تقرير النموذج التنموي بين الرغبة في التغيير وإكراه السقف السياسي
عبد الرحيم العلام أستاذ جامعي
غالبا لم يكن العديد من المواطنين ينتظرون أن تأتي لجنة النموذج التنموي بأفكار قوية في موضوع الإصلاحات التي تهدف إلى تطوير المغرب اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا، وذلك بالنظر إلى طريقة تعيينها، وتركيبتها، ومنهجية اشتغالها، إضافة إلى السقف المحدد لها. وإنما كان المنتظر من هذ اللجنة أن تكون، على الأقل، في حجم القليل من الانتظارات “المسقوفة”، وأن ينتج عنها تقرير تركيبي في المستوى المطلوب.
إلا أن القراءة المتفحصة للتقرير التركيبي، لم تمنحنا الكثير للاحتفاء به، بما أن جل الأفكار الواردة في التقرير هي متضمنة في الكتب الجامعية، وتوصيات الندوات التي تنعقد في ربوع المملكة، كما شكلت موضوعا لتقارير محلية ودولية، بل إن بعض الأفكار الواردة في التقرير تسببت في اعتقال العديد من المواطنين بسبب حديثهم مثلا عمّا أسماه التقرير “عدم الثقة في القضاء” أو “تطوير منظومة العدالة وتجنيبها الرشوة والفساد والبيروقراطية” كما جاء في إحدى توصيات اللجنة.
أشار التقرير إلى ضرورة الحسم مع اقتصاد الريع، وهو المطلب نفسه الذي نص عليه الدستور، وهذا أمر جيد ومأمول، وطالما صرخت حناجر الناس بضرورة التوقف عن تشجيع اقتصاد الريع. لكن يبقى السؤال: هل ستحقق الدولة هذا المطلب بأن تتوقف عن منح الرخص الريعية للصيد في أعالي البحار واستغلال مقالع الرمال ورخص النقل والفصل بين الثروة والسلطة؟ علما أن التقرير اكتفى بإشارات عامة لدمقرطة الحياة الاقتصادية؛ فرغم إشارته إلى ضرورة تعديل القانون الجنائي فيما يتّصل بالعنف ضد النساء، وهذا أمر جيد، إلا أنه لم يوص بضرورة إخراج التشريع الذي يجرّم الإثراء من دون سبب.
تطرق التقرير إلى التأثير السلبي لضعف الحكومات على التنمية الاقتصادية، وإبطاء وتيرة الإصلاحات، وخلق أجواء عدم الثقة. وهذا أمر جيد، وطالما قرأنا حوله الكتب والمقالات، وعُقدت بخصوصه الندوات، وخرجت من أجله المسيرات الاحتجاجية المطالبة بتوفير الشروط السياسية لتطوير العمل الحكومي، وربط المسؤولية بالمحاسبة القضائية والسياسية، وأكيد أن ذلك لن يتأتى إلا إذا كانت الحكومة مسؤولة بشكل كامل عن السلطة التنفيذية في إطار ما يطلق عليه في الأدبيات السياسية بـ”الملكية البرلمانية”، وإعادة النظر في القوانين الانتخابية والتقطيع الانتخابي، مما يتيح انتخاب حكومة منسجمة مكونة من عدد قليل من الأحزاب.
لكن هل هذا هو الذي يحصل في المغرب؟ طبعا الجواب هو لا. وهل هذا هو ما سيحصل بعد توصية تقرير لجنة النموذج التنموي؟ إذا علمنا أن القوانين الانتحابية التي صدرت قبل نشر التقرير قد نصت على أن القاسم الانتخابي سيكون على أساس عدد المسجلين، فإن الجواب هو أننا لن نشهد في القادم من حكومات إلا مزيدا من البلقنة والضعف. وآنذاك ستكون الحكومة ضعيفة ولا رائحة لها، ومن هنا سيكون للتوصية التي جاءت في التقرير بخصوص إحداث آلية تحت إشراف الملك من أجل تتبع توصيات اللجنة، مفعولها، بمعنى أننا سنشهد مزيدا من ضعف العمل الحكومي مع تكريس لآلية غير دستورية من أجل التتبع!
أشار التقرير ـ بحق ـ إلى أن “الإعفاءات الجبائية ما زالت تستفيد منها بعض القطاعات التقليدية، ذات مردودية اقتصادية ضعيفة”، وهذا يعني أنه يجب على الدولة إعادة النظر في تضريب هذه القطاعات ـ التي لم يتجرأ التقرير على ذكرها بالاسم رغم أنه تطرق للموضوع أكثر من مرة – والحسم في موضوع تضريبها. لكن من المسؤول عن هذا الإعفاء غير المستحق طيلة عقود من الزمن؟ ومن أعفى، مثلا، الضيعات الفلاحية الكبرى من أداء الضرائب؟ ومن هم كبار الفلاحين في المغرب؟ ومن المسؤول عن التحايل الحاصل في تضريب القطاع بعدما تم تضريبه من خلال تقسيم الضيعات حتى لا تصل إلى السقف المعني بالضريبة؟
وفي علاقة بالضريبة، فإن التقرير لم يتوان في أن يوصي بضرورة خفض الضرائب على الشركات التي لديها أنشطة مفتوحة على الخارج، من أجل تقوية تنافسيتها. لكن بعد هذه التوصية مباشرة، يرى التقرير أن تمويل النموذج التنموي الموعود سيكون من خلال الدين الخارجي ـ الذي لا مفر منه حسب اللجنة – والضرائب، وتحفيزات الاستثمار.
وإذا علمنا أن النسبة العظمى من ميزانية الدولة تتشكل من الضرائب، فإن السؤال المطروح على اللجنة هو: من أين سيمول النموذج التنموي إذا تم خفض الضرائب على هذه الشركات؟ أم إن خفض هذه الضرائب ستصاحبه زيادة الأعباء الضريبة على الأجراء والموظفين والاقتصاد غير المهيكل؟ علما أن اللجنة تفترض أن نسبة النمو ينبغي أن تصل إلى ما بين %6 و%7 إذا ما أريد لنموذجها النجاح.
ورد في التقرير أن “سيادة ثقافة الإمتثال داخل الإدراة، بدل ثقافة الريادة وحسن الأداء، تولد الإحباط ولا تشجع على المبادرة”، وهذا أيضا صحيح، لكن من المسؤول عن هذا التكريس لثقافة الخضوع والطاعة، هل المواطن أم الدولة ومؤسسات تنشئتها؟ ألا نتعلم في الوسائل الإيديولوجية للدولة الانتظارية وعدم المبادرة، ونُنصح بضرورة الركوع والانحناء والامتثال وطأطأة الرأس بالموافقة، وتجنب “جريمة” النقد والاعتراض؟ أم إن تقرير اللجنة سيغير من هذا الوضع؟ نتمنى ذلك!
ولأن السقف السياسي للّجنة لم يكن ليمنحها القدرة على الحديث مباشرة عن موضوع حقوق الانسان، والإصلاحات الدستورية والسياسية، فإن التقرير حاول التطرق لموضوع الحريات بطريقة غير مباشرة حينا، وبنوع من “الاستحياء” حينا آخر؛ فتارة يتحدث عن الحريات الفردية والعامة (لا يسميها مدنية أو سياسية)، وتارة أخرى يدعو إلى تنقيح المنظومة القانونية، وتطهيرها من قِبل البرلمان والمحكمة الدستورية من خلال مسطرة الدفع بعدم الدستورية (علما أن الأمانة العامة للحكومة ـ وزارة غير “سياسية” – ما زالت تحتجز القانون التنظميي للدفع بعد الدستورية، رغم مرور عشر سنوات على الإقرار الدستوري). كما أشار التقرير – بحق ـ إلى أن ضعف شعور المواطنين بالحماية وعدم القدرة على التوقع، يحد من مبادرتهم، بسبب ما أسماه “الهوة الواسعة بين بعض القوانين التي تتخللها مناطق رمادية وبين الواقع الاجتماعي”، وهذا يستدعي من المسؤولين الموجه إليهم التقرير أن يحققوا الحماية للمواطنين، ويشعرونهم بالاستقرار والاطمئنان على حرياتهم.
وفي سياق استعراضها لعوائق التنمية، عوّمت اللجنة مسألة المشاركة السياسية ضمن العائق الرابع والأخير، واختصرته في النصح بإعادة الحيوية للمنظمات الوسيطة، لا سيما الأحزاب السياسية، من خلال دعوة هذه الأخيرة إلى الانفتاح على ما أسمته اللجنة “القوى الحية”، وغيرها من الإجراءات التي يمكن أن ينص عليها بحث السنة الأولى في علم السياسة. والحال أن عمق الأزمة السياسية يتجلى أساسا في تاريخ طويل من إضعاف العمل الحزبي، عبر تشجيع السلطة للانشقاقات، وتشكيل أحزاب إدارية مهمتها الأساسية هي تأثيت المشهد السياسي، والتشويش على الأحزاب التي تحمل أفكارا اعتراضية على سياسات النظام السياسي. فضلا عن تأزيم الأحزاب السياسية من خلال جلعها غير قادرة على تنزيل برامجها السياسية، وبلقنة المشهد السياسي من خلال قوانين وتقطيعات انتخابية، وإثقال الحكومة بالتقنوقراط، وسلك الحياد السلبي لوزارة الداخلية خلال العملية الانتخابية، وغياب هيئة يثق فيها الجميع للإشراف على الانتخابات، وعد توفر الإرداة من أجل ترسيخ الإعلام الحر والمستقل، وإشاعة أجواء الحريات، وتحرير الفضاء العمومي من المنع والرفض والقمع، وغيرها من الإجراءت التي تدعم المشاركة السياسية وتقلل من حجم اللامبالاة.
ومن أجل تجاوز بطء التشريع وضعف كفاءته، وفي سبيل قيام البرلمان بدوره في التقييم والرقابة، تفتقت عبقرية معدّي التقرير وأنتجت توصية تتضمن الدعوة إلى ضرورة تمكنيه من الموارد المادية والتقنية! بمعنى أن البرلمان لا ينقصه إلا المال والتقنية، بينما له من الصلاحيات الواسعة التي تمكنه من أداء الأدوار التي تقوم بها البرلمانات في العالم؛ لا تنقصه الصلاحياتت الدستورية، ولا الإرادة السياسية، ولا عدم قدرته على استجواب الوزارات والعديد من مسؤولي المؤسسات العمومية، ولا يعاني من الإزدواجية المجلسية غير المبررة، ولا تنقصه كفاءة قاطنيه وتضخّم عددهم، وليس في حاجة إلى تعديل القوانين الانتخابية من أجل ضمان الأغلبية المنسجمة والمعارض القوية، بل كل ما ينقص البرلمان هو المال والتقنية (هكذا!).
ولعل مزاوجة التقرير بين انتقاد الأوضاع في أكثر من موضع، وبين الانخراط في الإشادة والمدح، هي ما جعلته يقع في تناقضات معتبرة؛ فمثلا يورد في إحدى فقراته: “إن بلادنا تمتلك الآن القدرة على تحويل مزايا ثقافتها السياسية الفريدة إلى رافعات قوة”، ثم يعود في فقرة أخرى إلى النصح بضرورة تغيير الثقافة السياسية السائدة. كيف تتحول الثقافة السياسية الفريدة إلى عائق نحو التطور؟ فإما أن ثقافتنا السياسية جيدة ومن شأنها تطوير اقتصادنا وإما أنها العائق الأكبر. لكن التقرير لم يحسم هذا الأمر، ربما بسبب طريقة الاشتغال، حيث يتم تكليف كل فريق بإعداد الفقرة أو المحور الخاص به، وهذا بدا جليا في التكرار، الحرفي أحيانا، الوارد في بعض فقرات ومحاور التقرير. أما المثال الآخر على التناقض المشار إليه، فهو مسألة السلطة التقديرية، فهو حينما يرصد مطالب المواطنين بخصوص القضاء، فإنه يَخْلص إلى أن المواطنين لا يثقون في القضاء، لكنه يوصي بأن يجعل التعصيب في الإرث ضمن مجال تقدير القضاء. علما أنه في إحدى الفقرات يدعو إلى “تقليص السلطة التقديرية التي تتيح المجال للتعسف”، فكيف يمكن المزاوجة بين تقليص السلطة التقديرية، وفي المقابل إضافة مجال آخر للتقدير بالنسبة للقضاء؟
وفي موضوع شكل الدولة، انتقد التقرير بشكل مباشر مركزية الدولة، واعتبر أسلوبها “أقل وجاهة وملاءمة مع التوجهات الأخيرة، لا سيما مع مستقبل متّسم بالغموض”. وهذا يعني أن التقرير غيرُ راض على التوجه المركزي للحكم في المغرب، وبما أن كل مسؤولي الدولة اليوم يشيدون بالتقرير، وهم على استعداد للانخراط في ديناميته، فإن الفرصة مواتية لكي يبتعدوا عن هذا التوجه المهمِّش للمحليات والجهات، وعلى رأس هؤلاء وزارة الداخلية، التي منعت حتى انعقاد المجالس المنتخبة خلال الأزمة الوبائية، وما على الفاعل المركزي في الدولة إلا نقل صلاحيات المركز إلى الإقليم. لن يحتاج الأمر إلا للإرادة والفعل، ولن تخرج مسيرات مناهضة لذلك، ولن يحتاج الأمر إلى تنشئة سياسية بطيئة. فهل يحصل ذلك؟!
وفي ما يتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، أوصى التقرير بضرورة تحميل المسؤولية لكل المسؤولين عن المهام الموكولة إليهم، حيث ورد فيه: “لا يمكن القضاء على جيوب الفساد والمصالح الفئوية (…) دون إخضاع صانعي القرار للمسؤولية تجاه المهام الموكولة إليهم”، ما يفيد بأن أي مسؤول في البلاد، كبُر منصبه أو صغر، عليه أن يُسأل عن المهام التي أسنِدت إليه، وأن يحاسَب على أي تقصير يقوم به، وهذا هو الذي تسميه الأدبيات السياسية بـ “الديمقراطية” و”الملكية البرلمانية” (يسمى المسؤول مسؤولا لأنه يُسأل، وإذا لم يرغب في أن يُسأل فإنه لا يتحمل المسؤولية، الملك في بريطانيا لا يخطئ لأنه لا يتحمل أية مسؤولية)، بمعنى أن المغرب مدعو للتعجيل بالإلتحاق بمصاف الدول الديمقراطية، وهذا طبعا لا يستدعي إلا إرادة صانعي القرار. وهو المطلب نفسه الذي جاء قبل سنوات في تقرير الخمسينية وباقي التقارير التي شُكلت من أجلها لجان متعددة، لكن أفكارها ظلت حبرا على ورق أو طواها النسيان رغم أن اللجان التي سهرت عليها استهلكت قسطا من أموال دافعي الضرائب.
ومن باب السماء زرقاء، أورد التقرير مطلبا ملحا، هو نفسه المطلب الذي يرفعه جميع المغاربة الذين يهتمون بالشأن العام، مضمونه: “توطيد عدالة ناجعة ونزيهة، وسن قوانين واضحة لا يكتنفها غموض أو مناطق رمادية، وترسيخ وحماية الحريات”، علاوة على “استكمال إصلاح القضاء بشكل كامل (…) قصد تحسين أدائه، والتقليل من بطئه، ومحاربة الرشوة على جميع المستويات، بصفتها مصدرا للتعسّف وانعدام الحماية للمواطنين”. وهل يرفض مواطن هكذا إجراء؟ وهل خلا كتاب أو مقال أو وقفة أو مناسبة سياسية من هكذا مطلب؟ لكن ورغم إلحاحية هذا المطلب، إلا أنه ظل لعقود مجرد حلم للمواطنين، وها هو يتكرر في تقرير لجنة شكلها رئيس الدولة، كما ورد في تقارير سابقة شُكّلت بالطريقة نفسها. بل يمكن القول إن توصيات لجنة النموذج التنموي لم ترق حتى إلى ما جاء به الدستور بخصوص التنصيص على استقلالية القضاء، لأن من المطالب الأساسية للمجتمع المغربي، يبرز مطلب الاستقلال الحقيقي والفعلي للقضاء، لكن التقرير لم يقو على مجرد التذكير بما جاء في الدستور، وظل يحوم حول الموضوع دون ذكره، بأن تحدث تارة عن “العدالة الناجزة”، و”منظومة العدالة” تارة أخرى، داعيا إلى تقوية كفاءة القضاة، رغم أن القضاء لا يعاني من ضعف الكفاءة عموما، وإنما يعاني من تقييد طاقاته، وحرمان القضاة من حريتهم في التعبير المكفولة دستوريا، والحق في تأسيسي الجمعيات، وأكيد أن أصحاب التقرير على علم يقين بالمعاناة التي يكابدها القضاة جراء عرضهم على المجالس التأديبة بسبب تدوينات ومقالات تدخل في صميم حقهم في التعبير، ومنهم من طرد من وظيفته.
ومن الملاحظات الرئيسية حول مضمون التقرير، أنه يعيد المطالب نفسها التي ينادي به المجتمع وقواه الحية منذ عقود، دون أن يفصّل في سبل الوصول إلى هذا المبتغى، مما جعله ينحو أحيانا في اتجاه مقالات الرأي التي تعترض وتنتقد وتطالب. والحال أن التقرير ينبغي أن يقترح إجراءات تنفيذية؛ فهو مثلا عندما يقر بأنه من دون “إعلام مستقل” لا يمكن للبلد أن يتطور، فإنه لا يخبرنا كيف نجعل هذا الإعلام مستقلا، ولا يفصّل في المعيقات التي تجعل الإعلام غير مستقل، ولم يقدم أي توصيات لصانعي القرار من أجل حماية الصحافيين، وعدم تعريضهم لصنوف العقاب والتضييق. وفي غياب هذه الإجراءات، التي كنا نتوقع أن يزخر بها التقرير، فإنه يبقى عبارة عن رأي صدر عن لجنة استمرت في أشغالها حوالي السنتين.
وفي موضوع التعليم، أوصى التقرير بضرورة تحسين “جودة تكوين المدرسين (…) وتثمين هيئة التدريس والارتقاء بمستوى كفاءاتها وتأطيرها”، لكنه لم يشر إلى أهم مدخل لتعزيز قدرات هيئة التدريس (لا أدري ما هي الدراسات الميدانية التي استنتج من خلالها أصحاب التقرير بأن هناك “أزمة ثقة لدى المغاربة إزاء المؤسسة التربوية وهيئتها التربوية”)، هو تحسين دخولها المادية، حتى توفر لأعضائها سبل العيش الكريم، ويتفرغوا لمهمتهم التدريسية والبحثية، بدل استمرارهم في الاحتجاجات الأسبوعية من أجل إدماجهم في الوظيفة العمومية أو زيادة أجورهم. وعندما أشار التقرير إلى الجانب المادي، فإنه ربط الأجر بالمردودية، وذلك بأن يتم “حث المدرسين على تحسين أدائهم عن طريق توفير المزيد من إمكانيات الترقي والتطور في الأجرة المشروطة حصريا في النتائج”، حيث سيؤخذ بعين الاعتبار ـ حسب ما يأمل التقرير ـ أثر المدرسين على التلاميذ. ولا أدري إن كان أصحاب التقرير قد تنبّهوا إلى أن الأخذ بهذه النصيحة، من شأنه أن يحرم جل الأساتذة من أجورهم، لأن التقرير تناسى كون الأثر على المتمدرسين لا يتحمل المدرس إلا القسط اليسير من المسؤولية بخصوصه، أما التأثير الأهم فتتحمله الدولة ومؤسساتها (الاكتظاظ، البنية التحتية، ساعات العمل، نسبة البطالة في المجتمع…)، إضافة إلى تأثير الأسرة ووسائل الإعلام المختلفة، وأما تحميل المدرس المسؤولية على تطور التلميذ، وترتيب العقاب والجزاء المادي عليه، فإنما هو مجرد تخبيص ما بعده تخبيص (يمكن قياس المردودية في كل شيء إلا فيما يتعلق بالأثر على التلميذ). والحال أننا كنا ننتظر أن يوصي التقرير بضرورة الانتباه إلى أجور المدرسين، وتحريرهم من حالة العوز الملتصقة بهم، وتوفير البنية التحتية، لا سيما في العالم القروي. مع الإشارة إلى أن التقرير أوصى فيما يخص تمويل التعليم العالي بأن يتحمل الطلبة جزءا من مصاريف الدراسة “بالنسبة للقادرين على ذلك، بالموازاة مع المنح الاجتماعية ومنح الاستحقاق وضمان الدولة للقروض الموجهة للطلبة”.
ولكي لا تغفل اللجنة وضعية مغاربة العالم، فإنها أشارت إلى ضرورة الاهتمام بهم ثقافيا، ومساندتهم بخصوص اللغة والهوية، وتوفير منصات رقمية لتعليمهم الثقافة المغربية، لكن التقرير لم يتضمن مطالب أخرى لهؤلاء، أهمها ضرورة إشراكهم في الحياة السياسية من خلال السماح لهم بالتصويت في بلدان الإقامة.
كان من الجيد أن يدعو التقرير إلى ضرورة “جعل الثقافة مرفقا مهما، بنفس أهمية التعليم والصحة”، لكن اللجنة نفسها لم تقم بهذا الأمر لمّا اكتفت بإشارات بسيطة للجانب الثقافي، دون تخصيصه بمحور مستقل كما فعلت مع باقي القطاعات، ولم تتطرق للإجراءت الواجبة من أجل النهوض بالمسرح، وإنقاذ دور السينما التي تواجه خطر الانقراض، ولم تستعرض أهم السبل لدعم المطبوعات العلمية والتشجيع على القراءة، والمساهمة في تطوير البحث العلمي، والاهتمام بالكتاب والمفكرين والموسيقيين والشعراء وغيرهم، واعتبار عملهم لا يقل أهمية عن عمل الأطباء والمهندسين والأساتذة وغيرهم. ألم تتعلم اللجنة من تجربة كورونا، وما أحدثته من تحول نحو الكتاب والفن بشكل عام…إلخ؟
ولم يتم التطرق كليا لموضوع تأهيل السجناء والحد من الاكتظاظ، ومراقبة إجراء العفو، والاعتناء بأبناء السجناء، والتقليل من السجن الاحتياطي، وكأن التقرير غير مهتم بأوضاع أكثر من 80 ألف سجين، نصفهم في الاعتقال الاحتياطي. ولم يشر التقرير إلى ضرورة الاهتمام بوضعية السجناء حتى يتحول السجن والإصلاحيات إلى مؤسسات لتأهيل المحبوسين وليس لتخريج المجرمين. وقد جاء في تقرير فرعي أن اللجنة تسلمت مقترحات المساجين، لكن المستغرب هو أنها لم تهتم بأوضاعهم في تقريرها، رغم أهمية المؤسسة العقابية، وتأثير السجن على حياة المسجونين وأهاليهم، علما أن دعوات كثيرة ترفع في المغرب من أجل إصلاح السجون والاهتمام بموظفيها وزيادة عددهم.
ولئن جاء في التقرير اقتراح الخدمة المدنية التي يقوم بها الشباب، خاصة الذين “لا هم في المدرسة ولا هم في العمل أو التكوين”، فإن هذا الإجراء لا يمكن أن يتم تنفيذه من غير تعديل دستوري ينص على الخدمة المدنية، كما هو الحال في دول العالم التي تعتمد هذا التدبير، وإلا فإن إجبار المواطنين على تقديم خدمة مدنية غير منصوص عليها دستوريا، سيكون بمثابة خرق لحقوق المواطنين المنصوص عليها دستوريا.
وفي سبيل جعل المنتوج النظري لهذه اللجنة الاستشارية قابلا للتنفيذ، فإنها أوصت بأن يصبح تقريرها ملزما معنويا من خلال ما أسمته “ميثاقا وطنيا للتنمية”، وقد تناست اللجنة أنها دعت في تقريرها أكثر من مرة إلى ضرورة تحقيق الانسجام الحكومي، وإعادة الثقة إلى برامج الأحزاب السياسية، وإلا كيف يمكن لحكومة تشتغل بميثاق للتنمية صاغته لجنة مكونة من أشخاص لديهم ميول فكرية وتوجهات في السياسية والاقتصاد؟ لماذا تريد اللجنة أن تفرض أفكارها-بخصوص الاتجاه إلى المزيد من الديون، والاعتماد على التدبير المفوض في قطاعات التعليم والصحة والطفولة والثقافة، وتخفيض الضرائب على نوع من الشركات-على حكومة مشكلة من أحزاب تعاقدت مع ناخبيها بناء على برامج خاصة بكل حزب حسب طرحه في السياسة والاقتصاد والاجتماع الانساني؟ أم إن منتوج اللجنة مفصل على مقاس اليساريين واللبراليين والمحافظين…؟ أو أن اللجنة على قناعة بأن هذه الفروقات يبنغي أن تمحى كليا وألا يسود إلا الإجماع حول برنامج واحد وأفكار محددة مسبقا؟
عموما، وكما أشرنا في المقدمة، فإن المشكلة لا تكمن في التقارير ولا في مضامينها، فهي في جميع الأحوال مضامين لا بأس بها، ويمكنها أن تساعد على ممارسة الشأن العام-بنفس إصلاحي معتاد-بناء على أفكار وطروحات مدروسة، وإنما تكمن المشكلة الحقيقة في مدى وجود إرادة سياسية من شأنها تطبيق الأفكار الواردة في التقارير ولو من منظور الإصلاح من الداخل أو التغيير في ظل الاستمرارية (رغم دسترة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة إلا أن جزءا كبيرا منها لا يعمل به). مع ضرورة التذكير بالإشارة الواردة في المقدمة، من حيث التسليم بأنه لم يكن في مقدور اللجنة الإتيان بتقرير قوي يتجاوز الأفكار الإصلاحية المعتادة في اللجان ذات الطبيعة الرسمية، وقد تجلى ذلك في تجبنها الخوص في الكثير من القضايا من قبيل خطتها في سبيل الاستفادة من الثروات السمكية والفوسفاطية، ورأيها في اتفاقيات التبادل الحر، وتدبير الحقل الديني، وتدبير الأوقاف، وتهيُّبها من طرح موضوع حقوق الإنسان … إلخ.