دور السياسة التشريعية في تحقيق الأمن القانوني وبناء الدولة العصرية

خالد أوراز منتدب قضائي باحث في القانون

 المقدمة:

إن مفهوم السياسة التشريعية يرتبط بالسياق العام أو الفلسفة التي تؤطر عملية التشريع في مجال معين، بدءً من إتخاذ القرار وإنتهاءً باعتماد نصوص وقواعد قانونية، مرورا بالتحليل والتتبع والتقييم ودراسة قياس الأثر وتحديد الأولويات داخل المجتمع على وقع مطالب الأغلبية والأقلية، والضرورات السياسية، والجدوى الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية.

فالسياسة التشريعية تعني تحمل الجهات والمؤسسات السياسية والإدارية المختصة، مسؤولياتها في تحديد المسائل والوقائع التي يجب التشريع بخصوصها والتوجيه بشأن النصوص التي يجب تعديلها أو الغاؤها، حيث يتولى السياسي “المشرع” تحديد هرم الأولويات في هذا الشأن، وتكليف الصائغ الكفء بوضعها في اطار نصوص مناسبة. أما التشريع السياسي فهو فعل إرادي، خارج المنطق السليم، يضع من العملية التشريعية وصياغة النصوص القانونية في تصرف السياسة الفئوية، الحزبية أو المصلحية، دون الأخذ في الاعتبار الصالح العام للدولة.[1]

وتشكل عملية الصياغة التشريعية الاطار العام والسياق المتكامل الذي يشتمل على آلية العمل، التنظيم، توزيع الأدوار، ومهارات التعامل مع الحالات والوقائع المطروحة، وذلك بهدف الوصول الى نص قانوني واضح ومنضبط. فكل المنطق أو الذكاء أو الخلفيات التي يتمتع بها كاتب التشريع، وكل ما تأتى به النصوص المقارنة أو الوطنية من اضافات، وكل ما يتوافر للصائغ من «مواد أولية»، يجب أن تكرس لخدمة النص القانوني، من خلال عملية متكاملة وجهود منظمة وخطوات متوالية.

في موضوعنا هذا، سنخلص الحديث عن الدور الذي تلعبه السياسة التشريعية في تحقيق الأمن القانوني وكذا في بناء الدولة العصرية. وذلك من خلال تقسيم الموضوع إلى مطلبين؛ سنعمل على الحديث عن دور السياسة التشريعية في تحقيق الأمن القانوني (المطلب الأول)، وعن دور السياسة التشريعية في بناء الدولة العصرية (مطلب ثان).

المطلب الأول: دور السياسة التشريعية في تحقيق الأمن القانوني

إن الحديث عن دور السياسة التشريعية في تحقيق الأمن القانوني يستدعي مسبقا التعريف بالأمن القانوني قبل الحديث عن دور السياسة التشريعية في تحقيقة. وذلك ما سنتطرق إليه في هذا المطلب بتقسيمه إلى فقرتين؛ حيث سنتعرف على مفهوم الأمن القانوني في فقرة أولى على أن نوضح الدور الذي تلعبه السياسة التشريعية في تحقيقه في فقرة ثانية.

الفقرة الأولى: مفهوم الأمن القانوني

يعتبر الأمن القانوني مبدأ من مبادئ القانون يُتوخى منه أن يسود ويستغرق التشريع، سواء كان تشريعا أساسيا، أو عاديا، أو فرعيا، لكونه عنصر من عناصر شيوع الثقة في المجتمع، كلما كان واضحا في قواعده، وسهلا على الولوج والفهم والاستيعاب من قبل مخاطبيه، وأن يكون توقعيا. والأمن القانوني بصفة عامة مبدأ من مبادئ دولة القانون التي من سماتها الأساسية سيادة حكم القانون وفصل السلطات واستقلال القضاء، وضمان حماية ناجعة للحقوق والحريات الأساسية للأفراد والجماعات[2]. مما يعني أن الأنظمة القانونية يجب أن لا تتسم بتضخم في النصوص القانونية والتعديلات المتكررة، تفاديا لخلق حالة من عدم الاستقرار القانوني مما قد يترتيب عنه فقدان الثقة المشروعة في القانون.[3]

       إن مبدأ الأمن القانوني له دلالات تاريخية وفلسفية، تم الاعتراف به كمبدأ من طرف الاجتهاد القضائي بصفة أولية، قبل أن يتقرر ادراجه في صلب التشريعات الوطنية. لكنه لتحقيق أمن قانوني يتعين بالضرورة على السلطة التشريعية والسلطة التنفيدية اصدار تشريعات خالية من العيوب الشكلية والموضوعية تبعث على الاطمئنان وعلى استقرار في العلاقات والمراكز القانونية داخل الدولة، الشيء الذي يجب معه على القوانين بمناسبة اعدادها ومناقشتها التأكد من استيفاءها للشروط والمتطلبات التي تستدعيها المبادئ الدستورية والدولية وذك لضمان اصدار تشريعات سليمة من العيوب.[4]

مقال قد يهمك :   نقابة المحامين .. رؤية واستشراف

ونظرا لكون الأمن القانوني أصبح من مبادئ دولة القانون، فإنه يتعين على سلطات الدولة توفير شروطه والتي تمثلها العناصر التي يجب أن تسود سائر التسريعات وهي: مبدأ المساواة، مبدأ عدم رجعية القوانين، وضوح القواعد القانونية وعدم تناقضها، سهولة فهم واستيعاب القواعد القانونية من المخاطبين بها، ثم أن تكون القواعد معيارية، إضافة إلى سهولة الولوج إلى القانون وإلى المحاكم. فما هو إذن الدور الذي تلعبه السياسة التشريعية في تحقيق الأمن القانوني؟

الفقرة الثانية: دور السياسة التشريعية في تحقيق الأمن القانوني

إن السياسة التشريعية تهدف إلى توفير حالة من الاستقرار في العلاقات والمراكز القانونية، وذلك من خلال اصدار المشرع لتشريعات متطابقة مع الدستور ومتوافقة مع مبادئ القانون الدولي. غايتها إشاعة الثقة والطمأنينة بين أطراف العلاقات القانونية، بحيث يجب على التشريع أن لا يتسم بالتضخم في النصوص، أو برجعية القوانين الشيء الذي يزعزع الثقة في الدولة وقوانينها.[5] مما يعني أن الأمن القانوني أصبح مبدأ وضرورة في دولة القانون، اعتبارا لكون القاعدة القانونية يجب أن تقوم على الأمن القانوني.

إن تقديم اقتراحات قوانين حق مسند للحكومة ولأعضاء البرلمان[6]، حيث يمارس البرلمان السلطة التشريعية ويختص بمجال القانون عن طريق تقديم مقترحات قوانين تشمل القوانين العادية والتنظيمية واقتراح تعديلات قد تستهدف  كل القوانين، نظرا للسلطة التقديرية الواسعة التي ينفرد بها البرلمان دون الحكومة. في حين تمارس الحكومة السلطة التنفيذية التي تتقاسمها مع الملك بوصفه رئيسا للدولة، وفقا للشكل الذي يقرره الدستور. وبناء عليه، فالحكومة يتحدد اختصاصها في التشريع بمجال التنظيم الذي هو غير مجال القانون.

لكن لا شيء يحد من سلطتها بإقتراح القوانين سواء كانت تنظيمية أو عادية أو تقديم مشاريع تتوخى تعديل قوانين. في مجال التشريع تعتبر الحكومة مشرعا إستثنائيا أو ثانويا (الفصل 70 من الدستور)، ويختص بما لا يدخل في مجال القانون؛ أي أن مجالها هو التنظيم، و كل تنازع في الإختصاص بالتشريع بين الحكومة والبرلمان تفصل فيه المحكمة الدستورية، ومن هنا تنشأ عملية الرقابة الدستورية على التشريع التي تبدأ رقابة سياسية سابقة لإصدار القانون، تتوخى إنتاجا تشريعيا خال من العيوب الشكلية أو الموضوعية التي قد تتعارض مع الوثيقة الدستورية بوصفها أسمى قانون الذي يحدد النظام السياسي للدولة ويرسم حدود العلاقة بين السلط ويضمن توازنها، عملا بمبدأ الفصل بين السلطات، ويبين الحقوق والحريات للمواطنين والمواطنات حتى لا يقع التعدي عليها من سلطات الدولة بمناسبة الإنحراف في التشريع  أو الإنحراف في استعمال السلطة.[7]

وبصفة عامة، يمكن القول إن مدلول الأمن القانوني هو غاية القانون، ووظيفته هي تأمين النظام القانوني من كل الاختلالات والعيوب التشريعية التي قد تعتريه، وهو ما يستدعي سن تشريعات يجب أن تتسم بالوضوح في قواعدها، وتفادي اصدار تشريعات مضطربة بعد تنامي وشيوع حالة عدم الأمن القانوني. فهل يمكن القول أن السلطة التشريعية لها دور أيضا في بناء الدولة العصرية؟ هذا ما سنحاوله توضيحه في المطلب الثاني من هذا الموضوع.

مقال قد يهمك :   فراجي: القانون الجنائي لا يجرم الاغتصاب الزوجي

المطلب الثاني: دور السياسة التشريعية في بناء الدولة العصرية

يستدعي منا الحديث عن دور السياسة التشريعية في بناء الدولة العصرية، أن نوضح أولا ما المقصود بالدولة العصرية (الفقرة الأولى)، قبل أن نعرج على دور السياسة التشريعية في بناءها (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: مفهوم الدولة العصرية

يرى الأستاذ حسن أبشر الطيب في كتابه “الدولة العصرية” أن الدولة العصرية هي دولة المؤسسات، في حين يرى د. عبد الخالق عبد الله أن الدولة هي الوحدة الارتكازية في العالم المعاصر قائلا: “رغم تعدد الوحدات السياسية في العالم المعاصر، تظل الدولة هي وحدثه الارتكازية”. كما يرى بعض فقهاء القانون أن الدولة العصرية هي دولة الحق والقانون.

فالدولة العصرية تعتمد على مجموعة من الوظائف، من خلال الإدارة الحكومية المتمثلة في مؤسساتها السياسية والتشريعية والقضائية والتنفيذية. فالسمة المميزة للدولة العصرية هي أنها دولة مؤسسات بالقدر الذي أصبح فيه بناء الدولة وتأصيل سبل النمو والتجديد الحضاري فيها يعتمد اعتمادا أساسيا على كفاءة وفعالية مؤسساتها.[8]

فقد نجمل القول بأن الدولة العصرية هي دولة مؤسسات وهي أيضا دولة الحق والقانون. لكن أين يتجلى دور السياسة التشريعية في بناء الدولة العصرية؟

الفقرة الثانية: دور السياسة التشريعية في بناء الدولة العصرية

إن الغاية الأساسية من وراء التشريع هي ضبط المجتمع وتنظيمه وهذا يجعل سلطة التشريع تسعى دائما إلى تجويده للإرتقاء بما ينظمه، ولعل هذا ما تغيته السياسة التشريعية عقب دستور 2011. لكن ما عاق طموح هاته السياسة حملها لمبادئ لم يستصغها المجتمع. وعلى سبيل المثال فكرة دولة المؤسسات التي كرس لها الدستور عبر السمو بمجموعة من المؤسسات عن طريق التشريع الدستوري (المجلس الأعلى للسلطة القضائية، المجلس الأعلى للحسابات، المحكمة الدستورية، مؤسسات الحكامة الجيدة). صحيح أن هذا التكريس يرسخ لبناء دولة عصرية، لكن هذا التشريع نجده في قطيعة مع المجتمع، نظرا لقلة الوعي بالدور الذي تلعبه هذه المؤسسات الدستورية في بناء دولة الحق والقانون.[9]

وإن قيام دولة القانون يقتضي قيام أسس ومبادئ أهمها وجود دستور يحكم هذه الدولة، يحمل في طياته بيانا لمبادئ أخرى لا تقل أهمية عن المبدأ الأول، تتمثل في استقلالية القضاء، والفصل بين السلطات. هذا الأخير يفترض توزيع السلطات في الدولة بين ثلاث هيئات، إذ تختص السلطة التشريعية بصنع ووضع التشريع، وتنفرد السلطة التنفيذية بتنفيذ ما صنعته ووضعته السلطة التشريعية. وتختص السلطة القضائية بتطبيق نصوص ذلك التشريع على ما يعرض أمامها من نزاعات مختلفة. وهذا معناه اندثار ما يسمى بالمفهوم المطلق للسيادة، والذي يتنافى تماما مع تقرير مسؤولية الدولة عن أعمالها، بالنظر لتناقض فكرتي سيادة الدولة من جهة، ومسؤوليتها من جهة أخرى. وعليه، فخضوع الدولة للقانون يطبق في كل ما يصدر عن الدولة من أعمال مهما اختلفت باختلاف السلطات وتعددها.[10]

فالسياسة التشريعية تسعى إلى بناء دولة القانون؛ وذلك من خلال تشريع قوانين من طرف السلطة التشريعية (البرلمان)، هذه القوانين التي يجب أن تكون مطابقة للدستور والتي لا يمكن لأي كان مخالفتها، بمنطق أن القانون فوق الجميع ولا يجوز مخالفته. كما تعمل السلطة التنفيذية المتمثلة في الحكومة على تنفيذ التشريعات. أما السلطة القضائية فتسعى إلى تطبيق القانون من خلال الفصل في المنازعات وتحقيق العدالة، وتكون مسؤولة عن مصداقية القوانين التي تطبق في الدولة. ولن ننسى الدور الهام الذي تلعبه المحاكم الدستورية في النظر في مدى دسورية القوانين.

مقال قد يهمك :   التربص حول المواطنة كنظام بديل للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة-دراسة مقارنة -

نستخلص مما سبق أن السلطة التشريعية لها دور هام في بناء الدولة العصرية، دولة المؤسسات ودولة الحق والقانون.

خاتمة:

ختاما، يمكن القول أن السياسة التشريعية لها دور هام في الإرتقاء بالتشريع، هذا الأخير الذي يعتبر الركيزة الأساسية لجودة القواعد القانونية، وبالتالي توفير الأمن القانوني  والذي يرتبط بشكل أساس في ظل واقع متغير بمدى الحرص على تطبيق القانون بين مجموع المواطنين بالتساوي. ولا يمكن الحديث عن الأمن القانوني دون التطرق إلى ضرورة كون القانون واقعيا يتسم بالوضوح وسهولة الولوج إليه.

فرغم كل الإشكالات التي تعيق السياسة التشريعية إلا أنها لا تزال سياسة طموحة  تسعى جاهدة إلى تجويد النصوص التشريعية من أجل توفير الأمن القانوني. مما يساهم في بناء الدول المعاصرة، دولة الحقوق والحريات وفق معايير حددها المنتظم الدولي.

صفوة القول، تلعب السلطة التشريعية دورا هاما في توفير الأمن القانوني ولها أيضا دور فعال، لا يقل أهمية عن سابقه، في بناء الدولة العصرية، دولة المؤسسات ودولة الحق والقانون.


الهوامش:

[1]– بلال عقل الصنديد، دراسة متطلبات التشريع الجيد: نحو ISO للصياغات القانونية. مقال من الانترنت (https://www.alanba.com.kw/ar/kuwait-news/307610) تاريخ الزيارة: 12/12/2019 الساعة 14:05.

[2]– عبد المجيد غميجة، مبدأ الأمن القانوني وضرورة الأمن القضائي، مجلة الحقوق المغربية، العدد السابع، 2009، ص 33.

[3]– الأمن القانوني والأمن القضائي، المنصة القانونية، ص:1، (WWW.SAJPLUS.COM) تاريخ الزيارة: 19/12/2019 الساعة 17:48.

[4]– مصطفى بن الشريف، الأمن القانوني والأمن القضائي، مقال من الأنترنت، (http://droitagadir.blogspot.com/2016/01/blog-post_79.html)، تاريخ الزيارة 25/12/2019، الساعة 15:11.

[5]– يسرى محمد العصار، الحماية الدستورية للأمن القانوني، مجلة الدستورية، القاهرة، عدد 3، سنة 2003، ص 51.

[6]– حسب الفقرة 1 من الفصل 78 من الستور.

[7]– مصطفى بن الشريف، مرجع سابق.

[8]– ذ. حسن أبشر الطيب، الدولة العصرية دولة مؤسسات، القاهرة، سنة 2000، ص 14. (بتصرف)

[9]– الطالب الباحث عبد الكريم صبري، السياسة التشريعية بالمغرب بين رهاني تجويد النص التشريعي وتحقيق الامن القانوني، مقال من الانترنت، (https://www.maroclaw.com/)، تاريخ الزيارة 17/12/2019، الساعة 15:30.

[10]– حبشي لزرق، أثر سلطة التشريع على الحريات العامة وضماناتها، أطروحة دكتوراه، جامعة أي بكر بلقايد تلمسان، كلية الحقوق والعلوم السياسية، سنة 2012-2013، ص 1.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)