الزكراوي محمد: تقارير أجهزة حماية المال العام ومدى تأثيرها في تكوين عقيدة القاضي الجنائي

الزكراوي محمد أستاذ باحث في الشؤون القانونية و القضائية نائب رئيس المركز الوطني للأبحاث القانونية و القضائية عضو مركز ليكسوس للباحثين الشباب
يعتبر المال العام أحد المقومات الأساسية لاستقرار الدولة وضمان استمرارية المرافق العمومية، لذلك حظي بحماية خاصة في الدساتير والقوانين الوطنية، وقد رسخ دستور المملكة لسنة 2011 هذا التوجّه من خلال الاعتراف بالمجلس الأعلى للحسابات كهيئة عليا لمراقبة المالية العمومية، إلى جانب باقي المؤسسات الرقابية و الافتحاصية، كالمتفشية العامة للمالية والمفتشية العامة للإدارة الترابية، التي تلعب أدوارًا جوهرية في الكشف عن الاختلالات ومتابعة أوجه صرف المال العام.
وتعدّ تقارير هذه الأجهزة مخرجات مؤسّسية تحمل في طياتها معطيات دقيقة، ونتائج فحص معمقة، وأحيانًا مؤشرات قوية على وقوع أفعال يمكن أن تشكّل جرائم مالية، غير أنّ قيمتها القانونية ومدى تأثيرها في تكوين عقيدة القاضي الجنائي يثيران نقاشًا واسعًا في الأوساط القانونية والقضائية، بالنظر إلى أن القضاء الزجري يستند في الإدانة إلى مبدأ الاقتناع الصميم، ويستوجب أن تُبنى الأحكام على أدلة يقينية، لا على مجرد قرائن أو خلاصات إدارية.
من هنا، تأتي أهمية هذا المقال الذي يروم تسليط الضوء على الطبيعة القانونية لتقارير أجهزة حماية المال العام، وبيان حدود حجيتها أمام القضاء الجنائي، ورصد التوجهات القضائية المغربية في التعامل معها، مع تقديم قراءة تحليلية لمدى مساهمتها في إثبات جرائم الأموال العامة، كما يسعى المقال إلى إبراز أوجه التفاعل بين القضاء المالي والقضاء الجنائي، واقتراح معايير عملية يمكن أن تعزز القيمة الإثباتية لهذه التقارير بما يخدم فعالية حماية المال العام وضمان المحاكمة العادلة.
النقطة الأولى: تقارير أجهزة الرقابة المالية في الحفاظ على المال العام وطبيعتها القانونية
أولا: أهمية تقارير أجهزة الرقابة المالية في الحفاظ على المال العام
تعتبر أجهزة الرقابة على المال العام، بمستوياتها المركزية واللاممركزة، إحدى الركائز الجوهرية في المنظومة الوطنية لحماية الموارد المالية للدولة والجماعات الترابية. وتستمد هذه الأجهزة مشروعيتها من أحكام الدستور والقوانين التنظيمية والأنظمة الداخلية التي تضبط نطاق اختصاصاتها وإجراءات عملها، بما يضمن استقلالها وحيادها في ممارسة الرقابة والتقييم، ويأتي في طليعة هذه الأجهزة المجلس الأعلى للحسابات بما فيه المجالس الجهوية للحسابات، والمفتشية العامة للمالية والمفتشية العامة للإدارة الترابية، إلى جانب مفتشيات قطاعية أخرى، حيث تتكامل أدوارها في كشف أوجه الخلل وسوء التدبير، وتتقاطع تقاريرها في حماية المال العام من الإهدار أو الاختلاس.
ومما لاشك فيه أن مكانة المجلس الأعلى للحسابات باعتباره «الهيئة العليا لمراقبة المالية العمومية» مع ضمان استقلاله (الفصل 147)، وتولّى القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية (كما تم تغييره وتتميمه) تحديد اختصاصات المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية،التي تعتبر امتداد لاممركز للمجلس الأعلى للحسابات، تُعنى بمراقبة تسيير الجماعات الترابية وهيئاتها، والتأكد من سلامة العمليات المالية والمحاسبية، وفحص القرارات الإدارية ذات الأثر المالي، والتحقق من مدى مطابقتها للقوانين والأنظمة الجاري بها العمل. كما تمارس هذه المجالس، بمقتضى مدونة المحاكم المالية (القانون رقم 62.99)، اختصاص التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، والذي يهدف إلى مساءلة المسؤولين المحليين عن كل إخلال جسيم في تدبير الأموال العمومية، وتُنجز هذه المجالس تقارير مفصلة تغطي مجالات واسعة، بدءًا من احترام مساطر الإنفاق العمومي، مرورًا بصفقات الأشغال والتوريدات، وصولاً إلى تتبع تنفيذ المشاريع، وفي حال رصدت أفعالاً يُشتبه في تجريمها جنائيًا، فإنها تحيلها، عبر الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات، على النيابة العامة المختصة، وذلك تطبيقًا للمادة 111 من مدونة المحاكم المالية، كما يضطلع الوكيل العام للملك لدى المجلس الأعلى للحسابات باختصاص إحالة الأفعال التي قد تُشكّل جرائم إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض (رئيس النيابة العامة) لاتخاذ ما يراه ملائمًا.
وعلى مستوى الرقابة الوزارية، تنهض المفتشية العامة للمالية (IGF) بدور جهاز سامٍ للرقابة المالية على الدولة والمؤسسات العمومية وفق النصوص الجاري بها العمل، وتنجز افتحاصات وتقارير موضوعاتية وقطاعية تُحال عند الاقتضاء على السلط المعنية.، كما تتولى المفتشية العامة للمالية (IGF) والمفتشية العامة للإدارة الترابية (IGAT) مهمة الرقابة الداخلية للدولة على مختلف القطاعات والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية. فالمفتشية العامة للمالية تُعنى أساسًا بالافتحاصات المالية والمحاسبية للهيئات الخاضعة لوصاية وزارة الاقتصاد والمالية، بما في ذلك المؤسسات والمقاولات العمومية، كما تمتد رقابتها إلى الجماعات الترابية التي تتلقى تحويلات مالية من الدولة. أما المفتشية العامة للإدارة الترابية، التابعة لوزارة الداخلية، فتركز على فحص تدبير الشأن المحلي من زاوية قانونية وإدارية ومالية، وتشمل مهامها التحقق من سلامة الصفقات العمومية، ومشروعية القرارات المالية، ومدى احترام القوانين المؤطرة للجماعات الترابية. وتصدر هاتان المفتشيتان تقارير تفصيلية، غالبًا ما تكون ذات طبيعة تقنية متخصصة، تُرفع إلى السلطات الحكومية المعنية، وقد تُحال على النيابة العامة المختصة إذا تضمنت قرائن قوية على ارتكاب مخالفات جنائية.
ثانيا: الطبيعة القانونية للتقارير وأثرها في الإثبات
على الرغم من اختلاف هذه الأجهزة في بنيتها المؤسسية وطرق اشتغالها، فإن القاسم المشترك بين تقاريرها هو أنها محررات رسمية صادرة عن جهات رقابية مختصة، تتضمن بيانات ومعطيات فنية وإدارية ومالية، أُعدّت وفق مساطر مضبوطة، مما يمنحها مصداقية وحجية خاصة، غير أنّ هذه الحجية ليست مطلقة أمام القضاء الجنائي، إذ تضل هذه التقارير خاضعة لمبدأ حرية القاضي الجنائي في تكوين اقتناعه الصميم، ولا يمكن أن تشكّل وحدها دليلاً كافيًا للإدانة ما لم تُدعم بأدلة أخرى كالمحاضر القضائية، أو الوثائق المحاسبية الأصلية، أو الخبرات المعتمدة قضائيًا، الا انه ومع ذلك، فإن هذه التقارير تبقى ذات أهمية بالغة، سواء في تحريك المتابعات أو في بناء الشبهة الجنائية، أو حتى في دعم القرارات القضائية عندما يتم التحقق من معطياتها ومناقشتها بحضور الأطراف،
إن الجمع بين تقارير المجالس الجهوية للحسابات وتقارير المفتشيات العامة يعكس منظومة رقابية متكاملة؛ حيث توفر الأولى رؤية شمولية ومؤسساتية حول التدبير المالي للجماعات الترابية، بينما تقدم الثانية تحليلاً دقيقًا وعمليًا للجوانب المالية والإدارية على مستوى القطاعات والمؤسسات العمومية، هذا التكامل، إذا ما أُحسن استثماره، يمكن أن يرفع من فعالية إثبات الجرائم المالية أمام القضاء، ويُعزز حماية المال العام على نحو مستدام، فتقارير هذه الهيئات هي مخرجات مسطرة مؤسسية مضبوطة قانونًا، وتكتسي حجيةً فنية وتنظيمية معتبرة لصدورها عن قضاة ماليين وفق مدونة المحاكم المالية. غير أنّها ليست بحد ذاتها أحكامًا جنائية، بل عناصر ذات طبيعة تقنية/محاسبية وقانونية تُفيد القضاء الزجري في تقدير الوقائع، وتظل خاضعة لسلطة محكمة الموضوع في التقييم والملاءمة، كما أنّ أحكام المحاكم المالية (في التأديب المتعلق بالميزانية) مختلفة عن الإدانة الجنائية ولا تقوم مقامها، وإن أمكن أن تُستأنس بها. على اعتبار أن هذه التقارير هي في الواقع أدلة ذات طبيعة إدارية/فنية، تُسهم في كشف العيوب المحاسبية وسلاسل المسؤولية، لكنها لا ترقى –من حيث الشكل والضمانات– إلى محاضر الضابطة القضائية. لذلك تُعتبر قرائن قوية تستلزم، عند المنازعة، تدعيمها بوسائل تحقيق قضائي (خبرة حسابية، مواجهات، وثائق محاسبية أصلية). هذا ما ينعكس أيضًا في ممارسات التقاضي الإداري والمهني حيث يُجادل أحيانًا في كفاية التقارير وحدها عند ترتيب جزاءات.
النقطة الثانية: حجية تقارير مؤسسات حماية المال العام أمام القضاء الجنائي ومدى تأثيرها في تكوين عقيدة القاضي الجنائي
تكتسي تقارير مؤسسات حماية المال العام ـ وعلى رأسها المجلس الأعلى والجهوي للحسابات، والمفتشيتان العامتان لوزارتي الداخلية والمالية ـ أهمية خاصة في ميدان الإثبات الجنائي، باعتبارها صادرة عن هيئات رسمية مخولة قانونًا بممارسة الرقابة المالية والمحاسبية على الأجهزة العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات التابعة لها، ويستمد هذا النوع من التقارير قوته من الطابع الرسمي للجهة التي أعدته، ومن الأساس القانوني المنظم لاختصاصاتها، لاسيما القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية، والمرسومين المحدثين للمفتشيات العامة.
وتعتبر هذه التقارير بمثابة محاضر ومعاينات رسمية يعتد بها أمام القضاء، إذ يوثق في مضمونها ما لم يثبت عكسه، تطبيقًا للفصلين 418 و419 من قانون الالتزامات والعقود، مع مراعاة أن هذه الحجية ليست مطلقة، بل يجوز للمتهم الدفع بعدم صحتها أو مناقشتها بواسطة الخبرة المضادة أو القرائن المعاكسة.
وقد أكدت محكمة النقض المغربية في قرارها عدد 209/8 بتاريخ 17 أبريل 2018 (ملف جنحي عدد 1108/6/8/2017) أن:”التقارير الصادرة عن المحاكم المالية والمفتشيات العامة تعتبر وثائق ذات قوة إثباتية خاصة متى أنجزت وفق المساطر القانونية، ويجوز للمحكمة الجنحية الاستناد إليها لبناء قناعتها، دون أن يمنع ذلك الأطراف من مناقشة مضمونها.”
وفي نفس الاتجاه، ذهبت الغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف بالرباط في حكمها الصادر بتاريخ 22 فبراير 2021 (ملف جنحي عدد 457/2020) إلى اعتبار أن تقرير المفتشية العامة لوزارة الداخلية، المنجز بشأن اختلالات في تدبير صفقات عمومية، يشكل قرينة قوية على ارتكاب جنحة تبديد أموال عمومية، ما لم يثبت المتهم ما يدحضه.
وعليه، فإن حجية هذه التقارير تتجسد في كونها تمثل وسائل إثبات رسمية توثق اختلالات مالية أو إدارية مثبتة بمحاضر ومعاينات، مما يمنحها وزناً خاصًا في تكوين قناعة القاضي الجنائي، مع بقاء مبدأ الاقتناع الشخصي للقاضي ـ المنصوص عليه في الفصل 286 من قانون المسطرة الجنائية ـ هو الفيصل في التقدير النهائي لقيمتها، بحيث يملك القاضي الجنائي سلطة تقديرية واسعة في تكوين عقيدته من مجموع الأدلة المعروضة، ومنها تقارير الحسابات والتفتيش، شريطة مناقشتها حضورياً وتمكين الدفاع من الطعن فيها وطلب الخبرة المضادة عند الاقتضاء. وعندما يستبعد القاضي تقريرًا أو لا يأخذ به كليًا، يتعيّن عليه تعليل هذا الاختيار،إذ لا يكفي وجود عجز محاسبي أو ملاحظة افتحاص لإثبات ركن الاختلاس/التبديد، إذ تشترط المحاكم توافر القصد الجنائي وعلاقة السببية وسلطة التصرف في المال العام. وقد كرّست محكمة النقض هذا الاتجاه في عدة قرارات تؤكد أن الركن المعنوي عنصرٌ حاسم وأن مجرد المخالفة الإدارية أو سوء التدبير لا يُساوي بالضرورة الجرم الجنائي.
بالمقابل، يمكن للتقارير أن تشكل أساسًا جديا للاشتباه وانطلاق الأبحاث والمتابعات، خاصةً عندما تدعم بقرائن قويّة، لكنها لا تُغني عن قيام الركنين المادي والمعنوي. وبناء عليه تبقى لمحكمة الموضوع سلطة إعادة التكييف واستكمال الدليل بخبرة أو مواجهات،خاصةً عند قصور الربط بين الملاحظة المحاسبية والنية الإجرامية.
النقطة الثالثة: العمل القضائي للمحاكم المالية وصلته بالقضاء الجنائي
تلعب المحاكم المالية، وعلى رأسها المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية، دورا محوريًا في تكريس مبادئ الشفافية والمساءلة وحماية المال العام، ليس فقط من خلال إصدار التقارير الرقابية، بل أيضًا عبر البت في المخالفات المالية التي تشكل خروقات جسيمة للقوانين والأنظمة المتعلقة بتدبير الأموال العمومية، وقد خول القانون رقم 62.99 المتعلق بمدونة المحاكم المالية لهذه الهيئات صلاحيات واسعة في مجال التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، مما جعلها تشكل حلقة أساسية في المنظومة القضائية الزجرية الخاصة بالمال العام.
ويبرز دور هذه المحاكم من خلال تحديد المسؤوليات الفردية والجماعية، وتكييف الأفعال المرتكبة من طرف الآمرين بالصرف أو المحاسبين العموميين أو الموظفين العموميين، وذلك وفق معايير دقيقة تستند إلى النصوص القانونية والاجتهادات القضائية وبذلك، فإن الأحكام الصادرة عنها لا تقتصر على الجانب التأديبي أو المالي، بل تشكل أيضًا أدلة قوية قد يعتمد عليها القاضي الجنائي في تكوين قناعته، خاصة عندما تتعلق الأفعال موضوع البحث بجريمة اختلاس أو تبديد أموال عمومية.
وقد أكدت الغرفة الجنائية بمحكمة النقض في القرار عدد 705/3 بتاريخ 14/07/2020 (ملف جنائي عدد 2019/3/6/514) على أن “التقارير الصادرة عن المحاكم المالية، وإن كانت تقارير فنية ذات طبيعة محاسبية، فإنها تكتسي حجية قوية في الإثبات متى استوفت شروطها القانونية، وتشكل قرائن جدية يمكن للمحكمة الجنائية الاستئناس بها في تكوين قناعتها”.
كما جاء في حكم صادر عن المجلس الأعلى للحسابات بتاريخ 18/12/2019 في الملف التأديبي رقم 2018/5/م، أن “المحاسب العمومي الذي يثبت عجزا في الصندوق أو عدم مطابقة بين المداخيل المصرح بها والمبالغ المحصلة، يتحمل المسؤولية الشخصية والمالية عن الفارق، مع إمكانية إحالة الملف على النيابة العامة المختصة لاتخاذ ما يلزم من إجراءات جنائية”.
وتؤكد هذه الأمثلة على أن العمل القضائي للمحاكم المالية لا ينفصل عن القضاء الزجري، بل يشكل معه منظومة تكاملية، فالأول يقوم بتشخيص الخروقات وتحديد المسؤوليات المالية، والثاني يتولى ترتيب الجزاء الجنائي المناسب، هذه التراتبية تضمن أن حماية المال العام لا تبقى حبيسة الإجراءات الإدارية أو المالية، وإنما تمتد لتشمل المحاسبة الجنائية الصارمة، مما يعزز مناخ الثقة في تدبير الشأن العام ويحد من الإفلات من العقاب، إذ يظهر من خلال العمل القضائي للمحاكم الجنائية المغربية، أن تقارير أجهزة حماية المال العام – وعلى رأسها تقارير المجلس الأعلى والمجالس الجهوية للحسابات، وكذا تقارير المفتشيات العامة للوزارات – قد شكلت في العديد من القضايا نقطة انطلاق أساسية لإثارة المتابعة أو دعمها، غير أن المحاكم تميز بوضوح بين دور هذه التقارير كأداة إثبات وبين اعتبارها دليلاً حاسماً لا يقبل الجدل.
فالمحكمة لا تتبنى مضامين هذه التقارير بشكل أوتوماتيكي، بل تخضعها لمبدأ حرية القاضي الجنائي في الاقتناع المنصوص عليه في الفصل 286 من قانون المسطرة الجنائية، والذي يقضي بأن القاضي يبني قناعته على الأدلة التي عرضت عليه في الجلسة وناقشها الأطراف بحرية، مع مراعاة حقوق الدفاع.
وفي هذا الإطار، جاء في قرار محكمة النقض عدد 512/2017 بتاريخ 14/11/2017، ملف جنحي عدد 1085/6/3/2016، أن “تقارير المجلس الأعلى للحسابات لا تعدو أن تكون محاضر معاينة وتدقيق، لا ترقى وحدها إلى مستوى الإثبات القاطع لارتكاب جريمة تبديد أموال عمومية، ما لم تدعمها باقي وسائل الإثبات المقررة قانوناً”. هذا التوجه يكرس قاعدة أن هذه التقارير ذات قيمة خبرية قوية، لكنها ليست بديلاً عن التحقيق القضائي.
وفي المقابل،أكدت محكمة الاستئناف بالرباط – في قرارها عدد 342/2020 بتاريخ 23/12/2020، ملف جنحي عدد 1183/2623/2019 – أن “الاعتماد على تقرير المفتشية العامة للإدارة الترابية، المؤيد بشهادات ووثائق محاسبية رسمية، يشكل دليلاً كافياً للإدانة بجريمة الاختلاس، مادام قد تم استدعاء معدّي التقرير ومناقشتهم حضورياً”. ويبرز هذا القرار أهمية تعزيز التقرير بالقرائن والشهادات وتحويله من مجرد أداة إدارية إلى وسيلة إثبات قضائية متكاملة.
كما رسخ العمل القضائي للمحاكم المالية بدوره حجية هذه التقارير في مجالات المساءلة المالية، إذ قضت المحكمة المالية الجهوية بفاس في حكمها عدد 45/2019 بتاريخ 10/07/2019 بمسؤولية آمر بالصرف جماعي عن صرف اعتمادات خارج الضوابط القانونية، استناداً حصرياً إلى تقرير تدقيق أنجزته المفتشية العامة لوزارة الداخلية، معتبرة أن التقرير يستند إلى فحص مادي دقيق للوثائق والمستندات المالية، مما يضفي عليه قوة ثبوتية خاصة في مجال التأديب المالي، ويستفاد من مجموع هذه الأحكام أن التقارير الرقابية، على الرغم من قوتها القانونية والفنية، فإن قيمتها الإثباتية تتحدد في ضوء معايير أساسية، أهمها:
– مصداقية الجهة المصدرة للتقرير واستقلاليتها.
– منهجية الفحص والتدقيق ومدى شمولها لكل عناصر النزاع.
– إمكانية مناقشة التقرير أمام القضاء واستدعاء معدّيه.
– تعزيز التقرير بوسائل إثبات أخرى كالشهادات والوثائق المحاسبية.
وبذلك، فإن التوجه القضائي المغربي يسعى إلى إيجاد توازن بين حماية المال العام وضمان حقوق الدفاع، بحيث لا تتحول هذه التقارير إلى قرينة قاطعة، بل تبقى إحدى الأدوات التي تساهم في تكوين القناعة القضائية في إطار المحاكمة العادلة.
النقطة الرابعة: معايير عملية لتثمين القيمة الإثباتية لتقارير التفتيش أمام القضاء الجنائي
تمما لا شك فيه، أن تقارير التفتيش تعثير من الأدلة الجوهرية في القضاء الجنائي، لما تتسم به من قدرة على توثيق الوقائع بدقة وموضوعية، بما يعزز من مصداقية التحقيقات ويسهم في بناء القناعة القضائية للمحكمة، ولتحديد قيمتها الإثباتية، يستند القضاء إلى معايير قانونية وموضوعية دقيقة، أبرزها:
– الالتزام بالإجراءات القانونية: يجب أن تنفذ عمليات التفتيش، وفقًا للإجراءات المنصوص عليها في القوانين الوطنية والدولية، مع احترام حقوق الأفراد وضمان عدم التعسف في استعمال السلطة.
– الحياد والموضوعية: يتعين على المفتشين القضائيين أن يتحلوا بالحياد التام، وأن يُقدموا تقاريرهم بناءً على الوقائع والأدلة المتاحة دون تأثر بأي ضغوط أو انحياز.
– الدقة والشمولية: يجب أن تتسم التقارير بالوضوح والدقة، مع تضمين كافة التفاصيل المتعلقة بالواقعة، بما في ذلك الزمان والمكان والأشخاص المعنيين، لضمان مصداقيتها أمام المحكمة.
– التوافق مع الأدلة الأخرى: يُنظر إلى تقارير التفتيش في سياق الأدلة الأخرى المتاحة، مثل الشهادات والوثائق، لضمان التناسق والتكامل في بناء القناعة القضائية.
– سلامة المسطرة القانونية: بحيث يشترط أن تتم إجراءات التفتيش دون أي تجاوزات قانونية، مع احترام الضمانات الدستورية والقانونية للأفراد، لضمان عدم تأثير ذلك على قيمة التقرير الإثباتية.
– التمييز بين الخطأ المهني والركن الجنائي: ليس كل إخلالٍ تدبيري جريمة؛ يجب ربط الملاحظة بقرينة النية الإجرامية وسلطة التصرف ووجه الاستفادة.
– تفعيل آلية الإحالة المنصوص عليها قانونًا: ضمان قيام الإحالة عبر القنوات المحددة بالمدونة، والتنسيق المؤسسي بين النيابات العامة والمحاكم المالية لتسريع الأبحاث دون الإخلال بالشكليات.
– تعليل الأحكام عند الأخذ/الاستبعاد: يقتضي الأمن القضائي تعليلًا بيّنًا عند تبنّي تقريرٍ رقابي أو إطراحه، بما يوضح عناصر اليقين أو مواطن الشك.
وفي هذا السياق، يؤكد الفقهاء على أن التقارير، التي تراعي هذه المعايير تُحظى بقدر أكبر من الحجية أمام القضاء الجنائي، مما يُسهم في تحقيق العدالة وضمان حقوق الأطراف المعنية، فتقارير أجهزة حماية المال العام أداة محورية لفتح الأبحاث وبلورة الاشتباه، لكنها لا تغني عن الدليل الجنائي المكتمل الأركان، فيقظة القاضي الجنائي، تتمثّل في تحويل خلاصات الافتحاص إلى يقينٍ قضائي، عبر الخبرة والمواجهة والوثائق الأصلية، وربط كل اختلال بعناصر التجريم (الركن المادي – القصد الجنائي – الصفة). وفي المقابل، يقع على الأجهزة الرقابية عبئ تحسين جودة التقارير من حيث التوثيق والسندات.