العربي مياد : “ادعيني إلى القضاء” من أقوال فراعنة الإدارة
- من إعداد : العربي محمد مياد رئيس مرصد الأنظمة العقارية والتعمير و البيئة.
“ادعيني” أي اذهب إلى القضاء إذا رغبت في الحصول على حقك المشروع ، من العبارات الخفيفة على اللسان الثقيلة على ميزانية الدولة والتي يلتجئ إليها بعض ” فراعنة الإدارة” كلما هموا وغبوا في ممارساتهم لرياضة التعسف والتسلط والأنانية التي يهوونها ، إيمانا منهم بأنه بحصولهم على قرار التعيين في المناصب العليا للإدارة أمسوا في حل من كل المقتضيات القانونية التي تحد من سطوتهم وتقيد سلطاتهم الواسعة في الزمان أو المكان. بل وأنهم بذلك التعيين أصبحوا من الطبقة التي تسود وتحكم في الإدارة كما يحلو لها ، فضلا عن تمتعهم بحصانة مطلقة تقيهم من كل متابعة قضائية أو إدارية حتى لو اشتطوا.
و ما على مرؤوسيهم إلا القول “الإذعان ” لكل قراراتهم إن هم رغبوا في الإفلات من سخطهم وغضبهم . وإذا حصل أي تشنج من رئيسهم يتعين عليهم تقبل الأمر الواقع وهم مذعنين وصاغرين . وفي حالة ما إذا حصل وتهوروا بمحاولتهم الحد من الشطط والتعسف الذي كانوا ضحية لهم سواء عن طريق تمثيليتهم النقابية إن وجدت أو عن طريق القضاء ، فما عليهم إلا تقبل القرار التعسفي الأكبر المتمثل في الانتقال من جهة إلى أخرى أ و القهقرة في الرتبة والدرجة أو من وظيفة إلى أخرى حتى لو كانت بعيدة عن تخصصه العلمي .
لأن دور المرؤوس في اعتقاد “فرعون الإدارة” هو التنفيذ دون مشاكسة أو مماكسة أو احتجاج حتى ، وإلا عد من المغضوب عليهم الذين يجب تقليم أظافرهم حتى يكونوا عبرة للغير ،
ضانين أنهم بمنصبهم الإداري أصبحت لديهم حظوة في المجتمع ويملكون مفاتيح الحلول يقلبونها بين أيديهم شمالا ويمينا حسب هواهم ولا معقب عليهم، لأن لهم مظلة تحميهم وأنهم من المقربين .
وإذا كان قبول مثل هذه العقلية في حقبة زمنية طواها المغرب إلى ما لا نهاية ، بحكم هبات التغيير التي صاحبت العهد الجديد وبالأخص منذ تصالح الدولة مع نفسها وإقرارها دستورا محينا يزاوج بين المسؤولية بالمحاسبة، بل وقبل ذلك عند إحداث المحاكم الإدارية في بداية التسعينات من القرن الفائت والتي قال عنها المرحوم جلالة الملك الحسن الثاني أنها جاءت للحد من التسلط والتعسف الذي تمارسها الإدارة على المواطنين .
وكلنا يعلم بأن بعض المسؤولين الإداريين اتخذوا قبل ذلك الفصل 13 من قانون الوظيفة العمومية مطية لتبرير تصرفاتهم المشينة ضد الموظفين التابعين لهم ، والذي ينص على أنه ” يجب على الموظف في جميع الأحوال أن يحترم سلطة الدولة ويعمل على احترامها “. في الوقت الذي يتناسون أن هذا الفصل جاء ليطبق على المسؤول وغير المسؤول ، والغاية من التنصيص عليه في ظل حكومة البكاي وبعيد الاستقلال هو التأكيد على أن الموظف يوجد في وضعية نظامية تجاه الإدارة العمومية وهو ملزم بكتمان السر المهني في كل ما يخص الأعمال والأخبار التي يعلمها أثناء تأدية مهامه أو بمناسبة مزاولتها. وأن ولاءه لشعار المملكة وليس لأي دولة أخرى تحت ستار تعدد الجنسيات.
غير أنه في اعتقادنا، يشكل صدور المحاكم الإدارية بالمغرب بتاريخ 10 شتنبر 1993 محطة بارزة في تاريخ القضاء المغربي ، لم يكن لفراعنة الإدارة أن يتقبلوها إلا على مضض و نفاق ، على اعتبار أنها فتحت الباب على مصراعيه أمام ضحايا القرارات الإدارية التعسفية الصادرة عن من هم من طينتهم ولا سيما الذين في قلوبهم مرض الأنا المتضخمة ، من أجل المطالبة قضاء بإلغائها مستفيدين من كرم الدولة التي أعفتهم من أداء الرسم القضائي، الذي قد يكون مانعا ماليا من لجوئهم إلى القضاء الإداري، وجعلت من الجلسات القضائية عمومية وعلنية .
وإذا كنا قد سردنا هذه المقدمة فليس من أجل تقييم عمل المحاكم الإدارية لأن عملها الجدي يشهد لها به المتقاضون أنفسهم قبل الفقه أو التسلسل القضائي ، وإنما للوقوف على بعض العينات من العسف ، نذكر على سبيل المثال حالة واقعية حديثة وقعت بالتعاضدية العامة لموظفي الإدارة العمومية حيث بادر رئيس المجلس الإداري بإصدار قرار إداري بطرد أحد العاملين بالمؤسسة منذ مدة ليست يسيرة، دون أخذ بعين الاعتبار قدمه في المؤسسة والانعكاسات الاجتماعية والنفسية على المعني بالأمر وعائلته وذويه .
إثُر ذلك تقدم المعني بالأمر بمقال افتتاحي أمام المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 17 نونبر 2014 ، يعرض فيه أنه توصل من رئيس المجلس المذكور بقرار مؤرخ في 10 شتنبر 2014 يتضمن في مادته الأولى قرارا بعزله ، وبالتالي يطعن في هذا القرار بعلة أنه يتصف بالتعسف ومخالف للقانون ويطالب بإلغائه مع ترتيب الآثار القانونية على ذلك . غير أن التعاضدية العامة لموظفي الإدارة العمومية في شخص رئيس مجلسها الإداري تمسكت بأن قرارها يتسم بالمشروعية خاصة وأن الطاعن مافتئ يتغيب بدون مسوغ شرعي وبالتالي طالبت برفض الطلب .
غير أن المحكمة الإدارية بالرباط قضت بإلغاء القرار المطعون فيه مع ترتيب الآثار القانونية ، بعلة أن الإدارة المعنية لم تحترم حق الدفاع المنصوص عليه في الفصل 67 من النظام الأساسي للوظيفة العمومية وكذا المادة 58 من النظام الأساسي الموحد الخاص بمستخدمي التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية.
ونظرا لأن هذا الحكم لم يتماش ورغبة رئيس المجلس الإداري للتعاضدية العامة تقدم بواسطة دفاعه بطعن بالاستئناف بتاريخ 14 دجنبر 2015 يعيب فيها على الحكم المطعون فيه خرق بعض المقتضيات الشكلية ، ذلك أن الدعوى في الأصل وجهت ضد رئيس المجلس الإداري للتعاضدية في الوقت الذي كان من المفروض أن توجه ضد المؤسسة نفسها على اعتبار أنها شخص معنوي وأن الرئيس ما هو إلا جهاز من الأجهزة المكونة للتعاضدية العامة ، وكذا خرق مقتضيات الفصل 75 مكرر من النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية الذي ينص على ” باستثناء حالات التغيب المبررة قانونا ، فإن الموظف الذي يتعمد الانقطاع عن عمله ، يعتبر في حالة ترك الوظيفة ….”
غير أن محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط أصدرت قرارا تحت رقم 3411 بتاريخ 28 يونيو 2016 في الملف عدد 19/7205/2016 يقضي بتأييد الحكم المستأنف بعلة عدم إدلاء الإدارة المستأنفة بما يفيد تمتيع المستأنف عليه بالضمانات القانونية التي يكفلها له حق الدفاع وأكدت على اتسام القرار المطعون فيه بطابع “التجاوز في استعمال السلطة “.
وبناء عليه أصبح القرار القضائي نهائيا وقابلا للتنفيذ . وبذلك يكون القضاء الإداري قد أنصف المضرور . و لما تقدم الطاعن بطلب التنفيذ رفض المطعون ضده التنفيذ حيث حرر بتاريخ 19 شتنبر 2017 محضر امتناع ، مما اضطر معه هذا الأخير إلى اللجوء إلى استصدار أمر قضائي تحت رقم 137 بتاريخ 17 يناير 2018 يقضي بتحديد غرامة تهديدية في مواجهة التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية في شخص رئيس مجلسها الإداري في مبلغ 8000 درهم تحتسب يوميا من تاريخ الامتناع ، استأنفته التعاضدية حيث قضت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط بتاريخ 25 يونيو 2018 بمقتضى قرارها 361 بتأييد الأمر القضائي .وهكذا نلاحظ قمة التشبث بالباطل الذي مورس في هذه القضية ودون
اعتبار أن الحكم القضائي عنوان الحقيقة وأن عدم تنفيذه فيه تعد على سلطات دولة القانون والمؤسسات يعرض صاحبه للعقاب الجنائي والمدني .
وفي قضية أخرى أصدرت المحكمة الإدارية بالدار البيضاء حكما تحت عدد 168 بتاريخ 22أبريل 1998 في الملف 1986 يقضي عن حق بأن نقل الطاعن من وظيفة فنية إلى وظيفة مكتبية ينطوي على جزاء تأديبي مقنع متى ثبت من ظروف القضية أن نية الإدارة اتجهت إلى معاقبته من أجل أفعال لم تستطع إثباتها ” .
و لا غرو أن الذي يهم في النازلة الأولى أو الثانية هو أن بعض المسؤولين لا يتورعون في ابتكار بعض المبررات والمسوغات من أجل تبرير تعسفهم في خرق صريح لكل المقتضيات القانونية وضرب لحقوق الدفاع التي يضمنها قانون الوظيفة العمومية في فصله 67 الذي نص على أنه ” للموظف المتهم الحق في أن يطلع على ملفه الشخصي بتمامه وعلى جميع الوثائق الملحقة وذلك بمجرد ما تقام عليه دعوى التأديب ، ويمكنه أن يقدم إلى المجلس التأديبي ملاحظات كتابية أو شفاهية وأن يستحضر بعض الشهود وأن يحضر معه مدافعا باختياره وللإدارة أيضا حق إحضار الشهود.
هذا نموذج من قضايا التعسف الذي يمارسها بعض المسؤولين الإداريين سواء كانوا معينين أو منتخبين ، ولا يجد هؤلاء أي حرج في الدفع بمشغليهم أو من لهم الحق في صرف أجورهم باعتبارهم موظفين أو عمال في القطاع الخاص ، إلى اللجوء إلى القضاء ، باستعمالهم عبارة ” ادعيني ” وهي عبارة تنم عن مرض نفسي ،بحيث يشخصن الأمر وكأنه في زمان الإقطاع حيث يملك الإدارة ومن فيها ، والحال أنه إذا كان هناك من مبررات للدعوى فهي موجهة ضد الإدارة التي يعمل على رأسها إلى حين ، ثم بعد انتهاء مهامه، يصبح مجرد مسؤول مخلوع أو مرحوم، وتبقى الإدارة مستمرة في تواجدها سواء به أو بدونه .وفي بعض الأحيان تكون الإدارة في أزهى أيامها بدونه خاصة إذا كان تخصصه المهني أو العلمي بعيدا عن اختصاص المرفق الإداري الذي عين فيه ، حيث سيكون مجرد إمعة، وسيغطي ضعفه بالتسلط والشطط في جل تصرفاته .
وقد جاء في الخطاب السامي الذي ألقاه صاحب الجلالة الملك يوم الجمعة 14 أكتوبر 2016 في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة..“.بأن المرافق والإدارات العمومية، تعاني من عدة نقائص ، تتعلق بالضعف في الأداء، و في جودة الخدمات، التي تقدمها للمواطنين.كما أنها تعاني من التضخم ومن قلة الكفاءة ، وغياب روح المسؤولية لدى العديد من الموظفين.وإن الإدارة تعاني، بالأساس، من ثقافة قديمة لدى أغلبية المغاربة.”
و بناء على ما تقدم ومن هذا المنبر، ندعو الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات من أجل الوقوف على حجم الأموال التي تنفقها الدولة وغيرها من أشخاص القانون العام تنفيذا للأحكام والقرارات القضائية الصادرة لفائدة ضحايا الشطط في استعمال السلطة التي يمارسها بعض “فراعنة الإدارة” ، والتي كان من الواجب أن تؤدى من مالهم الخاص جراء الأمراض النفسية التي يعاني منها بعضهم حتى لو كانوا قلة ، عوضا أن تؤدى من جيوب المواطنين البسطاء بما يدفعونه من ضرائب ورسوم للخزينة العامة للمملكة .
وقد آن الأوان لتفعيل مقتضيات الفصل 80 من قانون الالتزامات والعقود الذي ينص على مسؤولية الموظفين عن الأخطاء الجسيمة الواقعة منهم في أداء وظائفهم ،
و لا يجوز مطالبة الدولة أو الجماعات الترابية بسبب هذه الأضرار إلا عند إعسار الموظفين المسؤولين عنها . وبالتالي فإن على القضاء كلما تبين له أن هناك شططا في استعمال السلطة إلا ويقضي على المسؤول عنه بالتعويض لفائدة المتضرر ومن ماله الخاص ولا تتدخل الدولة إلا في حالة إعسار المشتط ، والإعسار لا يفترض وإنما على من يدعيه إثباته.”