بوجمعة ادغـيـش: المسؤولية الدولية للإساءة للأديان السماوية
بوجمعة ادغـيـش طالب باحث بسلك الدكتوراه القانون العام والعلوم السياسية
تــقـديــم:
شهد العالم خلال العقود الأخيرة تهديدات خطيرة للسلام والأمن الدولیین، خاصة تلك الصراعات العنيفة والحروب التي كان مصدرها في غالب الأحيان الكراهية والحقد الديني، وهو ما نجمت عنه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وحریاته الأساسية. ولعل ما یؤكد هذا التهدید للسلم والأمن الدولیین هو العنف الاجتماعي الملاحظ على جمیع المستویات وفي بعض مناطق العالم، ذلك أن النزاعات والصراعات الحديثة عادة ما تتخذ من الدین ذريعة لها، تستخدمه كحجة و سبب للقيام بأعمال العنف بشتى أشكاله، خصوصا و أن الدین یرتبط ارتباطا وثيقا بوجدان وعاطفة الأفراد والمجتمعات، الأمر الذي یؤدي إلى اتساع رقعة النزاعات والصراعات، بما یمكن من جر أعداد إضافية من المتنازعين، وهو ما یؤدي حتما إلى تهدید السلام العالمي مع اتساع دائرته باستمرار، وبهذا یكون من الضروري البحث عن آليات تحول دون الوصول إلى نتائج مأساوية، خاصة في ظل الآليات المستحدثة التي أقرها المجتمع الدولي في إطار المنظومة القانونية للأمم المتحدة.
وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالكراهية، یقوم الكثيرون وبشكل متزايد بالإساءة للدین دعما للتهدیدات الخطيرة للسلام والأمن الدوليين، سواء من قبل المتطرفين الذين يستغلون الدین للتحریض على العنف و الكراهیة، أو السیاسیين الذين یتلاعبون بالاختلافات الدینیة و الطائفیة لأغراضهم الشخصیة، أو أولئك الذين یسعون إلى استغلال ضحایا الفقر وانتهاك حقوق الإنسان وحریاته الأساسیة، أو وسائل الإعلام التي تعتمد على الاستثارة لإلقاء اللوم و المسؤولیة على الدین في حالات الصراعات المختلفة.
إن العلاقة بین مختلف الأدیان السماویة مطروحة من خلال الحوار كقضیة محوریة أساسیة لأجل إقرار السلام العالمي، تماشیا مع التغیرات الكبیرة التي تشهدها الدیمغرافیا الدولية، وما نتج عنها من تداخل بین الأدیان السماویة على نطاق واسع، ومن هنا فقد قفز عدد المسیحیین في إفریقیا إلى ما یزید على 482 ملیون، بینما كان في مطلع القرن التاسع عشر لا یتعدى 10ملایین، وكذلك الأمر في آسیا، حیث قفز العدد الإجمالي للمسیحیین إلى حوالي 300 ملیون شخص، وعلیه أصبح المسیحیون یعیشون في العالم الثالث جنبا إلى جنب مع المسلمين وأصبحوا في حالة تماس دائم، ومن جهة أخرى ازداد عدد المسلمین في أوروبا وأمریكا الشمالیة وتوسعت دائرة الاختلاط بین أتباع الدیانتین في حیاتهما الیومیة، مع الإشارة أن عدد المسلمین في العالم یزید على ملیار ونصف مقابل 2.4 مليار مسیحي من أصل حوالي 7 ملیارات یشكلون عدد سكان العالم الیوم[1].
وأمام هذا التداخل بين الديانات، تعمل مجموعة من الهيئات السياسية منها هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وغيرها من الهيئات السياسية الإقليمية على اتخاذ مجموعة من القرارات التي يمكن أن تحول دون التعسف في استعمال الحق في حرية التعبير دون الإساءة للأديان السماوية ورموزها المقدسة، حتى يتجنب المجتمع الدولي قیام فتنة واسعة لها ارتداداتها على السلم المحلي والسلم الدولي، وفي هذا الاتجاه تعمل الهيئة الدولية على فرض آلیات ضمن إطار المنظومة القانونیة للأمم المتحدة، تحول دون الوصول إلى نتائج مأساویة.
المبحث الأول: حرية المعتقد الديني من التشريع السماوي للتشريع الوضعي
إن حرية المعتقد الديني تعد من المبادئ التي جاءت بها مختلف الشرائع السماوية، والتي حرصت على ضمانها وعملت على تبنيها في مختلف نصوص الكتب السماوية، وهو نفس الاتجاه الذي تبناه التشريع الوضعي من أجل ترسيخ وتضمين هذا المبدأ ضمن نصوصه التشريعية.
المطلب الأول: حرية المعتقد الديني في الشرائع السماوية والقوانين الوضعية
إن حریة العقیدة[2] هي إحدى الحریات العامة التي تعني حریة الفكر والاقتناع والإیمان بالخالق، حیث یكون الإنسان حرا في أن یعقد قلبه وضمیره على الإیمان، مع خلوه من الشك، الأمر الذي يجعله قائما على عقیدة راسخة استقر علیها، ومن ثم فهي لا تعدو أن تعبر عن حق الإنسان في الاختيار في مجال الدین، بحیث لا یكون لغیره الحق في إكراهه على اعتناق عقیدة معینة، أو تغییر ما یعتقده بأیة وسیلة من وسائل الإكراه.
وتعد الحرية أساس المسؤولية القانونية، ومع انعدامها يقع الفرد تحت طائلة الإكراه والاضطهاد، وبالتالي لا يمكن أن تقام المسؤولية إلا إذا كانت هناك علاقة طردية بينهما.
الفقرة الأولى: حرية المعتقد في الشرائع السماوية
یذهب الكثیر من دارسي الفقه الإسلامي إلى القول بأن ظهور هذا المصطلح تزامن مع بدایات الثورة الفرنسیة وإعلان حقوق الإنسان والمواطن وما تلاه من إعلانات ودساتیر في سائر الدول، غير أنهم لم ينكروا على الفقهاء القدامى علم ومعرفة بحریة الإنسان في تكوین عقیدته الإیمانیة.
وذهب فقهاء الشریعة الإسلامیة إلى تحديد مفهوم حریة العقیدة في الاصطلاح ب “حریة التصدیق بالشيء والجزم به دون شك أو ریب”، لیكون المصطلح بمعنى حریة الإیمان، ومن ثم یتبین بأن هذا المصطلح یتكون من كلمة ” حریة ” وكلمة ” عقیدة “، ومن ذلك ما عرضه الإمام محمد أبو زهرة بقوله: لقد احترم الإسلام حریة المعتقد، وجعل الأساس في حریة المعتقد أن یختار الإنسان الدین الذي یرتضیه دون إكراه، وأن يكون أساس اختیاره التفكیر السلیم، وأن یحمي دینه الذي ارتضاه فلا یكره على خلاف ما یقتضیه[3]. وذهب اخرون على اعتبار حرية العقيدة “حق الإنسان في اختیار ما یؤمن به ابتداء وفق ما استقر علیه قلبه وضمیره ووجدانه من غیر ضغط ولا قسر ولا إكراه خارجي[4].
و تعرف العقیدة لدى فقهاء الشریعة المعاصرین أیضا بأنها: “مجموعة من قضایا الحق البدیهیة المسلمة بالعقل والسمع والفطرة، یعقد علیها الإنسان قلبه ویثني علیها صدره جازما بصحتها قاطعا بوجودها وثبوتها، لا یرى خلافها أنه یصح أو یكون أبدا[5].
وتعرف حرية العقيدة أیضا بأنها: “حق للإنسان بمقتضاه یختار ما یؤدیه إلیه اجتهاده في الدین، فلا یكون لغیره الحق في إكراهه على عقیدة معینة، أو تغییر ما یعتقده بوسیلة من وسائل الإكراه، و إنما یكون له حق دعوته إلیها بالاقتناع بدلیل العقل وتبلیغه للناس[6].
وبهذا یظهر أن حریة العقیدة لدى فقهاء الشریعة الإسلامیة لا تعدو أن تكون حقا من حقوق الإنسان یتمثل في حریته في الاختيار الدیني ومن ثم لا یجبر على عقیدة معینة أو على تغییر عقیدته، وعلیه فحریة العقیدة تسري على كل ما یؤمن به الإنسان، سواء كان ما یعتقده حقا أم باطلا، صحیحا أم خاطئا بشرط أن لا یجبر الإنسان على تغییر عقیدته، ومن ثم یكون لمفهوم حریة العقیدة لدى فقهاء الشریعة الإسلامیة إمكانیة الاختيار ابتداء من غیر إكراه.
ومن هنا فالشريعة الإسلامية تبنت حرية المعتقد الديني و جعلته أصلا عاما، و قررت حرية المعتقد للمسلمين و غير المسلمين، و ضمنت لغير المسلمين حرية المعتقد و ممارسة دينهم و عقيدتهم في بلاد الإسلام بكل حرية دون ضغوط أو إكراه، و أن يقيم شعائره بكل حرية، وهو ما أكده القران الكريم في قوله تعالى في سورة القرة الية 256 : (لا إكراه في الدین قد تبین الرشد من الغي فمن یكفر بالطاغوت ویؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سمیع علیم)، و أن الناس أحرار في الجانب المعتقدي قبل اعتناق الإسلام الدين الإسلامي على أساس أن هذا الأخير يقوم على الدعوة بالحسنى و الحكمة، و هو ما أكده القران من خلال قوله تعالى في سورة النحل الآية 125 : ( ادع إلى سبیل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ظل عن سبیله وهو أعلم بالمهتدین).
وكما أن مبدأ التعایش الحضاري والاحترام المتبادل بین الدین الإسلامي والدیانات السماویة الأخرى، فحریة المعتقد في الشریعة الإسلامیة تقوم على عدم إمكانیة إكراه أتباع الدیانات الأخرى على إتباع الدین الإسلامي بل أتاحت لهم التعایش والعیش في ظل الدولة الإسلامیة باعتبارهم أهل ذمة لهم حق المواطنة، وحق ممارسة شعائرهم الدینیة دون أن یخل ذلك بالنظام العام والآداب العامة وفقا لمفهوم الشریعة الإسلامیة وفلسفتها[7].
أما بخصوص الديانة اليهودية، فقد عمل اليهود على التغيير من طبيعة هذه الحرية، بحيث جعلوا حرية المعتقد قاصرة على بني إسرائيل وحدهم دون غيرهم بوصفهم شعب الله المختار، كما أن رجال الدين – الكهنة و الأحبار و الحاخامات- يلعبون دورا محوريا في تكوين العقيدة الدينية والسياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، و هم بذلك لهم الحق في تفسير النصوص المقدسة دون غيرهم، و بالتالي فحرية المعتقد لديهم مقيدة بالضوابط التي يضعونها دون الرجوع للنصوص المقدسة[8]، فعلى سبیل المثال لا تقبل القرابین إلا إذا كانت قدمت وبوركت من أحد الكهنة، كما أن لھم ( الكهنة) الحق المطلق للإعفاء من الضرائب ولھم الحق أیضا في تلقي العشور من نتاج المحاصیل والحیوانات، حتى تمتاز ثرواتھم بنوع من التقدیس والغموض.
إضافة على ذلك فإن وظيفة الكهنة فهي مقتصرة على ذوي السلالة الإسرائيلية دون غيرهم، وبالتالي فكل الحقوق والحريات تعود إليهم دون الشعوب الأخرى، وهم بذلك من خلال معتقداتهم لهم الحق في قتل وهتك وسلب الشعوب التي تخالفهم في العقیدة، كما أن حرية المعتقد الديني لديهم يعد أمرا خاص، بحيث أن اليهودي الذي يغير دينه يعتبر في نظرهم كافرا ويحكم عليه بالإعدام.
ومن هنا يلاحظ أن الكهنة يلعبون دورا كبيرا في حرية المعتقد لدى اليهود، فالمعتقد لديهم يضيق و يتسع بحسب أهواءهم و وفق مصالحهم، و بهذا فسلطة الكهنة تختلف عن ماهو موجود في الديانات الأخرى، كما أن الحرية وفق مفهومهم تسمح لليهودي بإساءة وازدراء الديانات الأخرى، و أن العلاقة بين سلطة الكهنة الدینیة و الیهودي تقوم من أجل مصادرة كل إمكانیات الأفراد وقدراتهم، و تعمل على تحولهم من أحرار إلى أرقاء، مع الإشارة إلى أن هذه السلطة تدعي أنها قامت لأجل تحقیق حق هؤلاء الأفراد في الحفاظ على مصالحهم الخاصة وسعادتهم الفردیة المنشودة.
أما بالنسبة لحرية المعتقد الديني في الديانة المسيحية، فإن تعاليم السيد المسیح علیه السلام جاءت لتقر للإنسان بالحرية والمسؤولية في الوقت نفسه، ومن ثم فإن نظرة المسیح للحریة جعلته یعترف بأنه متعجب من سلوك معارضیه في رفضھم الإیمان به، وھذا ما جاء في إنجیل مرقس: ” ولا تعجب من عدم إیمانھم “، وھو ما یعني توافر حریة الاختيار عند المسیحیة، وبالتالي فإن الناس لهم أن یستجیبوا لنداء المسیح أولا یستجیبوا، ولو أنھم لم یسمعوه ولم یكونوا أحرارا في أن یؤمنوا أو لا یؤمنوا.
غير أن الصراع بين السلطة الدينية ( الكنيسة) و السلطة السياسية أدى إلى التضييق من مفهوم الحرية الدينية، وهو ما تجلى في عمل الرهبان القساوسة على حجب الحرية والحقيقة التي جاء بها المسيح، من خلال تشريع و إضافة و تبديل قوانين المسيحية خدمة لمطامعهم الدنيوية، الشيء الذين جعلهم متسلطين و مهيمنين على مصالح و مقدرات الخلق.
فهنا المسيحية ( الدين) قائمة على أساس فصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية، فالإنسان المسيحي يتحرر بحرية الفكر و العقيدة. و مع ظهور الكنيسة المسيحية كنظام مستقل عن النظام السياسي تراجع مفهوم الحرية (المعتقد الديني)، حيث رفضت المسیحیة فكرة السیطرة الكلیة و الشمولیة للدولة لاسیما ما اتصل بالحیاة والممات والجسد والروح، ومن ھنا دعت إلى أھم دعامات الحریة الذي تتمثل في مبدأ المساواة بین البشر، كما دعت إلى حریة العقیدة باعتبارھا منطقة محظورة لا تمتد إلیھا سلطة الدولة و قانونھا الوضعي[9].
لقد صرح مجتمع الكنيسة الكاثوليكية برأيه حول كرامة الإنسان-والذي يرى بأنه: “من الواجب الاعتراف به في القانون الدستوري؛ حتى يخضع المجتمع لهذا القانون لتصبح الدولة مدنية”-القائل “بأن للإنسان الحق في الحرية الدينية، والذي يلعب دور الحصانة من الإكراه الديني في المجتمع المدني”، ويعتقد بقدرة هذا التغيير على “طمس جميع التقاليد الكاثوليكية الدكتاتورية حول الواجبات الأخلاقية على الناس والمجتمع من خلال الدين الحق. وبالإضافة لرأيه بما يتعلق بالحرية الدينية، كتب البابا يبوس التاسع في كتابه (منهج الأخطاء): ” لكل شخص الحرية في اعتناق وإشهار الدين الذي يؤمن به، مسترشدا بقوة المنطق، والتي تؤخذ دائما بعين الاعتبار، حيث يعتبر من الخطأ المعتقد عكس ذلك”. وأضاف ” لم يعد مناسبا حاليا أن تتخذ الدولة الديانة الكاثوليكية دينا أساسيا لها، مع منع جميع الأشكال الأخرى للعبادة، لذلك يجب تبني القانون المتبع حاليا لدى بعض الدول الكاثوليكية، حيث يتم السماح للأشخاص المقيمين بحرية ممارسة طقوسهم الدينية الخاصة بهم”.
ويدعم المسيحيون الأرثوذكس مبدأ الحرية الدينية، خصوصا المقيمين في دول ديمقراطية. كما تتشارك العديد من الكنائس مبدأ الحرية الدينية كالكنائس المسيحية للبروتستانت، والكنائس المعمدانية، وكنائس المسيح، وكنيسة مجيئي اليوم السابع (السبتين، وكذلك كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة. كما يوضح موقف البطريركية القسطنطينية المسكونية دعمها لمبدأ الحرية الدينية. ويعتقد الباحث الأفريقي “ماكاو موتوا”(Makau Mutua) بأن إصرار المسيحيين على نشر ديانتهم للثقافات الأصلية كعنصر من عناصر الحرية الدينية أدى إلى حرمانها من الحرية الدينية للتقاليد المحلية وأدى إلى تدميرها.
الفقرة الثانية: حرية المعتقد الديني في القوانين الوضعية
حرصت مختلف التشريعات الوضعية على التأكيد على حرية الإنسان في المعتقد بأي دين شاء دون إكراه. فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حرية العقيدة وعدم المساس بها، حیث جاء في نص المادة 18 منه على أن: ” لكل شخص الحق في حریة التفكیر و الضمیر و الدین، و یشمل هذا الحق حریة تغییر دیانته أو عقیدته، و حریة الإعراب عنهما بالتعلیم والممارسة، و إقامة الشعائر الدینیة ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرا أم جهرا، منفردا أم مع الجماعة”[10]. كما نصت المادة 19 من الإعلان نفسه على أنه: ” لكل شخص الحق في حریة الرأي والتعبير، و یشمل هذا الحق حریة اعتناق الآراء دون أي تدخل واستقاء الأنباء و الأفكار و تلقیها و إذاعتها بأیة وسیلة كانت دون تقیيد بالحدود الجغرافية”[11].
أما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنیة و السیاسیة لعام 1966 فقد جاء في المادة 19 منه أن:” لكل إنسان الحق في حریة الفكر والوجدان و الدین، و یشمل ذلك حریته في الانتماء إلى أحد الأدیان أو العقائد باختیاره، و أن یعبر منفردا أو مع الآخرین بشكل علني أو غیر علني عن دیانته أو عقیدته، ولا یجوز تعریض أحد لإكراه من شأنه أن یخل بحریته في أن یدین بدین ما أو بحریته في اعتناق أي دین أو معتقد يختاره، ولا یجوز إخضاع حریة الإنسان في إظهار دینه أو معتقده إلا للقیود التي یفرضها القانون والتي تكون ضروریة لحمایة السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرین و حریاتهم الأساسیة “[12].
وذهبت في نفس الاتجاه الإتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والميثاق العربي لحقوق الإنسان، حيث أكدت في مواد متفرقة على الحضر الواضح لمنع الإساءة للأديان السماوية مع التأكيد على حرية الرأي والتعبير.
كما نجد أن مختلف الوثائق الدستورية عملت على تبني حرية المعتقد، فنجد أن نظام الحكم في المغرب الذي يعتمد على المشروعية الإسلامية المتمثلة في البيعة، يعترف للمملكة برعاية اليهود ويعتبر العبرية جزءًا من الهوية الوطنية إلى جانب المكونات الأخرى[13]. ونجد كذلك الدستور المصري قد نص في المادة 2 والمادة 46 على حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية، ومن هنا يتضح أن الدستور والمصري قد ضمن لكل إنسان الحریة في أن یؤمن بما شاء من الأدیان، والعقائد التي یطمئن إلیها ضمیره.
وفي هذا السیاق ذهب الدستور الفرنسي على تبن تام لحریة العقیدة، حیث أوجب في مادته الأولى على احترام جمیع المعتقدات والمبادئ الأساسیة المعترف بها بواسطة قوانین الجمهوریة الفرنسي.
ومن هنا نجد أن أغلب الدساتير الوطنية عملت على حفظ حرية العقيدة وحرية التعبير، مع الالتزام التام بالحفاظ على النظام العام والمصالح العامة للبلاد، من أجل ممارسة عقيدة دينية معينة دون الإضرار بالاخرين، و هو مثلا عبر عنه محمد السادس في خطابه أثناء زيارة البابا “فرانسيس” للمغرب، و الذي نوه فيه على التعددية وتلاحم الديانات السماوية الثلاثة في المملكة، من خلال تواجد المساجد والكنائس، حيث جاء في نص خطابه: “… وبصفتي ملك المغرب، و أمير المؤمنين، فإنني مؤتمن على ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية. وأنا بذلك أمير جميع المؤمنين، على اختلاف دياناتهم”[14].
المطلب الثاني: أساس مبدأ عدم الإساءة للأديان السماوية
يستمد مبدأ عدم الإساءة للأديان السماوية مشروعيته من خلال نصوص تشريعية، سواء كانت عبارة عن نص سماوي أو من نص تشريعي وضعي، فمن خلال النصوص التشريعية السماوية يمكن فهم الأسس العامة لمنع أو حظر الإساءة للأديان باعتبارها المرجعية الأساس لحرية المعتقد الديني.
الفقرة الأولى: الأسس المعتمدة من الشريعة الإسلامية لحظر الإساءة للأديان
كفلت الشریعة الإسلامیة حریة المعتقد الدیني للمسلمین ابتداء، كما كفلتها أيضا لأصحاب الدیانات الأخرى، باعتبار حرية المعتقد من المبادئ الهامة التي یقوم علیها كیان المجتمع الإنساني انطلاقا من الكتاب والسنة النبوية.
لقد تبنت الشريعة الإسلامية من خلال النصوص القرآنية عدم إجبار أحد على ترك دينه واعتناق الإسلام، فعدم الإكراه على الدين أحد القواعد الأساسية التي يقوم عليها الدين الإسلامي، قال تعالى :(من شاء فليؤمن و من شاء فليكفر)[15]، و قال تعالى: ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جمیعا أفأنت تكره الناس حتى یكونوا مؤمنین)[16].
من هنا يتضح أن الشريعة الإسلامية ( القران ) قد تكفل للبشرية بحرية المعتقد، و ضمنت لأهل الكتاب ( الديانات السماوية الأخرى ) الخاضعين لسلطان الدولة الإسلامية حق حرية المعتقد، وعملت على إرساء مبدأ عدم الإجبار على تبني أي دين بالإكراه و إنما بالحسنى و الموعظة الحسنة[17]، كما عملت الشريعة الإسلامية على تكريس أن الإسلام جاء للبشرية جمعاء، و لم يكره أحدا على الدخول فيه، قال تعالى: ( لكم دينكم و لي دين )[18]،و قال تعالى أيضا في محكم التنزيل : ( و إن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بریئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون)[19].
إن لكل إنسان الحریة في اختیار العقیدة التي یطمئن إلیها ضمیره دون رقیب ، وبعیدا عن أي نوع من أنواع الإكراه أو الإجبار، فالعقيدة الإسلامية لا تحتاج على الإكراه تجاه من رغب عنها، دون التعدي على الإسلام بالقول أو الفعل، مع ضمان حرية المعتقد بالنسبة للديانات الأخرى.
هذا بالنسبة للقران، أما بالنسبة للسيرة النبوية باعتبارها ثاني مصادر التشريع، و بالتالي فهي قد ضمت بين نصوصها على الكثير من الأحاديث التي تحرم الإساءة للأديان على غرار ما جاء النص عليه في القران الكريم. فرسول الإسلام جاء للبشرية جمعاء دون تحديد، مبلغا رسالة ربه للناس على اختلاف مللهم و ألوانهم، قال تعالى: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشیرا ونذیرا ولكن أكثر الناس لا یعلمون)[20].
كما أن خطاب الله عز وجل لرسوله الكريم من خلال القران في سورة البقرة الآية رقم 272: ( ليس عليك هداهم و لكن الله يهدي من يشاء)، فهنا يؤكد الله عز وجل أن الرسول مكلف بتبليغ الرسالة و أنه غير مسؤول عن عدم هداية الكافرين، و أنه الله يشرح صدور من يشاء لدينه و يوفقه له، فالشريعة الإسلامية حريصة كل الحرص على عدم تنفیر معتنقي الدیانات الأخرى منها، وذلك بتقریرها لمبدأ وأساس احترام عقائدهم وشعائرهم ومعابدهم، وهو ما أكدته سیرة النبي صلى الله علیه وسلم وصحابته الكرام، على غرار وثیقة الصلح التي وقعها الرسول صلى الله علیه وسلم مع نصارى نجران حیث كتب یقول : و لنجران وحاشیتها جوار الله و ذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم و أراضیهم و ملتهم و غائبهم و حاضرهم و بیعهم و كل ما تحت أیدیهم من قلیل أو كثیر، ولا یخیر أسقف من أساقفتهم، ولا راهب من رهبانهم ولا كاهن من كهانهم ولیس علیه دین ولا دم جاهلیة[21].
وفي الاتجاه عمل صحابة رسول الله، حيث قال عمر بن الخطاب خليفة رسول الله في خطابه لأهل بيت المقدس: هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب أمیر المؤمنین لأهل إیلیا من الأمان، أعطاهم أمانا في أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم سقیمها و بریئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ینتقص منها ولا من حیزها ولا یكرهون على دینهم ولا یضار أحد منهم[22].
من هنا يتضح أن الشريعة الإسلامية قد أقرت حرية المعتقد بالنسبة لذوي الديانات الأخرى و التزمت بالحماية لهم و السهر على ضمان ممارسة دينهم و معتقدهم في ظروف أفضل، لیكون لهم ما للمسلمین، وعلیهم ما على المسلمین، ونتیجة لهذا یكون من حقهم ممارسة شعائرهم الدینیة بكل حریة، و هو ما أكده الرسول الأعظم في “عقد الأمان” مع اليهود في السنة الأولى من الهجرة، بموجبه منحهم بذلك الحق والحریة في أن یعتنقوا الإسلام بلا إكراه ولا إجبار، وفي المقابل منحهم الحریة في أن یبقوا على عقیدتهم و یمارسوا شعائرهم الدینیة تحت سلطان الدولة الإسلامیة بعیدا عن كل ضغط أو إساءة مهما كان نوعها.
الفقرة الثانية: الأسس المعتمدة من التشريعات الوضعية لحظر الإساءة للأديان
يستمد مبدأ عدم الإساءة للأديان أساسه من التشريعات الوضعية سواء منها المتعلقة بالقانون الدولي أو المتعلقة بالتشريعات الوطنية.
لقد تبنت جل التشريعات الدولية مبدأ عدم الإساءة للأديان السماوية، و يصبح مبدأ مستقرا في مختلف الاتفاقيات الدولية و خصوصا منها المتعلقة بحقوق الإنسان، فمنذ أن وجد الإنسان على وجه الأرض وجد لأجل أن یعتقد عقیدة التوحید، وعلى الرغم من أن حریة المعتقد الدیني هي من أهم الحقوق التي یجب أن یتمتع بها الإنسان فإن تعدد المعتقدات تدفع بالإنسان إلى الصراع و اختلاف الأفكار و المعتقدات، و من هنا يجد المجتمع الدولي سبيله للتدخل من أجل الحد أو التخفيف من هذه الصراعات و الحفاظ على الأمن و السلام الدوليين و تنمية فكرة التعايش بين مختلف العقائد.
و في هذا الإطار جاءت وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتتضمن مبدأ عدم الإساءة للأديان، و تعتبره من الحقوق الأساسية اللصيقة بالشخصية، و تصنف الإساءة للأديان السماوية ضمن إطار التمييز العنصري الذي تنبذه الدول الحديثة، و من هنا جاءت المادة الثامنة عشر (18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان »بأن الحق في حریة الدین و كذلك الحق في تغییر الدین أو العقیدة و إقامة الشعائر الدینیة مكفول و یجب مراعاته «. كما أقرت لجنة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأن الدول ملزمة بأن تضمن المعتقد الدیني، حتى يحصل على حصانة خاصة تقر له بنفس الحمایة التي تتمتع بها حریة الفكر.
كما أن المادة السادسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كانت أكثر تحدیدا حينما اعتبرت أن حریة ممارسة العبادة المتصلة بدین ما أو معتقد ما، من بین الحریات التي یجب مراعاتها من قبل السلطة السیاسیة في الدولة، و بالتالي یقع على عاتق جمیع الدول واجب احترام الطقوس الدینیة لجمیع الطوائف الخاضعین لسلطانها الداخلي، و ذلك باتخاذ التدابیر الضروریة التي تسمح لهذه الفئات بالتعبیر عن ما یعتقدونه بكل حریة و دون قیود تعسفیة بعیدة عن مجال القانون.
كما أسس العهد الدولي للحقوق المدنیة و السیاسیة لمبدأ عدم الإساءة للأديان أیضا، و ذلك من خلال نص المادة الثامنة عشر (18) و التي أكدت على » أن الحق في حریة المعتقد الدیني مكفولة لكل فرد، بحیث لا یخضع هذا الحق لأیة قیود إلا القیود المنصوص علیها قانونا و التي تستوجب الحفاظ على السلامة العامة، و النظام العام و ضرورة احترام حقوق الآخرین و حریاتهم الأساسیة«.
كما سارت على نفس المنوال الاتفاقية الأوروبیة لحمایة حقوق الإنسان الحريات الأساسية في مادتها التاسعة (9) حيث نصت على » أن الحق في حرية الدین مكفولة لكل فرد تثبت له الشخصیة القانونیة، لیشمل هذا الحق حریة تغییر دینه أو معتقداته، كما لا یجوز إخضاع هذه الحریة لقیود أو ضوابط إلا وفقا لما ینص علیه القانون في مجال حفظ وحمایة النظام العام والآداب العامة أو حمایة حقوق الآخرین وحریاتهم الأساسیة«[23].
وعملا بنفس المنهج، أسس الميثاق العربي لحقوق الإنسان لسنة 1994 لحرية المعتقد، من خلال مادتيه السادسة و العشرين(26) و السابعة و العشرين (27) على التوالي، حيث اعتبر »أن حریة العقیدة مكفولة لكل فرد ثبتت له الشخصیة«، و » أن الحق في ممارسة الشعائر الدینیة حق مكفول لجمیع الطوائف الدینیة «.
فمن خلال الأمثلة السابقة يتضح أن القانون هو الأساس الذي يعتمد عليه من أجل إرساء الحق في حرية المعتقد الديني والتأسيس للحرية الدينية لیكون لهم الحق في التعبیر عن أفكارهم، إما بالعبادة أو الممارسة أو التعلیم، شريطة أن لا یخل ذلك بحقوق الآخرین، وفي المقابل یحظر على الدولة فرض أي قیود على ممارسة حریة العقیدة والتمتع بها إلا بما نص علیه القانون.
من جهة ثانية تقوم القوانين الوطنية على تبني مبدأ حرية المعتقد الديني كأساس في البناء القانوني و الدستوري لها، كخيار استراتيجي أو التزاما بما تفرضه عليها الالتزامات الدولية في مجال حقوق الإنسان و الحريات الأساسية، و ذلك حفاظا على المصالح الأساسية للمجتمع الدولي و الوقوف على حدود و ضوابط النظام العام الدولي الذي يفترض الالتزام بها من خلال المواثيق الوطنية.
ومن الأمثلة المجسدة لذلك نجد الدستور الفرنسي الذي كرس في مادته الأولى مبدأ المساواة بین جمیع المواطنین أمام القانون دون أي تمییز، سواء تعلق بالأصل أو العنصر أو الدین، كما أن هذه المادة جاءت لتكرس مبدأ احترام جمیع المعتقدات الدینیة الممارسة في ظل الجمهوریة الفرنسیة[24].
أما الدستور المصري المعدل لسنة 2019 فقد نص في مادته الثالثة و الخمسين (53) على أن » المواطنين أمام القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر. فالتمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون و تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض«. و أكد كذلك الدستور في مادته الرابعة و الستين (64) على أن » حرية المعتقد مطلقة، و حرية ممارسة الشعائر الدينية و إقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون«.
أما بالنسبة للدستور المغربي، فينص الفصل الثالث منه على أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، وتعمل هذه الأخيرة على ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية لكل فرد[25]. كما يعاقب القانون الجنائي المغربي في المادة 267 منه ب “بالسجن من ستة أشهر إلى ثلاثة أعوام لكل من “استعمل وسائل إغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى، وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة”[26].
يتضح من خلال ما سبق أن الدساتير الوطنية سارت بنفس نهج الاتفاقيات وقوانين القانون الدولي في حظر الإساءة للأديان السماوية، بل وذهبت لحد تجريم الإساءة للدين منعا لكل تجاوز وإخلال بالنظام العام والآداب العامة والمصلحة الوطنية، وتحقيقا للاستقرار الوطني والاجتماعي وضمان التكافل الاجتماعي بين كافة أطياف المجتمع بمختلف طوائفه. ومن هنا يتجسد لنا مدى التزام الدولة في تحمل مسؤوليتها الدولية للحد من الإساءة للأديان السماوية. فما هي أنواع هذه المسؤولية؟ وما هي أهم القواعد والمبادئ التي تقوم عليها هذه المسؤولية؟
المبحث الثاني: مسؤولية الدولة الدولية عن الإساءة للأديان السماوية
إن مبدأ حرية المعتقد الديني يجد أساسه القانوني من خلال المعاهدات و القوانين الدولية و الوطنية، باعتباره حقا بشريا تحفظه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان و كذا مختلف القوانين الوطنية من دساتير و قوانين مدنية وجنائية، و أي مساس به يعرض للمساءلة القانونية الدولية و الوطنية، خصوصا أن معظم الدول الإسلامیة تجعل من الدین الإسلامي مصدرا أساسيا للتشریعات الداخلیة لها، مما دفعنا إلى التفكیر في آلیة للتصدي لفعل الإساءة للأدیان السماویة على اختلافها، مع العلم أن هذا السلوك أخذ في التزايد یوما بعد یوم أمام انتشار الفكر العلماني الحر و المتزامن مع التطور الملحوظ في انتقال المعلومة، و سرعة تداولها عبر مختلف الوسائط سواء كانت وسائط إعلامیة أو وسائط إلكترونیة.
المطلب الأول: المسؤولية المدنية للدولة عن الإساءة للأديان السماوية
إن المقصود بالمسؤولیة المدنیة هو ذلك القانون الذي یحمي المصالح الأساسیة للمجتمع سواء كان داخلیا أو دولیا مثل الحق في الحیاة، والحریة، والكرامة والشعور الدیني والسلامة الجسدیة. كما أن الاعتداء على هذه المصالح يعد انتهاكا جسیما لحقوق الإنسان، الشيء الذي يفرض قانون المسؤولیة المدنیة إمكانیة التطبيق على سلوك الأفراد والمؤسسات، سواء على مستوى الهیئات الوطنیة، أو الدولیة المخولة بحمایة حقوق الإنسان و حریاته الأساسية. فما هي أهم قواعد ومبادئ المسؤولية المدنية للدولة للحد من الإساءة للأديان السماوية؟
الفقرة الأولى: قواعد المسؤولية المدنية وتطبيقها على الإساءة للأديان السماوية
یرى غالبیة الفقه الدولي بأن المسؤولية المدنية عن الإساءة للأديان السماوية لا تقوم إلا على عاتق الدولة، وبالتالي لا تقوم إلا بين أشخاص القانون الدولي، وهو ما يعني بأن الدولة هي التي تلتزم بإصلاح الفعل غیر المشروع، و في هذه الحالة المصلحة لا تقوم إلا لدولة أخرى، ومن ثم فالدولة المتضررة هي التي لها أن تشكو الضرر، استنادا إلى حقها في الرقابة على حسن تطبیق قواعد القانون الدولي، و بالتالي إثارة هذه المسؤولیة طبقا لأحكام القانون الدولي التي تحدد اليات المساءلة المدنية عن الضرر أو الإساءة للأديان السماوية.
ومن هنا تتجلى القواعد التي تقوم عليها المسؤولية المدنية للدولة، والتي تتضح في ما يلي:
- أفعال وتصرفات الإساءة للأديان السماوية من مدلولات المسؤولية المدنية الدولية:
لقد عرف الفقه الدولي المسؤولية المدنية للإساءة للأديان بأنها ذلك الالتزام الذي یفرضه القانون الدولي على الدولة التي ینسب إلیها تصرف أو امتناع یخالف التزاماتها الدولیة، بأن تقدم للدولة التي كانت ضحیة هذا التصرف أو الامتناع ذاتها أو لشخص أو أموال رعایاها ما يجب من إصلاح.
في حين عرفها اتجاه آخر بأنها نظام قانوني یكون بمقتضاه على الدولة
التي ینسب إلیها فعل غیر مشروع طبقا للقانون الدولي التزام بإصلاح ما ترتب عن ذلك
الفعل تجاه الدولة التي ارتكبت هذا الفعل ضدها[27]. كما عرفها الأستاذ حافظ غانم بأنها نظام قانوني ینشأ عند قیام دولة أو أي شخص من أشخاص القانون الدولي بعمل أو امتناع عن عمل بالمخالفة للالتزامات التي یفرضها القانون الدولي، وعندها یتحمل الشخص الدولي أو الدولة تبعة تصرفه المخالف للالتزامات الواجبة الاحترام بمقتضى ما یفرضه القانون الدولي على أشخاصه[28].
یمكن القول بأن مدلول المسؤولیة المدنیة الدولیة عن الإساءة للأدیان السماویة یعبر عن خرق للمعاییر المعترف بها دولیا في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان، وبالتالي فهو يرتب آثار قانونیة تجاه المجتمع الدولي، أي تجاه كل الدول المشتركة في نظام قانوني ناشئ عن اتفاقیة دولیة لحقوق الإنسان، وذلك بالقدر الذي تتضرر فیه حقوق ومصالح المجتمع الدولي الأساسیة، خاصة إذا كان الكیان المخل قد أخل بالتزاماته الخاصة بحقوق الإنسان ذات الطابع العام والقطعي الملزم في مواجهة كل أعضاء المجتمع الدولي.
فالإخلال بالالتزامات الدولية -فعل الإساءة للأديان السماوية-التي يفرضها القانون الدولي يشكل أساس المسؤولية المدنية للدولة، و من هنا على هذه الأخيرة أن تتبنى قوانين وتشريعات تحول دون الإساءة للأديان السماوية داخل نفوذ الدولة ذاتها، و الحفاظ على الشعور العام بعدم إطلاق الحريات العامة على حساب واجب الدولة في احترام و حماية حقوق الإنسان.
كما أن إمكانیة تطبیق قواعد المسؤولیة الدولیة على المساس بالأدیان السماویة خصوصا أن فعل الإساءة یعد انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان، وعلیه فإن انتهاك أي التزام من الالتزامات التي یقررها القانون الدولي لحقوق الإنسان یثیر مسؤولیة الدول المخلة، على اعتبار أن واجب احترام حقوق الإنسان المعترف بها دوليا تتطلب منها ضمان التمتع بهذه الحقوق و حمایتها عن طریق اعتماد آلیات إجرائیة و إداریة تضمن امتثال الأشخاص الذین هم تحت ولایتها القضائیة للالتزامات الدولیة ذات الصلة بحقوق الإنسان، و من ثم لا یترتب على الدول واجب ضمان احترام الأدیان السماویة فحسب، و إنما یقع علیها أیضا واجب ضمان الممارسة، و هو ما يوجب الالتزام بضمان الدولة لإمتثال الأفراد للتدابیر الإجرائیة والإداریة المتخذة في هذا الشأن.
- حظر الإساءة للأديان السماوية:
يمكن النظر إلى فعل الإساءة على أساس أنه إخلال بالتزام دولي أساسه مخالفة القانون الدولي، ومن هنا تقع الدول تحت طائلة المسؤولیة، ذلك أن المتتبع للاتفاقیات والقرارات والإعلانات الدولیة، سیلاحظ أن قاعدة حظر الإساءة للأدیان السماویة قد نشأت من خلال الاتفاقیات و المواثیق الدولیة التي تدعو إلى احترام الحقوق و الحریات الدینیة للأفراد. ولقد أوضحت المادة الثامنة والثلاثون (38) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولیة أن مصادر قواعد القانون الدولي، وهي تشمل:
- الاتفاقیات العامة أو الخاصة: التي تضع قواعد معترف بھا من جانب الدول المتنازعة؛
- العرف الدولي: الذي یعتبر بمثابة الدلیل على تواتر الاستعمال المقبول بوصفه قانونا؛
- مبادئ القانون العامة: التي أقرت من قبل الأمم المتمدنة؛
- أحكام المحاكم و مذاھب كبار الفقھاء في القانون العام: وهو مصدر احتیاطي لتحدید قواعد القانون؛
- القرارات والإعلانات الدولیة: التي ساھمت في تكوين وبلورة العدید من قواعد القانون الدولي.
و لقد أكدت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في تعليق لها حول المادة الثامنة عشر (18) من العهد الدولي الخاص بالحقوق السیاسیة و المدنیة بشأن حریة الفكر والوجدان و الدین بأنه: “الحق في حریة الفكر والوجدان و الدين (حریة اعتناق العقائد) هو حق واسع النطاق عمیق الامتداد، و یشمل حریة الفكر في جمیع المسائل و حریة الاقتناع الشخصي واعتناق دین أو معتقد سواء جهر به المرء بمفرده أو مع جماعة”، و لا تسمح بأیة قیود أیا كانت على حریة الفكر والوجدان أو على حریة اعتناق دین أو عقیدة یختارها الشخص، و من ثم فهذه الحریات تتمتع بالحمایة دون قید أو شرط ، شأنها شأن حق كل إنسان في اعتناق الآراء دون تدخل من أحد[29]. كما لا یجوز تقیید تحرر الفرد من الإرغام على أن یدین بدین أو معتقد معین، أو أن یساء إلى دینهم أو معتقدهم تحت أي مبرر كان، ولا یجوز فرض القیود لأغراض تمییزیة أو تطبیقها بطریقة تمییزیة تسيء إلى دیانة من الدیانات أو معتقد من المعتقدات.
كما يذهب كثیر من الدارسین إلى اعتبار “قاعدة حظر الإساءة للأدیان السماویة” تطورت وظهرت من خلال مدخل حظر التمییز العنصري القائم على أساس دیني، لتتعزز بالعدید من القرارات والإعلانات الدولیة الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة وأجهزتها الرئیسیة، فضلا عن أن قاعدة حظر الإساءة للأدیان السماویة أصبحت مستقرة
في العدید من التشریعات الوطنیة، والتي تحظر صراحة استهداف مجموعة أو طائفة معینة بالإساءة أو بالازدراء على أي أساس عنصري، سواء كان ذلك بسبب انتمائهم العرقي أو الدیني أو القومي أو بسبب جنسهم.
و في نفس الإطار قررت المحكمة الأوروبیة أنه: ” یجب على دول الاتحاد الأوروبي ضمان الحق في حریة التعبیر، ما لم ینطو على التجریح الواضح أو الإهانة أو التحریض على عدم الاحترام أو الكراهیة أو إلقاء الشك بأیة طریقة على الوقائع التاریخیة الواضحة الراسخة. كما قررت المحكمة أیضا بأن المادة 10 من الاتفاقیة الأوروبیة لحقوق الإنسان تقر بأن ممارسة الحق في حریة التعبیر یكون محملا بالواجبات و المسؤولیات، و من بینها ما یصب في سیاق الآراء و المعتقدات الدینیة، و یمكن أن یندرج تحت وصف الالتزام بقدر الإمكان بتجنب التعبیرات التي هي في حقیقتها جارحة للآخرین، و التي تشكل بذلك عدوانا على حریاتهم.[30]
وانطلاقا مما ذهبت إلیه اللجنة المعنیة بحقوق الإنسان في تعلیقاتها یؤكد على وجود قناعة دولیة بوجوب و ضرورة احترام قاعدة احترام الأدیان السماویة و التشدید على عدم الإساءة إلیها أو ازدرائها تحت أي مبرر كان، و إن التصریحات الفردیة الصادرة عن الدول و ممثلیها یمكن أن تنشئ التزاما مقیدا على الدول، لأجل التوصل إلى إثبات قاعدة دولیة تحظر الإساءة للأدیان السماویة، و هذه الموضوعیة لا یمكن فصلها عن القیمة القانونیة للقرارات و الإعلانات الصادرة في هذا الشأن یمكنها أن تكون ملزمة للدولة التي صدرت عنها[31]. فإمكانیة تعزیز وجود قاعدة قانونیة دولیة لا یمكن إنكارها، خاصة و أن مفهوم قاعدة حظر الإساءة للأدیان السماویة مستمد من تقالید اجتماعیة و فلسفیة و دینیة عدیدة، وعلیه، یجب أن تستند الالتزامات المفروضة في هذا الشأن إلى مبادئ قانونیة عدة مستمدة من الأساس القانوني القائم على حمایة الأخلاق و النظام العام لدى مختلف الدول، و هذا یستدعي عدم التركیز على المبادئ المستمدة حصرا من تقلید واحد.
و لهذا فإن الأساس القانوني لقاعدة حظر الإساءة للأدیان السماویة، قد رسخ المعتقد بضرورة الوقوف عند حدود هذه القاعدة، باعتبارها ضرورة اجتماعیة تهدف إلى توفیر الحمایة للأدیان السماویة، عن طریق التدابیر الإجرائیة التي تتخذها الدول الأطراف المعنیة لغرض حمایة ممارسة جمیع الأدیان، أو العقائد من الانتهاك و لحمایة أتباع هذه الأدیان والعقائد من التمییز العنصري.
الفقرة الثانية: اليات المساءلة المدنية عن الإساءة للأديان السماوية
إن إخلال أیة دولة من الدول الأطراف في الإتفاقيات بأي التزام من الإلتزامات الناشئة عنها جراء فعل الإساءة لمعتقدها، يفرض عليها القيام بإجراءات المساءلة القانونیة والتي یمكن تقدیمها في شكل دعاوى أمام الجهات القضائیة المختصة، و يمكن أن تتضمن هذه الإتفاقيات مجموعة من الإجراءات و الآليات التي توضح كيفية رفع الضرر عن الدول والناتج عن الإساءة للدين أو المعتقد من خلال آليتي نظام الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية.
- الية نظام الأمم المتحدة
شكلت المادة الرابعة عشرة (14) من ميثاق الأمم المتحدة و التي أتاحت إمكانیة اللجوء مباشرة للجمعیة العامة لغرض استصدار ما یلزم من توصیات أو قرارات لتسویة أیة مسألة مهما كان منشؤها متى رأت أن هذا الموقف أو هذه المسألة قد تضر أو تعكر الإطار العام السلمي للعلاقات الودیة بین الأمم، و یدخل في ذلك المواقف الناشئة عن انتهاك أحكام میثاق الأمم المتحدة[32].
وتعد اللجنة المعنية بحقوق الإنسان من الآليات المنبثقة عن نظام الأمم المتحدة، و التي تقوم بالسهر على حمایة حقوق الإنسان وحریاته الأساسیة، و التي تتلقى المساعدة في عملها من اللجنة الفرعیة لتعزیز وحمایة حقوق الإنسان، و شبكة كبیرة من الخبراء و المقررین الذین یناط بهم تقدیم تقاریر بخصوص حقوق الإنسان وحریاته الأساسیة[33].
وتلعب الجمعیة العامة للأمم المتحدة دورا مهما في هذا المجال، مع العلم أنها أحد الأجهزة الرئیسیة في البناء القانوني لهيئة الأمم المتحدة، حيث تعمل على استصدار التوصيات أو قرارات إذا كانت هناك أي مسألة تتعلق بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية قصد تسويتها سلميا دون الإخلال بالعلاقات الودية بيم مختلف الدول، وتعد الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه و سلم أهم القضايا التي يمكن إحالتها للجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة، من أجل استصدار قرار يتصدى لهذه الإساءة التي يمكن أن تقوض السلم و الأمن الدوليين، وتحافظ على الشعور العام لشريحة كبيرة من المسلمين في أرجاء المعمور[34].
وطبقا لميثاق الأمم المتحدة، وعملا بالمادة الرابعة والعشرون (24) منه يعد مجلس الأمن الجهة المكلفة بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين، و له مهام الحفظ على مسائل حقوق الإنسان و الحريات العامة كذلك، و التي أكد على أنه لا يمكن التنازل عن حقوق الإنسان أو التصرف فيها و يجب احترامها تحت أي ظرف كان، و أكد ذلك من خلال استصدار القرار رقم 941 لسنة 1994 والذي يؤكد على أن التطهير العرقي يعد انتهاكا واضحا للقانون الدولي الإنساني.
وعلى نفس المنوال سارت المادة (41) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنیة و السیاسیة، حيث حددت الإجراءات التي يمكن اللجوء إليها في حالة إخلال الدول بالتزاماتها المنصوص عليها في العهد الدولي، و من هنا فقد أكدت المادة السابقة على أنه يحق لكل دولة طرف في العهد الدولي أن تعلن في أي وقت، وبمقتضى أحكام هذه المادة أنها تعترف باختصاص اللجنة في استلام ودراسة البلاغات التي تنطوي على ادعاء دولة طرف بأن دولة طرفا أخرى قد أخلت بالتزاماتها التي یرتبها العهد الدولي وفق الإجراءات المنصوص عليها في المادة.
غير أن هذا لا يحول دون إعمال آليات المساءلة المدنية الأخرى، المنصوص عليها في الوثائق و المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان و حرياته الأساسية، مثل اللجنة المعنیة بالقضاء على التمییز العنصري، المنوط بها رصد ومتابعة تطبیق الإتفاقیة الدولیة للقضاء على جمیع أشكال التمییز العنصري التي تعتمد آلیة الشكوى ضد الدول[35].
و عليه، فما حدث من إساءة من قبل المؤسسات الإعلامیة بدولة الدانمارك تشكل مساسا بالحقوق المدنیة للأفراد، وتعد دعوة للكراهیة القائمة على أساس التمییز الدیني المحظورة بمواد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنیة و السیاسیة، وفي هذا الإطار كان بإمكان الدول العربیة أو الإسلامیة بأن تتقدم أمام هذه اللجنة بشكوى ضد المملكة الدانماركية التي سمحت بأفعال الإساءة هذه لأهم الرموز الدینیة الإسلامیة من خلال الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه و سلم، ذلك أن هذه الأخیرة لم تمتثل لإلتزاماتها الدولیة بموجب ما یقرره العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنیة و السیاسیة.
- الية محكمة العدل الدولية
تعد محكمة العدل الدولية الجهاز القضائي الدولي الرئيسي للأمم المتحدة، وتتولى المحكمة الفصل طبقا لأحكام القانون الدولي في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، و قد حددت المادة الرابعة والثلاثون (34) من النظام المؤسس للمحكمة على أن للدول وحدها حق التقاضي أمام المحكمة، وبهذا فإن مجال اختصاصها محدد في المنازعات ذات الصبغة القانونیة التي تنشب بین الدول الأعضاء، و على أن المنازعات التي ترفع أمامها قد تخص تفسیر معاهدة دولیة أو أیة مسألة من مسائل القانون الدولي، أو وجود أیة واقعة والتي إذا ثبتت تشكل انتهاكا لإلتزام دولي، كما تنظر المحكمة أیضا في طبیعة أو مدى التعویض الواجب نتیجة لانتهاك إلتزام دولي[36].
وقـــد اســتدعيت المحكمـــة في الســنوات الأخـــيرة لإصـــدار أحكامهـا في مجـالات مـن أكثـر مجـالات القـانون الـدولي تنوعـا، وفي قضـايا ناشـئة مـن جميـع منـاطق العالم رفعـــت إليهـــا إمـــا عــن طريـــق إجـــراءات رفـــع الــدعاوى[37] استنادا إلى البند الاختياري أو بالاسـتناد إلى بنـود التسـوية، أو عـن طريـق اتفاق/تفـاهم خـاص[38]، و المحكمة هي نفسها التي تقـرر بشـأن المسـائل المتصـلة بولايتهـا القضـائية، فوفقـا للمـادة السادسة و الثلاثين (36) الفقـرة السادسة منها، أنه في حالـة قيـام نـزاع في شأن ولاية المحكمة تفصل المحكمة في هذا النزاع بقرار منها.
و بالرجوع إلى المنازعات الخاصة بحقوق الإنسان وحریاته الأساسیة أمام محكمة العدل الدولیة، فإنه من الناحیة الموضوعیة لا یوجد أي عائق قانوني یحول دون إثارة هذه المسائل أمام المحكمة، بل إنه ومن الناحیة الموضوعیة تطرقت المحكمة إلى العدید من المسائل ذات الصلة بحقوق الإنسان في أحكامها وآرائها الإستشاریة، وقد عالجت المحكمة هذه المسائل إما بصفة عامة و إما بصفة خاص[39].
و يمكن للدول المتضررة من فعل الإساءة للدين اللجوء إلى محكمة العدل الدولية إما عن طريق الجمعیة العامة للأمم المتحدة أو إحدى الوكالات الدولیة المتخصصة، لغرض طلب رأي استشاري حول قضیة الإساءة للأديان، على اعتبار أن هذا الفعل یعد انتهاكا لإلتزامات المنصوص علیها في مختلف الوثائق الدولیة ذات الصلة بحقوق الإنسان وحریاته الأساسیة، التي فرضت التزامات على عاتق الدول الأطراف فیها، باتخاذ جمیع التدابیر الإداریة و التشریعیة لحظر جمیع الأفعال و التصرفات التي تمس بالمقدسات والمعتقدات الدینیة.
المطلب الثاني: المسؤولية الجنائية للدولة عن الإساءة للأديان السماوية
تتدخل التشريعات الوطنية والدولية من أجل الحد من الإساءة للأديان السماوية والمعتقدات الدينية، بغية تحقيق الاستقرار والمحافظة على النظام العام والسلم المجتمعي. ومن ثم فإن الإساءة للأديان السماوية أو المساس بحرية المعتقد الديني، جعل التشريعات الجنائية ترصد عقوبات لهذه الإساءة أو المساس بالعقائد، لما يخلفه من مساس بالنظام العام الذي تسعى كافة التشريعات إلى حماية استقراره والمحافظة علیه، ناهیك عن أن هذه الأعمال قد تؤدي في بعض الأحيان إلى المساس بالسلم والأمن الدولیین ( الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه و سلم، و كذلك قضية الإيغور).
لقد شكلت المواثيق و القوانين الدولية علامة من اجل التشريع باتخاذ كافة الإجراءات القانونية و الجنائية من أجل فرض احترام الأدیان السماوية وعدم المساس بها، على اعتبار أن المسؤولية الوطنية أو المسؤولية الدولية تفرض اتخاذ مثل هذه التشريعات الجنائية لمنع الإساءة للأديان و حماية المعتقدات الدينية من أجل فرض السلم و الأمن الدوليين وتحقيق النظام العام و السلام المجتمعي داخلة الدولة أو خارجها. فما مدى اعتبار فعل الإساءة للأديان السماوية جریمة یعاقب علیها القانون الدولي الجنائي؟
الفقرة الأولى: الإساءة للأديان السماوية من الجرائم الدولية
يعرف علماء الإجتماع الجريمة بأنها كل سلوك یستحق العقاب من الوجهة الاجتماعیة بغض النظر عن تقنین العقاب من عدمه[40]، في حين نجد تعريفها في المعجم العربي الميسر بأنها هي ارتكاب مخالفة أو الخروج على قاعدة نظامیة ملزمة أیا كان مصدرها. و عرفها الفقه القانوني أيضا بالواقعة المخالفة لقواعد القانون[41]، و بناء علیه فإن كل فعل یعاقب علیه القانون و یعتبره مخالفا لهذه القواعد یرتب علیه آثارا تتمثل في الجزاء یصبح بهذا المفهوم جریمة في نظر القانون، و هذا بغض النظر عن مدى مساس هذا الفعل بأمن المجتمع ونظامه و سلامته. في حين ذهب رأي آخر من الفقهاء إلى اعتبار الجريمة هي الواقعة المادیة الضارة بكیان المجتمع و أمنه، و مدى إلحاقها الضرر بالمصالح الأساسیة للمجتمع الإنساني التي یقوم علیها أمنه و سكینته.
أما بالنسبة للجريمة الدولية فهي تمثل اعتداء على المصالح الأساسیة للمجتمع الدولي والتي تتمتع بحمایة النظام القانوني الدولي، ذلك أن المجتمع الدولي یستلزم لشیوع الأمن و الطمأنینة فیه، للحفاظ على عدد من المصالح ذات الأهمیة لضمان استمرار الحیاة فیه على نحو مستقر، و بهذا فإن الجریمة الدولیة تفهم على أنها الخرق الخطیر لقواعد القانون الدولي، الذي ترتكبه الدولة عند انتهاكها للسلم و الأمن الدولیین لتقع ضد أشخاص القانون الدولي فقط.
وقد اختلف فقهاء القانون الدولي في تصنيف الجرائم التي تدخل ضمن الجرائم الدولية، غير أنهم استقروا على تحديدها بالجرائم المرتكبة من قبل أفراد أو هیئات أو مؤسسات بمبادراتهم الخاصة، و تشكل انتهاكا خطیرا لقیم و مصالح تهم المجموعة الدولیة بأكملها. ونظرا لخطورتها انبثقت الحاجة لشمولها بحمایة جنائیة، و تدخل أفعال الإساءة للأدیان السماویة أو التمییز على أساس الدین ضمن الأفعال المجرمة، ومن ثم فإن الفعل المكون للجریمة الماسة بالأدیان السماویة یمس بالمصالح و القیم التي تعد مصالح أساسیة للمجتمع الدولي، وعليه فالإعتداء على هذه المصالح یشكل جریمة دولیة انتهاكا خطیرا لقیم الإنسانیة و أمنها و مصالحها الاقتصادیة و المالیة التي تهم الجماعة الدولیة، بغض النظر عن صفة الشخص الذي ارتكبها أو الشخص الذي أصابه الضرر جراء هذه الجريمة[42].
إن الإعتداء على الدیانات السماویة بالإساءة أو الازدراء ما هو إلا صورة من صور التمییز العنصري القائم على أساس دیني، وعلیه فالصفة الدولیة ثابتة لهذه الأفعال دون الحاجة إلى وجود إجماع في التشریعات الداخلیة على تجریمها، بالإضافة إلى أن هذه الأفعال تعتبر أفعالا غیر مشروعة، و تهدد أمن واستقرار المصالح الأساسیة للمجتمع الدولي، ذلك أنها تمس بالجوانب النفسیة و الأخلاقیة لشریحة كبیرة من المجتمع، ومن ثم فإن الأضرار التي تترتب على ارتكاب مثل هذه الأفعال تكون متعدیة لأكثر من مكان، و بالتالي تتعدى آثارها إلى جمیع الدول، وهو ما یهدد الأمن والسلم الدولیین. ولهذا فوفقا للقانون الجنائي الدولي فلقيام الجريمة الدولية فإنها كغيرها من الجرائم، لابد لها من ركن شرعي وركن مادي وركن معنوي و ركن دولي.
بالنسبة للركن الشرعي فهو الأساس القانوني للتجریم في المجال الدولي لیكون الفعل المرتكب مجرما بنص قانوني، ونظرا لأن قواعد القانون الدولي تتسم بالعرف، فإن الجرم الدولي يكون قائما حسب ما يقره العرف الدولي أو تضمنته بعض الاتفاقيات[43].
أما الركن المادي للجريمة فهو الذي یشمل كل ما یدخل في تكوینها وله طبیعة مادیة، وعلیه فالجریمة لیست فعلا معنویا بحتا، و إنما هي ظاهرة مادیة ملموسة في العالم الخارجي، السلوك الإجرامي في هذه الأفعال یكون مرتبطا بالنتیجة الإجرامیة ارتباط السبب بالمسبب، وعلى ذلك فإن الأفعال التي تشكل جریمة ازدراء أو إساءة للأدیان السماویة هي أفعال یحظرها القانون الدولي الجنائي ویجرمها، على الرغم من أن تحدید هذه الأفعال لیس بالأمر الیسیر.
أما بالنسبة للركن المعنوي للجریمة فهو الجانب النفسي الذي یتكون من مجموعة العناصر الداخلیة أو الشخصیة ذات المضمون الإنساني، و الركن المعنوي في أفعال الإساءة للأدیان السماویة یتمثل في النیة العدوانیة للإرادة الآثمة المتجهة إلى إشاعة التمییز العنصري على أساس الدین، وذلك بقصد الضغط على فئة من المجتمع لمحاولة إجبارها على تغییر أفكارها تجاه قضایا محددة، و تحویل الأنظار الدولیة عما یجري في بعض الدول من بؤر للتوتر العرقي و الدیني و تعكیر العلاقات الدبلوماسیة بین مختلف الشعوب.
و أخيرا الركن الدولي في الجریمة الدولیة، و یتحقق هذا الأخیر في حالة ما إذا كانت الأفعال المرتكبة تمس المصالح و القیم الدولیة للمجتمع الدولي، فيرى بعض فقها ء القانون الدولي أن الجریمة الدولیة هي تلك التي تقع بناء على أمر الدولة أو تشجیعها أو رضائها أو سماحها بارتكابها أو حتى بناء على إهمالها في أداء واجباتها الدولیة، وتكون ذات ضرر أو خطر على قیمة دولیة یحرص المجتمع الدولي على حمایتها بجزاء جنائي، وهي بهذا الوصف قد تكون ضد دولة أو مجموعة من الدول أو ضد النظام الدولي ككل أو ضد الإنسانیة[44].
الفقرة الثانية: المسؤولية الجنائية للدولة على المستوى الدولي
یتطلب القانون الدولي الجنائي وقوع فعل موصوف بعدم المشروعیة الجنائیة، إضافة إلى اشتراط نسبة هذا الفعل إلى أحد أشخاص المسؤولیة الجنائیة الدولیة، و أن یترتب على هذا الفعل غیر المشروع جنائیا ضرر ما، یصیب مصلحة دولیة محمیة قانونا أو شخصا من أشخاص القانون الدولي الجنائي.
إن جوهر الجریمة یفترض أن الفعل الذي یترجم إلى سلوكیات مادیة یكون غیر مشروع، وعدم مشروعیته مقتضاها أن یكون الفعل المرتكب محل تأثیم من القانون الدولي الجنائي، وبالتالي یستحق من یرتكبه الجزاء على ما اقترفه.
كما أن الأفعال غیر المشروعة دولیا هي تلك الأفعال التي ترتكب باسم الدولة أو برضائها أو بتشجیع منها، ضد مصلحة دولیة معتبرة لدى المجتمع الدولي ككل أو لدى دولة أخرى، أو لدى مجموعة أو فئة عرقیة متعددة الجنسیة، و المسؤولية الجنائية الدولیة عن الإساءة للأدیان السماویة هي تلك الأفعال غیر المشروعة جنائیا، والتي یرتكبها الفرد أو مجموعة من الأفراد أو الهیئات أو مؤسسات ضارة بالمصالح الدولیة، و نظرا لخطورتها تعمل الدول على إیجاد نوع من التعاون من أجل مكافحة هذه الجرائم والحد منها، في إطار اتفاقیات دولیة تعقدها وتصدق علیها، لتكون جزءا من نظمها القانونیة الوطنیة[45].
إن الفعل غیر المشروع جنائیا في مفهوم القانون الدولي الجنائي هو كل مخالفة للقانون الدولي، ومن ثم فإن أفعال الإساءة للأدیان السماویة باعتبارها أفعالا غیر مشروعة كونها مخالفة لأحكام و قواعد الشرعية الدولیة لحقوق الإنسان و حریاته الأساسیة، و من شأنها أن تحدث ضررا بالأفراد و بالمجتمع ككل، وعلیه فإن نسبة أفعال الإساءة هذه إلى دولة ما أو إلى فرد أو مؤسسة أو هیئة ما، يحمل الدولة أو الهيئة مسؤولیته الجنائیة الدولیة بمجرد أن ینسب له فعل دولي غیر مشروع یتمثل في انتهاك أحد الواجبات التي تفرضها الإلتزامات الدولیة.
إضافة إلى شرط الفعل غير المشروع جنائيا، يشترط كذلك أن يكون الفاعل مسؤولا جنائیا عن الجرائم الدولیة، فالدول الأطراف في الاتفاقيات الدولیة ذات الصلة بحمایة حقوق الإنسان وحریاته الأساسیة تتحمل المسؤولیة الرئیسیة عن عدم ضمانها لممارسة هذه الحقوق، لاسیما التمییز القائم على أسس دینیة وهو ما یتطلب منها من شجب وتصد لكل ما من شأنه المساس أو الإساءة للمعتقدات الدینیة، وفي المقابل یتحمل الأفراد بصفتهم الشخصیة سواء كانوا ضمن هیئات أو مؤسسات خاصة المسؤولیة الجنائیة الدولیة عن أفعال الإساءة، في حالة ما إذا كانت هذه الأخیرة تدخل ضمن وصف الجریمة الدولیة المخلة بأمن الإنسانیة.
إن إسقاط هذا على جریمة الإساءة للأدیان السماویة تكون الأفراد أو الهیئات أو المؤسسات محلا للمسؤولیة، ذلك أن الدولة في مجال المسؤولیة الجنائیة الدولیة لا تتحمل المسؤولیة، و في المقابل یضع علیها القانون الدولي الجنائي التزاما ببذل العنایة الواجبة لضمان احترام قواعده من قبل الكیانات الخاصة، و من ثم فالدولة تتحمل عبء معاقبة كل شخص ینسب له فعل الإساءة للأدیان السماویة، إعمالا لمبدأ ولایتها القضائیة الذي تستمده من مبدأ سیادتها على إقلیمها، و من ثم فإن الدولة تتحمل مسؤولیتها الدولیة إن هي أخلت بواجباتها المنصوص علیها في القوانين الدولية، والتي تقتضي منها الحیلولة دون وقوع مثل هذه الأفعال، ومن ثم لابد أن یتحمل الشخص الطبیعي المسؤولیة الجنائیة الدولیة عن الإساءة للأدیان السماویة إذا ما كانت هذه الأفعال تدخل تحت وصف جریمة من الجرائم أو كجزء منها، و التي تدخل ضمن اختصاص المحكمة الجنائیة الدولیة أو المحاكم الجنائیة الدولیة الخاصة.
أما الشرط الثالث لقيام المسؤولية الجنائية الدولية هو وقوع ضرر بمصلحة دولیة أو لشخص من أشخاص القانون الدولي، الناتج عن الفعل غير المشروع و أن يكون الفاعل شخصا قصد الإضرار بمصالح دولية أو دولة ما، و بالتالي یكون بإمكان الضحایا المطالبة بالعقاب و التعویض في مواجهة من تسبب بفعله غیر المشروع بضرر للغیر[46]، و الذي يتخذ عدة صور منها الإعتداء العلني الفعلي أو القولي أو الكتابي والذي یشكل بذاته ضررا یمس بالشعور الدیني للأفراد، كالتحقیر و السخریة و الشتم و القدح و التقلیل من القدسیة في جرائم الإساءة للأديان السماوية.
و يكون إثبات الضرر ضروريا لقيام المسؤولية الجنائية، و الذي ینشئ التزاما بالتعویض نتيجة لمخالفة الدولة لالتزاماتها الدولیة المنصوص علیها في القانون الدولي، فتجريم الإساءة للأدیان السماویة یكون بقصد المعاقبة على الأضرار التي ترتبت أو نتجت عن مثل هذه الأفعال، التي تترتب علیها آلام تصیب المشاعر والعواطف، بالإضافة إلى وقوع توترات ونزاعات وحروب طائفیة دینیة قد تقوض الإستقرار و الأمن لدى المجتمع الدولي، و لذلك یتطلب في الضرر المستوجب للمسؤولیة الجنائیة أن یكون ضررا حالا و مؤكدا، بالإضافة إلى ضرورة أن یكون ناتجا عن عمل غیر مشروع جنائیا، ناهیك عن ضرورة توافر الرابطة السببیة بین العمل غیر المشروع ومثل هذا الضرر الذي أصاب مصلحة دولیة.
وفي ذات المجال ذهبت الشریعة الإسلامیة إلى تكفیر قذف أو سب الذات الإلهیة بغض النظر إن كان ذلك على سبیل المزح، أو الجد لقوله تعالى: ﴿ ولئن سألتهم لیقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله و آیاته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إیمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين )[47]، وفي شأن هذه الآیة ذهب بعض الفقهاء إلى القول بوجوب قتل الساب سواء كان مسلما أو غیر مسلم، مع إمكانیة قبول التوبة المسقطة لحد القتل.
كما جاء في المادة الرابعة عشر من المشروع الذي أعدته جامعة هارفارد بشأن المسؤولیة الجنائیة الدولیة لعام 1961، حینما اعتبرت الضرر هو ذلك الأذى و الخسارة التي تلحق بالأجنبي نتیجة لعمل أو امتناع عن عمل غیر مشروع و تتم نسبته إلى الدولة، على أن یشمل الضرر الأذى الشخصي و الفكري أو الحرمان من الحریة أو إلحاق الأذى بالسمعة أو المكانة أو التخریب أو إلحاق الضرر بالملكیة أو نزعها، أو الحرمان من استعمال الملكیة
أو الانتفاع بها أو الحرمان من وسائل العیش، أو الحرمان من التمتع بالحقوق العقدیة، أو أیة خسارة أو أذى یلحق بالأجنبي نتیجة لحق تم تضمينه في معاهدة، أو أي ضرر یحدث للأجنبي كنتیجة مباشرة لعمل أو امتناع عن عمل.[48]
یظهر أن الدولة عندما تباشر حمايتها للأديان السماوية لا تكون بذلك مخلة بالتزاماتها الدولیة، بالرغم من اختلاف أو تعارض العقائد الدینیة داخل الدولة الواحدة، ذلك أن نظام الحمایة في المسائل الدینیة قائم على أن الدولة لا تتخذ من نفسها حكما على صحة أو عدم صحة العقائد من الوجهة الدینیة، وعلیه فالمشرع الجنائي عندما یتدخل لأجل حمایة الأدیان السماویة فإن تلك الحمایة تكون متوقفة على اعتراف الدولة بتلك الأدیان تجنبا لتحملها بالمسؤولیة الجنائیة الدولیة، وعلى ذلك فإن الضرر المترتب عن المساس بالأدیان السماویة یندرج غالبا تحت وصف الضرر المعنوي الذي یلحق فردا من الأفراد أو مجموعة من الأفراد أو دولة من الدول أو مجموعة دول.
خـــاتـــمـــة :
إن ازدراء أو الإساءة للأديان يعد اعتداء على قدسية المعتقد الديني، و مهاجمة العقيدة بالباطل. و لا يختلف الأمر إذا قام بالفعل من ينتمون للطائفة الدينية ذاتها، أو من لا يعتنقونها. و يعد ضرباً من ضروب الإزدراء و التحقير للأديان السماوية و مهاجمة و إلصاق الاتهامات الجزافية، كما إن القانون يعرف جريمة ازدراء الأديان بأنها احتقار الدين أو أحد رموزه أو مبادئه الثابتة أو نقده أو السّخرية منه، لأن مثل هذه السلوكيات تثير الفتن. و من هنا فإن الهجوم بأي شكل على كل ما يتعلق بالدين يعدّ ازدراء و لا يسمح به، و القانون يعاقب عليه. لذلك فازدراء الأديان يعني العمل على تحقير والإساءة للمعتقدات و الرموز الدينية الخاصة بما يقلل احتراما بالمجتمع. إن السّلم المجتمعي هو الركيزة الأساس في استقرار الدولة، و المعكر الأول لصفو هذا السلم هو انتقاد أديان الآخرين بما ليس فيها، وهو ما يجب أن يقابل بكل حزم و شدة في الدول التي تسعى إلى الاستقرار و السلم بين المواطنين، أو لابد من اصدار قانون دولي يجرم ازدراء الأديان و الإساءة إليها، و الواقع أن الجريمة الدولية و تحديد المسؤول عنها يحتم التعاون الدولي، إذ يكاد يصبح مستحيلا مكافحة الجريمة الدولية، و منها جرائم الأديان التي تترتب عليها أضرار محققة للأمن و الاستقرار والسلام الإجتماعي بين الدّول و الحضارات، دون تعاون دولي فعال سواء على صعيد التشريع أو الملاحقة القضائية، لذلك يجب على الدول إصدار تشريعات تجرم الاساءة للمعتقدات أو المقدسات الدينية.
و في ضوء هذا العجز الذي یعانیه النظام القانوني الدولي، و النظام القانوني الداخلي على حد سواء، لمساءلة الكیانات أو الجهات التي ترتكب أفعالا من شأنها الإساءة أو المساس بالأدیان السماویة، كان لابد من ضرورة تقییم الإلتزامات الملقاة على عاتق الدول في هذا الخصوص، على اعتبار أن هذه الأخیرة تمتلك من الموارد و القدرات التي تؤهلها لتنظيم ممارسة الحقوق و الحریات، بما یتوافق و مقتضیات المعاییر الدولیة لحقوق الإنسان وحریاته الأساسیة، ذلك أن تدخل الدولة في عملیة التنظیم، تبدو في معظمها علاجا عملیا للعجز المسجل على مستوى القانون الدولي.
الهوامش:
(*) تم تحكيم هذا المقال من طرف اللجنة العلمية لمركز مغرب القانون للدراسات
والأبحاث القانونية
1 – موقع ويكبيديا على الشبكة العنكبوتية
2- ترتبط العقیدة بالعدید من العوامل المؤثرة فھي ترتبط بالنفس البشرية من اقتناع الإنسان و تفكيره بأمر معین أو رؤيته لمسألة محددة، ومن ثم فھي ترتبط أساسا بالفكر الحر الیقیني والإیمان بما یعتقده الإنسان بقلبه. راجع في ھذا الشأن: د. خالد مصطفى فھمي: الحمایة القانونیة للمعتقدات وممارسة الشعائر الدینیة وعدم التمییز في إطار الاتفاقیات الدولیة والقانون الوضعي و الشریعة الإسلامیة، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، ط: 2012 ص:19.
3- أحمد رشاد طاحون: إیتراك للنشر و التوزیع، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1998 ،ص .93
4- أحمد رشاد طاحون: إیتراك للنشر و التوزیع، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة 1998 ،ص .93
5- صلاح أحمد السید جودة: “حریة الاعتقاد وممارسة الشعائر الدینیة في الأماكن المقدسة”، دار النهضة العربية – القاهرة، سنة 2001، ص : 14
6- عبد الحكيم حسن العیلي: “الحریات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام”، دار الفكر العربي- القاهرة، طبعة 1983، ص: 383
7- سعدون محمود الساموك و عبد الرزاق رحیم صلال الموحي: “حقوق الإنسان في الأدیان”، دار المناهج، عمان، الطبعة الأولى سنة 2008، ص : 179
8- سامي علي جمال الدین سعد: “الحمایة الجنائیة للحریات الدینیة”، أطروحة دكتوراه أكاديمية الشرطة، كلیة الدراسات العلیا، القاهرة،1998، ص :65
9- أحمد رشاد طاحون: المرجع السابق، ص : 16
– الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: الطبعة الخاصة للذكرى الستين، الأمم المتحدة، طبعة 2008، ص : 8[10]
– الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: الطبعة الخاصة للذكرى الستین، الأمم المتحدة، طبعة 2008، ص : 9[11]
– العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية لسنة 1966[12]
– ديباجة الدستور المغربي لسنة 2011[13]
14- نص الخطاب الذي ألقاه محمد السادس خلال مراسم الاستقبال الرسمي لقداسة البابا فرانسيس٬ المنشور في الموقع الرسمي لرئاسة الحكومة بتاريخ 31 مارس 2019
– سورة الكهف الآية رقم 29 [15]
– سورة النحل الآیة رقم 125، قال تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن[17]
– سورة الكافرون الآية رقم 6[18]
21- عبد الكریم علوان: “الوسيط في القانون الدولي العام لحقوق الإنسان”، دار الثقافة، الأردن، طبعة 2004،ص: 36
22- خالد مصطفى فھمي: “الحمایة القانونیة للمعتقدات وممارسة الشعائر الدینیة و عدم التمییز في إطار الاتفاقیات الدولیة والقانون الوضعي و الشریعة الإسلامیة”، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، ط: 2012، ص : 187
– المادة التاسعة من الاتفاقية الأوروبیة لحمایة حقوق الإنسان وحریاته الأساسیة المعقودة بتاريخ 14/11/1950[23]
– صلاح أحمد السيد جودة: “حریة الاعتقاد وممارسة الشعائر الدینیة في الأماكن المقدسة”، دار النهضة العربية – القاهرة، 2001، ص: 53 24
– الفصل الثالث من الدستور المغربي[25]
-المادة 267 من القانون الجنائي المغربي[26]
27- محمد طلعت الغنيمي: “الأحكام العامة في قانون الأمم، منشأة المعارف”، الإسكندرية، دون ذكر سنة الطبع، ص: 868
– حافظ غانم: “المسؤولیة الدولیة”، معهد الدراسات العربیة، القاهرة، دون سنة طبع، [28]
29- التعليقات العامة و التوصيات العامة التي اعتمدها هیئات حقوق الإنسان بتاريخ 27 ماي 2008 حول الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، هيئة الأمم المتحدة ، المجلد الأول، ص : 11
– القرار الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ضد دولة فرنسا تحت رقم 644016/00، بتاريخ 31 يناير 2006، الفقرة 52[30]
31– صلاح الدین حافظ: “حضارة العنف في مواجهة حضارة العنصرية”، مجلة السياسة الدولیة، القاهرة، العدد 309، سنة 2010، ص : 67
– المادة 14 من ميثاق الأمم المتحدة[32]
33- أحمد أبو الوفا: “الحمایة الدولیة لحقوق الإنسان في إطار منظمة الأمم المتحدة و الوكالات الدولیة المتخصصة”، دار النهضة العربیة، القاهرة، طبعة 2000، ص : 45-46
34- عادل الماجد: ” مسؤولیة الدول عن الإساءة للأدیان و الرموز الدینیة”، مركز الإمارات للدراسات و البحوث الإستراتيجية، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 2007، ص : 61
35- نشئت اللجنة بموجب نص المادة 8 من اتفاقیة القضاء على جمیع أشكال التمییز العنصري، و ھي مكونة من خبراء مستقلين يقومون بإعداد التقارير و فحصها و يقدمون توصياتهم للدول المعنیة في شكل ملاحظات ختامية
36- أحمد أبو الوفا: نفس الرجع السابق، ص : 40
37- انظر على سبيل المثال، حسب تاريخ رفـع الطلـب: محكمـة العـدل الدوليـة، الأنشـطة المسـلحة في إقلـيم الكونغـو( التماس جديد : 2002)،
(جمهورية الكونغو الديمقراطية ضد رواندا)1999،محكمة العدل الدولية الأنشطة المسلحة في إقليم الكونغو (جمهورية الكونغو الديمقراطية ضد أوغندا)1999، محكمة العدل الدولية ، الأنشطة المسلحة في إقليم الكونغو ( جمهورية الكونغو الديمقراطية ضد بوروندي )1999
38- انظر على سبيل المثال منذ وقت قريب حسب تاريخ رفع الطلب : محكمة العدل الدولية، نزاع حدودي ( بوركينافاسو ضد النيجر )2010، محكمة العدل الدولية نزاع حدودي ( بينين ضد النيجر ) 2002
39- أحمد أبو الوفا، نفس المرجع السابق، ص :41
40- د. سامي جاد عبد الرحمان واصل: “إرهاب الدولة في إطار القانون الدولي العام” ، منشأة المعارف الإسكندرية، طبعة 2003، ص : 22
41- د. عبد الفتاح بیومي حجازي: “المحكمة الجنائیة الدولیة “، دار الفكر الجامعي ، الإسكندرية طبعة 2004،ص: 11
– د. حسنين محمدي بوادي: “الإرهاب الدولي بین التجريم والمكافحة”، دار الفكر الجامعي، الإسكندرية، طبعة 2004، ص : 113[42]
– د. عبد الله سلمان سليمان: “المقدمات الأساسیة في القانون الدولي الجنائي”، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، دون طبعة ، ص: 96[43]
– د. عبد الله سليمان سليمان، مرجع سابق، ص :143[44]
45- د. سمیر محمد فاضل: “المسؤولیة الدولیة عن الأضرار الناتجة عن استخدام الطاقة النووية وقت السلم”، دار الكتب القانونية ، القاهرة، طبعة 2000، ص : 45
– د. نبیل بشر : “المسؤولیة الدولیة في عالم متغير”، دار الكتب القانونیة، القاهرة، الطبعة الثانية 2004 ، ص : 136[46]
48- د. أحمد عبد الحمید الرفاعي : “المسؤولیة الجنائیة الدولیة للمساس بالمعتقدات والمقدسات الدینیة”، دراسة في ضوء حریة الرأي و التعبیر، دار النهضة العربیة القاهرة، طبعة 2007، ص : 90-91