تجليات تنازع الاختصاص القضائي السلبي بين المحاكم العادية والمحاكم الإدارية -منازعات المعاشات نموذجا-

حمزة بلبل خريج ماستر القانون الإجرائي وطرق تنفيذ الأحكام شعبة القانون الخاص كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية جامعة محمد الأول بوجدة

مقدمة:

مما لاشك فیه أن أغلب صور تنازع الاختصاص لا تظهر إلا في الدول التي تتبنى نظام القضاء المزدوج، حیث توجد جهة قضاء إداري تختص بنظر منازعات الإدارة مع الأفراد. لكن هذا الاختصاص لیس مطلقاً بل یحدد وفقا لمعايير معینة، أما غیر ذلك من منازعات الإدارة مع الأفراد والتي لا تنطبق على هذه المعايير، فإنها تخرج عن ولایة القضاء الإداري وتدخل في اختصاص القضاء العادي. وقد تكون الحدود في رسم نطاق الاختصاص للجهات القضائیة المختلفة لیست دقیقة، الأمر الذي یمكن معه تصور حصول تنازع الاختصاص بین جهتي القضاءين العادي والإداري[1].

وتبعا لذلك، یمكن أن يعرض نزاع معين أمام جهتي القضاء العادي والقضاء الإداري، وقد تتصديان معا للنظر في الدعوى فنكون عندها أمام تنازع إيجابي، على اعتبار أن كل جهة اعتبرت نفسهما مختصة للفصل في النزاع، أو تتخلى كلا الجهتين معا النظر في الدعوى فنكون أمام تنازع سلبي. وفي جميع الحالات، قد يجد المتقاضي نفسه أمام أحكام متناقضة صادرة عن محاكم قضائية مختلفة في نفس الموضوع مما يجعل من المستحيل تنفيذها.

وعلى غرار بعض التشريعات المقارنة التي عرفت التنازع السلبي ضمن قوانينها، كالمشرع اللبناني الذي سماه بتسمية خلافات الصلاحية السلبية، ونصت على هذه الحالة المادة 137 من مرسوم مجلس الشورى[2] لعام 1975 بقولها: “تنظر محكمة حل الخلافات في خلافات الصلاحية السلبية. إن خلاف الصلاحية السلبية هو الخلاف الناتج عن قرارين صادرين بعدم الصلاحية في قضية واحدة الأولى عن محكمة إدارية والثاني عن محكمة عدلية. ويمكن أن يكون هذان القراران صدرا بالدرجة الأخيرة”.

هكذا، يكون المشرع اللبناني قد حدد بدقة مفهوم التنازع السلبي أو ما سماها بخلافات الصلاحية السلبية. نفس الموقف عبر عنه المشرع الجزائري بمقتضى المادة 16 من القانون العضوي رقم 03.98 التي جاء فيها: “يكون تنازعا في الاختصاص عندما تقضي جهتان قضائيتان إحداهما خاضعة للنظام القضائي العادي والأخرى خاضعة للنظام القضائي الإداري، باختصاصهما أو بعدم اختصاصهما للفصل في نفس النزاع”[3].

أما على مستوى التشريع المغربي نجده لم يعرف تنازع الاختصاص السلبي وإنما اكتفى فقط بالإشارة لحالة وقوعه بصريح الفصل 300 من قانون المسطرة المدنية، الذي جاء فيه: “يكون هناك مجال لتنازع الاختصاص إذا أصدرت عدة محاكم في نزاع واحد قرارات غير قابلة للطعن، صرحت فيها باختصاصها فيه أو عدم اختصاصها فيه”.

من هذا المنطلق، يتحقق التنازع القضائي السلبي عندما ترفع الدعوى الواحدة أمام أكثر من جهة قضائية تقضي كل منها بعدم ولايتها بنظر تلك الدعوى، لأنها من اختصاص جهة قضائية أخرى[4]. كأن يرفع شخص دعوى بموضوع واحد أمام جهتين مختلفتين فتقضي كلاهمـا بعدم اختصاصهما بحكم يصبح نهائيا ويترتب على ذلك إقفال باب التقاضي، وهو ما يعني أننا أمام حالة إنكار العدالة وهضم لحق دستوري هو حق الدفاع المقرر للمتخاصمين. إذ كيف يتصور وجود منازعة دون قضاء يفصل فيها، ثم إن هذا الأمر يتنافى ومقتضيات العدالة التي تقتضي أن لكل نزاع جهة تنظر وتفصل فيه[5].

ولإيضاح صورة التنازع السلبي، نورد منازعة عرضت أمام محكمة النقض السورية تتلخص وقائعها فيما يلي: “تهدف الدعوى الأصلية التي تقدم بها المدعي بتاريخ 19 يوليوز 2007  إلى مجلس الدولة محكمة القضاء الإداري إلى الحكم بتعديل معاشه التقاعدي المخصص له، كونه كان يشغل مركز عضو قيادة قطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي وتسوية وضعه بما يماثل 5/6 من سقف راتب الوزير المتقاعد وإلزام الجهة المدعى عليها بالفروقات. فقضت محكمة القضاء الإداري بموجب قرارها رقم 1203/3 بتاريخ 22/3/2009 عدم اختصاص مجلس الدولة بالنظر في الدعوى، فعاد المدعي وتقدم بالدعوى إلى محكمة البداية المدنية بدمشق فقضت برد الدعوى لعدم الاختصاص بداعي أن الاختصاص يعود للقضاء الإداري وصدقت محكمة الاستئناف هذا القرار وأيدتها في ذلك الغرفة المدنية الرابعة بمحكمة النقض بموجب قرارها رقم /685/وأساس/ 68 / بتاريخ 28 أبريل 2014.

وحيث إن كلا من القضاء الإداري والقضاء العادي أعلنا عدم اختصاصهما لرؤية الدعوى مما نجم عنه حالة تنازع سلبي اقتضى تعيين المرجع المختص”[6].

وعموما، يستلزم لقيام حالة التنازع السلبي توافر ثلاثة شروط أساسية تمت الإشارة إليها في الفصل 300 من قانون المسطرة المدنية، وهي على النحو التالي:

  • وحدة موضوع النزاع في الدعوى التي حكم فيها بعدم الاختصاص القضائي النوعي؛
  • وجود حكمين صادرين عن جهتين قضائيتين مختلفتين، يقضي كل منهما بعدم الاختصاص على أساس أن موضوع النزاع يدخل ضمن اختصاص الجهة القضائية الأخرى؛
  • أن يكون الحكمين الصادرين عن الجهتين القضائيتين المختلفتين غير قابلين للطعن. وعلى هذا الأساس، قضى المجلس الأعلى بما يلي: “إن الحكمين الصادرين عن المحكمة الابتدائية والمحكمة التجارية اللذين تم التصريح في كليهما بعدم الاختصاص النوعي للبت في القضية، والمطعون فيهما أمام المجلس الأعلى لا يتحقق بهما وجود تنازع للاختصاص يقتضي تدخله للحسم فيه، وفق ما يقرره الفصلان 353 و388 من قانون المسطرة المدنية، فهما مجرد حكمين ابتدائيين قابلين للطعن بالاستئناف”[7].

خلاصة القول، إن التنازع السلبي يعد من أعقد صور التنازع القضائي، لأن المنازعة القائمة بين الأطراف تبقى بدون قضاء يحسم فيها، مما يتنافى مع المبادئ الأساسية للقضاء والمس بالحقوق الدستورية التي تخول للمتقاضي حق اللجوء إلى القضاء.

وقد أدى التأويل المختلف للمقتضيات القانونية المؤطرة لنزاعات المعاشات بالخصوص، إلى تضارب الاجتهادات القضائية حول طبيعة هذه النزاعات بين المحاكم العادية والمحاكم الإدارية. إذ تتعدد الإشكالات المرتبطة بمنازعات المعاشات الممنوحة للأجراء المنخرطين في نظام الضمان الاجتماعي بتعدد التعويضات الممنوحة لهم، سواء تعلق الأمر براتب الزمانة أو راتب الشيخوخة أو راتب المتوفى عنهم والتي اصطلح عليها المشرع في مادة الضمان الاجتماعي بمنازعات المعاشات. وأهم إشكالية تطرح هنا تتعلق بخصوص القضاء المختص للبت في هذه التعويضات؟

إذ ساهم التأويل المختلف لجل القوانين المؤطرة لهذه المنازعات إلى تنازع الاختصاص القضائي، مما أدى إلى ظهور اتجاهين قضائيين مختلفين. وللإحاطة بهذه المنازعة والإجابة عن الإشكالية السالفة سوف نتعرض للموضوع وفق التقسيم التالي:

  • المحور الأول: الأساس القانوني والقضائي لاختصاص المحاكم العادية
  • المحور الثاني: الأساس القانوني والقضائي لاختصاص المحاكم الإدارية
  • المحور الثالث: تجليات التنازع السلبي على مستوى منازعات المعاشات

المحور الأول: الأساس القانوني والقضائي لاختصاص المحاكم العادية

خول المشرع المغربي للمحاكم الابتدائية صلاحية البت في النزاعات المترتبة عن تطبيق المقتضيات التشريعية والتنظيمية المتعلقة بمنازعات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وذلك استنادا لمقتضيات الفصل 20 من قانون المسطرة المدنية[8]، والمادة 71 من القانون رقم 17.84 المتعلق بنظام الضمان الاجتماعي[9]، التي نصت هي الأخرى على أنه: “تنظر المحاكم المختصة فـي النزاعات المترتبة عن تطبيـق مقتضيات ظهيرنا الشريف هذا والنصوص التنظيمية المتخذة لتنفيذه باستثناء القضايا الجنائية والنزاعات الراجعة بحكم نوعها إلى قضاء آخر”.

مقال قد يهمك :   اتحاد قاضيات المغرب يناقش بطنجة موضوع الرشوة الجنسية

وفي هذا الإطار، قضى المجلس الأعلى في العديد من المناسبات باختصاص المحاكم العادية للفصل في نزاعات المعاشات[10]. بدورها محكمة النقض قضت هي الأخرى باختصاص المحاكم العادية، حيث جاء في إحدى حيثيات قرارا لها ما يلي: “حيث صح ما عابت به الطاعنة الحكم المستأنف، ذلك أنها لا تعتبر من أشخاص القانون العام، بل تحكمها مقتضيات مدونة التأمينات كشركة، ومطالبة المستأنف عليه باسترجاع مبالغ اقتطعت برسم التقاعد، ولم يتم تحويلها في حينها إلى الصندوق المهني المغربي للتقاعد، وهي مطالبة بمبالغ اقتطعت بدون حق من مستحقاته المالية، وبالتالي فهي مجرد مطالبة بديون متخلدة بذمة المستأنفة، والمحكمة الابتدائية هي المختصة نوعيا للبت فيها، والحكم المستأنف بما نحاه غير مصادف للصواب واجب الإلغاء”[11].

بصيغة مباشرة، وتطبيقا لمقتضيات المادتان المشار لهما سلفا، أكدت نفس المحكمة على أحقية القضاء العادي للفصل في نزاعات المعاشات عندما صرحت بأن: “الطلب الناشئ عن منازعة ترتبت عن تطبيق المقتضيات التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالضمان الاجتماعي يندرج ضمن اختصاص القضاء العادي وليس القضاء الإداري، وذلك استنادا لمقتضيات الفصل 20 من قانون المسطرة المدنية والفصل 71 من ظهير 27 يوليوز 1972 المتعلق بنظام الضمان الاجتماعي خلافا لما انتهى إليه الحكم المستأنف مما يستوجب إلغاؤه”[12].

نفس الاتجاه، تبنته المحاكم الإدارية في الكثير من المناسبات، حيث جاء في حكم للمحكمة الإدارية بالرباط على أن: “اختصاص المحاكم الإدارية في مادة المعاشات ينحصر فقط في النزاعات الناشئة عن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالمستحقات التقاعدية للعاملين في مرافق الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العامة. أما المنازعات في استحقاق رواتب المعاش المستحقة للعاملين في القطاع الخاص والمنخرطين في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فإن الاختصاص فيها يبقى غير منعقد للمحاكم الإدارية”[13].

المحكمة الإدارية بمكناس هي الأخرى قضت بما يلي: “وحيث إنه لذلك، وباعتبار أن الطلب الماثل هو مما يندرج ضمن النزاعات المترتبة عن تطبيق الظهير الشريف رقم 184-72-1 المؤرخ في27/7/1972 بمثابة نظام الضمان الاجتماعي کما وقع تغييره وتتميمه بموجب الظهير رقم 127-04-1 بتاريخ 4/11/2004 فإنه وتطبيقا لمقتضيات المادة 71 من هذا القانون وكذا المادة 20 من قانون المسطرة المدنية فإن الاختصاص النوعي للبت في الطلب ينعقد للمحاكم الابتدائية وليس المحاكم الإدارية، مما تصرح معه هذه المحكمة بعدم اختصاصها النوعي للبت في هذا الطلب”[14].

المحور الثاني: الأساس القانوني والقضائي لاختصاص المحاكم الإدارية

على نقيض الاتجاه السابق، نجد اتجاها مخالفا يصرح بأحقية القضاء الإداري للبت في منازعات المعاشات عوض القضاء العادي، معتمدا في ذلك على مقتضيات المادتين 8 و41 من القانون رقم 41.90 اللتين منحتا للمحاكم الإدارية النظر في النزاعات الناشئة عن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالمعاشات ومنح الوفاة المستحقة للعاملين في مرافق الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العامة. وضمن ذلك، ذهبت محكمة النقض وقبلها المجلس الأعلى في مجموعة من المناسبات للقول بانعقاد الاختصاص للقضاء الإداري.

هكذا، صرحت الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى بما يلي: “إن المادة 8 من القانون رقم 41.90 تمنح للمحاكم الإدارية عدة اختصاصات من بينها اختصاص البت في النزاعات الناشئة عن تطبيق النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالمعاشات، ومنح الوفاة المستحقة للعاملين في مرافق الدولة والجماعات المحلية والمؤسسات العمومية. وحيث إن كون المعاش الذي يمنح للمستأنف عليه هو معاش من صندوق المكتب الوطني للسكك الحديدية وليس من صندوق الدولة لا يخرج النزاع عن دائرة الفصل 8 من القانون رقم 41.90 مما يكون معه الحكم المستأنف في محله”[15].

بدورها محكمة النقض صرحت في مناسبات عديدة باختصاص القضاء الإداري، بعلة أن توقيف المعاش من طرف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي هو قرار إداري قابل للطعن بالإلغاء ولا يندرج ضمن مقتضيات الفصل 20 من ق. م. م التي تجعل النزاعات المتعلقة بالضمان الاجتماعي تدخل في الاختصاص النوعي للمحكمة الابتدائية[16].

ومن هذا المنطلق، يبدو أن التغيير الذي طرأ على المادة 71 والذي أتى به الظهير الصادر في 4 نوفمبر 2004 بتنفيذ القانون رقم 17.02 لم يأت بأي جديد يذكر، إذ اقتصر على استبدال عبارة المحاكم الاجتماعية بعبارة “المحاكم المختصة” دون تحديد أي منها ودون نسخ وإلغاء مقتضيات المادة 20 من قانون المسطرة المدنية، الشيء الذي يدفع إلى القول بوجود فرضيتين:

إما ترك الحرية للقضاء الإداري والقضاء العادي في رسم حدود ولايتهما واختصاصهما استنادا إلى طبيعة وموضوع المنازعة المطروحة عليهما.

وإما بتسهيل المأمورية على القضاء الإداري وحده بتوسيع اختصاصه للنظر في بعض القضايا التي يكون موضوعها قرارات في إطار الإلغاء لها صلة بتطبيق المقتضيات التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالضمان الاجتماعي[17]. نفس الفرضيتين تبناهما أيضا أحد الباحثين[18].

 لكننا لا نعتقد بسلامة هاتين الفرضيتين نسبيا، لاعتبارات كثيرة أشار إليها الأستاذ عبد الإله عزوزي منها: كون التعديل الأخير لسنة 2004 والذي ترك عند البعض نوعا من الغموض عندما نص على أنه تنظر المحاكم المختصة في النزاعات المترتبة عن تطبيق ظهيرنا الشريف ..، لم يمنح الاختصاص صراحة للمحاكم الإدارية، على العكس من ذلك نجد الفصل 21 من ق. م. م وهو بصدد الحديث عن الاستثناءات الخاصة بالاختصاص القيمي للمحاكم الابتدائية الواردة في الفصل 19 من ذات القانون، أورد المعاشات الممنوحة من قبل الضمان الاجتماعي[19].

كما أن الفصل 49 من ظهير 1972 يشير إلى إمكانية إلغاء أو توقيف راتب الزمانة ويحيل على المرسوم التطبيقي رقم 2.96.319 الذي يحدد حالاتها وشروطها[20]. وبالرجوع إلى الفصل 16 من ذات المرسوم نجده ينص على ما يلي: “إن المصاب بالزمانة الذي ينازع في المقرر الصادر عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بحذف أو توقيف الراتب يجب عليه أن يعرض قضيته على المحكمة الاجتماعية في أجل 3 أشهر من تاريخ تبليغ المقرر”. هذا الفصل يخول للشخص المصاب الذي ينازع في مقرر الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أن يعرض قضيته على المحكمة الاجتماعية المحدثة بموجب ظهير 27 يوليوز 1973، الملغاة بمقتضى الفصل 5 من ظهير 28 شتنبر 1974، وأصبح القضاء الاجتماعي يندرج ضمن اختصاص المحاكم الابتدائية، مما يفيد بأن منازعات الرواتب وخاصة راتب الزمانة بموجب الظهير المؤطر لنظام الضمان الاجتماعي والمراسيم التطبيقية المتخذة لتطبيقه، أصبح النظر فيها منعقدا للمحاكم الابتدائية.

مقال قد يهمك :   صلاحيات جديدة للمديريات المركزية التابعة للمديرية العامة للأمن الوطني

من هنا، تجب الإشارة إلى ضرورة التمييز بين المعاشات التي يمنحها الصندوق للمستخدمين لديه، حيث إن المنازعات الناشئة بشأنها تكون من اختصاص المحاكم الإدارية بموجب المادة 8 من القانون رقم 41.90 باعتباره مؤسسة عمومية، والمعاشات التي يمنحها الصندوق للأجراء العاملين بالقطاع الخاص باعتباره هيأة تقديرية لهذه المعاشات والتي أسند المشرع النظر فيها إلى المحاكم العادية، خصوصا وأن المادة 41 من القانون رقم 41.90 فيما يتعلق بالمعاشات لم تشر إلى الظهير الشريف المحدث لنظام الضمان الاجتماعي[21].

المحور الثالث: تجليات التنازع السلبي على مستوى منازعات المعاشات

مما سبق، يتضح لنا بأن معضلة تنازع الاختصاص القضائي النوعي على مستوى منازعات المعاشات، تظهر بحدة كبيرة لدرجة وصل الأمر إلى إنكار العدالة بين جهتي القضاءين معا في بعض الحالات، ودليل ذلك هو ما جاء ضمن حيثيات قرار لمحكمة النقض: “حيث يستفاد من مستندات الملف أن الطالبة أعلاه عرضت في مقالها أنها تقدمت بمقال أمام المحكمة الابتدائية بتاريخ 16/02/2000 تلتمس فيه الحكم لفائدتها براتب الزمانة نتيجة إصابتها بعجز تام عن العمل طبقا للفصل 47 من ظهير 1972. وبتاريخ 30/11/2004 أصدرت المحكمة الابتدائية حكمها في الملف الاجتماعي عدد 2687/04 قضت فيه باختصاصها في النظر فيه، وهذا الحكم وقع استئنافه من طرف الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي فأصدرت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء قرارها بتاريخ 27/10/05 في الملف عدد 1495/05 قضت فيه بإلغاء الحكم المستأنف فيما قضى به والتصريح من جديد بعدم الاختصاص وإحالة الملف على المحكمة الإدارية للاختصاص. وبعد الإحالة على هذه المحكمة أصدرت هي الأخرى حكمها بتاريخ 22/03/06 في الملف عدد 21/06 قضت فيه بعدم اختصاصها نوعيا للبت في الملف.

هذا الحكم وقع تبليغه للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ولم يطعن فيه بالاستئناف حسب شهادة بعدم الاستئناف الصادرة عن رئيس كتابة الضبط بالمحكمة الإدارية بالدار البيضاء بتاريخ 25/05/2007، ولذلك فإن هناك حالة تنازع الاختصاص السلبي، طالبة الحكم بتحديد المحكمة المختصة للبت في النزاع مع الأمر بإحالة الملف عليها للبت فيه طبقا للقانون”[22].

حالة التنازع السلبي هذه، تحققت أيضا في قضية أخرى عرضت أمام نفس المحكمة تتلخص وقائعها على النحو التالي: “وحيث يستخلص من وثائق الملف أن الطالبة الورشي (س) تلتمس البت في تنازع الاختصاص بعدما أصدرت المحكمة الإدارية حكمها بعدم اختصاصها نوعية للنظر في المنازعة المتعلقة بطلب راتب زمانها ضد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (حكم عدد 178 بتاريخ 28 يناير 2009) وهو نفس الطلب الذي تم رفعه إلى المحكمة الابتدائية بالرباط حيث أصدرت هذه الأخيرة حكمها بتاريخ 22 يناير 2013 في الملف عدد 2400/2011 بعدم اختصاص النظر فيه”[23].

من خلال القرارين أعلاه، يتضح جليا مدى بالغة الخطورة التي يتعرض لها المتقاضي جراء معضلة تنازع وتجاذب الاختصاص بين المحاكم، إذ أنه بالرجوع إلى حيثيات قرار محكمة النقض عدد 791 يظهر بأن المنازعة قضت ما يزيد عن 11 سنة تتأرجح بين المحاكم دون صدور حكم قضائي يحقق الغاية والهدف الأساسي الذي سعى المتقاضي للحصول عليه بعد ولوجه لمؤسسة القضاء والمتمثل في الحصول على تعويض عن راتب الزمانة نتيجة إصابتها بعجز تام عن العمل، علما بأن بت محكمة النقض في طلب التنازع السلبي سوف يزيد من إطالة أمد النزاع لعدة احتمالات نذكر منها:

  • عدم سن المشرع المغربي لأجل البت في طلب التنازع أمام محكمة النقض، أي أن إمكانية البت في الطلب تبقى رهينة بالسلطة التقديرية للقاضي.
  • عدم توفر شروط تحقق طلب التنازع السلبي بين المحاكم، مما يدفع محكمة النقض لرفض طلب التنازع، وهو ما تحقق في قضية “سلاك فاطمة” لما قضت المحكمة برفض الطلب للعلة التالية: “لكن، حيث إنه بمقتضى الفصل 300 من ق. م. م، إنما يكون هناك مجال لتنازع الاختصاص، إذا أصدرت عدة محاكم في نزاع واحد قرارات غير قابلة للطعن صرحت فيها باختصاصها أو بعدم اختصاصها فيه، وأن الحكم الابتدائي الإداري المذكور القاضي بعدم الاختصاص النوعي موضوع طلب الفصل في تنازع الاختصاص هو حكم ابتدائي قابل للطعن فيه بالاستئناف، الأمر الذي لا يكون معه هناك مجال لتنازع الاختصاص، مما يتعين رفض الطلب”.

هكذا، لم يبقى أمام الطالبة في النقض إلا انتظار انتهاء أجل الطعن بالاستئناف من أجل رفع طلب التنازع أمام محكمة النقض من جديد للبت فيه، وذلك في حال لم يتم استئناف الحكم الابتدائي الإداري من قبل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي أمام محكمة النقض، كون أن المحكمة الإدارية قضت بعدم اختصاصها في الموضوع.

باستقرائنا لما سبق، لا يسعنا إلا أن نناشد المشرع المغربي من أجل سن قوانين موضوعية تراعي حجم التفاوت بين القواعد الإجرائية المؤطرة لاختصاص المحاكم، وتيسير السبل على المتقاضي لاستحقاق حقوقه دون هدر للوقت والمال. وهو ما تحقق لمجموعة من القضايا: كقضايا الأسرة خاصة في دعوى الشقاق والنفقة؛ وحوادث الشغل؛ والمعتقلين، والتي رعى المشرع فيها إمكانية صدور الأحكام داخل أجل معقولة تتماشى والمبدأ الدستوري الذي جاء به الفصل 120 من دستور 2011.


الهوامش:

[1] محمد رفعت عبد الوهاب، القضاء الإداري، الكتاب الأول، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص. 415.

[2] قانون منفذ بمرسوم رقم 10434 بتاريخ 14/06/1975، المتعلق بنظام مجلس شورى الدولة، جريدة رسمية، عدد 49 بتاريخ 19 يونيو 1975 ص. 22-1.

[3] قانون عضوي رقم 03.98 مؤرخ في 8 صفر 1419 (3 يونيو 1998) يتعلق باختصاصات محكمة التنازع وتنظيمها وعملها، جريدة رسمية، عدد 39 بتاريخ 12 صفر 1419 (7 يونيو 1998)، ص. 3.

[4] أحمد أبو الوفا، نظرية الدفوع في قانون المرافعات، منشأة المعارف، الإسكندرية، الطبعة السادسة، 1980، ص. 402.

[5] عمار بوضياف، النظام القضائي الجزائري 1962/2002، منشورات دار الريحان، الجزائر، 2003، ص. 202 وما بعدها.

[6] قرار رقم 6 صادر عن محكمة النقض السورية، أساس 15، تنازع الاختصاص، 2015، المدعي ضد وزير المالية والمدير العام لمؤسسة التأمين والمعاشات، المجموعة الماسية الحديثة للاجتهادات الصادرة عن الهيئة العامة لمحكمة النقض السورية وبعض قرارات محكمة تنازع الاختصاص، الجزء الأول، منشورات وزارة العدل والمعهد العالي للقضاء في الجمهورية العربية السورية، 2018، ص. 441 وما بعدها.

[7] م. الأعلى، غ. ت، قرار عدد 212، ملف تجاري، عدد 347/3/1/2010 بتاريخ 10 فبراير 2011، سلام المرابط ضد المصطفى حفيظ، مجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 73، 2011، ص. 165.

[8] جاء في الفصل 20 من ق. م. م ما يلي: “تختص المحاكم الابتدائية في القضايا الاجتماعية بالنظر في:

مقال قد يهمك :   ابن مسعود ياسين: الأصل التجاري الإلكتروني بالمغرب -المدخل التأصيلي لسؤال الاعتراف القانوني -

ج – النزاعات التي قد تترتب عن تطبيق المقتضيات التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالضمان الاجتماعي”.

[9] ظهير شريف رقم 1.04.127‏ صادر في 21 ‏من رمضان 1425 ‏ (4 ‏نوفمبر 2004‏) بتنفيذ القانون رقم 17.02 ‏المغير والمتمم بموجبه الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 1.72.184 بتاريخ 15 ‏من جمادى الآخرة 1392‏ (27 يوليوز 1972‏)، المتعلق بنظام الضمان الاجتماعي، جريدة رسمية، عدد 5263 بتاريخ 25 رمضان 1425 (08 نونبر 2004)، ص. 3876.

[10] م. الأعلى، غ. إد، قرار رقم 404 بتاريخ 25 مايو 1984، محمد كندوز ضد مدير الخزينة العامة ومن معه، اجتهادات الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى في ميدان الوظيفة العمومية، مطابع منشورات عكاظ، الرباط، منشورات وزارة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري، 1998، ص. 64، منشور كذلك بقرارات المجلس الأعلى في المادة الإدارية 1958-1997، مطبعة المعارف الجديدة، منشورات المجلس الأعلى في ذكراه الأربعين، 1997، ص. 139؛ م. الأعلى، غ. إد، قرار رقم 138 بتاريخ 7 غشت 1986، إبراهيم المراني ضد الخازن العام للمملكة، اجتهادات الغرفة الإدارية بالمجلس الأعلى في ميدان الوظيفة العمومية، المرجع السابق، ص. 71؛ م. الأعلى، غ. ت، قرار عدد 545، ملف تجاري، عدد 189/3/1/2004 بتاريخ 16 ماي 2007، مصرف المغرب ضد لحسن لمرابط، مجلة المحاكم المغربية، عدد 116، شتنبر- أكتوبر 2008، ص. 136.

[11] م. النقض، غ. إد، قرار عدد 1005/1، ملف إداري، عدد 1398/4/1/2015 بتاريخ 28 ماي 2015، تعاضدية التأمينات لأرباب النقل المتحدين ضد عثماني، أورده أحمد أجعون، المستحدث في قضاء الغرفة الإدارية بمحكمة النقض في منازعات الاختصاص النوعي بين المحاكم الإدارية والمحاكم العادية، منشورات المجلة المغربية للأنظمة القانونية والسياسية، الدليل القانوني والقضائي رقم 1، مطبعة الأمنية، الرباط، الطبعة الأولى، 2018، ص. 108 وما بعدها.

[12] م. النقض، غ. إد، قرار عدد 1384/1، ملف إداري، عدد 1960/4/1/2015 بتاريخ 02 يوليوز 2015، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ضد عائشة تابوشيت، أورده أحمد أجعون، المرجع السابق، ص. 144 وما بعدها.

[13] م. إد، الرباط، حكم عدد 498، ملف إداري، عدد 73/03 بتاريخ 13 أبريل 2004، أورده جمال المغربي، “نزاعات معاشات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بين القضاء العادي والقضاء الإداري”، تعليق على قرار محكمة النقض (الغرفة الاجتماعية) قرار عدد 59 مؤرخ في 10 يناير 2013، مجلة القانون المغربي، عدد 39، يناير 2019. ص. 36 وما بعدها.

[14] م. إد، مكناس، حكم عدد 683، ملف إداري، عدد 101/2011/5 بتاريخ 29 دجنبر 2011، الطاعن ضد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أورده عبد الإله عزوزي، “إشكالية الاختصاص النوعي في منازعات الضمان الاجتماعي”، مجلة العلوم القانونية، سلسلة فقه القضاء الإداري، عدد مزدوج 3-4، الجزء الأول، ص. 160 وما بعدها.

[15] م. الأعلى، غ. إد، قرار عدد 1427، ملف إداري، عدد 1292/5/1/97 بتاريخ 9 أكتوبر 1997، إبراهيم التازي ضد المكتب الوطني للسكك الحديدية، مجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد مزدوج 53- 54، يوليوز 1999، ص. 269؛ م الأعلى، غ. إد، قرار عدد 237، ملف إداري، عدد 617/5/1/98 بتاريخ 15 فبراير 2001، عمر الرمال ضد المكتب الوطني للسكك الحديدية، مجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 57- 58، يوليوز 2001، ص. 289؛ م. الأعلى، غ. إد، قرار عدد 458، ملف إداري، عدد 261/4/1/2009 بتاريخ 29 أبريل 2009، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد 107، نونبر- دجنبر 2012، ص. 191؛ م. الأعلى، غ. إد، غ. اجتماعية، قرار عدد 785، ملف إداري، عدد 42/5/1/2009 بتاريخ 16 شتنبر 2010، الطاعن ضد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أورده عبد الإله عزوزي، “إشكالية الاختصاص النوعي في منازعات الضمان الاجتماعي”، المرجع السابق، ص. 161.

[16] م. النقض، غ. إد، قرار عدد 1612/1، ملف إداري، عدد 2474/4/1/2015 بتاريخ 16 يوليوز 2015، بلحمر مولاي أحمد ضد الدولة المغربية ومن معها؛ م. النقض، غ. إد، قرار عدد 1650/1، ملف إداري، عدد 2472/4/1/2015 بتاريخ 16 يوليوز 2015، بوشياه عائشة ومن معها ضد الدولة المغربية ومن معها؛ م. النقض، غ. إد، قرار عدد 1656/1، ملف إداري، عدد 2471/4/1/2015 بتاريخ 16 يوليوز 2015، الجمل العبوبي ضد الدولة المغربية ومن معها. أوردها أحمد أجعون، المستحدث في قضاء الغرفة الإدارية بمحكمة النقض في منازعات الاختصاص النوعي بين المحاكم الإدارية والمحاكم العادية، المرجع السابق، ص. 165 و177 و181؛ م. النقض، غ. إد، قرار عدد 1651/1، بتاريخ 16 يوليوز 2015، المستأنف ضد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أورده محمد بفقير، العمل القضائي للغرفة الإدارية بمحكمة النقض خلال سنتي 2014 و2015، الجزء الأول، منشورات دراسات قضائية، سلسلة عمل قضاء المحاكم المغربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2016، ص. 107.

[17] المصطفى الدحاني، “الاختصاص بنزاعات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والقواعد القانونية التي يخضع لها”، المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية، عدد مزدوج 97-98، مارس- يونيو 2011، ص. 40.

[18] جمال المغربي، “نزعات معاشات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بين القضاء العادي والقضاء الإداري”، المرجع السابق، ص.34.

[19] جاء في الفقرة 2 من الفصل 21 من ق. م. م ما يلي: “غير أنه يبت ابتدائيا فقط في قضايا حوادث الشغل والأمراض المهنية وكذا في المعاشات الممنوحة في نطاق الضمان الاجتماعي باستثناء النزاعات الناشئة عن تطبيق الغرامات التهديدية المقررة في التشريع الخاص بالتعويض عن حوادث الشغل والأمراض المهنية فإن الأحكام تصدر بصفة انتهائية ولو كان مبلغ الطلب غير محدد”.

[20] مرسوم رقم 2.96.319 صادر في 24 من ربيع الآخر 1417 (9 سبتمبر 1996) بتغيير المرسوم رقم 2.72.541 بتاريخ 23 من ذي القعدة 1392 (30 ديسمبر 1972)، في شأن التعويضات التي يدفعها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، جريدة رسمية، عدد 4418 بتاريخ 19 جمادى الأولى 1417 (03 أكتوبر 1996)، ص. 2257.

[21] عبد الإله عزوزي، “إشكالية الاختصاص النوعي في منازعات الضمان الاجتماعي”، المرجع السابق، ص. 162 وما بعدها.

[22] م. الأعلى، غ. إد، قرار عدد 791، ملف إداري، عدد 4364/1/1/2010 بتاريخ 22 فبراير 2011، سلاك فاطمة ضد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

[23] م. النقض، غ. إد، قرار عدد 458، ملف إداري، عدد 838/4/1/2013 بتاريخ 16 ماي 2013، الورشي (س) ضد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومن معه.

error: يمنع نسخ محتوى الموقع شكرا :)