه، وإذا كان سيء النية وجب عليه أيضا أن يرد الثمار والزيادات والمنافع التي جناها وتلك التي كان من واجبه أن يجنيها لو أحسن الإدارة وذلك من يوم حصول التحفيظ لفائدته بغير حق. أما إذا كان المستفيد من التحفيظ حسن النية، فإنه لا يسأل إلا في حدود ما عاد عليه من نفع، ومن تاريخ المطالبة.
ثانيا: تأسيس دعوى شخصية استنادا على مقتضيات الفصلين 68 و 70 من ق ل ع (بشأن استرداد ما دفع بغير حق).
حيث نصا كلا من الفصلين 68 و 70 على التوالي بأن:
” من دفع ما لم يجب عليه، ظنا منه أنه مدين به، نتيجة غلط في القانون أو في الواقع، كان له حق الاسترداد على من دفعه…”.
وأنه ” يجوز استرداد ما دفع لسبب مستقبل لم يتحقق، أو لسبب كان موجودا ولكنه زال.”
فالذي يدفع عقاره أو جزء منه للمستفيد من التحفيظ ظنا منه أنه مدين بذلك نتيجة غلط في القانون أو في الواقع، كمن يظن أن المستفيد من التحفيظ وارث معه في تركة، وبعد ذلك يتضح أنه ليس بوارث بعد استصدار حكم قضائي بنفي نسبه عن المورث، أو أن شريكا له الربع في الشياع ويستفيد من تحفيظ عقار بالنصف في هذا الشياع، ففي هذه الحالات وأشباهها يجوز للمتضرر استرداد قيمة ما دفع بغير حق بالاستناد على القاعدة المقررة في الفصلين 68 و 70 من ق ل ع.
ثالثا: دعوى شخصية استنادا على مقتضيات الفصل 77 من نفس القانون ( بشأن المسؤولية التقصيرية للمستفيد من التحفيظ).
من الالتزامات الناشئة عن الجرائم وأشباه الجرائم، ذلك الالتزام بالتعويض الذي أقره الفصل 77 من ق ل ع حين نص على أنه:
” كل فعل ارتكبه الإنسان عن بينة واختيار، ومن غير أن يسمح له به القانون، فأحدث ضررا ماديا أو معنويا للغير، ألزم مرتكبه بتعويض هذا الضرر، إذا ثبت أن ذلك الفعل هو السبب المباشر في حصول الضرر…”.
وليس مسؤولية المستفيد من التحفيظ عن فعله فحسب، بل يسأل عن خطئه أيضا، فإقدامه على إيداع مطلب تحفيظ خطأ بشأن عقار لا تعود ملكيته إليه، يوجب تحميله المسؤولية أيضا، وبالتبعية إلزامه بالتعويض، على اعتبار أنه بموجب الفصل 78 من ق ل ع فإن:
” كل شخص مسؤول عن الضرر المعنوي أو المادي الذي أحدثه، لا بفعله فقط ولكن بخطئه أيضا، وذلك عندما يتبث أن هذا الخطأ هو السبب المباشر في ذلك الضرر…”
والخطأ بموجب نفس الفصل هو ترك ما كان يجب فعله، أو فعل ما كان يجب الإمساك عنه، وذلك من غير قصد لإحداث الضرر.
وهكذا، يتم تأسيس كل دعوى شخصية من الدعاوى المذكورة بحسب الأحوال، إما استنادا على مقتضيات الفصل 66 من قانون الالتزامات والعقود، أو مقتضيات الفصل 70 أو الفصلين 77 و 78 من نفس القانون، وهو ما أكد عليه المجلس الأعلى في أحد قراراته التي جاء فيها أن:
” الدعوى الشخصية التي يقيمها من فقد حقه العيني بسبب التحفيظ لا تقتصر إقامتها على مرتكب التدليس وإنما يمكن للمضرور أن يطلب استرداد ما دفع بغير وجه حق عملا بالفصل 70 أو يقيم دعوى شخصية على من صدرت عن تصرفه المسؤولية عملا بالفصلين 77 و 78 من ق ل ع “.
*) منقول من صفحة الكاتب على موقع فايسبوك