مجلة مغرب القانونالقانون الخاصحكيم زرزة: القاضي بين مطرقة تطبيق القانون وسندان روح العدالة

حكيم زرزة: القاضي بين مطرقة تطبيق القانون وسندان روح العدالة

حكيم زرزة باحث في العلوم القانونية

ما دام القاضي ملزم بتطبيق القانون تحت طائلة المتابعة بجريمة إنكار العدالة في حالة الامتناع عن البت والقطع في القضية، فإنه خليق بنا أن نتساءل بطرح الإشكالية الآتية: ما المقصود بمفهوم العدالة؟ هل هي تطبيق القانون ؟ أم هي تطبيق روح وكنه القانون؟

إن طبيعة الاشكالية تستدعي مناقشة وتحليل الموضوع في شقيه، المجال المدني وكذا الجنائي وإن كان هذا الأخير هو المجال الخصب للاسقاط، بعلة أنه قانون ذو طبيعة زجرية وردعية، والأكثر إضرارا بالمتقاضين وخاصة المدعى عليه.

وعلى هذا النحو ارتأينا تقسيم هذا الموضوع إلى شقين تبعا للمنهجية القانونية وذلك على الشكل الآتي:

  • المحور الأول: العدالة القضائية هي التطبيق الحرفي للنصوص القانونية
  • المحور الثاني: العدالة القضائية وفق منظور آخر

المحور الأول: العدالة القضائية هي تطبيق القانون.

إن حصر الموضوع في العدالة القضائية خليق بنا، حتى لا يتم التشعب والحديث في بقية أنواع العدالة لأن هذه الأخيرة تحتوي على عدة روافد وشعب، منها العدالة الاجتماعية والاقتصادية…الخ، لذلك تم الاقتصار على العدالة القضائية باعتبارها هي والقضاء صنوان لا يفترقان، ولتحقيقها هل يستلزم تطبيق القانون بحرفيته كما سن من طرف المشرع؟

إن الحديث عن العدالة يستدعي لزوما استحضار القضاء للذهن، فالقضاء هو العدالة، والعدالة هي القضاء، والتمييز بين الاثنين كمن يحاول التمييز بين الروح والجسد، فلا الجسد يحي ولا الروح تبقى، لذلك فالقضاء هو عنوان العدالة والسبيل المؤدي إليها.

إن المشرع المغربي خاصة، واللاتيني عامة أخضع القضاء لقيود حتى يتم الوصول لتحقيق العدالة وفق تصوره، لذلك فكر وقدر فعمد إلى خلق وسن نصوص تشريعية وقواعد قانونية بمثابة المنهاج والطريق لتنوير بصيرة القاضي للاهتداء الى العدالة، ومن ثم تنزيلها وتطبيقها على الخصومة القضائية كلما رفعت إلى المحكمة، لذلك نجد أن المشرع في إطار الفصل بين السلط يقر بأن القاضي ملزم بتطبيق التشريع، ففي حالة كون القضية يسري عليها قانون خاص بها فإنه يطبق عليها التشريع الخاص كالقضايا التجارية والشغلية مثلا، وإن لم يوجد فيه نص يتم اللجوء الى العرف والتجارب، وإن لم يوجد يتم الاهتداء الى ق،ل،ع، ثم الفقه ثم الاجتهاد القضائي.

مقال قد يهمك :   خصوصيات الكراء الطويل الأمد لأملاك الجماعات الترابية: قراءة في ضوء القانون الجديد 57.19

هنا نجد أن المشرع وضع الإجتهاد القضائي في الصف الأخير من التطبيق، إلى جانب التقييد الممارس عليه من حيث تطبيق النص القانوني إن وجد بغض النظر عن ظروف القضية، ولو كان القانون جائرا ونجد على سبيل المثال بعض النصوص القانونية :

  • ينص الفصل 62 من ظهير التحفيظ العقاري على أن الرسم العقاري نهائي لا يقبل الطعن…

هذا يفيد أن التحفيظ العقاري يعترف بما هو مدون في الرسم ولو كان غير شرعي، ولا يعترف بما لم يدون فيه ولو كان شرعيا وأقام صاحب الحق البينة على إمتلاكه للحق الذي يدعيه.

  • الفصل 473  من قانون الاتزامات والعقود والذي يتحدث عن أحكام تفسير العقود حيث جعل تفسير العقد عندما يكون غامضا في صالح المدين (الملتزم)، والحال أن العقود في مجال التأمين تحرر من طرف الشركات، وعند وقوع ما يستوجب الحصول على التعويض، ووقع غموض في بنود هذا العقد فهل من العدالة أن يفسر في صالحها بإعتبارها هي المدينة والحال أنها هي من حررت العقد بشروطها وضوابطها؟

وإلى هنا نقول أن العدالة لا تعني التطبيق الحرفي للنص التشريعي لأن القانون حين يشرع فهو يحاول تنظيم الواقعة بعموميتها، ولكن الظروف المسببة في إرتكابها تختلف من حالة إلى حالة، فالسرقة كواقعة قد يكون إرتكابها بدافع الإغتناء وقد يكون بدافع الفقر، وشتان بين الأولى والثانية، وكيف يعقل أن يطبق نفس النص مادام التناقض والإختلاف في الظروف حاصل في الواقعة الواحدة.

المحور الثاني: العدالة من المنظور الآخر.

للتطرق ومعالجة هذا السؤال فإنه سيتم التطرق إلى مفهوم العدالة بين التأصيل والحداثة، إذ الأولى تجد سندها وأصلها في الشريعة الإسلامية بالذات، والثانية لما آلت إليه القوانين الوضعية من حداثة وتطور بعد كشف المناقب والقصور في التشريعات الوضعية الكلاسيكية والقديمة.

مقال قد يهمك :   تصريح وزير العدل السيد محمد أوجار بخصوص ظاهرة الاستيلاء على العقارات.

1-المفهوم الحق للعدالة في تطبيق روح القانون وليس حرفية النص.

يقول الحق سبحانه في كتابه العزيز “السارق والسارقة فاقطعو أيديهما جزاء بما كسبا” (سورة المائدة)، هنا نتساءل هل يمكن تطبيق هذه الآية على مصراعيها أم أن هناك ما يقيدها؟

هنا نستحضر حكم عمر بن الخطاب الذي ما كان يأخذ الأمور بمقياس واحد لأنه علم الدنيا، وعلم كيف يتقلب فيها الإنسان،فلم يقطع يد السارق في عام المجاعة رعاية للزمان، ولم يقطع يد الغلام الذي سرق سيده رعاية لسنه، او للعلاقة بين السارق والمسروق منه،  واشتركت المرأة مع رجل في قتل رجل آخر فخرج من قتل إثنين بواحد، حتى أفتاه علي رضي الله عنه بأنهما يستحقان القتل كما يستحق اللصوص المتعددون القطع، وهو الذي أوصى بالإجتهاد في الرأي تقدما، أو تأخرا، وكان يرى في التأخير خير، وهو مايسمى بالتأمل اليوم في القضاء الفردي، والمداولة في القضاء الجماعي، وذلك ما لم يرد نص في القرآن ولا السنة ولا الإجتماع.

ولنعلم أن عمر بحكمه الحاد وبصيرته الثاقبة هو من ورث الجدة لأم بعدما لم تكن ترث وذلك مساواة لها مع الجدة لأب.

2-المفهوم الحق للعدالة في التشريعات الحديثة

بعدما عجزت القوانين الكلاسيكية عن تحقيق العدالة لجأ المشرع مؤخرا للتخلي عن فكرة التقييد للقاضي في التطبيق الحرفي للنص القانوني، لكأنه علم أن القاعدة القانونية يبقى من الصعب جدا بل يستحيل أن تسقط على جميع القضايا ولو تشابهت في الحادثة، لكن الظروف تبقى مختلفة كما سبق أن اشرنا سلفا بخصوص جريمة السرقة.

ومن قبيل ذلك المشرع المغربي في الفصل 264من ق،ل،ع عندما منح القاضي سلطة مراجعة التعويض عن الأضرار التي قد تلحق الدائن بسبب عدم الوفاء للإلتزام الأصلي، أو التأخير فيه، وذلك إما نقصانا إذا كان مبالغا فيه او زيادة فيه إذا كان زهيدا، وكذلك نجد الفصل المتعلق بمنح مهلة الميسرة الذي أساغ للقضاة مراعاة منهم لمركز المدين أن يمنحوه آجالا معتدلة للوفاء، مع العلم أن الشريعة كانت سباقة لذالك حيث قال الحق سبحانه: “وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة” (سورة البقرة الأية 280)، هذا ناهيك عن قانون حماية المستهلك الذي يعطي فيه المشرع للقاضي سلطة واسعة للإجتهاد من قبيل تعديل العقد من حيث مراجعة الفائدة في القروض البنكية متى كان هناك مغالاة في نسبها.

مقال قد يهمك :   محكمــــة النقض و حقوق الإنسان و فق دستور 2011

لأجل ما سبق فالقانون والقاضي يجب أن تكون علاقتهما كعلاقة الحكم وتقنية الفار (Var)،حيت الفار وضع على سبيل الإهتداء وليس للإجبار، وللحكم التخلي عنه وعدم الأخذ به،كذلك القانون يجب أن يكون على سبيل الإستئناس وكمؤطر للواقعة وليس كوسيلة للإلزام.

وهنا يقول القاضي الأمريكي الملقب بقاضي الرحمة فرانك كابريو “لا يمكن لي أن أطبق القانون إن كان جائرا”.

خاتمة:

صفوة القول، لا يعيب تحقيق العدالة أن يعيب الشكل القانوني في بعض الأحايين، فالعدل هو روح القانون وهو مقدم على المبدأ وعلى الشكل،فتخلف الشكل لا يضيرنا إذا تحقق العدل، أما فقدان العدل والحق هو الذي يضيرنا ولو توفر الشكل.

لن يتأتى لنا ما سبق إلا إذا أعطينا الهامش الواسع للقاضي في تقدير الحكم، وألا نجعل منه مجرد آلة هدفها هو الموازنة بين الكتل من حيت الترجيح والمساواة، بل أن نجعل من القاضي مادة حية تعرف كيف تميز بين جودة الأشياء حتى لا يساوي بين الذهب والتراب.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]