العربي البوبكري : رأي آخر في قبلة الخيانة
- العربي البوبكري ، استاذ باحث بكلية الحقوق وجدة.
استرعى اهتمامي القرار عدد 1431/3 الصادر عن محكمة النقض تاريخ 17/10/2018 في الملف عدد 21947/6/3/2017 الذي اعتبر أن اعتراف الزوجة في محضر الشرطة القضائية بتبادل القبل مع رجل أجنبي يشكل خيانة زوجية في حق زوجها ، و ما خلفه من ردود أفعال متباينة من طرف الباحثين و المهتمين ، فترددت في التعليق عليه ، لكن مقالا رائعا و بليغا للأستاذ العزيز حكيم وردي ( للاطلاع على المقال ) ، ناقش الموضوع نقاشا أكاديميا رصينا و تضمن أفكارا قيمة أثارت فضولي العلمي فقررت المساهمة بدوري في إثراء النقاش إزاء هذا الموضوع و إبداء وجهة نظري فيه.
بداية لا بد من التأكيد على أن غيرة الرجل و المرأة – على حد سواء – على عرضهما و على رابطة الزوجية التي تجمع كل واحد منهما بزوجه وشريك حياته هي من الخصال الحميدة و الشيم النبيلة التي لا يزال المغاربة، رجالا و نساء، محافظين عليها و متشبثين بها ، و لا غرابة في ذلك فالدين والهوية و الثقافة و البيئة و القيم الراسخة في المجتمع المغربي كلها عوامل مرسخة و معززة لذلك ، ولن نختلف في هذه المسألة فهي من القناعات الثابتة لدينا جميعا ، إلا أن ما أود مناقشته في هذا المقال هو توجه محكمة النقض في هذه المسألة وبعض الأفكار الواردة في رأي الأستاذ حكيم بخصوصه.
إن الفصل 491 من القانون الجنائي المغربي تحدث عن الخيانة الزوجية دون تعريفها، بخلاف جنحة الفساد التي عرفها في الفصل 490 بكونها علاقة جنسية بين رجل و امرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية ، ولقد أجمع الفقه المغربي على أن المقصود بالعلاقة الجنسية المشار إليها في هذا الفصل هي المواقعة ، أي الاتصال الجنسي الكامل ، أو إيلاج العضو التناسلي في عضو التأنيث لدى المرأة على حد تعبير الدكتور احمد الخمليشي ( شرح القانون الجنائي الخاص ، الجزء الثاني ،ص 231) أو إدخال العضو التناسلي المذكر في فرج المرأة بتعبير الدكتور عبد الواحد العلمي (القانون الجنائي المغربي ، القسم الخاص ، ص 179.)
و إذا كان المشرع المغربي لم يعرف الخيانة الزوجية و لم يحدد نطاقها ، فإن الفقه المغربي مجمع على أن الركن المادي لهذه الجريمة لا يتحقق إلا بالمواقعة كما هي في جنحة الفساد ، بل إن هناك أراء فقهية معتبرة – مغربية و عربية – فصلت في المسألة وصرحت على أن الجريمة لا تتحقق بما دون المواقعة ، فقد كتب الدكتور أحمد الخمليشي صراحة أنه ” كما في جريمة الفساد يتحقق الركن المادي للخيانة الزوجية بالمواقعة ، و لا يجوز للمحكمة أن تقرر الإدانة إلا إذا اقتنعت بحصول الوقاع …” ( شرح القانون الجنائي الخاص ، الجزء الثاني ، ص 249 ) و نص صراحة بالنسبة لجريمة الفساد على ما يلي : ” و على العكس من ذلك لا يتحقق العنصر المادي للجريمة بما دون المواقعة من أفعال ، و بالتالي لا عقاب عليها ما لم تتوفر جريمة الإخلال العلني بالحياء المعاقب عليها بالمادة 483 أو المس بالعرض 484 و 485 “ (المرجع نفسه ، ص 231) ، كما أكد الدكتور عبد الواحد العلمي ” أن الفعل الذي يشكل الفساد هو نفسه الذي يشكل الخيانة الزوجية ” و قال في معرض تحليله للركن المادي لجنحة الفساد أن هذا الأخير يتحقق ” بمواقعة رجل لامرأة دون أن يكونا مرتبطين بعلاقة زوجية ، وذلك بإدخاله لعضوه التناسلي المذكر في فرج المرأة (القانون الجنائي المغربي ، القسم الخاص ، ص 179).
و بالنسبة للفقه المصري فقد كتب الدكتور فتوح عبد الله الشاذلي أن جريمة الزنا – و القصد هنا جريمة الخيانة الزوجية لأن المشرع المصري اقتبس تجريمها من التشريع الفرنسي الملغى و ليس من الشريعة الإسلامية – “تقوم من الناحية المادية بالاتصال الجنسي الكامل بين الزوجة و بين رجل غير زوجها ، وفعل الاتصال الجنسي الذي يحقق الزنا هو ذاته الذي يحقق الاغتصاب ، إذ لا فرق بين الجريمتين من هذه الناحية إلا في أن المواقعة في الاغتصاب تتم دون رضاء المرأة في حين أنها تتم في الزنا برضاها بها ، و إذا كانت المواقعة هي التي تكون ماديات الزنا ، فإن ما دونها من أفعال غير مشروعة لا يكفي لتكوين الجريمة مهما كانت درجة فحشها و إخلالها بالحياء ” ( شرح قانون العقوبات ، القسم الخاص ، الكتاب الأول ، القسم الثاني ، منشورات الحلبي الحقوقية ، 2010 ،ص 802).
ثم إن التأمل في مجموعة من القرارات الصادرة عن المجلس الأعلى سابقا يجعلنا نستخلص أن هذا الأخير لم يكن يميز بين الركن المادي في جريمتي الفساد و الخيانة الزوجية إلا من خلال صفة الزوجية المشترطة في الخيانة الزوجية تمييزا لها عن جنحة الفساد ، و بالتالي فالاتصال الجنسي مشترط في الجريمتين معا ، فقد جاء في قرار له أن :
” إدانة المطلوب في النقض بتهمة الفساد على الرغم مما تفيده أوراق الملف من كونه متزوجا و أبا لعشرة أطفال يجعل النص الواجب التطبيق هو الفصل 492 – الفصل 491 حاليا – من القانون الجنائي بعد توافر شروطه ” ( قرار عدد 3708صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 8/5/1991 في الملف الجنحي عدد 1981/89 ، منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 64 و 65 ، ص 108 و ما يليها) .
و جاء في قرار آخر أنه ” كان على المحكمة وهي غير متأكدة من حالة الظنين العائلية أن تؤجل البت في القضية لمزيد البحث و تمنح العارض فرصة للإدلاء بما يثبت ما صرح به في سائر الأطوار من أنه متزوج حتى تتأكد من النص القانوني الواجب تطبيقه في النازلة نظرا لكون المشرع ميز بين المتزوج و غير المتزوج و أعطى للعلاقة الجنسية غير المشروعة في كل حالة من الحالتين وصفا خاصا بها ” ( قرار عدد 7134 ، صادر عن المجلس الأعلى ، بتاريخ 27/6/1985 ، في الملف عدد12267/85 ، منشور بمجلة رابطة القضاة عدد 16و 17 ص 85 و ما يليها ، أورده محمد بفقير في كتابه : مجموعة القانون الجنائي و العمل القضائي المغربي ، الطبعة الأولى 2007 ، ص 232-233).
بل إن قرارا للمجلس الأعلى أورده الأستاذ محمد بفقير في كتابه المشار إليه أعلاه تحدث صراحة عن الاتصال الجنسي – وهي عبارة واضحة الدلالة على المواقعة – جاء فيه ما يلي : ” تكون المحكمة قد عللت قضاءها فيما يتعلق بعدم ضبط المتهمين في حالة تلبس حيث قالت بأن المتهم …قد أنكر في جميع المراحل الاتصال الجنسي ، وهو الأمر الذي أكدته المتهمة … و أن اللحظة التي دخلت عليه فيها للفندق كانا مرتديين لباسهما و متباعدين ” ( قرار عدد 6702، صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 8/10/1987، منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى في المادة الجنائية الجزء الثاني 81-95 ص231 و ما يليها ).
لكن بالنسبة لإثبات هذه الجريمة وجب التمييز بين المحضر الرسمي المحرر من طرف أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس و بين الاعتراف الذي تتضمنه مكاتيب وأوراق صادرة عن المتهم أو الاعتراف القضائي، ففي الحالة الأولى ينبغي الإشارة إلى أنه بالنظر لصعوبة معاينة ضابط الشرطة القضائية للتنفيذ المادي لجريمة الخيانة الزوجية ، فقد اتجه القضاء في فرنسا ومصر و المغرب – ومعه الفقه – إلى تجاوز المعنى الضيق للتلبس الوارد في قانون المسطرة الجنائية و التوسيع من نطاقه ، إذ يكفي مشاهدة الزوج و شريكه في وضع لا يدع مجالا للشك عقلا في أن الجريمة قد ارتكبت فعلا ، وهكذا جاء في القرار الصادر عن الغرفة الجنائية بمحكمة النقض بفرنسا بتاريخ 30 أكتوبر 1963 الذي استشهد به الأستاذ حكيم وردي في مقاله – مع التأكيد على أن هذا القرار لم يناقش نطاق الركن المادي لجنحة الخيانة الزوجية وإنما اعتمد على مجموعة من القرائن للقول بحصول الاتصال الجنسي و منها مبيت المتهمة عدة مرات مع خليلها في الفندق – أنه ليس من الضروري التقيد بمفهوم التلبس كما هو وارد في المادة 53 وما بعدها من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي – النافذ وقتها – و أنه يكفي ضبط المتهمين في وضع لا يدع مجالا للشك حول الجنحة المرتكبة :
« Attendu, en Droit, que dans le sens de l’article 338 du code pénal, il n’est pas nécessaire, pour que le complice du délit d’adultère puisse être légalement condamné, que le flagrant délit ait été constaté dans les termes des articles 53 et suivants du code de procédure pénale ».
و في نفس السياق اعتبر القضاء الفرنسي التلبس بالخيانة الزوجية قائما في حالة ضبط الزوجة مع عشيقها لمدة ثلاثة أرباع الساعة داخل غرفة مغلقة لم يفتح بابها إلا بعد اقتحامه بالقوة Cass Crim, 15 novembre 1872, Bull Crim n°.278، و كذلك في حالة ضبط الزوجة نائمة إلى جوار عشيقها في فراش واحد Cass Crim ,22 septembre 1837, Bull Crim n° 287 (القراران أوردهما : عبد الحفيظ بلقاضي ، القانون الجنائي ، القسم الخاص ، ص88).
و ورد في أحد قرارات المجلس الأعلى بالمغرب : ” وحيث إن الثابت من الحكم الابتدائي المؤيد ، وكذا من الحكم الاستئنافي المطعون فيه أن الطاعن أدين من أجل المشاركة في الخيانة الزوجية بناء على محضر الدرك الملكي شهدوا فيه بأنهم توجهوا على الساعة الثانية عشرة ليلا إلى منزل المجني عليه ، وذلك بطلب منه ، فوجدوا بقاعة النوم الزوجة و الطاعن مجردين من ثيابهما ، وهكذا استخلصت المحكمة أن المتهم الذي ضبط بمنزل الغير توجد عليه آثار تثبت مشاركته في جنحة الخيانة الزوجية مما يجعل حكمها مبنيا على أساس قانوني ” ( قرار عدد 106س .11 بتاريخ 2/11/1965 ، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى ، عدد 2 ، ص 95 . أورده أحمد الخمليشي ، م س ، ص 239).
و نفس الحكم ينطبق على حالة التلبس التي يعاينها الزوج في إطار عذر الاستفزاز المخفض للعقوبة في جناية القتل العمد ( الفصل 418 من ق ج بالنسبة للمشرع المغربي) ، فقد أكدت محكمة النقض المصرية على أنه لا يشترط في التلبس الدال على الزنا أن يشاهد الزنا وقت ارتكاب الفعل أو عقب ارتكابه ببرهة يسيرة ، بل يكفي لقيام التلبس أن يثبت أن الزانية و شريكها قد شوهدا في ظروف لا تجعل مجالا للشك عقلا في أن الجريمة قد ارتكبت فعلا ، فقضت بقيام التلبس عند مفاجأة الزوجة مرتدية قميص النوم وهي في حالة ارتباك شديد وكان عشيقها تحت السرير في غرفة النوم خالعا حذائه ( نقض 9 ديسمبر 1935 ، مجموعة القواعد القانونية ، ج 3 ، رقم 409 ، ص 513 .أشار إليه فتوح عبد الله الشاذلي ، م س ، ص 621) و قضت بقيام التلبس أيضا عند دخول الزوج على الزوجة و شريكها فإذا هما بغير سراويل وقد وضعت ملابسهما الداخلية بعضها بجوار بعض وحاول الشريك الهروب عند رؤية الزوج ( نقض 18 مارس 1940 ، مجموعة القواعد القانونية ، ج5 ، رقم 80 ، ص 142 . أشار إليه فتوح عبد الله الشاذلي، م س، ص 621).
أما بالنسبة للوسيلتين الأخريين المعتمدتين لإثبات هذه الجريمة والمتعلقتين على التوالي بالاعتراف القضائي و الاعتراف الذي تتضمنه مكاتيب و أوراق صادرة عن المتهم ، فالأمر يختلف ، حيث لا يمكن الاعتماد عليهما من طرف المحكمة للإدانة بالخيانة الزوجية إلا إذا دل الاعتراف في الحالتين معا دلالة قاطعة على حصول الاتصال الجنسي بين الزوج وشريكه في الخيانة ، إعمالا لقرينة البراءة و تحقيقا لأهم اثر لها ألا وهو تفسير الشك لفائدة المتهم ، و كذلك إعمالا لمبدأ التفسير الضيق للنص الجنائي الذي يعد من النتائج الرئيسية لمبدأ الشرعية .
و بناء عليه، فإن اعتراف الزوج بتبادل القبل فقط مع شريكه ، لا ينهض وحده سببا كافيا للإدانة بجنحة الخيانة الزوجية ما لم يكن هناك محضر معاينة للجريمة في حالة التلبس – على النحو الذي بيناه أعلاه – يحرره ضابط الشرطة القضائية ،
و القول بخلاف ذلك يؤدي إلى ترجيح الإدانة على البراءة ، و بالتالي مخالفة المبدأ الدستوري و التشريعي المتمثل في قرينة البراءة (الفصل 23 من الدستور و المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية ) هذا المبدأ الذي يعد أساس المحاكمة العادلة و عمودها الفقري .
ثم إن الرأي الذي عللت به محكمة النقض مصدرة هذا القرار ، بكون تبادل القبل من طرف الزوجة مع رجل أجنبي عنها فعلا يشكل خيانة زوجية لأنه خيانة لرابطة الزوجية و الوفاء و الثقة بين الزوجين ، وإن كان يشكل انتصارا لقدسية رابطة الزوجية و صيانة لحرمة مؤسسة الزواج ، إلا أنه من الناحية القانونية إلى جانب توسعه في تفسير النص ، فإنه يقيم تصورا جديدا لهذه الجريمة أساسه التوسيع في الركن المادي لهذه الجريمة و التضييق فيه بالنسبة لجريمة الفساد ، وهذا لا يستقيم و يخالف تماما ما تواترت عليه اجتهادات هذه المحكمة نفسها – المجلس الأعلى سابقا- من أن الاختلاف بين الجريمتين يكمن فقط في صفة الزوجية التي تعتبر أساس التشديد في العقوبة بالنسبة للخيانة الزوجية ، و يخالف أيضا الفلسفة التشريعية للفصلين 290 و 291 من القانون الجنائي التي يكفي التأمل في عبارة ” لا تربط بينهما علاقة الزوجية” الواردة في الفصل 290 لاستجلائها ، فضلا عن أنه يفضي إلى نتائج غير منطقية ، فمن يتبادل القبل مع شخص متزوج يتابع بالمشاركة في الخيانة الزوجية و نفس الشخص إذا تبادل القبل مع غير المتزوج لا يتابع بجنحة الفساد ؟؟ .
و من زاوية أخرى فإن استحضار قرارات الغرفة المدنية بمحكمة النقض الفرنسية الصادرة في موضوع الخيانة الزوجية ، و المبنية على مقتضيات المادة 242 من القانون المدني الفرنسي ، في هذا النقاش ، يبدو لي محل نظر للاعتبارين التاليين على الأقل :
أولا : إن الأمر يتعلق بقضاء مدني لا ينظر إلى الخيانة الزوجية – بعد رفع الصفة الجرمية عنها في القانون الجنائي الفرنسي – كجريمة و لكن باعتبارها خطأ مدنيا جسيما ، يخول للزوج المتضرر منه حق المطالبة قضائيا بالطلاق وأيضا بالمطالبة بالتعويض عن الضرر المعنوي المترتب عن هذا الخطأ الجسيم ، مع تخويل القضاء سلطة تقدير مدى جسامته ، وبالتالي فإن منطق القضاء المدني في هذه المسألة ليس هو منطق القضاء الجنائي المحكوم بمبدأ الشرعية وآثاره.
ثانيا : إن توسع القضاء المدني الفرنسي في تحديد حالات الخيانة المخولة لحق المطالبة بالطلاق بين الأزواج في فرنسا ، و اعتباره كل فعل ذي حمولة جنسية يشكل خيانة زوجية ، هو أمر مفهوم و مقبول ، لأن لائحة الأضرار المعنوية لا يمكن حصرها في المجال المدني ، فقد يشكل مجرد تبادل أحاديث أو ممارسات حميمية افتراضية عبر الانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي من طرف أحد الأزواج مع الغير – و دون أن يكون هناك اتصال جنسي مادي – خيانة في حق الزوج الضحية تخول له حق المطالبة بالطلاق استنادا إلى مقتضيات الفصل 242 المذكور.
لكن هل يستقيم أن يعتبر الأمر كذلك في نظر القانون الجنائي بالرغم من عدم وجود اتصال مادي بين الزوج الخائن وشريكه في الخيانة ؟؟؟