باحث قانوني يدعوا لإصلاح الفصل 490 من القانون الجنائي بدل إلغائه
إن المطالبة بإلغاء الفصل 490 لم يكن وليد اليوم أو وليد قضية معينة، بل هو نتيجة لتجاذب قوى محافظة داخل المجتمع على الموروث الديني والأخلاقي للمجتمع المغربي وتمثلها أكثرية المغاربة، وبين فئة وإن كانت أقلية لاعتمادها على مختلف وسائل التواصل والتأثير في الرأي العام لإيصال صوتها. وترى هذه الفئة الأخيرة، المشكلة من حقوقيين ومن منتمين إلى التيارات اليسارية والعلمانية، أن المغرب انخرط في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان وبالتالي لا يمكن تجريم علاقة رضائية بين شخصين بالغين.
وبعيدا عن التجاذبات الإيديولوجية والسياسية التي أريد إقحام الفصل 490 من القانون الجنائي فيها، سأحاول أن أدلي بدلوي في هذا النقاش المجتمعي.
صحيح أن المقتضيات الزجرية في المغرب ابتعدت عن الشريعة الإسلامية بمناسبة تجريم عدد من الأفعال وإقرار عقوباتها. إلا أن عددا من القواعد الشرعية والتي هي قبل كل شيء قواعد أخلاقية، قد تبناها المجتمع وأصبح بواسطتها يحمي نظامه الداخلي مما يهدد استقراره، رغم أن العقوبات المقررة لها لا تتفق مع الأحكام الواردة في الشريعة الإسلامية.
إن المنظومة الأخلاقية -والتي لها ارتباط بالمجال الديني في القانون الجنائي- تتقاطع مع المطالب الحقوقية. ومثال هذه الجرائم نذكر جنحة الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى (الفصل 220/2 ق.ج)، تعطيل مباشرة إحدى العبادات أو الحفلات الدينية أو التسبب في إحداث اضطراب من شأنه الإخلال بهدوئها ووقارها (الفصل 221 ق.ج)، التجاهر بالإفطار ممن عرف باعتناقه الدين الإسلامي في نهار رمضان في مكان عمومي دون عذر شرعي (222 ق.ج)، إجهاض امرأة لنفسها عمدا أو حاولت ذلك أو قبلت أن يجهضها غيرها أو رضيت باستعمال ما أرشدت إليه أو ما أعطي لها لهذا الغرض (454 ق.ج)، الإخلال العلني بالحياء (الفصل 483 ق.ج)، الشذوذ الجنسي (489 ق.ج)، الفساد (490 ق.ج)، التحريض على الدعارة (502 ق.ج). كما قد نجد جرائم أخرى تتقاطع مع مبدأ الحرية الشخصية كالسكر العلني البين (المرسوم الملكي بمثابة قانون المتعلق بالمعاقبة عن السكر العلني (14/11/1967)، واستهلاك مادة مخدرة (ظهير 21/05/1974 المتعلق بزجر الإدمان على المخدرات).
إن الجنح المشار إليها سالفا غير مجرمة في عدد من الدول الغربية لأنها تعتبرها ممارسة لحقوق شخصية، ولا تتعارض مع مبادئ وقيم مجتمعاتها، وأنها بذلك جزء من حقوق الإنسان. كما أن المنظومة الحقوقية الدولية توصي بضرورة احترام هذه الحقوق، ويشكل احترامها معيارا لرصد مدى تقدم حقوق الإنسان في تلك الدول.
لكن، لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن هويتنا الدينية امتزجت بهويتنا الثقافية والحضارية بشكل لا يقبل الفصل. فدستور المملكة ينص في تصديره على أن المملكة المغربية “دولة إسلامية” وأن “الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها”، وربط بين سمو الاتفاقيات الدولية وبين جعلها في نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة (نفس المقتضى ورد في الفصل 19 من الدستور)، و”هويتها الوطنية الراسخة”. كما نص الفصل الأول منه على “استناد الأمة على ثوابت جامعة أولها الدين الإسلامي السمح”، ونصت المادة الثالثة على أن “الإسلام دين الدولة”، والفصل 32 على أن “الأسرة القائمة على الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع”، والفصل 41 “الملك أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين”.
ونظرا لاستحالة الفصل بين الشريعة الإسلامية وبين مختلف القوانين التي ينبغي أن يتم إقرارها أو إلغاءها أو إقرارها، ولكون غالبية المغاربة متمسكون بهذه الجوانب الأخلاقية للمنظومة الجنائية، فإنه لا يمكن تصور نجاح أي مسعى لإلغاء الفصل 490 في المغرب.
وفي المقابل فإن الفصل 490 يعرف أزمة تطبيق مثله مثل سائر الفصول والقوانين الزجرية الأخرى، فالنيابات العامة تتابع مرتكبيها في حالة سراح تنفيذا للسياسة الجنائية المتعلقة بترشيد الاعتقال الاحتياطي. وإذا كانت العقوبة المقررة لهذه الجنحة هي الحبس من شهر واحد إلى سنة، فإن المحاكم تكتفي بعقوبات حبسية موقوفة التنفيذ ولو في حالة العود (لعدم تفعيل مقتضيات حالة العود لأسباب يطول شرحها). وهذه الأزمة تعرفها جرائم أخرى في التطبيق كالعقوبة المقررة للسكر العلني البين واستهلاك مواد مخدرة.
إن الفصل 490 يعرف أزمة بالفعل، لكن ليست أزمة وجود بل أزمة لتجريم بعض الحالات، وأزمة في تطبيق العقوبة. وعلى سبيل المثال فإن زنى المحارم غير مجرم بأي نص في القانون الجنائي في حالة وقوعه بشكل رضائي بين راشدين، والمفارقة العجيبة أن التحرش بمحرم يعاقب عليه بالحبس من ثلاث إلى خمس سنوات وغرامة من 5.000 إلى 50.000 درهم (الفصل 2-1-503 ق.ج).
وإذا ألغينا الفصل 490 فإن هذا الفعل – زنا المحارم – الصادم مجتمعيا والمدان دينيا وأخلاقيا سوف يكون بمنأى عن أي تجريم أو عقاب. ولذلك أقترح تعديل الفصل 490 بجعل زنى المحارم ظرف تشديد وبالتالي الرفع من العقوبة ومساواتها بتلك المتعلقة بالتحرش الجنسي أو جعلها جناية.
كما يتعين إقران العقوبة الحبسية بالغرامة المالية، إذ قد يشكل تطبيق هذه الأخيرة وسيلة رادعة خاصة في أول إدانة لمرتكب هذه الجنحة. ويمكن التفكير في عقوبات بديلة كالقيام بأشغال ذات النفع العام. مع تفعيل المقتضيات المتعلقة بحالة العود وبالتالي إيقاع عقوبات حبسية نافذة في الحالات التي تتطلب ذلك.
وفي ما يتعلق بالإثبات، فإن الفصل 293 ق.ج ينص على إثبات هذه الجريمة بناء على محضر رسمي، يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة تلبس أو بناء على اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي. إلا أن ضرورة حماية الحياة الشخصية للمواطنين كما هو منصوص عليه في الدستور تلزمنا بالتضييق من وسائل إثبات هذه الجريمة حماية للمجال الخاص، ولذلك أقترح اقتصارها على حالة التلبس بناء على معاينة لأحد ضباط الشرطة القضائية، وعدم الاعتماد على المكاتيب أو الصور أو الاعتراف القضائي.
كما يمكن جعل بعض التصرفات الضارة بالضحية ظرف تشديد في هذه الجنحة كتصويرها ونشر صورها، مع إعفائها من المتابعة.
وينبغي التذكير بأن مقتضيات هذا الفصل لا تطبق على القاصرين البالغين أقل من 18 سنة، إذ يعتبر أية علاقة جنسية بين قاصر وقاصر أو قاصر وراشد هتكا للعرض، ويكيف بأنه بعنف أو بدون عنف حسب الحالات.
إن المجتمع المغربي متمسك بالدفاع عن قيمه ومنها الدفاع عن تطبيق المقتضيات المشار إليها أعلاه، فهو لن يقبل بإلغاء تجريم الفساد والخيانة الزوجية والشذوذ الجنسي والإجهاض والإفطار في نهار رمضان والسكر العلني البين وغيرها من الأفعال التي يرفضها المجتمع. ولا يعني وجودها في المجتمع أننا نقبل بها، فلا يمكن اعتبار وجود السرقات وتغاضينا عنها أنه يمكن السماح بها وعدم تجريمها.
إن المجتمع الغربي وبعد أن أباح العلاقة الجنسية بين راشدين اعتبارا لتعلقها بحريتهما الشخصية، فإنه بدأ في التراجع عن ذلك في بعض الحالات. ففي فرنسا على سبيل المثال تم تحديد “سن الرشد الجنسي” في 15 سنة، وبالتالي يمكن لراشد أن يقيم علاقة جنسية مع أي طفل يبلغ 15 سنة فأكثر، شريطة أن لا يكون له عليه أية سلطة. إلا أن عددا من السياسيين ومنظمات المجتمع المدني بدأت تطالب بتجريم جميع العلاقات الجنسية بين القاصرين -كيف ما كان سنهم- وبين الراشدين.
ولذلك لا ينبغي أن نساير المجتمعات الغربية أو ضغوط بعض المنظمات الحقوقية الدولية إلا بما لا يتعارض مع ثوابت ديننا ومجتمعنا.
والحمد لله أن إمارة المؤمنين هي الضامن لعدم المس بثوابت الأمة.