جدلية العدالة والانصاف بين نص القانون وروح القانون
بوزرادي محمد طالب باحث بسلك ماستر المهن القانونية والقضائية
إن الحديث عن موضوع الجدلية القائمة بين نص القانون وروحه ليس بالأمر السهل والهين، لاعتبار أن مصطلح العدالة والانصاف لهما ارتباط وثيق بالحقل القانوني بصفة عامة، والجسم القضائي بصفة خاصة، لأنهما ذو علاقة وطيدة بالحقوق والحريات الفردية.
وللوقوف أكثر على دلالات كل مصطلح على حدة، ولمعرفة ماإذا كانت هيئة الحكم تميل إلى تطبيق القانون بنصه أم بحرفيته. لابد من طرح إشكالية محورية كبرى وهي:
-هل العدالة الحقيقية تتجسد من خلال الاحتكام إلى روح النص القانوني أم الوقوف على حرفيته؟؟
هذه الإشكالية تتفرع عنها عدة تساؤلات فرعية وهي:
– هل ينبغي تطبيق العدالة بين الناس بالتساوي أم يجب إنصاف كل واحد منهم؟
-إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة فهل بإمكانها إنصاف الجميع؟
-هل يعترف القانون بروح النص أم بحرفيته؟
-أيهما يخدم مصلحة العمل؟
كثيرا ماينعت الانصاف بالعدالة الحقيقية ، لأنه يحكم بروح النص وليس بحرفيته، ويتعامل بطريقة عادلة مع جميع الأفراد، وهو دائما يتدخل إما لإكمال النص القانوني أو لإصلاحه.
فنقول مثلا د: فلان أنصف الخصمين أي سوى وعدل بينهما وعاملهما بالمثل.
ونص القانون معناه التعامل الحرفي مع النصوص التشريعية من غير زيادة أو نقصان.
إلا أنه في مقابله ينتصب مفهوم روح القانون الذي ينسجم مع معنى العدالة والتي هي شعور إنساني مصدره الضمير وأساسه العقل السليم والنظر الصائب تحقيقا للمساواة بين الحالات المعروضة أمام أهل الإختصاص، آخذين بظروفها وملابساتها، ولتوضيح الفارق بين نص القانون وروح القانون نورد المثال التالي:
فمثلا القاعدة القانونية في جريمة السرقة المنصوص عليها في مجموعة القانون الجنائي المغربي تقضي بعقوبة من سنة إلى خمس سنوات وغرامة مالية
لكن عند مثول المتهم أمام القضاء بتهمة السرقة تبين للقاضي وبعد استجوابه أن للمتهم ظروف خارجية اجتماعية أجبرته على اقتراف الفعل، إذن فالقاضي في هاته الحالة لايمكن له أن يطبق العقوبة المحددة في النص ذاته بل لابد له من الخروج عن تطبيق حرفية هذا النص والاحتكام لروحه، وذلك لتمتيعه بظروف خارجية.
وروح القانون لايعني إباحة ماهو ممنوع ومجرم، وإنما يدفع إلى إعمال الشعور الانساني والضمير والعقل السليم للأخذ بظروف وملابسات كل حالة على حدى.
إذن يمكن القول أن الفرق الجوهري بين مفهومي العدالة والانصاف هو أن:
العدالة تساوي تطبيق النص التشريعي حرفيا.
بينما الانصاف هو الحكم بروح القانون وليس بنصه.
وهذا فيه تحقيقا للمساواة اعتمادا على ظروف وملابسات كل قضية.
وحتى تتضح الصورة أكثر فأكثر لابأس أن ندلي بالمثال الآتي:
نفترض مثلا:
أن أجنبي طلب من القاضي اللجوء السياسي بطريقة غير شرعية، وقد يستجيب له نظرا لحالته الحرجة وتعرضه للاضطهاد في بلده، احتراما للمبدأ القاضي بإعمال روح القانون.
ومنه فإن القاضي من خلال المثال أعلاه، قام بتطبيق النصوص القانونية بروحها وليس بحرفيتها، وهذا هو المتوخى من قواعد العدالة والانصاف.
وحيث إن القوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية بغض النظر عن التفاوتات القائمة بينهما، وذلك استنادا للفصل السادس من الدستور المغربي لسنة 2011 الذي يعد أسمى تعبير عن إرادة الأمة،[1] بالإضافة إلى أن الدستور هو أداة لتنظيم المجتمع وحماية حقوق وحريات الأفراد، وتحقيق العدل، والانصاف بين الناس، وكذا ضمان حسن سير مؤسسات ولتحقيق كل هذا لابد من وجود الاعتراف بإلزامية القواعد الدستورية في الضمير المجتمعي.
ومن هنا يمكن القول على أن العدالة هي على مستويين:
*المستوى الأول مرتبط بالمؤسسات القانونية والقضائية المنظمة للعلاقات المجتمعية، بحيث تعمل هذه المؤسسات على تنظيم العلاقات البشرية من خلال سنها لمختلف القواعد القانونية والجزاءات العقابية تفاديا للصراعات التي قد يقع فيها أفراد المجتمع.
* المستوى الثاني يرتبط بالعدالة كدلالة أخلاقية يطلع الجميع لاستلهامها، وهذا المستوى مرتبط أساسا بقواعد المجاملات التي ترتكز أساسا على إنكار الناس للسلوك المذموم الذي قي يقع على الساحة المجتمعية.
وعموما يمكن القول على أن الانصاف هو مبدأ لإصلاح وترميم وأنسنة العدالة، لاعتبار أن العدالة الحقيقية ليست بمساواة مطلقة وليست بإنصاف مطلق، وإنما هي حد وسط بينهما، وللقضاء على الجدلية للقائمة بين روح القانون وحرفيته لابد من فهم النص القانوني فهما صحيحا.
وحيث إن روح القانون هو مجرد فكرة أو قناعة تتجلى عند تفسير النص القانوني وتحليله واستخلاص ماهيته، ذلك أن القاضي عندما يعمل على قراءة الأوراق والمستندات وتمحيص الأدلة والتأمل في الشواهد ودراسة القضية بكل حيثيلتها تبدأ الحقائق في الظهور ليخلص إلى الحكم النهائي بشأنها.
وبتأملنا للنص القانوني نجد له روح جوهرية وشكل خارجي، وقد يكون النص القانوني المراد تطبيقه مجحف نوعا ما مع الواقعة المعروضة، لذلك يتم اللجوء إلى المعاني الأساسية لهذا النص، وهذا يكون في حالة وجود واقعة استثنائية تجعل تطبيق النص القانوني بحرفيته مستحيلا أو منافيا للعدالة[2].
وتطبيق روح القانون يستوجب بالأساس دراسة النص مع فهم الواقعة لتطبيقه عليها، ومن ثم يكون النص القانوني عادلا في تطبيقه من قبيل الالتفات إلى روح تلك المعاني الشمولية كما أن القاضي ملزم بالبحث في معاني النص عن غايات التطبيق أثناء معالجته للقضية، وهذا فيه دليل على أن العدالة لاتكمن فقط في إنتاج النصوص وإنما في تطبيقها تطبيقا سليما من خلال تفسيرها والاحتكام إلى مقاصدها.
ومن ثم فإن النصوص القانونية ليست غاية، وإنما هي وسيلة للوصول إلى مايحفظ حقوق الأفراد والمجتمع على حد سواء.
وأعظم من طبق روح التشريع والقانون هو محمد صلى الله عليه وسلم لوجود جانب إنساني رغم ثبوت الجريمة بكامل أركانها[3].
نفس الاتجاه خطاه قضاءنا المغربي، ويمكن أن نستعرض كمثال لهذه الحالة قضية الزيوت المسمومة والذي طبق فيها للقانون بأثر رجعي ردا على كل من سولت له نفسه المس بسلامة وصحة المواطنين[4].
وحيث إن القضاة يواجهون في القضايا الجنائية ملفات يكثر فيها تطبيق روح بينما تقل هذه الملفات في القضاء الإداري، لاعتبار أن القضاة في الحقل الإداري ملزمون بمقتضى نصوص قانونية الاحتكام للنص القانوني بحرفيته.
ولتوضيح هذه المسألة لابد أن نعرف بأن المشرع عندما قام بسن النصوص القانونية، أورد عبارات تحمل معاني مختلفة ومواقف كثيرة، لذلك فإن روح القانون تتضح عند تفسير النص القانوني ودراسة القضية.
فمثلا إذا صدر قرار حكومي مخالف لقانون إداري يتم الحكم بإلغاء القرار وما ترتب عليه من آثار.
ولهذا نجد أن روح القانون تظهر بقوة في بعض القضايا وتقل في قضايا أخرى، وفي النهاية تظل روح القانون هي القشة التي يبحث عنها الغريق في لحظة أمل[5].
كما أن القاضي وهو ينظر في القضية ويدرسها يجب عليه أن يأخذ بعين الاعتبار مختلف الدوافع النفسية والعقلية أو حتى الظروف الخاصة بالزمان والمكان التي أدت إلى حدوث الفعل المجرم، فتنتفض بداخله روح القانون وهو يبحث في النصوص القانونية ليحكم بما يناسب مع حيثيات النازلة د، وذلك وفقا للسلطة التقديرية الممنوحة له بمقتضى القانون.
ومن ثم يمكن الخروج بقاعدة مفادها أن التطبيق السليم للقانون لايتعلق بالنصوص ذاتها بقدر مايتعلق بالشخص الذي يطبق القانون، إذ يجد نفسه بين التطبيق الحرفي للنص وبين الخروج عنه والاحتكام إلى بالإضافة إلى عنصر لايقل من الأهمية، ويتعلق الأمر بالضمير المسؤول الذي يجعل حقوق وحريات الأفراد فوق كل اعتبار.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الاحتكام للنصوص التشريعية القانونية التي أعطت الأولوية في الحماية للحقوق والحريات الفردية د، وكذا تكريس العدالة الاحتماعية وهذا يعد من بين المضامين الذي جاء بها الدستور المغربي الجديد لسنة 2011.
[1] الفصل السادس من الدستور المغربي: “القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع…”
[2] عبد اللطيف القرني، أهمية روح القانون، منشور بجريدة العرب الاقتصادية الدولية، الأربعاء 4 مارس2015.
[3] عبد اللطيف أهمية روح القانون، مرجع سابق.
[4] أحمد أبو العلا، الجريمة: تعريفها، أركانها،الأسباب المبررة التي تمحو الجريمة.
[5] منية القمح، روح القانون، نقابة المحامين.
https//scontent.freba3-2. Fna. Fbcdn.net