رشيد مشقاقة: اللغة القضائية
رشيد مشقاقة
رئيس المنتدى المغربي للقضاة الباحثين
الجزء الأول
لا تستغرب من العنوان، فأنا أعتبر باب اللغة ورشا مهما في مشروع إصلاح القضاء إن لم يكن الأهم، فإذا سألتني ما قيمة اللغة أمام الأوراش التي فتحت وأقفلت بتمامها على الشكل الذي انتهت إليه أقول لك: إن مدى نجاح تلك الاوراش و فشلها متصل بالأساس باللغة التي صيغت بها كي تدخل الى مجال التطبيق.
اللغة في الأدب كناية واستعارة ومجاز وشعر ونثر فني وخيال لطيف. واللغة في العلوم نظريات وأرقام وعلامات ومعادلات ومتواليات وهندسة وجبر وطب وما اتصل بهما. واللغة في الفلسفة أسئلة وانبهار وتردد وحيرة وحكمة. هي كذلك باعتبار الموضوع الذي تستعمل فيه، فإن لم تكن متناغمة منسجمة معبرة عنه استعصى على المخاطب بها أن يفهم ما يقوله الأديب والعالم والفيلسوف.
وبنفس المعني والمدلول والوظيفة يجب أن تكون اللغة في مجال القضاء، هي لغة قضائية أول بأول، ومتى نأت عن ذلك لم تؤد رسالتها بين الناس.
اللغة القضائية هي لغة التشريع، فالتشريع الذي يكتب بكلام مرسل ركيك نظري صرف، لا يخدم القاعدة القانونية. لأن القاعدة القانونية قاعدة قضائية، مصيرها أن تدخل ساحات المحاكم ومكاتب الأسرة القضائية فتصدر بها الأحكام وتكتب بها المذكرات وتوثق بها العقود. ويرتفع بها صوت المرافعات ومن ثم يفترض في من ينكب على التشريع أن يكون ملما بالتقنية الدقيقة التي يتحقق بها الحل القضائي من خلال قاعدة التشريع، فالحكم على الشيء فرع من تصوره، ولعل سر فشل القوانين يُعْزى بالدرجة الأولى إلى اللغة التي كتبت بها وعجز العمل القضائي على استعمالها حلاَّ للنوازل، ولم يجد القائمون على التشريع من حل سوى المبالغة في إصدار النصوص العامة والخاصة بدون طائل، ولعلك تتفق معي في أن معظم القوانين الجزئية والخاصة لم يكن لنا بها حَاجة بل كان يمكن اضافة فقرة أو فقرتين إلى النص العام للوصول الى النتيجة المبتغاة.
اللغة القضائية التي يفتقر اليها التشريع هي التي يسهل الاخذ بها في الاشغال التطبيقية للمحاكم كحل للنوازل، ويقف وراء كتابتها رجال القانون المهرة الذي راكموا تجربة عملية وأسسوا نظريات لهم في مجال اختصاصهم.
واللغة القضائية أيضا هي لغة المرافعات والمذكرات وهي متى سبحت في غير مجالها لم تؤد رسالتها، ولم تفد في ايجاد الحلول القضائية للنوازل. إن الساعات الطوال التي تستغرقها بعض المرافعات وَرُزَمُ الأوراق التي تستعمل في المذكرات لا تستطيع أن تفى بالمقصود إن لم يُصغها أصحابها في لغة قضائية تعرض للنص القانوني والعمل القضائي ونستنتج الحل من أدوات الاجتهاد المعمول بها في باب التشريع.
واللغة القضائية ينبغي أيضا أن تكون هي لغة الفقه، ليصبح فقها قضائيا، ونعني بالفقه القضائي، ذلك العلم المتصل بالجانب التطبيقي العملي القادر على صياغة الحلول الحاسمة.
ان ابتعاد الفقه عن مجال العمل القضائي، وسباحته الحرة في النظريات المستحيل تطبيقها على أرض الواقع لا يبلور دور الفقه كمصدر للقاعدة القانونية.
اللغة القضائية، تعني ترجمة الفكر القانوني في مفردات وجمل تعطي تصورا ملموسا عمليا للإشكاليات العملية وللظواهر الاجتماعية، فتقف على الحل الامثل لها إن كان موجودا، أو تسعى إلى تشريعه بدون إطناب ولا ركاكة ولا غموض ولا تكرار إن لم يوجد.
واللغة القضائية في الأحكام هي قطب الرحي، وهي لحمة القضاء وسُدَاه، فبقدر ما كانت اللغة رائقة سلسة مستوعبة مفكرة بمنأى عن الركاكة والحكي والفوازير بقدر ما أدت الأحكام القضائية رسالتها.
اللغة القضائية في التشريع والفقه والأحكام هي ورش بالغ الأهمية في إصلاح القضاء إن لم يكن أكثر أهمية على الإطلاق. و لا ننسى ما قال عنها حافظ إبراهيم:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن … فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
الجزء الثاني:
انتهيت في المقال السابق إلى أن النصوص التشريعية التي لا تكتب بلغة قضائية عملية لا يخرج مآل تطبيقها عن أمرين: فهي إما لا تطبق بالمرة أو لا تؤت أكلها متى طبقت بالشكل الذي صيغت به.
ولا يخلو أي فرع من فروع القانون من نماذج لما أقول: في قانون الكراء سواء لمحلات السكنى أو المحلات التجارية لغة غير قضائية يتعذر معها على القاضي إيجاد الحل الناجع للنوازل. فالمكتري المخل بالتزامه التعاقدي بتغيير معالم المحل يستطيع كلما أنذره المكري بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه تفاديا للفسخ القضائي أن يرهق هذا الاخير بتكرار المخالفة عدة مرات بدون جزاء.
وفي مدونة الأسرة ولغاية كتابة هذه العجالة هناك أكثر من باب ومادة لم تطبق أو طبقت خلافاً لإرادة المشرع ويكفي أن نضرب مثالا على المادة 94 التي عصفت بالباب الثاني من القسم الرابع من مدونة الأسرة جملة وتفصيلا !!
وفي مدونة الحقوق العينية لم تفلح الخلطة العجيبة بين أحكام الفقه الاسلامي في العقار العادي وأحكام العقار المحفظ في إيقاف نزيف المنازعات العقارية. ويكفي أن نضرب مثالا للتطبيقات المتباينة لأحكام بيع المريض مرض الموت والحقوق العرفية والهبة. فلم يكن الحل هو تسجيل انتماء أحكام العقار العادي وأحكام الفقه الاسلامي إلى مدونة الحقوق العينية كمواد خام وتمديد اختصاص الموثقين إليها بقدر ما كان الحل هو إعادة صياغة القانون العقاري كوحدة متكاملة متجانسة.
وفي القوانين الجنائية الخاصة وقع تضارب بين أحكامها وأحكام النظرية العامة للقانون الجنائي سواء من حيث الخروج عن مبادئ أركان الجريمة أو تكرار الفعل والجزاء في مجموعة القانون الجنائي الخاص والقوانين الجزئية الخاصة. فليس ضروريا أن يصدر قانون جديد يعرض لظاهرة يوجد محلها وحلها في القانون الجنائي العام والخاص على السواء.
وفي قانون الحالة المدنية لم يقع تجميع الدوريات والمناشير والمذكرات في شكل نصوص قانونية موحدة بلغة قضائية عملية رشيدة مما ساهم في عدم استقرار الاحكام القضائية الصادرة في هذه المادة وللتذكير فإن الحل العملي موجود لكنه مغيب.
في كل فرع من فروع القانون نصوص حديثة كتبت بلغة غير قضائية وقوانين جزئية كان يمكن أن ترد في شكل فقرات ليس إلاّ ومقتضيات قانونية حجبت وأعدمت تطبيق أبواب أخرى فأصبح انتماؤها للتقنين رقميا بلا معنى، ونصائح وارشادات وأحاسيس ومشاعر أخذت شكل نصوص قانونية.
أنا أقِرُّ أنَّ هذه العجالة لاتكفي.
في القريب العاجل سيصدر لي كتاب بعنوان” اللغة القضائية ومآل لدعوى”.
أتمنى أن يفيد القارئ الكريم.