عبد العلي حفيظ: مركز النيابة العامة في دعوى التذييل بالصيغة التنفيذية
عبد العلي حفيظ دكتور في الحقوق
مركز النيابة العامة في دعوى التذييل بالصيغة التنفيذية
بين خرق حقوق الدفاع ومخاطر الطعن بتعرض الغير الخارج عن الخصومة
إن ما يجري به العمل على المستوى القضائي، وفق ما هو متاح من خلال الاطلاع على بعض الأحكام والأوامر والقرارات القضائية، جواز تقديم دعوى التذييل ضد النيابة العامة، وأحيانا ضد من له الحق(أو بالأحرى من عليه الحق)ويقصد به النيابة العامة، ولا ندري أي حق للنيابة العامة يخولها أن تكون في موقع المطلوب في الدعوى، الذي يتحقق له مركز المحكوم عليه بموجب السند الأجنبي، مما يطرح التساؤل حول مركز النيابة العامة في دعوى التذييل بالصيغة التنفيذية، وهل يمكن القبول بتوجيه الدعوى منها أو ضدها؟(أولا)، ومن ثم ألا يعتبر ذلك موجبا لفتح الباب أمام المحكوم عليه بمقتضى السند الأجنبي لمباشرة الطعن بتعرض الغير الخارج عن الخصومة في الأمر أو القرار أو الحكم الصادر بالتذييل؟(ثانيا).
أولا: مركز النيابة العامة في دعوى التذييل بالصيغة التنفيذية.
الواقع أنه خارج الدور المنوط بالنيابة العامة لتقديم دعوى التذييل بالصيغة التنفيذية، في إطار بعض الاتفاقيات الدولية نيابة عن السلطة الوسيطة للدولة الأجنبية، ومن ذلك مثلا ما تقرره المادتين 18 و 22 من الاتفاقية المغربية المصريةالمؤرخة في 24 يونيو 1999،والمادة 22 من الاتفاقية المغربية الفرنسية لسنة 1981،لم نجد ضمنالتشريعات المقارنة التي تيسر الاطلاع عليها، ما يعطي للنيابة العامة صفة الطرف في دعوى التذييل بالصيغة التنفيذية بمسمياتها المختلفة، سواء كمدعية أو مدعى عليها، وهو الوضع الذي نجده مكرسا في إطار الأحكام المنظمة لدعوى التذييل في ق.م.م، قبل تعديل الفصل 431 سنة 2011 بموجب القانون رقم 33.11، وتعديل الفصل 430 سنة 2019 بموجب القانون رقم 61.19، والتي لا تقر بمثل هذا المركز للنيابة العامة،خاصة وأن تدخل النيابة العامة كطرف مدعي أو مدعى عليه حسب الفصل 7 من ق.م.م، لا يكون إلا في الأحوال المقررة بمقتضى القانون، غير أن الدور الجديد للنيابة العامة كطرف أصلي في جميع القضايا الرامية إلى تطبيق أحكام مدونة الأسرة بموجب المادة 3 من مدونة الأسرة،طرح التساؤل حول الاعتراف للنيابة العامة بصفة الطرف في دعوى التذييل، كما أن التعديلين الأخيرين لمنظومة التذييل المذكورين آنفا، والذين خولا للنيابة العامة إمكانية الطعن في الحكم أو الأمر الصادر بالتذييل بالصيغة التنفيذية، يبرر التساؤل أيضا حول ما إذا كانت هذه الصلاحية تخول للنيابة العامة صفة الطرف الرئيسي في دعوى التذييل، أم أنها صلاحية تبقى محصورة فقط في ممارسة الحق في الطعن، باعتبارها تمثل المجتمع والأقدر على حماية نظامه العام.
إن استحضار الغاية من تقديم دعوى التذييل بالصيغة التنفيذية، وهي تنفيذ السند الأجنبي فوق التراب المغربي، على نحو يقتضي بداهة وجود طالب للتنفيذ ومطلوب في التنفيذ، أو محكوم له ومحكوم عليه، يفضي إلى التأكيد على أن صياغة البناء الهيكلي لدعوى التذييل فيما يخص أشخاصها أو طرفيها، يجب أن يكون في ضوء هذين الوصفين الذين يقترن تحققهما عمليا من خلال احترام ضابطي الاختصاص المكاني، الذين يتمحوران حول المحكوم عليه في محل تواجده أو تواجد ممتلكاته، وهما المعنيان بالتنفيذ اختيارا أو اضطرارا،وليس فقط تسهيل الحصول على حكم أو أمر بالتذييل فقط.
فالانحراف بدعوى التذييل عن غايتها المرجوة المتعلقة بالتنفيذ، أدى إلى”انزلاقات إجرائية” غير مؤسسة قانونا، منها مركز النيابة العامة في دعوى التذييل.
إذ عادة ما يتم تبرير توجيه الدعوى ضد النيابة العامة بكون المحكوم عليه من جنسية أجنبية ومن ثم يتعذر تبليغه، وهو ما من شأنه أن يطيل أمد الدعوى، في حين أن التنفيذ على الطرف الأجنبي يقتضي لزوما توفره إما على موطن أو محل إقامة بالمغرب، وإما على أموال قابلة للتنفيذ، وأن غياب هذين الضابطين يبرر الحكم بعدم الاختصاص المكاني، لأن الغاية من التذييل تبقى غير قائمة، والأجدر التنفيذ على الطرف الأجنبي في الدولة التي يقيم فيها أو في الدولة التي تحتضن أمواله، ولو توزعت بين دول شتى، أما تقديم دعوى التذييل أمام المحكمة لمجرد أنه من مواطنيها وبغاية الحصول فقط على حكم أو أمر بالتذييل، لن يجد أبدا طريقه للتنفيذ لتخلف محله في شخص المحكوم عليه أو أمواله، يبقى أمرا مخالفا للغاية من الادعاء والتماس الحماية القضائية والتذييل بالصيغة التنفيذية، وهو ما يؤيد ربط الاختصاص المكاني في دعوى التذييل بالصيغة التنفيذية بالنظام العام.
لكن للأسف، ما يبرر الوضع الراهن هو الفهم غير المنضبط للغاية من التذييل، وربطه بالشق المتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية، والتقييد بسجلات الحالة المدنية، والحصول على الشواهد الإدارية التي تثبت وضعية الرجل أو المرأة كمطلق أو مطلقة، وهو ما لاصلة له بدعوى التذييل ويبقى متحققا بدونها، مما أدى إلى الخروج عن بعض الثوابت الإجرائية وابتداع بعض الصيغ غير المبررة، عبر الزج بالنيابة العامة في مركز المحكوم عليه لتحقيق شروط الدعوى قسرا في ما يشبه الأدوار القسرية، مما يؤدي يقينا إلى الإخلال بحقوق الدفاع المقررة قانونا للطرف المعني فعليا بتنفيذ الحكم الأجنبي موضوع التذييل، عن طريق تقديمه لأوجه دفاعه المتصلة بالأحقية في التنفيذ استحقاقا ووفاء، وكذا المنازعة في تحقق عناصر القوة التنفيذية للحكم الأجنبي، وفق الضوابط المقررة في القانون الأجنبي الذي صدر السند موضوع التنفيذ في إطاره، من حيث قابليته للطعن من عدمها وسقوط القوة التنفيذية أم لا، خاصة وأن بعض التشريعات تقرر آجالا قصيرة لسقوط القوة التنفيذية، مثل القانون الأردني الذي يحددها في 15 سنة، خلاف المغرب الذي يحددها في 30 سنة، وغيرها من أوجه الدفاع التي لا يمكن للنيابة العامة أن تقوم فيه مقام المعني بالأمر فعليا، وهو الوضع الذي انساق معه المشرع للأسف في تعديل الفصل 430 من ق.م.م، بإقراره لشمول التذييل للشق المتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية في السند الأجنبي.
وانطلاقا من هذا التحليل فإن تحقق صفة الطرف للنيابة العامة في دعوى التذييل، يقتضي لزوما استجماعها لوصف المحكوم له أو المحكوم عليه، أو طالب التنفيذ والمطلوب في التنفيذ، انطلاقا من المركز القانوني العام الذي يخولها صفة الطرف الرئيسي في بعض القضايا، ويمكن تصور هذا الأمر في حالات خاصة، من قبيل مثلا تقديم دعوى التذييل بالصيغة التنفيذية لحكم أجنبي قضى بالنفقة لفائدة أطفال أيتام مغاربة أو أجانب مقيمين بالمغرب، في مواجهة أبيهم الممتنع عن النفقة المقيم بدوره بالمغرب أو توجد أموال له فوق التراب المغربي، وغيرها من الحالات المشابهة.
على أن التساؤل يثار حول الوضع بالنسبة لبعض الاتفاقيات الثنائية التي أوجبت التذييل من أجل التقييد بالسجلات العمومية، وفق ما أشرنا إليه في دراسة سابقة، ويجدر التأكيد بهذا الخصوص على أن التقييد في هذه الحالة لا يعتبر إجراء تنفيذيا، ومن تم يمكن تقديم دعوى التذييل في شكل طلب دون تعيين المطلوب، لتعلق الأمر بدعاوى تصريحية وفق ما هو مبين مثلا في الباب السابع من القانون المتعلق بالحالة المدنية، لا تخلص لها خصائص الدعوى القضائية وفق ما هو مقرر في قانون المسطرة المدنية، ومن تم لا يشترط فيها وجود مدعى عليه وفق الأحكام المرتبطة بالصفة والأهلية والمصلحة.
ولقد ترتب على تخويل النيابة العامة مركز ” المدعى عليه” أو الأدق المحكوم عليه أو المطلوب في التنفيذ في دعوى التذييل، جملة من الممارسات الإجرائية والمواقف القضائية غير المؤسسة قانونا، من قبيل الإقرار التشريعي لعدم وجوب استدعاء المدعى عليه الحقيقي في الدعوى، وتحميل طالب التذييل مصاريف الدعوىإذ انتهى التصور القضائي بخصوص وضعية المصاريف القضائية في هذه الحالة، إلى تحميلها لطالب التذييل وليس الخزينة العامة مع أن النيابة العامة في حالة الاستجابة لطلب التذييل، تبقى في “مركز الخاسر للدعوى”، وفقا للضوابط المبينة في الفصل 124 من ق.م.م التي تقرر تحميل الطرف الخاسر للمصاريف القضائية، أو تقسيمها بين الطرفين عند الاقتضاء، لا سيما مع عدم وجود نص خاص يعتبر طلبات التذييل بمثابة “خدمات قضائية” مؤدى عنها بغض النظر عن نتيجة الدعوى، وغيرها مما سنأتي على ذكره في مناسبات لاحقة، كما أنه سيفتح المجال أمام المحكوم عليه بمقتضى السند الأجنبي، للطعن بتعرض الغير الخارج عن الخصومة في السند الآمر بالتذييل، وهو ما لا تخفى آثاره السلبية وتعقيداته الإجرائية.
ثانيا: التذييل بالصيغة التنفيذية والطعن بتعرض الغير الخارج عن الخصومة
إن هذه الطريقة من طرق الطعن، تكفي لوحدها للتدليل على تهافت الكثير من التوجهات غير السديدة نصا وتطبيقا، على نحو يبرز عدم تماسك البناء القانوني لمؤسسة التذييل بالصيغة التنفيذية بعد تعديل الفصلين 430 و431 من ق.م.م، ولا سيما في الجوانب التالية:
- انعدام الأساس القانوني والعملي لتوجيه الدعوى ضد النيابة العامة.
- عدم جدوى إخضاع الشق المتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية في السند الأجنبي، لوجوب التذييل بالصيغة التنفيذية.
- عدم الضبط التشريعي بخصوص جعل الأمر أو الحكم الصادر بالتذييل بالصيغة التنفيذية، غير قابل لأي طعن بخصوص قضايا انحلال ميثاق الزوجية(ف431 من ق.م.م)، أو بخصوص الشق المتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية(ف430 من ق.م.م).
ذلك أن عدم توجيه الدعوى ضد المحكوم عليه بمقتضى السند الأجنبي موضوع التذييل، والذي صيغت ضوابط الاختصاص المكاني بما يوجب اختصامه شخصيا بمكان إقامته، أو مكان وجود أموال له قابلة للتنفيذ، يبرر أحقيته في الطعن بتعرض الغير الخارج عن الخصومة طبقا لمقتضيات الفصل 303 من ق.م.م، باعتبار أنه لم يستدع هو أو من ينوب عنه في الدعوى الصادر بشأنها الحكم أو الأمر بالتذييل موضوع الطعن، وبالنظر لكونه يمس بحقوقه من جراء عدم تخويله الحق في إبداء أوجه دفاعه بشأن طلب تذييل السند الأجنبي الذي يعتبر طرفا فيه، مما يجعل توجيه الدعوى ضد النيابة العامة موقعا في هذا المحظور الجسيم، وبالتالي نسف ما توخى المشرع الإسراع بشأنه.
كما أن قبول هذا الطعن، سيطرح التساؤل حول حدود ولاية جهة الطعن بصدد النظر في موضوع الطلب المتعلق ببحث أوجه الدفاع المثارة من طرف المتعرض، أو بعبارة أخرى هل ستعيد النظر في تذييل جميع أجزاء السند الأجنبي، أم سيقتصر نظرها فقط على كل ما لا يتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية باعتبار هذا الشق أصبح محصنا ضد الطعن إلا من طرف النيابة العامة، ولا سيما إذا كانت النيابة العامة قد استنكفت عن مباشرة الطعن ومر أجل الطعن، وفقا لما أقره المشرع في الفصلين 430 و431 من ق.م.م.
ونفس التساؤل يطرح في حالة التدخل في الدعوى أمام جهة الطعن(محكمة الاستئناف أو الرئيس الأول)، في حالة مباشرة النيابة العامة للطعن في الحكم أو الأمر الصادر بالتذييل، عملا بما تقرره مقتضيات الفصل 144 من ق.م.م، التي تنص على أنه ” لا يقبل أي تدخل إلا ممن قد يكون لهم الحق في أن يستعملوا التعرض الخارج عن الخصومة“، فهل سيستثنى نظر جهة الطعن بخصوص طلبات المتدخل في الدعوى كل ما يتعلق بالشق المتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية، باعتبار أن الطعن في الشق المذكور مخصص للنيابة العامة فقط بصريح الفصلين 430 و431 من ق.م.م.
الواقع أنه يصعب مثل هذا التمييز بين شقي السند الأجنبي، كما يتعسر القول بقصر أوجه الدفاع المتاحة أمام المتعرض على ما لا علاقة له بإنهاء العلاقة الزوجية، فمثلا كيف سيتم التعامل مع الحالة التي يؤسس فيها المتعرض طعنه أو تدخله، على بطلان الزواج المبرم بالخارج لاختلاف الديانة مثلا، أو لوجود الزوجة في وضعية حمل عند إبرام الزواج أو غيره، وهل يمكن لجهة الطعن وكذا النيابة العامة في هذه الحالة التغاضي عن موجب للبطلان كهذا، ولاسيما من طرف جهة الطعن بتعرض الغير الخارج عن الخصومة، متى استنفذت النيابة العامة طعنها أو قررت عدم الطعن، إذ كيف يستقيم عقلا وقانونا إعطاء القوة التنفيذية للآثار المترتبة عن إنهاء علاقة زوجية باطلة وبموجب مخالف للنظام العام المغربي.
ما كان لمثل هذا الوضع والتداخل أن يطرح، لو أن المشرع استوعب الغاية من التذييل وعدم انصرافها أساسا للشق المتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية، وإنما لتنفيذ ما ترتب عن الإنهاء من التزامات، وما نتج عن ذلك من “اجتهادات تشريعية” أو بالأحرى تسريعية بخصوص تحصين الشق المذكور من القابلية للطعن إلا من طرف النيابة العامة، التي لا تملك عادة من أوجه الدفاع ما يمكنها من “حراسة النظام العام”، وما سبق هذا الأمر من تبلور لعمل قضائي يسمح بتوجيه الدعوى ضد النيابة العامة رغم كونها ليست طرفا في السند الأجنبي، ولا يخلص لها “وصف المدعى عليه” بأي موجب من الموجبات، ولا يمكن أن تكون في مركز المنفذ عليها بعد التذييل، مما ترتب عنه:
- حرمان المحكوم عليه الفعلي من حقوقه في الدفاع، وبالتالي من معطيات واقعية قد ترتبط في جوانب منها بحماية النظام العام، بالسماح بعدم توجيه الدعوى ضده.
- التساهل في استدعاء المدعى عليه، وجعله على سبيل الاقتضاء فقط، بل وعدم وجوبه أصلا أمام الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف، بل وتحصين عدم الوجوب بعدم القابلية للطعن بالتعرض في القرار الغيابي الصادر عن الرئيس الأول، في توجه يوحي بالتسليم بألا فائدة ترجى من استدعاء المحكوم عليه.
- تعطيل ضوابط الاختصاص المكاني المبينة في الفصل 430 من ق.م.م، وابتداع ضابط جديد يتعلق بمكان إبرام عقد الزواج، والذي لا علاقة له بالتنفيذ، بل سيضطر المحكمة للجوء للإنابة في التنفيذ إذا كان المحكوم عليه بمقتضى السند الأجنبي أو أمواله توجد خارج دائرة نفوذ المحكمة المصدرة للحكم … .
- تفعيل الطعن بتعرض الغير الخارج عن الخصومة كطعن غير عادي، لفائدة المحكوم عليه بمقتضى السند الأجنبي، وما يتصل به من أوضاع إجرائية ومشاكل قانونية في غاية التعقيد، وأهمها هدم كل ما سعى المشرع – من خلال رؤية غير صائبة- في الإسراع بإقراره، وهو صدور أمر أو حكم بتذييل الشق المتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية في وقت وجيز، وهو هاجس غير مؤسس قانونا لما أسلفنا في غير موضع من عدم لزوم التذييل لتحقق القوة الثبوتية الاستدلالية الاحتجاجية الرسمية للسند الأجنبي فيما يتعلق بإنهاء العلاقة الزوجية، فيكون المشرع كما يقال قد أقام عملاقا بأرجل من طين، ما تلبث أن توقع بصاحبها، وليس صاحبها غير مواطنين سيزج بهم في غمرات المساطر القضائية المكلفة ماديا والمرهقة نفسيا والطويلة زمنيا.
وللقصة بقية..