مجلة مغرب القانونالقانون الخاصالعلمي المشيشي: بدائل التدابير السالبة للحرية

العلمي المشيشي: بدائل التدابير السالبة للحرية

  • الدكتور محمد الإدريسي العلمي المشيشي وزير عدل سابق و أستاذ بجامعة محمد الخامس.

دار النقاش مؤخرا حول موضوع التدابير البديلة للعقوبات السالبة للحرية وركز على عقوبة الحبس خاصة منها ذات المدة القصيرة. ويلاحظ بداية بأن الحبس يطبق بمعنى العقوبة الجنائية في الأحكام والقرارات القضائية، ولا يطبق بهذا المعنى في غير ذاك من المقررات التي يصدرها القضاء الجنائي، فالحبس في الاعتقال الاحتياطي ليس عقوبة جنائية وإنما هو إجراء احترازي تفرضه ظروف التحقيق الإعدادي. لهذا السبب فضلنا استعمال عنونة هذه المداخلة بعبارة “بدائل التدابير السالبة للحرية” عوض العبارة السائدة في الأدبيات المنشورة ”  التدابير البديلة للعقوبات السالبة للحرية”.

ونظرا لراهنية الموضوع في المغرب وارتباك واختلاف المواقف الفكرية أو النظرية التي تحيط به، فإن هذه العجالة سوف تقتصر على مقاربته بصفة عامة قبل أن تتوقف عند بعض معالم تفعيله في القانون الوضعي. معنى ذلك أنها لن تتوقف عند تعريف وتحليل البدائل ولا عند دراسة أو مناقشة نظامها القانوني                              

1- مقاربة عامة

ونقصد بالمقاربة العامة طرح محاولة نظرية للتعريف بمدلول التدابير البديلة ثم التعرض لمناقشة الأهمية التي يوليها لها المهتمون بالموضوع.

  • محاولة تعريف التدابير البديلة :

أدت الانتقادات الموجهة إلى عقوبة الحبس أو الاحتجاز إلى الاقتناع بضرورة التخلي عنها أو على الأقل بحصرها في الحالات ذات الخطورة الواضحة على النظام المجتمعي، وتعويضها، في الحالات التي تقل خطورة، والتي يعاقب عليها القانون بالحبس لمدة قصيرة، بتدابير مختلفة، غير سالبة للحرية بمفهوم الحبس، ومن شأنها أن تحقق تحقيق الغالية المطلوبة من كل عقوبة جنائية، أي إعادة تربية الجاني وإعادة إدماجه في المجتمع وهو يمارس فيه حياته العادية ولو بحرية مقيدة أو مشروطة أو محدودة. كما أنها في ذات الوقت، تحمي المجتمع من النتائج السلبية المترتبة على سلوك الجاني والمهددة لطمأنينة المجتمع. ويكاد يقوم الإجماع على تسمية تلك التدابير بالبديلة للعقوبة السالبة للحرية بينما هي بديلة لكل التدابير السالبة للحرية بما فيها الإجراءات التي لا يدرجها القانون في قائمة العقوبات . بالتالي، يمكن القول بأن التدابير البديلة هي الإجراءات الزجرية وغير الزجرية التي يقررها قضاء الحكم أو قضاء التحقيق الإعدادي عوضا عن الحبس كعقوبة جنائية أو الاحتجاز كإجراء احترازي لا يكتسي صبغة العقوبة الجنائية التي يقررها القانون الجنائي.

ومن الواضح أن مدلول التدابير التي تعنينا أعم وأوسع من مدلول العقوبات إذ هي بالإضافة إلى الاشتمال على هذه الأخيرة، تحتوي على إجراءات أخرى لها طبيعة اجتماعية وإدارية وتقنية من جهة، وترمي إلى غايات أحيانا زجرية أو وقائية، وأخرى تربوية أو تهذيبية.

ونظرا للمزايا التي تتسم بها وتمتاز بها على العقوبة، فقد تناما الاقتناع بضرورتها والمطالبة بتكريسها واعتمادها في الحالات الأقل خطورة على المجتمع والتي يخضعها عدد كبير من تشريعات الدول إلى الحبس القصير المدة.

   وصار الموضوع يجسد تيارا فكريا وسياسيا عالميا حقيقيا، لكون عيوب السجن أكبر وأخطر من حسناته خاصة إذا كان لمدة قصيرة. ذلك أن هذا النوع من الحبس يعاقب الجناة المبتدئين الذين لا يتسمون بخطورة المحترفين، فيكون السجن مناسبة لاحتكاكهم بالمجرمين المحترفين ولسقوطهم في بؤرة الإجرام الحقيقي. وهو من جهة أخرى، يلحق مساسا بحقوق الإنسان والحريات العامة، ويكون عبئا ماليا وبشريا وماديا على الدولة، ولا يحقق الغايات التربوية والإدماجية للجاني ولا الغاية الحمائية للمجتمع، كما هو مرجو منه. ويتجلى هذا النقص خاصة لما يكون لمدة قصيرة. فهذه المدة مهما قصرت تكون كافية لتحويل الجانح المبتدئ إلى مجرم محترف خطير.

فالسجن لا يحمي المجتمع، بدليل تفاقم الإجرام رغم استمرار بناء السجون، ولا يردع ولا يؤدب ولا يزجر الجاني رغم تشديد العقوبات، بدليل أن هذا الأخير غالبا ما يقع في العود إلى الإجرام، ولا يحقق إعادة إدماجه في المجتمع أي تقبله من طرف المجتمع، بدليل وصمة العار التي تلحق وتلتصق به من طرف المجتمع، طول حياته، في كل مرافقها، وتعرضه للريبة والشبهة والحذر من طرف كل من يتعامل معهم، رغم أنه أدى للمجتمع دينه بتنفيذ العقوبة وأصلح سلوكه وفقا لشروط الحياة العادية. وتنعكس ذات الوصمة حتى على أسرته وذويه بدون تمييز ولا رحمة ولا قناعة بأنه دفع ثمن ذنبه.

ولا يقصد بالضرورة من اعتماد التدابير البديلة إلغاء عقوبة الحبس من القانون الجنائي بالمرة، ولو في الجرائم التي يقر رفيها تلك التدابير، لأنه يحتفظ بها كعقوبة مرجعية في القانون الجنائي، أو كإجراء في التحقيق الإعدادي بالمسطرة الجنائية، كما يبقى من الممكن تطبيقها في بعض الحالات التي تفشل فيها التدابير البديلة أو لا يمكن تقريرها. من جهة أخرى،لا بد من الاعتراف بأن التدابير البديلة، رغم حسناتها الحقيقية أو المتخيلة، فإنها لا تضع حدا للمساس بحقوق الإنسان والحريات العامة[1]، سواء تعلق تطبيقها بتعوض لعقوبة، أو تعلق بتعويض الاعتقال الاحتياطي أثناء التحقيق الإعدادي في المسطرة الجنائية[2]، وإنما تقتصر على تخفيفه، لأنها تخضع لشروط كثيرا ما تنطوي على تقييد حرية الشخص الخاضع لها، وقد تكون تلك القيود أحيانا أشد على الشخص من الحبس، وتكفي الإشارة هنا للدلالة على ذلك، إلى الآثار النفسية والاقتصادية والاجتماعية المترتبة عن المنع من ممارسة مهنة أو هواية وعن الخضوع إلى مراقبة إليكترونية مستمرة لتنقلات الشخص لمعرفة مكان تواجده والتأكد من استمرار إمكانية القبض عليه.

  • أهمية الموضوع :

رغم السلبيات المشار إليها، وتجاوبا مع المعطيات الإيجابية المذكورة، ظهر تيار المطالبة باعتماد التدابير البديلة وتناما في البداية داخل بعض الدول قبل أن يصل إلى مستوى العالمية في المؤسسات الدولية و يتم تكريسه بالمواثيق والأدوات الدولية، لما يرتكز عليه من فوائد فردية ومصالح مجتمعية أهم من عيوبه وأجدر بالترجيح.

ولقد ظهر لأول مرة بالولايات المتحدة الأمريكية في منتصف القرن الماضي، وانتقل منها إلى إنجلترا بتلكؤ، ومنها إلى أغلب الدول لأوروبية مثل السويد والدنمرك[3] وهولندا وإسبانيا وإيطاليا، وإلى الدول العربية، صراحة ومباشرة، أو ضمنيا[4]، من خلال تدابير ينصص عليها القانون كعقوبات تكميلية أو إضافية، مثلما هو عليه الحال في المملكة العربية السعودية وباقي دول الخليج والأردن وتونس والجزائر والمغرب.

وميز هذا التيار المجال العالمي منذ أواخر القرن العشرين حيث ظهر الاهتمام بالتدابير البديلة كمؤسسة قانونية جنائية جديدة ومستقلة عن العقوبات التقليدية، في مناقشات هيئة الأمم المتحدة خلال اجتماعاتها بكركاس بفنزويلا سنة 1980، والمؤتمر السابع بميلانو بإيطاليا سنة 1985، واجتماع الخبراء بفينا بالنمسا سنة 1988 ، وباجتماع هافانا بكوبا سنة 1990. وتم تتويج هذا التوجه بتقرير من الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة وبتوصية منها. ولم تتخلف المنظمات الإقليمية بدورها عن الاهتمام بالموضوع، خاصة منها الأوروبية.

مقال قد يهمك :   "الطلاق الاتفاقي" المبرم داخل إيطاليا وحجيته أمام قاضي الأسرة المغربي

أمام هذه الحركة العارمة، صار من الطبيعي أن يثور التساؤل عن المبررات والغايات من هذا الاهتمام الكبير بالموضوع. لكن وقبل الغوص في هذا الاتجاه، تجب الملاحظة بداية بأن خصائص التيار ذاتها تجلب الانتباه إلى الارتجال والارتباك والغموض والاختلاف بين أطروحات المدافعين عن التدابير البديلة والمنتقدين لها، وتستوقف الملاحظ حتى بخصوص مفاهيمها ومضمونها وتطبيقاتها[5].

يكمن أساس الاقتناع عند المدافعين عن التدابير البديلة في عجز السجن عن أداء وظيفته وتحوله إلى وكر لتكوين المجرمين ولتفريخ الإجرام الاحترافي، علاوة على مساسه بحقوق الإنسان وبمستقبل السجين وظروف أسرته. ويربطون هذا الأمر بمناخ العيش داخل السجن حيث يركزون على الاكتظاظ [6] بسبب كثرة الإدانات وبتطبيق السجن على الأشخاص المدانين جنائيا ومجرد الخاضعين مدنيا للإكراه البدني، والمعتقلين الاحتياطيين الذين كثيرا ما تنطق المحاكم ببراءتهم ويتبين خطأ سجنهم بعد فوات الأوان.

يضاف إلى ذلك صعوبة تمويل السجون وتمكينها من الوسائل البشرية والمادية اللازمة لتحقيق إعادة التربية والإدماج في المجتمع، بل وحتى لتمكين السجين من ممارسة حياة عادية في نطاق ما يسمح به حرمانه من الحرية. ويفسرون الاكتظاظ الناتج عن كثرة النطق بالسجن، أيضا، بقناعة القضاء التي يهيمن عليها الإيمان الراسخ بنجاعة وفعالية عقوبة السجن في الردع، وبسهولة تطبيقها، وميل القضاة أو انسياقهم أحيانا إلى التأثر أو التجاوب مع المناخ الاجتماعي العام المتوتر والراغب في الانتقام الذي لا يرى تجليه الحقيقي إلا في السجن. وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون القضاء والمجتمع واعيا بهذه المشاعر ويريد ويقصد تجسيدها رغم الدلالة الظاهرة على مواقفه بمناسبة بعض الجرائم والمتابعات والمحاكمات.

ولا تكاد تتجاوز ردود الرافضين للتدابير البديلة، في حدود مضمونها الدقيق، وفي الغالب مجرد قلب أو عكس المعطيات والمبررات المذكورة المساندة لها، وتطبيقها على الظروف الواقعية بدون زيادة تذكر.

وأمام هذا الخلاف بل التناقض، وبشيء من التأني، يتعين أن نلاحظ بأن جوهر الانتقاد لا يرتكز على السجن أو على التدابير البديلة وإنما ينصب على المساس بحقوق الإنسان وعلى عدم ملاءمة السجن كعقوبة أو كإجراء مع احترام تلك الحقوق. وهنا نذكر بأن هذه النقائص المرتبطة بخرق حقوق الإنسان تكاد تلازم كل العقوبات الجنائية، وهي العيوب ذاتها التي تثار في البدائل وفي حال مناقشة عقوبة الإعدام[7] كما سبقت انتقاد كل العقوبات الجسدية التي كانت عادية في الماضي والتي ما تزال معمولا بها في بعض التشريعات.

وتسمح هذه الملاحظة بالقول بأن المشكل أعمق وأوسع من موضوع السجن والإعدام والتدابير البديلة. ذلك أننا نرى بأنه يشمل المنظومة الجنائية بكاملها التي أصبحت متنافرة مع متطلبات التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية. ويبين تبعا لهذه التطورات تجاوز السياسات الجنائية[8] ذاتها أي التصور الموجه للمنظومة الجنائية والمحدد لمعالمها بما فيها التجريم والعقاب. ويبدو تجاوز السياسة الجنائية بدوره نتيجة لتوقف الاجتهاد الفقهي والسياسي في إبداع فلسفات ونظريات ومدارس جنائية شاملة لظاهرة الإجرام منذ النصف الثاني من القرن الماضي، بعد أفول المدارس الكلاسيكية والوضعية وتيارمدرسة الدفاع الاجتماعي الجديد التي كان يتزعمها الفقيه الفرنسي مارك أنصيل.

هذا التخلي عن مجهود تصور تركيبة نظرية عامة وشاملة لمفهوم الإجرام ومفهوم رد الفعل الاجتماعي المناسب، خاصة منه العقوبة، هو السبب الجوهري في طرح موضوع التدابير البديلة وغيره من الموضوعات الجزئية الترقيعية رغم أنه يدعى بصددها بأنها هادفة إلى إصلاح المنظومة الجنائية أو على الأقل بعض جوانبها. فهو موضوع من جملة موضوعات تدل على تفضيل التوجه البراغماتي على التوجه الإجمالي أو التركيبي المنظر للظاهرة الإجرامية، لأنه أسرع وأسهل إنجازا.

ويبرز هذا المنحى البراغماتي في تناول ومعالجة مشاكل محددة مثل العقوبة الحبسية وعقوبة الإعدام واحترام الحقوق الشخصية للجاني وحماية أمن ونظام المجتمع الخ. ومن الواضح أن هذه المسائل المحددة مترابطة ومتكاملة مع ظروف العيش الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ولا يمكن فصلها عنها ولا فصل بعضها عن بعض، ولا الاهتمام بها دون التوقف عند أسبابها وظروفها، والاهتمام بكل واحدة منها على حدة، ولا يمكن أن تحلها تدابير جزئية في غياب نظرة شمولية.

ولم يبق المغرب معزولا عن هذا النقاش لأنه يعيش ذات المشاكل والصعوبات، وبدأت مشاركة المهتمين به بمختلف الجهات والروافد الفكرية، منذ نهاية القرن الماضي[9]، بمنهجية براغماتية أيضا، في الملتقيات العلمية والمهنية أولا، ثم توسعت بمشاركة المجتمع المدني وأخيرا، وصلت إلى دوائر القرار التي اقتنعت مؤخرا بضرورة أخذه بالاعتبار. فصدرت عدة تشريعات لمراجعة التدابير الانتقالية في المسطرة الجنائية ولإصلاح نظام السجون وللتركيز على التقليص من الاعتقال الاحتياطي، وإحداث مؤسسات لرعاية شئون السجناء، الخ. ثم وصل التطور إلى مراجعة قانون المسطرة الجنائية وإلى مشاريع لتعديل القانون الجنائي تخصص مقتضيات صريحة ومحددة للتدابير البديلة.

ويتسم توجه المغرب بتأثر عميق بفلسفة حقوق الإنسان وصعوبة احترامها بشكل جيد أمام الإكراهات الأمنية والتنموية التي تفرض نفسها بقوة متزايدة على قراراته وتناقض أحيانا جودة احترامها. وانعكست حيرة التوجه على مميزات الكتابات الفقهية والمناقشات المهنية والمواقف الرسمية. ويلاحظ أن جل هذه يجمع على ضرورة الأخذ بالاعتبار للمقتضيات العقابية القائمة والإبقاء على المناسب منها، والاقتصار فقط في التدابير الجديدة على الضروري الذي يمكن الأخذ به استجابة لحدود الإصلاح في ظل الإكراهات المعاكسة[10].

ويتلخص الأمر أولا في تفعيل مقتضيات القانون الجنائي والمسطرة الجنائية التي يسهل تصورها وتطبيقها كتدابير بديلة للحبس. ويقتضي هذا الرأي مراجعة وتطوير منظور القضاء أي فهمه لتلك المقتضيات ونهج تطبيقه لها. و يتطلب ثانيا اعتماد منظومة متكاملة ومنسجمة ومرنة لتركيبة الجزاءات والإجراءات المنصوص عليها في التشريع الجنائي تتضمن العقوبات والتدابير البديلة، في مساطر مناسبة وضمن مؤسسات وأطر بشرية جديدة لتجنب الفشل في التطبيق الفعلي ولتحقيق حد أدنى من شروط النجاح. ويتطلب هذا التوجه، قبل كل شيء، معرفة الحاجة أو تحديد موضوع الإصلاح، الشيء الذي يقتضي إنجاز دراسة علمية ميدانية واقعية لتحديد ضرورته وجدواه، بغاية وضع حد للعيوب التي تسود التشريع والتطبيق في الوقت الراهن. ويتعين أن تشمل هذه الدراسة وتخصص بشكل وازن حيزا كافيا لبيان انعكاسات التوجهات المعتمدة، على الأصعدة البنيوية والبشرية، وتقييم تكلفتها المالية والتنظيمية.

2 – تفعيل المنظومة التشريعية القائمة

توحي قراءة المقتضيات القانونية الحالية، بمنظور التدابير البديلة، بخاصية الغموض أو الخلط، في إطار المسطرة الجنائية، بمناسبة الاعتقال الاحتياطي. ويبرز ذات الانطباع في إطار القانون الجنائي بمناسبة العقوبات التكميلية والإضافية والتدابير الوقائية أو الأمنية. ومن البديهي أن هذا الوضع يفرض بداية ضرورة التمييز في نظام التدابير البديلة المقصودة، بين ما يكتسي طبيعة العقاب الجنائي وبين ما لا يكتسي تلك الطبيعة، وبين ما يسبق الحكم الجنائي وما يدخل في صلب أو منطوق الحكم بالإدانة الجنائية وما يخرج عن نطاقه. ويقتضي هذا ضرورة مراجعة التكييف القانوني للمفاهيم والصيغ من جهة، وضرورة التمييز بين مرحلتي ما قبل الحكم ومضمون الحكم، أي تحديد طبيعة وغاية التدابير في كل منهما من جهة أخرى.

مقال قد يهمك :   محكمة النقض توضح معنى الحوز الفعلي لعقار في عقد الصدقة

1-2 –  مراجعة المفاهيم والصيغ العقابية

انطلاقا من مضمون التشريع الحالي، ومن الأدبيات المنصبة على التدابير البديلة، يتطلب الأمر بداية مراجعة الاصطلاحات والصيغ المستعملة في القانون الجنائي والمسطرة الجنائية لضرورة التمييز بين الإجراء والعقاب. كما أن اعتماد تدابير بديلة لعقوبة الحبس في القانون الجنائي يفرض أن يسبقه تغيير فلسفة المنظومة العقابية بتقرير مبدأ الطبيعة الاستثنائية للتدابير السالبة للحرية واعتبار التدابير البديلة لها بمثابة التطبيقات المبدئية لرد الفعل المجتمعي أي العقاب.

وفي ذات التوجه، يتعين تحديد دقيق لأسباب أو حيثيات اللجوء إلى الحبس كعقوبة قصوى يجب أن يبقى النطق بها ممكنا واستثنائيا في الحالات والظروف التي تبررها، لا سيما إذا تبين عدم ملاءمة التدابير البديلة أو فشلها بمناسبة العود في نازلة سابقة. ولابد أن تركز تلك الأسباب والحيثيات على خطورة الجريمة والجاني، وعلى ظروفه الشخصية والملابسات الموضوعية المحيطة بارتكاب الفعل الجرمي. ومن شأن هذا الموقف أن يبرر مبدأ جديدا هو اعتبار وتطبيق التدابير البديلة كجزاء جنائي قائم الذات عوض الحبس إلى جانب العقوبات التقليدية، وبحيث يصير الاستثناء هو اللجوء إلى عقوبة الحبس السالبة للحرية التي تهيمن على قائمة العقوبات التقليدية.

وعند النطق بالتدابير البديلة، يتعين اختيارها بناء على اعتبارات مناسبتها للجاني في النازلة، وحظوظ نجاحها في إعادة إدماج الجاني، ومدى حقيقة فعاليتها بالنظر إلى إمكانية تفعيلها على أرض الواقع لوجود مؤسسات كفيلة بذلك ولتوفر أطر وآليات مراقبة وتتبع فعالة.

وللوصول إلى هذه الرؤية، ولتفعيل المصطلحات والصيغ الجديدة، تجب مراجعة تصنيف العقوبات الحالية إلى تقليدية تشمل الأصلية والإضافية، وتضيف إليها صنف التدابير البديلة، مع بيان خصائص وآثار كل صنف. في هذا الاتجاه، واعتبارا لما هو قائم حاليا، يتعين جرد وتحديد أي من الإجراءات البديلة الموجود في المقتضيات الحالية تحت باب تكييف العقوبة الأصلية أو العقوبة الإضافية أو التدابير الوقائية، وتغيير التكييف ليدخل التدبير بصراحة النص في مفهوم التدابير البديلة بمعناها هذا، ويتم إدراجه في بابها كعقوبة جنائية مستقلة بذاتها إلى جانب غيرها، بصريح نص القانون.

 ويندرج في هذا الإطار مضمون مقتضيات القانون الجنائي في الفصول 16 في الإقامة الإجبارية والتجريد من الحقوق الوطنية، و17 و18 في الغرامة، و36 في الحجر القانوني والمنع المؤقت من ممارسة بعض الحقوق الوطنية أو المدنية أو العائلية، والمصادرة الجزئية لممتلكات المحكوم عليه، وحل الشخص المعنوي، ونشر الحكم بالإدانة، و61 في الإقصاء والمنع من الإقامة والإيداع أو الوضع القضائي بمؤسسة للعلاج أو بمؤسسة فلاحية، وإسقاط أهلية مزاولة الوظائف أو الخدمات العمومية، المنع من مزاولة مهنة أو نشاط أو فن، إسقاط الحق في الولاية الشرعية على الأبناء، إغلاق المحل أو المؤسسة التي استغلت في ارتكاب الجريمة.

ومما لا شك فيه أن هذه القائمة لا يمكن أن تكون نهائية ولا مغلقة وأن إمكانية إغنائها تبقى واردة لتشمل أيضا وقف التنفيذ والسراح المشروط ، والمنع، والإبعاد عن بعض الأمكنة والإجبار على الإقامة في بعض الأمكنة. ويمكن أن تكمل كذلك بالعمل مجانا بمصلحة عامة أو بالمجتمع المدني، وبالإنذار والتوبيخ، والتهديد، ونشر الحكم، والحصول على شهادة علمية أو مهنية معينة، وحفظ القرآن أو مدونة السير أو ميثاق أخلاقيات الخ.

ومن نافلة القول أن تصنيف هذه التدابير ممكن وفقا لما سار عليه الفقه من تمييز بين المساس بالحرية أو الحرمان منها، والمساس بالصلاحيات الاقتصادية والمهنية، والمساس بالأموال، وتقييد أو منع ممارسة نشاط اجتماعي أو حق مدني، الخ.

 ويلاحظ أن مسودة مشروع تعديل القانون الجنائي تقرر في مادتها 35 الصفة  الاستثنائية للسجن، وتبعا لذلك الصفة المبدئية للتدابير البديلة، وبناء عليه، تعتمد في مادتها 32-2 العمل لأجل منفعة عامة والغرامة اليومية، وتقييد بعض الحقوق، إلى جانب تدابير وقائية أو علاجية أو تأهيلية. وهي مقتضيات تكرس مبدأ بعض ما جاء سالفا من إجراءات لتكملة النص الحالي.

ومن الواضح أن هذا التغيير يظل ناقصا وقاصرا عن تحقيق الغاية إذا كان لا يعني، قبل كل شيء، قلب المعتقدات الحالية حيث يحتل الحبس مركز المبدأ، ليصير المبدأ هو التدابير البديلة. ولا نشك في الصعوبة الكبيرة التي تعوق هذا التطور لأن فكرة فعالية الحبس راسخة في أعماق العقلية السائدة عند الأفراد وعند غالبية الجهات المعنية بمكافحة الجريمة وتطبيق العقاب، ولا يتصور تغييرها بسهولة على المدى القريب والمتوسط بمجرد مراجعة صياغة القانون أو إعادة النظر في منظومة العقوبات الجنائية. ومن البديهي أن تغيير هذه العقلية ينطلق من مرحلة التعليم والتكوين القانوني، مرورا بالتدريب المهني للممارسين في الميدان القضائي والأمني، بشكل مواز لتحسيس الإعلام الجماهيري والمواطنين أو الرأي العام.

2 – 2  مراجعة مفاهيم التدابير السابقة للحكم

يتعلق الأمر هنا بمفهوم الاعتقال الاحتياطي في المعتقدات السائدة عند العموم الذين يخلطون بين الطبيعة الاحترازية لهذا الإجراء وعقوبة الحبس التي يطالبون بتطبيقها فورا بعد ارتكاب بعض الجرائم وقبل الحكم بإدانة الفاعل. ولحسن الحظ أن المهنيين العاملين في الحقل القضائي يعرفون معناه رغم حرصهم أحيانا على تقريره. وتحتوي المسطرة الجنائية تدابير بديلة للحبس كإجراء احترازي في الاعتقال الاحتياطي في إطار إجراءات التحقيق ولا تضفي عليها طبيعة وخصائص العقوبة الحبسية. وتتجسد تلك التدابير في إجراءات المراقبة القضائية المقررة حاليا بالفصل 161 من قانون المسطرة الجنائية.

 وبخلاف التدابير الواردة في الفقرة السابقة، تبقى التدابير المقررة فبل صدور الحكم بالإدانة مجرد تدابير مسطرية أو إجرائية، بما فيها الحبس الاحتياطي، مختلفة قانونيا عن العقوبة الجنائية وليست لها أية صفة أو آثار من صفاتها وآثارها القانونية رغم الخلط الذي يشوبها في العقلية الشعبية. فهي لا تدخل في اعتبار العود ولا تقيد في السجل العدلي ولا تؤثر نهائيا في أوجه حياة الشخص الذي يخضع لها، على الأقل من حيث المبادئ القانونية.

ورغم هذا، يتعين في ضوء المنظور الجديد تمييزها بنظام تطبيقي خاص يحفظ لها الخصائص المذكورة منذ شروط وشكليات النطق بها، حيث نحبذ إشراك أو على الأقل، استشارة الجهات المعنية بما فيها المؤسسات العمومية وهيئات المجتمع المدني خاصة منها المعنية بإدماج الجناة في المجتمع والمستعدة للتكفل بالأشخاص الخاضعين للتدابير البديلة، ومرافقتهم إلى نهاية تنفيذها، مرورا ببيان حدودها وآثارها على الشخص وعلى محيطه.

 وبجرد وتقييم سريع لمضمون الفصل 161 ق.م.ج. تحتوي التدابير البديلة المسطرية على 18 إجراء تتجسد في ما يقرره ويحدد نطاقه قاضي التحقيق ضمن اختصاصه، في عدم مغادرة الحدود الترابية، وعدم التغيب عن المنزل أو السكن، وعدم التردد على بعض الأمكنة، وعدم مزاولة بعض الأنشطة المهنية أو الاجتماعية، وعدم حيازة الأسلحة، وإشعار قاضي التحقيق بأي انتقال خارج الحدود المعينة في قراره، والتقدم بانتظام للمراقبة لدى السلطات المعينة، والاستجابة لاستدعاء السلطات والجهات المؤهلة المعينة في قرار قاضي التحقيق، والخضوع لتدابير المراقبة المتعلقة بالنشاط المهني أو المثابرة على تعليم أو تدريب معين، وإغلاق الحدود، وتقديم وثائق الهوية لكتابة الضبط أو لمصالح الشرطة أو الدرك الملكي، والمنع من سياقة جميع الناقلات أو بعضها أو الأمر بتسليم رخصة السياقة لكتابة الضبط إذا لم يأذن القاضي باستعمالها في نشاط مهني، والمنع من الاتصال ببعض الأشخاص، والخضوع للفحص والعلاج والاستشفاء، وإيداع كفالة، وتقديم ضمانات شخصية أو عينية، وعدم إصدار الشيكات، وإثبات المساهمة في التحملات العائلية أو النفقة المحكوم بها. ويضيف مشروع تعديل القانون الحالي إجراء المراقبة الإليكترونية إلى القائمة السالفة.

مقال قد يهمك :   محمد أوزيان : خصوصية القواعد المسطرية في مادة نزع الملكية

وتظل تكملة هذه المجموعة محتملة سيما بتطبيق بعض التدابير السابقة المشار إليها بمناسبة الحكم بالإدانة دون أن يضفى عليها تكييف العقوبة، أي دون أن تفرز الآثار السلبية اللصيقة بالعقوبة الجنائية، بحيث يبقى مركز وسجل ومستقبل الشخص الخاضع لها في مأمن من تلك الآثار.

وتتسم هذه التدابير المسطرية جميعها باختلاف طبيعتها وغايتها عن طبيعة وغاية العقوبة الجنائية، ذلك أنها ليست إدانة ولا رد فعل مجتمعي ضد جريمة مقترفة، وإنما هي وسائل للحد من الحرية الكاملة للمتهم بقدر ما هو ضروري لحسن سير العدالة وتجنيب المحكوم عليه عواقب الاحتكاك بالمجرمين داخل السجن، وتسهيل إدماجه بالحفاظ له على ظروف حياة اجتماعية شبه عادية. ذلك أن غايتها تكمن فقط في  ضمان عدم فرار المشبوه وحماية الإثبات من التلف وتهدئة الهيجان الشعبي لمنعه من الإضرار بالمتهم، الخ.

3 – 2-  آفاق المنظومة المقترحة

بصرف النظر عن الصورة البراقة والمغرية التي توحي بها بدائل سلب الحرية في الميدان الجنائي، يبقى من الضروري التأكد من توفر آفاق مماثلة تضمن نجاحها على أرض الواقع، وهو ما يتطلب شروطا محددة، منها ما يجب أن يسبق الاعتماد ومنها ما يجب أن يطبع مضمون الاعتماد.

 أولا:  شروط قبلية لنجاح المنظومة المقترحة

  تشتمل هذه الشروط بداية  على مراجعة وافية للسياسة الجنائية والعقابية تتضمن إلغاء الطبيعة الجرمية عن الأفعال التي لم تعد تلحق ضررا بالنظام المجتمعي أو تثير استنكار المجتمع، وإعادة التكييف والتصنيف لعدد من الجرائم الأخرى[11]، إلى جانب إعادة النظر في منظومة العقوبات [12]والتدابير الأمنية طبقا لما سبق. ولن تكتمل هذه المراجعة إلا بأخرى تنصب على وضعية السجون المتسمة بالتأزم الذي استعصى حله لحد الآن[13] والذي يمكن التغلب عليه ولو نسبيا باعتماد التدابير البديلة وإحداث المؤسسات الضرورية لتفعيلها وإنجاحها.

كما نقصد بالشروط القبلية إنجاز دراسة ضرورة وجدوى توضح الانعكاس البشري والبنيوي والتكلفة المالية المترتبة عن اعتماد التدابير البديلة بصفتها ومعناها في المنظومة الجنائية. ما هي حقيقة الحاجة إلى التدابير البديلة؟ ما هي إمكانية التنسيق والتوفيق بينها وبين المقتضيات التشريعية الحالية؟ ما هو نوع الأطر البشرية وتكوينها المناسب لنجاح هذه التدابير؟ ما هي التكلفة المالية لإيجاد الأطر البشرية المذكورة ولإحداث وتسيير المؤسسات المؤهلة للتنفيذ والتتبع والمراقبة؟

وتحتوي أيضا على حتمية إحداث مؤسسات مستقبلة كافية لتفعيل التدابير ولمسايرة ومراقبة عملها بشكل مستمر، وتكون مسيرة بأطر بشرية جديدة مؤهلة ولها عقليات مواطنة والخبرات اللازمة والتخصصات الملائمة، كفيلة بإزالة المعوقات وتوفير أدوات التنفيذ السليم والتفعيل الصائب.

 ثانيا: شروط مواكبة جديدة للمنظومة

 ونعني بهذه الشروط أن تأتي هذه التدابير في مقتضيات بصيغ دقيقة، واضحة، تحمي القاضي من الانزلاق والارتباك وتحريف مبدأ الشرعية الجنائية، وفلسفة الإجراءات الجديدة، وتحفظ المجتمع من الخطر الإجرامي بالوقاية والعلاج، وتضمن للمحكوم عليه حظوظ الإصلاح والاندماج بإعادة ثقته في المجتمع الذي يبقى متمتعا فيه بحرية معقولة، مبتعدا عن وسط السجناء والمنحرفين والمجرمين. ونقصد أيضا بهذه الشروط، أن تكتسي الصيغ القانونية لهذه التدابير أسلوبا مرنا قابلا للتطوير حسب تطور سلوك الشخص الخاضع لها، في ضوء معاينة موضوعية من طرف جهات مختصة لها الكفاءة والخبرة اللازمة، وبدون إخلال بمبدأ الشرعية الجنائية، وبقرار خاص ومعلل من طرف قاضي التحقيق المصدر للتدبير، أو من طرف النيابة العامة التي يكون بإمكانها التماس تغيير التدبير من المحكمة التي قررته.

الرباط، في 22 ديسمبر 2016


الهوامش :     

[1]م. الإدريسي العلمي المشيشي، ملاءمة مشروع القانون الجنائي مع مبادئ حقوق الإنسان، منشورات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الرباط، 2012.

[2] لنفس الكاتب، ملاءمة قانون المسطرة الجنائية مع مبادئ حقوق الإنسان، ذات الناشر، الرباط، 2012.

[3]أنس سعدون، بدائل العقوبات السالبة للحرية في القانون الدانمركي ونظيره المغربي، ندوة بمحكمة الاستئناف ببني مللال في 24 يونيو 2011، جريدة بيان اليوم، 27 مارس 2012.

[4]بدائل التدابير الاحتجازية، دراسة حالة لعدد من الدول العربية، الأردن، الجزائر، اليمن، تونس، المغرب؛ المنظمة الدولية للإصلاح الجنائي، مايو 2014.

[5] أسامة طايع، مقترحات العقوبات البديلة،

[6]خالد الإدريسي، بدائل العقوبات التجديد، عدد 8 يونيو 2012.

[7]م. الإدريسي العلمي المشيشي، عقوبة الإعدام وعلم الإجرام، باللغة الفرنسية، منشورات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، 2010، وباللغة العربية، مجلة العلوم القانونية والقضائية، سنة 2015، ص. 11.

[8] م. الإدريسي العلمي المشيشي، سياسة التجريم: الواقع والآفاق، مجلة الحقوق، قراءات في المادة الجنائية، ص. 9، سنة 2013؛ وزارة العدل، السياسة الجنائية بالمغرب: واقع وآفاق، في مجلدين، 2005.

[9]1 أحمد كنون، البدائل لعقوبات السالبة للحرية القصيرة المدى، مجلة الندوة، عدد 4، سنة 1988

[10]عبد الله درميش، مختلف أشكال التدابير البديلة …..، مجلة المحاكم المغربية، عدد 86، ص. 13. محمد الطيب عمر، العقوبة في الميدان الجنائي، إلى أين؟ مجلة المحاماة، عدد 36.

[11]محمد عبد النباوي، السياسة الجنائية في المغرب، وزارة العدل ، السياسة الجنائية بالمغرب واقع وآفاق، المجلد الأول، ص. 115، سنة 2004؛ في ذات الموضوع، الطيب الشرقاوي، ذات المرجع، ص. 31.

[12]مصطفى مداح، السياسة العقابية، أنظمة مقارنة، السياسة الجنائية بالمغرب واقع وآفاق، وزارة العدل، المجلد الثاني، ص. 241، سنة 2005.

[13] أزمة السجون مسئولية مشتركة، منشورات المجلس الوطني لحقوق الإنسان، الرباط، 2012.

error: عذرا, لا يمكن حاليا نسخ او طباعة محتوى الموقع للمزيد من المعلومات المرجوا التواصل مع فريق الموقع عبر البريد الالكتروني : [email protected]