تعزيز قاعدة الدفع بعدم الدستورية كمدخل لتحقيق الرقابة القضائية على جودة النصوص الجنائية

إيمان اسماعيلي علوي طالبة باحثة خريجة ماستر العدالة الجنائية والعلوم الجنائية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بفاس

      بما أن السلطة التشريعية هي التي تسن القوانين، وهي في ذلك ملزمة باتباع الإجراءات المنصوص عليها في الدستور والقوانين المكملة له، فإن لم تحترم تلك الشكليات تعرضت القوانين الصادرة عنها -منطقيا- للبطلان[1]، على أن تتكفل عدة جهات بإثارة هذا البطلان، ويأتي على رأسها المحكمة الدستورية لما لها من    صلاحيات سواء في النظام المغربي خلال الفصل 133 من الدستور الحالي[2]، أو في أنظمة مقارنة[3].

       والرقابة على دستورية القوانين معناها “التحقق من مدى مخالفة القوانين والتشريعات العادية للدستور تمهيدا لعدم إصدارها إذا لم تكن صادرة، أو لإلغائها أو الامتناع عن تطبيقها إذا كان قد تم إصدارها “[4].

       وبذلك تنقسم الرقابة على دستورية القوانين إلى رقابة قبلية يطلق عليها بالرقابة السياسية ورقابة بعدية تمسى بالرقابة القضائية على دستورية القوانين، وتتولى القيام بها جهة قضائية بعد صدور القانون ودخوله حيز التطبيق.

       وبما أن الرقابة القضائية أهم من الرقابة السياسية على مستوى تحقيق جودة النصوص القانونية وتصحيح أو تقويم العيوب المترتبة عن اختلال جودة هذه النصوص، ارتأينا الاقتصار في هذا المطلب على الحديث حول الرقابة القضائية دون الرقابة السياسية التي تقتصر فعاليتها في حدود ضيقة جدا لا يتأتى معها للقاضي فحص القاعدة الجنائية بعد نفاذها.

         وتساهم الرقابة القضائية في إتاحة الفرصة للقاضي الدستوري بفحص دستورية القوانين الجنائية بعد نفاذها، مما يجعل قراره غير مبني على العنصر النظري، بل على العنصر العملي المرتبط بالأثار السلبية للقانون على حقوق المواطنين، ليتمكن إذ ذاك القضاء الدستوري من حل مشكل خضوع المواطن لقوانين غير عادلة وغير دستورية، ولتستجيب قراراته للبعد الحقوقي[5].

     ونتيجة لذلك يمكن -في إطار الحديث عن السبل الكفيلة بتحسين جودة النصوص القانونية- تقسيم هذا المطلب إلى فقرتين، بحيث سنتناول في الفقرة الأولى “تطبيقات الرقابة القضائية على دستورية القوانين”، على أن نخصص الفقرة الثانية للحديث حول “دور الرقابة القضائية في تجويد النصوص القانونية الجنائية”.

الفقرة الأولى: تطبيقات الرقابة القضائية على دستورية القوانين

      لما عملت الدساتير الحديثة على الرقي بأسس العدالة الجنائية من خلال جعلها قواعد دستورية تحتل قمة الهرم القانوني، ومن ثم كان لزاما على القضاء الدستوري أن يمدد المهام المتعلقة بالرقابة إلى صلب القانون الجنائي عبر الحرص على انسجام القاعدة الدستورية والقواعد التشريعية الدنيا[6].

       وعليه فإن الأهمية القصوى التي تكتسيها تقنيات الدفع بعدم الدستورية كألية ضمن الرقابة البعدية تتمثل بالأساس في تحصين وحماية حقوق وحريات الأفراد من كل خرق قد يكون مصدره تشريع معيب وموسوم بعدم الدستورية، فهي بذلك تقنية تهدف إلى تنقية النصوص التشريعية من جميع النصوص غير الدستورية[7] بواسطة الدفع الذي يتقدم به المتقاضي (أو المتهم) أثناء النظر في قضية معروضة على القضاء العادي.

      ويعتبر القانون الجنائي بمفهومه العام أخطر القوانين التي تمس بالحقوق والحريات، إذ من شأن تخويل المتهم إثارة مطابقة النص الجنائي -الوارد سواء في القانون الجنائي أو  قانون المسطرة الجنائية أو في قوانين خاصة- للدستور  حماية حقوق هذا الشخص في مواجهة الدولة صاحبة الحق في اقتضاء العقاب من مرتكب الجريمة، وبالتالي تحقيق العدالة الجنائية المنشودة التي تضع حماية الحقوق والحريات أولوية في تطبيق النصوص القانونية ذات الطابع الجنائي .

       ونظرا لطبيعة النظام القانوني المعمول به في الدول الأنجلوساكسونية كان طبيعي أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية أول من مهد لهذا النوع من الرقابة القضائية، وهذا ما تؤكده العديد من أحكام المحاكم الأمريكية، حيث أن القاضي الدستوري يقف لاستبعاد تطبيق القانون الذي يراه مخالفا للدستور دون المساس بوجوده ضمن البناء القانوني للدولة [8]وفي هذا الاطار استعملت المحكمة العليا الأمريكية عدة وسائل تمكنها من ممارسة رقابتها الجدية على دستورية القوانين، وذلك عن طريق تفسير الدستور تفسيرا واسعا حتى لو أدى ذلك الى الخروج على النص مادام أن هذا الأمر يحقق الغايات المتوخاة من إيجاد طريقة الرقابة القضائية البعدية المتمثلة أساسا في تحقيق الأمن القانوني[9].

        وعلى العكس لم يظهر أسلوب الرقابة القضائية على دستورية القوانين في فرنسا إلا في التعديل الأخير للدستور سنة 2008 بموجب الفصل 61\1، حيث جاء فيه على أنه إذا ثبت أثناء النظر في دعوى أمام جهة قضائية أن نصاً تشريعياً يخرق الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور جاز إشعار المجلس الدستوري – بناء على إحالة من مجلس الدولة أو من محكمة النقض- بهذه المسألة ضمن أجل محدد.”[10]

       وتشكل هذه المادة بداية الطريق نحو تكريس الرقابة القضائية عن طريق الدفع بعدم الدستورية، وتطبيقا لذلك صدر القانون التنظيمي المشار إليه في الفصل السابق في دجنبر 2009[11] حيث سمي ب “مسألة الأولوية الدستورية[12]، وتنص المادة     الأولى منه على أن ” كل شخص طرف في الدعوى يمكنه أن يثير مدى مطابقة المقتضى التشريعي المتعلق بالحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور”.

       وتتميز الرقابة اللاحقة وفق النموذج الفرنسي بأربع خصائص كونها دعوى منفصلة منذ لحظة إثارتها إلى حين البث فيها من قبل المجلس الدستوري عن باقي المكونات القانونية للدعوى الأصلية، وهي دعوى لا تتعلق بالنظام العام، بل هي حق للأطراف ولا يجوز للقاضي إثارتها من تلقاء نفسه، كما أنها ليست دعوى رئيسة  فهي دعوى تابعة وتصبح نزاعا رئيسيا حينما تتم إحالتها على المجلس الدستوري، تم هي دعوى موضوعية وليست شخصية.

      وعقب إقرار القانون المذكور أصدر المجلس الدستوري الفرنسي مجموعة من القرارات في موضوع المسألة الدستورية ذات الأولوية، إذ نجد مجموعة من الحقوق التي صرح المجلس الدستوري بإمكانية إثارتها من خلال المسألة الدستورية، ويتعلق الأمر على سبيل المثال بمبدأ المساواة، الحرية الفردية، اختصاص السلطة القضائية كحارس للحريات الفردية، منع الاعتقال التحكمي[13]…وغيرها. ومن ذلك مثلا ما جاء في القرار الصادر سنة 2010 بكون” مقتضيات المادة 90 من مدونة السلوك و الجنايات المتعلقة بالبحرية التجارية تخالف من جهة مبدأ دستوري مهم متمثل في استقلالية القاضي وتجرده، ومن جهة أخرى للحق في محاكمة عادلة….”، وقضى المجلس الدستوري بناء على ذلك بإلغاء هذا النص القانوني بداعي أنه مشوب بعدم الدستورية[14].

مقال قد يهمك :   دورة تكوينية بمدينة طنجة للمترشحين لمباراة المحاماة و المنتدبين القضائيين

      وبناء على ذلك، يمكن القول بأن مسطرة الدفع بعدم الدستورية في فرنسا نجحت في تحقيق الغايات المتوخاة من إقرارها، من حيث الإقبال على تحريكها وإثارتها وكونها مست جميع فروع القانون وعلى رأسها القانون الجنائي، وأدت إلى تنقية    النصوص التشريعية وتجويدها، وفي مناسبات كثيرة إلى إعادة النظر في قوانين قديمة مشوبة بعيب عدم احترام الحقوق المضمونة دستوريا[15].

      أما في المغرب، فمعلوم أن النظام القانوني والقضائي لم يكن يسمح للمتقاضين قبل دستور 2011 بممارسة حق الدفع بعدم الدستورية في القانون الذي سيطبق على القضايا المعروضة أمام المحاكم المغربية، فمنذ إنشاء المحكمة الدستورية (المجلس الدستوري) اقتصر مجال مراقبة دستورية القوانين العادية على تلك النصوص التي تحال عليها بواسطة  إما الملك أو رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب، ورئيس مجلس المستشارين، وخُمس أعضاء مجلس النواب، وأربعين عضوا من أعضاء مجلس المستشارين[16].

      ويسمى هذا الأمر بالرقابة السياسية، أي تلك الرقابة التي تمارس قبل إصدار القانون، وبعد التصويت عليه من طرف البرلمان، ويحق ممارستها من أطر أشخاص معينين على سبيل الحصر، وبالتالي لا تحقق الفعالية المرجوة.

      ولا أدل على ذلك الإحصائيات الصادرة عن المحكمة الدستورية بشأن القرارات المتعلقة بالرقابة على دستورية القوانين، إذ منذ نشأة المحكمة الدستورية وإلى غاية سنة 2014 صدر عن هذه المحكمة ما مجموعه 14 قرارا في مجال الرقابة على دستورية القوانين العادية[17]، وبالتالي ندرة القرارات الصادرة بهذا الخصوص رغم أن هذه القوانين عددها بالمئات ومجموعة منها تستوجب إجراء الرقابة التأكد من مطابقتها للدستور[18].

      وهذا ما دفع بالأساس المشرع الدستوري نحو تعزيز دور القضاء عن طريق إحداث آلية جديدة للرقابة عبر إشراك المواطنين في الدفع بعدم دستورية قانون يمس      حقوقهم وحرياتهم أثناء نزاع معروض على القضاء العادي[19]، حيث يسمح الفصل 133 لأطراف قضية معروضة أمام القضاء الطعن في دستورية القانون، وتتولى المحكمة الدستورية النظر في هذا الدفع، وإذا أقرت بعدم دستورية القانون المطعون فيه، فإن الحكم يؤدي إلى نسخ القانون[20] ابتداء من التاريخ الذي حددته المحكمة الدستورية في قرارها.

       ولاشك أن تنزيل المقتضيات الدستورية منصوص عليها في الفصل 133 من الدستور سيكثف لا محال من الرقابة الممارسة على دستورية مجموعة من النصوص القانونية السارية المفعول والتي ما فتئت مسألة دستوريتها تطرح  أكثر من علامة[21]، ومن هذه القوانين مثلا القانون الجنائي وقانون المسطرة الجنائية، وبصفة عامة جميع المقتضيات ذات الطبيعة الجنائية والتي قد تؤدي إلى المساس بالحقوق والحريات في حالة تطبيقها على القضايا المعروضة أمام القضاء.

       إن اعتماد الرقابة القضائية ينسجم مع تطورات النظم التي أضحت تجمع بين الرقابة السابقة واللاحقة وذلك في سبيل تحديد ملامح عدالة دستورية مواطنة من شأنها حماية حقوق وحريات الأفراد [22].

       وعلى غرار المشرع الفرنسي الدستوري اقتصر المشرع الدستوري المغربي على المتقاضي وحده دون القاضي بشأن إمكانية إثارة الدفع بعدم الدستورية استنادا إلى مقتضيات المادة 133 من الدستور الحالي.

       ورغم تنصيص الدستور على آلية الدفع بعدم دستورية القوانين كحق للمتقاضين للدفاع عن حقوقهم، فإننا نسجل مع الأسف تأخير غير مبرر لعدم صدور القانون التنظيمي الذي يحدد طرق وإجراءات الدفع بعدم الدستورية رغم أن الدستور نفسه     جعل من الولاية التي تلي اعتماد الولاية التأسيسية “تعد فيها الحكومة القوانين التنظيمية قصد عرضها على البرلمان” تطبيقا لمقتضيات الفصل 86 من الدستور.

       وتجدر الإشارة في هذا الإطار أنه قد صدر القانون التنظيمي رقم 86.15 المتعلق بطرق وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون إلا أن المحكمة الدستورية بتاريخ 21 فبراير 2023 اعتبرت أن مسطرة إصدار القانون معيبة مما يستوجب الحكم بعدم دستوريتها، حيث جاء في حيثياته على أن “وحيث إنه، ما كان يتعين إيداع مشروع القانون التنظيمي المعروض، بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب، قصد تداول مجلسي البرلمان بشأنه، قبل استكمال أمر التداول في المشروع المذكور من قبل المجلس الوزاري…”، وتبعا لذلك قضت المحكمة “بأن الإجراءات المتبعة لإقرار القانون التنظيمي رقم 86.15 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون، غير مطابقة للدستور”[23].

      وإلى جانب كل من التشريع المغربي والتشريع الفرنسي، ثمة أنظمة قانونية مقارنة أكثر تطورا، ففي إسبانيا ومصر يعتبر الدفع بعدم الدستورية من النظام العام[24] يمكن للقاضي إثارة الدفع بعدم الدستورية من تلقاء نفسه[25].

     والأمر نفسه نجده في النظام الدستوري الكويتي، إذ بالعودة إلى الدستور الصادر سنة 1962[26] نجد أنه يحيل على المادة 173 من القانون الذي ينظم الجهة المكلفة بالرقابة على دستورية القوانين، حيث مدد المشرع الكويتي اختصاصات المحكمة الدستورية إلى المراسيم بقوانين واللوائح (المادة الأولى من القانون المذكور)، كما       يتضمن نوعين من الرقابة: رقابة قبلية عن طريق الإحالة من مجلس الأمة أو من مجلس الدولة، ورقابة بعدية، وذلك بواسطة المحاكم إما من تلقاء نفسها أو عبر دفع جدي من الأطراف، وبذلك تكون الرقابة البعدية في النظام القانوني الكويتي أكثر تقدما من نظيرتها المغربية والفرنسية[27].

الفقرة الثانية: دور الرقابة القضائية في تجويد النصوص القانونية الجنائية

      لما كانت السلطة التشريعية هي التي تسن القوانين، وهي في ذلك ملزمة باتباع الإجراءات المنصوص عليها في الدستور والقوانين المكملة له، فإن لم تحترم تلك الشكليات تعرضت القوانين الصادرة عنها -منطقيا- للبطلان[28]، على أن تتكفل عدة جهات بإثارة هذا البطلان، ويأتي على رأسها المحكمة الدستورية.

مقال قد يهمك :   غروس فوزي: جواهر تاريخ القانون..ألفونس مينارد محامي طنجة

      إذ يمكن الدفع بعدم الدستورية المواطنين من المساهمة في تنقيح المنظومة التشريعية وتطهير الترسانة القانونية مما قد يشوبها من مقتضيات غير دستورية عن طريق الرقابة البعدية على القوانين المنشورة بالجريدة الرسمية السارية المفعول والتي يراد تطبيقها في القضايا المعروضة أمام المحاكم[29].

      وبذلك فإن الهدف الأساسي التي جاءت به فكرة الرقابة القضائية على دستورية القوانين يتمثل في حماية الحقوق والحريات المكفولة بموجب الدستور[30]، ومن هذه الحقوق والحريات المبادئ الدستورية المؤطرة لعمل المشرع العادي فيما يتعلق بالنصوص ذات الطابع الجنائي، على غرار قرينة البراءة (الفصل 23 من الدستور)، ومبدأ الشرعية الجنائية (الفصل 23 من الدستور)…وغيرها .

      وعلى هذا الأساس فإن الرقابة بهذا المعنى تكون لاحقة وليست سابقة، فالأصل في الأحكام الصادرة بخصوص الدفع بعدم الدستورية تكون أحكام كاشفة للحقوق والحريات وليست منشأة لها، وهو ما تبنته المحكمة الدستورية فيمصر بقولها “الأصل في الأحكام القضائية أنها كاشفة وليست منشئة مما يستتبع أن يكون للحكم بعدم الدستورية أثر رجعي كنتيجة حتمية لطبيعته الكاشفة”[31].

       وناهيك عما سبق تتجلى أهمية الدفع بعدم الدستورية وفق ما ذهب إليه المجلس الوطني لحقوق الانسان في مذكرته التي أعدها بشأن القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم الدستورية إلى أن هذا الدفع يحقق ثلاثة أهداف، والتي من بينها تصفية النظام القانوني من المقتضيات الغير دستورية [32].

      كما أن اتاحة الفرصة للمواطنين لإحالة القوانين إلى المحكمة الدستورية للتحقق في مدى موافقتها للدستور سيحقق الأمن القانوني للذي له علاقة وطيدة للأمن القضائي[33]، فإذا كان الأول يعرف بأنه عملية وليست مجرد فكرة، تستهدف توفير حالة من الاستقرار في العلاقات والمراكز القانونية، وذلك من خلال إصدار تشريعات متطابقة مع الدستور وكذا مبادئ القانون الدولي، وبالتالي فالأمن القضائي يعني جودة الأداء والخدمة القضائية التي تنطلق من حاجة الإنسان الضرورية والملحة إلى العدل، والقضاء النزيه والمستقل الذي يأمن حقوق الأطراف [34].

      وفي الوقت الحالي تنامت أهمية  رقابة المحاكم الدستورية حول العالم على القوانين ذات الطبيعة الجنائية، إلى درجة أصبحت اجتهادات السلطة التي تضطلع بدور الرقابة المذكورة في كثير من البلدان مصدرا للمشرع، بحيث تأخذ  بالاعتبار عند القيام بإدخال تعديلات على القوانين العادية.

       ففي فرنسا مثلا أدرجت العديد من المبادئ التي توصل إليها المجلس الدستوري ضمن ديباجة تعديل الذي شمل قانون للمسطرة الجنائية عبر قانون 15 يونيو2000[35].

      وانطلاقا مما سبق ذكره، نؤكد بدورنا على الحاجة الملحة لتفعيل مقتضيات القانون التنظيمي المتعلق بطرق وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون من أجل تخويل الأشخاص المتابعين من الدفاع عن أنفسهم في مواجهة أي مساس من طرف التشريع العادي بالحقوق والحريات المكرسة في الدستور، إذ من غير المعقول أنه بعد أزيد من 13 سنة غلى دخول الدستور الحالي حيز التطبيق لازال المتقاضي المغربي محروما من الولوج إلى العدالة من أجل الدفاع عن حقوقه من أي انتهاك محتمل، خاصة إذا علمنا أن المغرب من الدول القليلة عربيا وإفريقيا التي مازالت لم تعتمد نصوصا تنظيم الدفع بعدم دستورية القوانين، بحيث أن مجموعة من التجارب المقارنة سبقت المغرب وإن كان وضع الحقوق والحريات بها أقل من المغرب، وبالتالي يقتضي هذا الأمر الإسراع في إخراج القانون المذكور حيز الوجود من أجل تكريس أسس العدالة بصفة عامة، والعدالة الجنائية على الوجه الخصوص، لاسيما أن ألية الدفع بعدم الدستورية ستمكن من علاج مجموعة من الإشكالات التي تتخبط الصياغة التشريعية وتؤثر على جودة الإحكام القضائية.

      ويكفي الإشارة إلى أحد القرارات الصادرة عنن المحكمة الدستورية للتأكد من أهمية الدفع بعدم دستورية قانون عن طريق المراقبة القضائية حيث صدر قرار بتاريخ 12 يونيو 2018 في الدفع الذي تقدم به السيد “توفيق بو عشرين ” بواسطة دفاعه، طالبا فيها التصريح بعدم دستورية المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية، إلا أن المحكمة الدستورية قضت ب “…حيث إنه إذا كانت الفقرة الأولى من الفصل المشار إليه (الفصل 133) حولت للمحكمة الدستورية اختصاص البت في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، فإن الفقرة الثانية منه تجعل ممارسة هذا الاختصاص متوقفا على صدور قانون تنظيمي يحدد شروط وإجراءات الدفع.

     حيث إن ارتباط الفقرتين الواردتين في الفصل 133 المذكور، وعلى عكس ما يدعيه الطاعن، أكدته المادة 28 من القانون التنظيمي المتعلق بالمحكمة الدستورية، التي جعلت مجال نظر المحكمة المذكورة في كل دفع بعدم دستورية قانون مرتبطا بصدور قانون تنظيمي يحدد شروطه وإجراءاته.

     وحيث إن القانون التنظيمي المتعلق بالدفع بعدم دستورية قانون لم يصدر بعد؛ وحيث إنه، تبعا لذلك، يتعذر على الحال الاستجابة للطلب الرامي إلى فحص دستورية المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية”[36].

      نخلص في الأخير إلى أن الرقابة القضائية على دستورية القوانين تحظى بأهمية قصوى تتمثل بالأساس في تحصين وحماية حقوق الأفراد وحرياتهم من كل خرق قد يكون مصدره معيب أو موسوم بعدم الدستورية وقد انعكس هذا الأسلوب من الرقابة بالنسبة للدول التي تعتمده على جودة النصوص الجنائية، و دليلنا في ذلك -مثلما جاء في البحث- فرنسا التي نجحت في تحقيق الغايات المتوخاة من إقرار هذا النوع من الرقابة، وأدت إلى تنقية نصوص القانون الجنائي من العديد من الصعوبات و الإشكالات التي كانت تعترضها، بينما في المغرب على الرغم من دسترة هذا النوع من الرقابة فإن تطبيقه على أرض الواقع مرهون بصدور القانون التنظيمي 15.86 الذي لازال لم يصدر إلى يومنا هذا.


الهوامش:

[1] رجاء ناجي المكاوي، علم القانون ماهيته؛ مصادره؛ فلسفته وتطبيقه، سلسة أعرف حقوقك، العدد الخامس، جامعة محمد الخامس -أكدال، ص 425.

[2] الذي ينص على أنه “تختص المحكمة الدستورية بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون، أثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون، الذي سيطبق في النزاع، يمس بالحقوق وبالحريات التي يضمنها الدستور.

مقال قد يهمك :   وزير العدل: تزويج القاصرات تحوّل إلى قاعدة بدل الاستثناء الذي أقرته مدونة الاسرة

  يحدد قانون تنظيمي شروط وإجراءات تطبيق هذا الفصل .”

[3] – الفصل 61-1 من الدستور الفرنسي على سبيل المثال.

[4] الإدريسي الشريف، الدفع بعدم الدستورية رافعة لتطور الاجتهاد للقضائي الدستوري، بحث لنيل شهاد الماستر في القانون العام الداخلي، جامعة سيدي محمد بن عبد الله -فاس, كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، سج 2018-2019، ص 32.

[5] محمد مرحوم، الدفع بعدم دستورية القوانين: المسار التشريعي المتعثر، مجلة الإسماعيلية للدراسات القانونية والقضائية، ع 1، فبراير 2019، ص 86 و87.

[6]  Mohamed EL Fadili,”l’élargissement de la saisine du conseil constitutionnel : l’instauration d’une procédure de renvoi d’une question préjudielle de constitutionnalité des juges ordinaires au conseil constitutionnel”, Revue marocaine D’administration locale et de Développement, n97_98,mars-juin,2011,p29.

[7] فاطمة الزهراء أعراج، جودة النصوص القانونية: التشخيص والتحديات، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون، جامعة محمد الأول وجدة، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، السنة الجامعية 2020-2021، ص360.

[8] علي الحنودي: الأمن القانوني: مفهومه أبعاد، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 96، يناير/فبراير 2011، ص 137.

[9] الادريسي الشريف، مرجع سابق، ص42.

[10] https://www.constituteproject.org

Consulté le 13 mai 2024.

[11] https://qpc360.conseil-constitutionnel.fr

Consulté le 13 mai 2024.

[12]  وترجمتها بالفرنسية:

  Question prioritaire de constitutionnalité.

[13] ابراهيم الشقروني، الدفع بعدم الدستورية في القانون المقارن ، رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون  العام، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، السنة الجامعية 2012\2013، ص43 و44.

[14]  Décision n2010_10 QPS du 02 juillet 2010, consorts C.et autres (Tribunaux maritimes commerciaux).

[15] فاطمة الزهراء أعراج، مرجع سابق، ص 37.

[16] الفصل 132 من الدستور المغربي الصادر سنة 2011.

[17] للاطلاع على الإحصائيات كاملة ينظر الموقع الإلكتروني للمحكمة الدستورية المغربية:

https://www.cour-constitutionnelle.ma/

تاريخ الاطلاع: 14/ ماي 2024.

[18] أحمد داودي، الرقابة على دستورية القوانين العادية في المغرب، رسالة لنيل دبلوم الماستر في الدراسات الدستورية والسياسية، جامعة محمد الأول وجدة، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، سج 2013/2014، الصفحات 71 و72.

[19] أنور عشيبة، آفاق العدالة الجنائية على ضوء دسترة مبدأ للشرعية الجنائية”  دراسة مقارنة بين  الدستور المغربي ودستور فرنسا والكويت”، سلسة فقه القضاء الجنائي، العدد الثاني، السنة 2019، ص46.

[20] تطبيقا لمقتضيات الفصل 134 الذي جاء فيه “وينسخ كل مقتضى تم التصريح بعدم دستوريته على أساس الفصل 133من الدستور، ابتداء من التاريخ الذي حددته المحكمة الدستورية في قرارها”…

[21] الادريسي الشريف، مرجع سابق، ص87.

[22] نفس المرجع، ص85

[23] قرار المحكمة الدستورية بتاريخ 21 فبراير 2023، قرار رقم 23/207، ملف عدد 0252/23، موجود بالموقع الإلكتروني للمحكمة الدستورية المشار إليه سابقا.

[24] إبراهيم الشقروني، الدفع الدستورية في القانون المقارن، مرجع سابق، ص 32.

[25] حيث تنص المادة 162 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية الإسبانية على أنه “تقدم دعوى حماية الحقوق من قبل أي شخص مادي أو معنوي يثير مصلحة مشروعة، وأيضا من قبل المدافع عن الشعب وكذا النيابة العامة”.

وتجدر الإشارة على أن نظام الرقابة على القوانين في إسبانيا يعتمد أسلوب الرقابة اللاحقة بعد إلغاء أسلوب الرقابة السابقة في سنة 1985.

مصطفى بن شريف، التشريع ونظم الرقابة على دستورية القوانين، سلسلة الوعي القانوني، ع 1، 2015، ص 109.

[26] للاطلاع ينظر الموقع الإلكتروني التالي: الرابط هنا تاريخ الاطلاع: 25/05/2024.

[27] تنص المادة الرابعة من القانون المشار إليه المتعلق بالمحكمة الدستورية الكويتية على أنه ” ترفع المنتزعات إلى المحكمة الدستورية بإحدى الطريقتين:

  • بطلب من مجلس الأمة أو من مجلس الوزراء
  • إذا رأت المحاكم اثناء نظر قضية من القضايا ،سواء من تلقاء نفسها أو بناءا على دفع جدي تقدم به أحد أطراف النزاع، أن الفصل في الدعوى يتوقف على الفصل في دستورية قانون أو مرسوم بقانون أو لائحة توقف نظر القضية وتحيل الأمر إلى المحكمة الدستورية للفصل فيه.”

[28] رجاء ناجي المكاوي، علم القانون ماهيته؛ مصادره؛ فلسفته وتطبيقه، مرجع سابق، ص 425.

[29] المحجوب محمد، الطويل محمد، الدفع بعدم الدستورية و علاقته بالأمن القانوني، مجلة القانون العام و العلوم السياسية، عدد 2 دجنبر 2020، الصفحة 110.

[30] حدو اليخلوفي نجلاء، الرقابة على دستورية القوانين -دراسة مقارنة -، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا المعمقة في الحقوق، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال، جامعة محمد الخامس، س ج 2001، ص26.

[31] المحكمة الدستورية العليا المصرية، الدعوى رقم 37 لسنة 9 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية”.

ينظر الموقع الإلكتروني لجامعة منيسوتا: الرابط هنا تاريخ الاطلاع: 14/05/2024.

[32] إلى جانب إعطاء حق جديد للمتقاضين عند تمكينهم الاعتداد بحقوقهم المحمية دستوريا وتأمين سمو الدستور في النظام المعياري للداخلي.

مذكرة المجلس الوطني لحقوق الانسان للدفع بعدم الدستورية، ص4. منشورة على الموقع الإلكتروني: الرابط هنا

تاريخ الاطلاع: 14/05/2024.

[33] محمد أتركين، دعوى الدفع بعدم الدستورية في التجربة الفرنسية” الإطار القانوني و الممارسة القضائية”، سلسة الدراسات الدستورية، العدد الثاني، السنة 2012، ص 101.

[34] محمد مرحوم، مرجع سابق، ص86.

[35] L. n 2000_516 du 15 juin 2000 renforçant la protection de la présomption d’innocence et les droits des victimes.

[36] المحكمة الدستورية، ملف عدد 029\18، قرار رقم 80\18، موجود في الموقع الالكتروني للمحكمة الدستورية

https://www.cour-constitutionnelle.ma/

تاريخ الاطلاع: 14/05/2024.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)